آراء

ثامر حميد: اليساريون العراقيون وأحاديث العلمانية والمدنية والليبرالية

لقد دأبت أن أسمع من شيوعيين حاليين وسابقين وغيرهم ممن يتاثرون بالثقافة الغربية (وأكثرهم عن بعد وليس عن معايشة) آراء تروج لمفاهيم "العلمانية" و"المدنية" و"الليبرالية" فاعتبرت ذلك -بالنسبة للشيوعيين المنتمين- نوعا من التصورات الشخصية التي لا تمثل رأيا رسميا للحزب الشيوعي كأبرز ممثل لليسار وقد عللت ذلك بأن الحزب قد تخلى عن الصرامة التنظيمية أو ما يسمى بالمركزية الحزبية التي كانت سائدة طيلة حياة الحزب وأخلت مكانها للتنوع في الآراء. غير أن تقديري ذاك قد سقط عندما سمعت مقابلة مع السكرتير العام السابق للحزب السيد حميد مجيد موسى وهو يقول، في معرض رده على سؤال حول تحالفات الحزب، ما يفيد أن تحالفهم مع أياد علاوي حصل لأن السيد علاوي كان "مدنيا" و"ليبراليا". ومما يلفت الانتباه أن المقابلة كانت على قناة تابعة لما يسميه اليساريون وآخرون غيرهم "الفصائل المسلحة" التي طالما دعوا إلى حلها ورفضوا أن تشارك في العملية السياسية فيكون لها ممثلون في مجلس النواب أو الحكومة.

ويمكن أن نلاحظ أنه بعد 2003 عندما عاد الجزء الأكبر من الكادر الشيوعي من المنفى وراح يفصح عن مواقفه، أن المنهجية الماركسية في التفكير والتحليل المتبناة قديما – رغم حقيقية ضعفها السائد في الجزء الساحق من الكادر الحزبي بما في ذلك القيادي قديما وحديثا–  قد استبدلت بمنهجية أو ببساطة موقف يتسم  بالتعالي على واقع ووعي جماهيري جديد لم يعد يخضع كما كان لثنائية بعثي (قومي)-شيوعي والتنافس تارة والصراع تارة أخرى (حتى في ظل التحالف بينهما فيما ما سمي ب"الجبهة الوطنية التقدمية") الذي وسم تاريخ العلاقة بين ذينك الحزبين أو الاتجاهين.  وبدلا من العمل على فهم التحولات التي طرأت على هذا الواقع قبل 2003 ( ولو أن معظمها يمكن أن يوسم بأنه ذا طابع رجعي) والديناميات الجديدة التي أطلقها الانتقال السياسي والاقتصادي بعد 2003 وناتجهما الاجتماعي ومآلاتها المحتملة، من أجل بناء تصور خاص حول التغير المطلوب أو اتجاهه وما هي القوى الفاعلة التي برزت بعد ذلك التاريخ، جديدها وقديمها، والتي يمكن إيجاد أرض مشتركة معها لا تقوم بالضرورة على قاعدة التقارب الفكري بل على قاعدة رؤية مشتركة لعملية البناء السياسي بالدرجة الأولى كونها تحتل أهمية مركزية في ضوء التجربة السياسية المؤلمة التي مر بها الجميع قبل 2003، أقول بدلا من ذلك اختاروا الهروب أو الإنعزال عن هذا الواقع و الارتماء على فراش مقولات قديمة استوردت من التجربة الغربية ومنها "العلمانية" "والمدنية" كمفاهيم اجتماعية والليبرالية كمفهوم اقتصادي.

وعدا حقيقة أن ذلك يمثل نكوصا بل انزياحا  كاملا عن  الماركسية كنظرية اقتصادية واجتماعية بما لا يترك أي مبرر للحديث عن حزب شيوعي بحكم التناقص بين أن تكون شيوعيا وليبراليا في نفس الوقت، نلاحظ أن هذه المقولات باتت تستخدم بشكل حصري كأداة نقد موجهة نحو الأحزاب الدينية وكأن هذه الأحزاب قد كرست برامجها وسياستها لمحاربة هذه المفاهيم وهو ما يخالف الواقع تماما ليس لأن منهج هذه الأحزاب لا يتوافق مع هذه المفاهيم بل لأنها لم تجعل مهمة التصدي لهذه المفاهيم تحتل أولوية لديها بحكم غرابة هذه المفاهيم عن الواقع العراقي. فبالنسبة لمفهوم العلمانية فالعراقيون لا يواجهون مشكلة اسمها الصراع أو التناقض بين الدولة والإسلام كمؤسسة غير مدنية بحكم أن الإسلام ليس فيه مؤسسة تعلو على سلطة الدولة وتعيق عملها وتقف معرقلا أمام التطور كما كانت الكنيسة المسيحية عشية صعود البورجوازية كقوة اقتصادية واجتماعية مهيمنة في أوربا وجدت في الكنيسة عامل معرقل لاستكمال هيمنتها ولعملية التطور بشكل عام لما كانت عليه تلك المؤسسة المسيحية من قوة مالية وتأثيرا على الجمهور المسيحي الأمر سمح لها بالتدخل في الشؤون السياسية. وطوال تاريخ الإسلام، ولنقل خلال العصر الأموي والعباسي على وجه التحديد، كان كبار رجال الدين يخضعون لسلطة الدولة بل يتعرضون أحيانا إلى اضطهادها كما حصل مثلا مع الإمام أبي حنيفة عندما رفض أن يستجيب لطلب الخليفة العباسي ابي جعفر المنصور بأن يتولى القضاء فرفض بإصرار فكان مصيره السجن حتى توفي فيه.

وإذا أردنا أن نتحدث عن المرجعية الشيعية  كمؤسسة قد يعتبرها البعض مرادفا للكنيسة المسيحية فنقول ليست المرجعية الشيعية مرجعية سياسية ولا تلعب دورا سلطويا أو سياسيا و لا تتدخل في التعيينات للمناصب كما كانت الكنيسة المسيحية ولم تحاول المرجعية أصلا أن تطرح مشروعا سياسيا وأبقت نفسها على مبعدة من السلطة الحاكمة الجديدة بل مارست النقد الشديد ضد سلوكيات هذه السلطة . ويمكننا من باب المقارنة أن نذكر بشكل عابر أن المرجعية الدينية في إيران قد اقحمت نفسها بالسياسة منذ وقت مبكر عندما اتخذت موقفا ناقدا بل مناهضا لنظام الشاه وهذا أمر يتعلق بتاريخها وإرثها، ثم وبعد الثورة الإيرانية في 1979، لعبت دور المشرف والرقيب على السلطة السياسية الجديدة بطريقة لم تؤد إلى تهميش السلطة السياسية وتحويلها إلى مجرد واجهة لها لأنها أدركت في وقت مبكر أن وجود سلطة سياسية تمثيلية تستمد شرعيتها من الشعب عن طريق الانتخابات تهتم بحياة الناس وتعمل على تحسين شروط معيشتها وتدير علاقات إيران بالإقليم وتهتم بالقضايا الدولية  بطريقة مهنية (علمانية) شرط ضروري لاستمرارية الدولة...أما في العراق فقد مارست المرجعية دور الناقد للسلطة ولم تطرح مشروعا للدولة تتبناه هي ، ولم تمنح الأحزاب الدينية موافقة غير مشروطة أو حرية مطلقة لما تفعله في الحكم واحتفظت لنفسها فقط بدور الرقيب الأخلاقي للنظام السياسي وسلوك السياسيين وهذا ما ظهر في نقدها المستمر لمظاهر الفساد المالي والإداري في أجهزة الدولة ودائما ما حثت الأحزاب السياسية على الإصغاء لمطالب الجماهير الحياتية وعدم جعل الناس ضحية لخلافاتها وصراعاتها السياسية. كما أنها لم تمارس الفيتو على أي طرف حتى عندما بلغت مظاهر الفساد، كما في حكومة الكاظمي، حدودا مشطة وتركت للأحزاب مهمة التصدي لمعالجة الوضع الناشئ...

من الناحية الأخرى فإن الأحزاب الدينية التي يعارض وجودها اليساريون ومعهم الليبراليون- وإن وجدت فلا يجوز عليها أن تلعب أكثر من دور ثانوي أو ملحق في السياسة- لم تطرح يوما مسألة اعتماد  الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد أو حتى رئيسي من مصادر التشريع. بل أنها ساهمت في كتابة دستور وصفه  (ربما بشكل مبالغ فيه نوعا ما) علي بن الحسين الذي كان قد أسس حزب الملكية الدستورية في 2003 بأنه من أكثر الدساتير ليبرالية في المنطقة العربية...

أما بالنسبة للاقتصاد فالأحزاب الدينية تؤمن بحق التملك كمبدأ يقره الإسلام وبالاقتصاد الحر واتبعت الحكومة العراقية دوما سياسة قائمة على تشجيع القطاع الخاص بل أن العراق يمكن أن يعد أكثر دول العالم ليبرالية على الصعيد الاقتصادي من حيث عدم وجود أي قوانين تعرقل أو تحد من نشاط القطاع الخاص، وأقلها فرضا للضرائب عليه ولم نرها تفرض ضرائب على مداخيل حتى أولئك الذين يمارسون أكثر من نشاط اقتصادي بل أن عدد كبيرا ممن يمارسون نشاطا اقتصاديا، تجاريا بشكل خاص، هم موظفون لدى الدولة وهم أمر غير مسموح به في أي من الأنظمة. وكمثال توضيحي مقارن على ما قلت أورد ما قال لي أحد الفنانين التشكيليين العراقيين الذين كانوا يعيشون في هولندا ويتقاضون معونة من الدولة أن الشرطة الهولندية عندما رأته يقوم بممارسة نشاط فني في الشارع بأن يقوم برسم بورتريهات شخصية لمن يرغب مقابل مبلغ مالي متواضع أبلغته أنه يجب أن يبلغ مصلحة الضرائب بما يحصل عليه من مدخول إضافي، مما يترتب عليه بالطبع أما خفض مبلغ معونة الدولة أو فرض ضرائب عليه. فأين ليبراليتهم الاقتصادية أمام ليبراليتنا؟

ولا أستطيع أن أرى هدفا ساميا من وراء  الترويج لتلك المفاهيم  سوى اختلاق موضوعة للصراع تحت العناوين التي ذكرت في وقت لم نر في تجارب البلدان النامية التي حصلت على استقلالها من الاستعمار الغربي منذ الخمسينات (أتحدث عن الدول العربية بشكل خاص)  أن أي منها اتبعت فيها أحزاب السلطة أو الزعامات المتنفذة في فترة ما بعد التحرر مفاهيم العلمانية والمدنية كمقدمة أو كشرط للسير في طريق التطور والاقتراب من المنجز الغربي قد حققت نتيجة يمكن التفاخر بها كأن بلغت تطورها مستوى ماليزيا أو سنغافورة أو أندونيسيا ولن نقول الصين أو الهند بل أنها لاتزال حتى يومنا هذا وبعد عقود من الاستقلال تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية متكررة ناتجة عن ارتباط اقتصاداتها الوثيق باقتصاديات الغرب. كما يمكن أن نلاحظ أن بلدانا عربية عديدة انعكست فيها هذه المفاهيم سلبا على الواقع نتج عنه حالة من الاغتراب فتحت الطريق لصعود التيار الديني كبديل يطل براسه كلما تعمقت أزمة هذه الأنظمة والذي ترافق مع نكوص اليسار وضياعه خاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. أما الليبرالية، الاقتصادية منها بشكل خاص، فإنها تشهد نهايتها المدوية في بلدان أمريكا اللاتينية لما أنتجته من معاناة لشعوبها أفضت طريقها لصعود قوى اليسار من جديد مع إدراك واضح أن تخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية وكمنظم وموجه للنشاط الاقتصادي كما أملته السياسة الليبرالية المفروضة من الغرب- الولايات المتحدة بشكل خاص- كانت سببا رئيسيا في الأزمات التي شهدتها تلك البلدان نتيجة تطبيقها للسياسات الليبرالية..

وكما رأينا فإنه فلا الصين في تطورها الذي اختصر الزمن و لا الهند التي تسير بخطى الصين ولا ماليزيا و لا فيتنام على سبيل المثال التي هي مقصد الاستثمارات الغربية ومنها في قطاع التكنولوجية المتقدمة قد اعتمدت شعارات العلمانية والمدنية لتعبأ شعبها وتقوده نحو البناء الاقتصادي والاجتماعي كما ولم تتبع سياسة لبيبرالية قائمة على تخلي الدولة عن مسؤولياتها لذلك نراها أقل البلدان معاناة من الأزمات الدورية للنظام الرأسمالي...

ويتكأ اليساريون في نقدهم  على الأخطاء التي رافقت عملية إعادة بناء النظام السياسي بعد 2003 ليلقوا باللائمة على الأحزاب الدينية متجاهلين عن عمد كل التحديات الخطيرة التي واجهت تلك العملية من أجل إفشالها. لا تنكر حتى الأحزاب التي لعبت دورا مؤثرا في عملية البناء السياسي وجود أخطاء في عملية فريدة تختلف تماما عما شهده العراق في تاريخه الحديث العراق من حيث التعقيد ومن حيث القوى العديدة الداخلية والخارجية التي تدخلت في العملية السياسية  كعامل معرقل في وقت كان فيه التجريب سيد الموقف. وهذا التجريب لم  ينبع برمته من حقيقة غياب كامل للرؤية أو التصور حول ما يجب أن يكون عليه النظام السياسي الجديد من أجل تجنب تكرار مآسي الماضي بل ناشئ بدرجة كبيرة عن غياب المعرفة بالآخر ونواياه. والآخر هنا يضم طائفة واسعة من القوى القديمة التي عارضت النظام السابق مقابل أخرى ظهرت مع الوضع الجديد الناشئ عن الإحتلال وتدمير جهاز الدولة القديم ومعظمها لم يمكن يملك رؤية سياسية بسبب سياسة التجهيل والانقطاع عن العالم الخارجي الذي كانت تعيشه قبل 2003...

وهناك عامل آخر مكمل لما أسميته عدم المعرفة بالآخر وهو يتعلق بموقف دول الجوار الإقليمي من السلطة الناشئة فقد ناصبت معظم هذه الدول العداء للسلطة الجديدة وهذا العداء كان ناتجا عن خليط معقد من الطائفية والخوف إذ بينما كان الموقف السوري ناتج عن الخوف من الامتداد الأمريكي كان خوف الدول الأخرى ناتج  عن الموقع القوي الذي احتلته الأحزاب ذات الاتجاه الديني (خاص الشيعية منها) في النظام الجديد رغم أن هذه الدول ناصبت النظام السابق العداء وساندت السياسة الأمريكية ضده وساهمت مساهمة كبيرة في تشديد الحصار عليه. ويبدو أن حلمها كان نظاما يهيمن عليه المعروفون لديها والمسندين من قوى الغرب ليس بصفتهم كعلمانيين أو مدنيين لأن هذه الدول ليست بالأصل علمانية أو مدنية حيث تحكمها عائلات أو مشايخ. وفعلت هذه الدول ما فعلت من تشجيع وتمويل المنظمات الإرهابية مما ألحق دمارا ماديا كبيرا بما تبقى من البنى التحتية التي كانت بالأصل مهترئة نتيجة  الدمار السابق الذي ولده الحصار...

لقد ابتلى العراق ردحا طويلا من الزمن بالصراع بين القومية واليسار وسفكت في ذلك دماء كثيرة دون أن ينتج عن هذا الصراع سوى دمار البنى الاجتماعية بسبب الاستقطاب الحاد الذي نشأ عن هذا الصراع وانقسام المجتمع وراء شعارات جميعها ذرتها الرياح سواء القومية منها أم اليسارية. واليوم أرى أن هناك محاولات لتأجيج صراع من نوع آخر بعد أن خلت الساحة من القوميين ولم يبق من اليسار سوى بقايا مشتتة تتخذ من الخصومة منهجا لا تستند فيه إلى نظرية أو فلسفة تفوق الماركسية (التي هجروها) اتساقا فأي فلسفة أو حتى فكرة جاذبة تحويها الليبرالية وأين نجحت تطبيقات ما لم نعتبر أن زيادة الفقراء فقرا في الدول التي اتبعت سياسة اقتصادية واجتماعية ليبرالية نتج عنها تعمق تبعيتها للمركز الرأسمالي ومعاناة من أزمات اقتصادية متكررة، نجاحا؟ وإذا كان باستطاعتنا أن نجد ألوفا مؤلفة من مواطني الدول الاشتراكية سابقا ممن همشتهم الليبرالية وجعلتهم يعيشون على الكفاف وحرمتهم من جميع المنافع الاجتماعية (التعليم والنقل والسكن والصحة المجانية أو بمقابل تافه) يحنون لذلك العصر فأين يمكن أن نرى من يمكن أن يتأسى على عصر الليبرالية غير حفنة من الرأسماليين أو الأغنياء الجدد الذين يمارسون نشاطا اقتصاديا طفيليا؟

وإذا ما تحدثنا عن الليبرالية بنسختها الاجتماعية أو الثقافية التي يحاول الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص  فرضها حتى على حلفائه الممتنعين من الدول التي دخلت حديثا نادي أوربا  وأكثرها من دول أوربا الشرقية، ومنها بولندا وهنغاريا بشكل خاص، اللتان تمتلكان تقاليد مسيحية قوية فهذه يتم السكوت عنها من طرف اليسار. لقد تعرض الشيوعيون في تاريخهم إلى الكثير من الدعاية التي تتهمهم، عدا الإلحاد، باحتقار الأعراف والتقاليد ووصل التشويه بهم إلى حد اتهامهم بالإباحية. عندما شنت حكومة البعث حملة اعتقالات ضد الشيوعيين في أواخر السبعينات نقل أحد المعتقلين الشيوعيين بعد خروجه بعضا من الحديث الذي دار بينه وبين ضابط الأمن الذي كان يحقق معه، قال أن الضابط قال له:

"أنتم الشيوعيون تعتبرون المرأة ملكية مشتركة".  فكان ردي عليه:

"ليس صحيحا، فنحن نعتبر وسائل الانتاج المادي (السلعي) ملكية مشتركة والمرأة ليست وسيلة إنتاج مادي"...

على خلفية هذا الحديث  أستطيع القول من باب السخرية أن ذلك الضابط لو إطلع على ما تروج له الليبرالية الثقافية المعاصرة القادمة من العالم الراسمالي، وليس الشيوعي، من احتقار لكل أشكال التقاليد والروابط الأسرية والاجتماعية وتعتبرها قيدا على الحرية الشخصية وإباحتها لكل سلوك فردي "طالما كان لا يلحق أذا بأحد" لشعر بالخجل من اتهامه ذاك. الترويج للمثلية والزواج بين نفس الجنس وقائمة طويلة من الممارسات غير المألوفة التي تدخلها  الليبرالية الثقافية ضمن نطاق الحريات الفردية  والتي باتت تدرس للأطفال كجزء من المناهج هي في حقيقتها هي واحدة من الخيارات الإلزامية المرافقة لليبرالية الاقتصادية. لقد وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي تصفه وسائل الإعلام الغربية بأنه "بيدوفايل"  (كلمة  انكليزية من أصل إغريقي وتعني "ميال جنسيا للأطفال") وصف رئيس وزراء هنغاريا وبولندا (قبل الحرب الروسية الأوكرانية) بأنهم أوغاد لأنهم رفضوا الامتثال لمطالب الغرب بالسماح للترويج لهذه المفاهيم و تدريسها في مدارس الأطفال. هذه الليبرالية الثقافية التي يروج لها البعض هي الوليد الشرعي لليبرالية الاقتصادية....

كل ذلك يجري في وقت يعاد فيه الاعتبار للتحليل الماركسي الاجتماعي على نطاق واسع في كل مكان في العالم الأمر الذي يجعل الشيوعيين بحاجة إلى مراجعة فكرية مبنية على التحليل الماركسي يمكن من خلالها مناقشة دور الإسلام كظاهرة اجتماعية تاريخية وليست كعقيدة ميتافيزيقية فالحواضر الإسلامية وعلى رأسها حاضرة الدولة الأموية في الأندلس التي ربما تكون الإرث الحضاري الوحيد لإسبانيا شاهدة على مدنية الدولة تلك لإنها ببساطة لم تنشغل ببناء الجوامع وملاحقة من لا يتبع الشريعة الإسلامية بل أنشأت اقتصادا زراعيا وصناعيا وصرحا علميا وأدبيا ترك أثرا عميقا في الغرب. فالعرب والمسلمون قادرون على انتاج مدنيتهم الخاصة بهم فليست المدنية والعلمانية الغربية مصدر إلهام لأحد خاصة وأنها مرتبطة بالغرب الرأسمالي الذي لم يتخل عن فكرة المركزية الأوروبية التي يجب أن تهيمن حتى على شعوب ودول عظمى ذات تاريخ عريق مثل روسيا والصين

فما بالك على بلداننا الضعيفة التكوين...

إن الماركسية التي هجرها أصحابها القدامى العراقيون رسما وابقوها إسما يشهد منهجها في البحث والنظر وكذلك منظورها الطبقي عملية إحياء غير مسبوقة على يد مفكرين كبار في الغرب نفسه. وبهذا الصدد نود بحدود معرفتنا المحدودة أن نورد بضعة اقتباسات أحدها قديم: فهذا لين هاملتون غرانت في فصل "ما بعد الحداثة والسياسة" من كتاب "دليل ما بعد الحداثة" لستيوارت سيم يقول متحدثا عن المفكر الوجودي الفرنسي سارتر:

"عندما تحرك صوب التصالح مع الماركسية معلنا في خاتمة المطاف أنها" الأفق الذي لا مهرب منه لجميع ضروب التفكير في القرن العشرين"...

:  وفي موضع آخر من الفصل يصف غرانت الماركسية بأنها

.."أعظم ذخيرة مكتملة من الذخائر النقدية"

ثم حنا بطاطو ( الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق) وهو يدافع عن اعتماده المنهج الماركسي الطبقي في تحليله للواقع الطبقي في العراق:

"إن رفض التحليل الطبقي لاحتمال توافقه مع أيديولوجيات معينة فحسب أمر غير مقبول تماما من وجهة نظر البحث العلمي"...

وفي موضع آخر من نفس الكتاب:

"إني وجدت من الصعب علي  ألا أوافق جيمس ماديسون وكارل ماركس وماكس فيبر على أن "الملكية" و "الافتقار إلى الملكية" يشكلان العنصرين الأساسيين لوضع الطبقة وأن هذا التضاد يحمل بذور العلاقة التنافرية".

وأنا متأكد من أن أولئك الأوفر إطلاعا مني قادرين على أن يضيفوا الكثير من هذه الشهادات...

***

ثامر حميد

في المثقف اليوم