آراء

آراء

انعقاد المؤتمر الأول لمكافحة الفساد في العراق.. معالجة علمية ام اسقاط فرض؟

توطئة: اختتم المؤتمر الأول لمكافحة الفساد الذي انعقد في بغداد (14 كانون الثاني 2024)، بإصداره سبع توصيات تخص التصدي لهذه الآفة في العراق.وقال رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني ان الحكومة وضعت ملف مكافحة الفساد على رأس أولوياتها، وان الحكومة خاطبت الدول التي تتواجد فيها أموال الفساد، ودعا الى تشكيل لجان تحقيقية مع المسؤولين من المستويات كافة.

وفي ختام اعماله اصدر المؤتمر سبع توصيات بدأها بـ(الإسراع في حسم وإنجاز الإخبارات والشكاوى والدعاوى الجزائية ضمن المدد المحددة قانوناً، وخصوصاً القضايا المتعلقة بالرأي العام ومبالغ الفساد الكبيرة، وكبار موظفي الدولة؛ بغية فرض الجزاء القانوني بحق المدانين وتعزيز الثقة في إجراءات المساءلة والمحاسبة لضمان تحقيق الردع العام)، وانهاها بـ(تشريع قانون لاستحداث هيئة الرقابة، استناداً إلى أحكام المادة 108 من الدستور؛ تعزيزاً للرقابة الداخلية في المؤسسات الحكومية، وتنظيم إجراءات الرقابة الوقائية السابقة واللاحقة، ورفع مستويات المسؤولية والنزاهة والشفافية؛ حماية للأموال العامة).

الفساد في العراق.. اكبر من سبع توصيات!

ان اشرس المعارك التي تواجه العراق هي معركته مع الفساد، وهي مخيفة! بدليل ان رئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي اعترف علنا بأنه لا يستطيع مكافحة الفساد لأنه لو كشف ملفاته لأنقلب عاليها سافلها. وحين تلاه رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي وعد بأصرار بانه سيضرب الفساد بيد من حديد ثم اعترف علنا في(27 /11/ 2017) بأنه غير قادر، لأن الفساد (مافيا.. يملكون المال، فضائيات، قدرات، يستطيعون ان يثبتوا انهم الحريصون على المجتمع، وهم الذي يحاربون الفساد، ولكنهم آباء الفساد وزعماء الفساد)، ختمها رئيس هيئة النزاهة السيد حيدر حنون بتصريح في (3 /5 / 2023) بان الفاسدين (قادة، وجنود، ومشجعين يدافعون عنهم، وانهم يتسابقون على سرقة أموال الدولة)، ليؤكدوا حقيقة ان الفاسدين اصبحوا دولة داخل دولة.. تخيف أي رئيس وزراء يحاول التحرش بهم، وآخرهم السيد مصطفى الكاظمي، الذي حصلت في زمانه سرقة القرن بمليارات الدولارات! وتكتم عن كشف الحقيقة كاملة.. ما يعني ان محاربة الفساد تحتاج الى متخذ قرار شجاع وحازم وذكي واستثنائي يعتمد مشروعا علميا، وهذا ما كنا نتمناه للسيد محمد شياع السوداني، وللاسف فان المؤتمر الذي رعاه ما كان بمستوى هذه الظاهرة التي وصفها رئيسا وزراء (المالكي والعبادي) ورئيس اعلى هيئة مسؤولة عن الفساد.. النزاهة.. فضلا عن ان المرجعية بح صوتها بالدعوة الى محاسبة (حيتان الفساد)، وأن العراقيين هزجوا في تظاهراتهم منذ شباط 2011 (باسم الدين باكونه الحراميه).

تجارب العالم

في الدورة العاشرة لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي عقدت في 12 ديسمبر 2023 أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش "أن الفساد لا يسرق الموارد فحسب، بل يسلب الأمل من الناس".. .(وقد سرق آمال العراقين لعشرين سنة!).. ودعا في رسالته "جميع الأطراف إلى اغتنام هذه الفرصة لتعزيز التعاون الدولي لمنع الفساد وكشفه ومحاكمته - بالشراكة مع المجتمع المدني والقطاع الخاص".

ويعد كتاب: (الفساد.. مبادرات تحسين اﻟﻨـﺰاهة في البلدان النامية) الصادر عن الأمم المتحدة بعنوان (برنامح الأمم المتحدة الأنمائ ومركز التنمية الأقتصادي في منظمة التعاون الأقتصادي والتنمية) افضل مصدر عن التجارب الناجحة في مكافحة الفساد ومنها:الهند، المكسيك، الولايات المتحدة. ومع ان تجربة ماليزيا تعد الأنجح في (الدور التنموي للدولة في مكافحة الفساد)، فأن تجربة سنغافورة تعد الأنجح والأنسب للأستفادة منها في العراق، وكان أهم عوامل نجاحها هو:

- إصدار قانون متكامل لمحاربة الفساد،

- انشاء "مكتب التحقيق في ممارسة الفساد" وقيامه بمهامه على الوجه الأمثل،

واتخاذ اجراءات ذكية لتنفيذ التشريعات التي تضمنها "قانون مكافحة الفساد" اهمها:توفر إرادة سياسية جادة وصادقة وحازمة في اقرار قانون فعاّل وعملي لمكافحة الفساد، وتأمين نظام قضائي كفوء ونزيه وسريع، وتأمين جهاز اداري مهني لتنفيذ قرارات القضاء، واشاعة الوعي بين المواطنين بان مكافحة الفساد واجب وطني وديني واخلاقي، وقد فصلنا في ذلك بمقال سابق في (الزمان).

وكان اهم درس بتجربة سنغافورة، أنها قامت بتشكيل هيئة تتبع رئيس الوزراء ويعين أعضاؤها بقرار منه بعد أن كانت تابعة لوزارة الداخلية، تتولى دون غيرها جمع الاستدلالات والتحقيق في إعطاء سلطات واسعة لأعضاء هيئة مكافحة الفساد في الكشف عن الجرائم. ولا يحق لأي مسئول بالدولة أن يعيق أو يتداخل أو يؤثر على عملية اتخاذ القرار أو التحريات أو التحقيقات التي يقوم بها مكتب التحقيقات (Corrupt practices Investigation Bureau) الذي منحت له كامل الصلاحيات في استدعاء اي فرد مهما كان منصبه في الدولة او ثقله السياسي للمثول امامه والأجابة على اية اسئلة او استفسارات.مثال ذلك.. إذا كان أحد الأفراد مسئولاً مدنيـًا راتبه الشهري 500 دولارا ولديه سيارة BMW ولدى زوجته سيارة مرسيدس، ويمتلك منزلاً بقيمة 5 مليون دولار، فان عليه ان يمثل امام مكتب التحقيقات ويجيب عن سؤال: من أين لك هذا؟. فان ثبت ان ما لديه كان مالا غير مشروعا، فانه تتم مصادرته وتطبق بحقه قوانين صارمة تعتبر الفساد ليس فقط مجرد جريمة ارتكبها ذلك الشخص، وانما ضد من اعطاه تلك الأموال ايضا.

فهل تستطيع حكومة السيد السوداني محاسبة او مساءلة (36) ملياردير ثروة كل واحد منهم مليار دولار معظمهم كانوا فقراء، وفقا لمركز البحوث الفرنسي؟

وهل يستطيع تنفيذ ما قاله في المؤتمربانه سيتم (تشكيل لجان تحقيقية مع المسؤولين من المستويات كافة) ولو مساءلة رؤساء الوزراء من السيد نوري المالكي الى السيد مصطفى الكاظمي، بوصفهم الرجل الأول في الدولة؟

اسقاط فرض.. وامتصاص نقمة

مع توفر النوايا الحسنة للمشاركين بمؤتمر مكافحة الفساد (الذي استثنى علماء نفس متخصصين في هذا الشأن)، وصدق نوايا السيد محمد شياع السوداني، فان المؤتمر كان اسقاط فرض صيغ بمسكنات سياسية مطعمة بفيتامينات علمية، لأن ما خرج به من توصيات ليست بمستوى ظاهرة خطيرة شرسة جعلت العراق ضمن الدول الثلاث الأكثر فسادا في العالم.آملين من مكتب السيد رئيس الوزراء اطلاع فخامته على مقترحنا بما يعزز تنفيذ نواياه الصادقة في مكافحة الفساد الذي سرق آمال العراقيين لعشرين سنة!.. وسيبقى يسرقها لعشرين اخرى ما لم يضف ويعتمد ما اقترحناه الى وصاياه التي نأمل ان يطلع عليها فخامة رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني.. مع خالص تمنياتنا بالموفقية.

***

أ‌. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

يستغرب البعض من ردة فعل الكيان الصهيوني المبالغ بها تجاه ما حدث يوم السابع من تشرين الأول / أكتوبر، حين بدأت عمليات طوفان الأقصى، ومعها بدأت حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل التي لم تستثنِ طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة ولا مريضاً ولا حجراً ولا بشراً. وعلى الرغم من السجل الاجرامي للصهاينة في تاريخ حروبهم مع العرب، وما احتواه هذا السجل من مجازر جماعية مروعة منذ الإعلان عن تأسيس إسرائيل وقبلها، وبعدها على امتداد 75 عاماً من الحروب والمعارك والمنازلات، إلّا أن ما حدث خلال 35 يوماً من الحرب المستمرة على غزة قد فاق كل التصورات، لاسيما في اعداد الأطفال الشهداء حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة السيد انطونيو غوتيريش قال أن غزة تتحول إلى مقبرة للأطفال.

لكن من يتمعن في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، والأساطير والخرافات التي قامت بموجبها إسرائيل، يجد أن يوم السابع من أكتوبر قد حطم الكثير من تلك الأساطير والأوهام الزائفة، لعل في مقدمتها أسطورة الجندي الذي لا يُقهر، والمقصود به الجندي الإسرائيلي الذي اعتاد على أن يكون هو الطرف الرابح في الحروب مع العرب، وبالأخص في حرب العام 1948 التي سميت بيوم النكبة العربية حين ضاعت  فلسطين، وفي حرب العام 1967 التي سميت بنكسة حزيران التي فقد فيها العرب ما الضفة الغربية والقدس حيث مسجد قبة الصخرة، والمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، فضلاً عن احتلال واقتطاع أراضٍ واسعة من مصر وسوريا وجنوب لبنان، لذلك فإن الصهاينة قد جنَّ جنونهم حين تهاوت اسطورة جنديهم السوبرمان بين ليلة وضحاها، إذ ظهر على حقيقته أثناء المواجهة المباشرة، وحتى حين حاولوا أن يصححوا الموقف فإنهم تعرضوا للمزيد من المقاومة الشرسة التي تابعها العالم أجمع في محاولات الجيش الإسرائيلي لاقتحام غزة بالهجوم البري الذي طال أكثر مما يتوقعون، وتكبدوا في محاولاتهم المتكررة خسائر فادحة في الأرواح والمعدات العسكرية، من دون أن يتمكنوا من تحرير ولو أسير واحد، كما هو هدفهم من هذا الهجوم مثلما يزعمون.

إن الأمر الذي أفزع الإسرائيليين، هو عدم استيعابهم لصدمة أكتوبر، ومحاولاهم محو ذكرى فجر طوفان الأقصى من الذاكرة والتاريخ، حتى لو كان ذلك عن طريق ارتكابهم لجرائم حرب بشعة، وجرائم تطهير عرقي لم يسبق لها مثيل، وقد يقتلون المزيد من الأطفال والمدنيين الأبرياء، عبر القصف بالمدافع والبوارج الحربية والطائرات والتهجير وتهديم المنازل فوق رؤوس ساكنيها، لكنهم في المواجهة المباشرة يعلمون علم اليقين ان جنديهم السوبرمان الذي لا يُقهر هو الخاسر حين تصبح المسافة صفراً بينه وبين المقاومين. وبذلك سقطت هذه الأسطورة السمجة والخرافة السخيفة في فتحات أنفاق غزة، وبين أنقاضها ودمارها.

***

د. طه جزّاع – كاتب وأكاديمي عراقي

 

في الحاجة إلى الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة

تمر الجزائر اليوم في حياتها المعاصرة، دولة وشعبًا بمنعطف تاريخي مهم وهي تستعيد هويتها الحضارية وحيويتها الإبداعية بعد سبات طويل من خلال تحرير الطاقات والمبادرات التي كانت كامنة ومقموعة وتحرير العقل الجزائري الجديد بصفة عامة، إن  هذا المنعطف  التاريخي هو منعطف نهضوي بامتياز يعبر عن حركة إيجابية فاعلة في المجتمع تمس حياته الروحية والعقلية والمادية وتعكس طموحاته وتطلعاته في الحياة وتنقله من  مرحلة تاريخية سابقة إلى مرحلة تاريخية جديدة مع ضرورة الوعي بذلك، وبمعنى آخر تحول إجتماعي وحضاري من خلال بناء  إنسان   جزائري جديد، تحول يشمل فكره وعقله ومحيطه الإقتصادي والإجتماعي والثقافي وبيئته المجتمعية ويكون لوجوده وحضوره الجديد في التاريخ انعكاس  متميز على المستوى الإقليمي والدولي .

إن هذا التحول الجديد والمسار الجديد الذي نتوخى منه اليوم الجزائر الجديدة أي الجزائر في حالة يقظة ونهضة أصبح يسنده ويشكله ويؤسس له وعي شعبي جديد  ذو طابع تاريخي لأنه يحمل حلم النهضة ومشروع النهضة الجزائرية الجديدة ويقطع نهائيا من حيث المبدأ على مستوى الفكر والسلوك مع قيم وممارسات  هذا الماضي، الذي أورثنا وخلف لنا تركة ثقيلة ومتشعبة  داخل المجتمع ذات طابع بنيوي.

إن هذه القطيعة مع فكر الماضي وتمظهراته السلوكية في شتى مناحي الحياة، الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية إلخ... لم تكن لتتحقق لولا الحراك الشعبي المبارك الذي كان بمثابة الروح التاريخي الجزائري الأصيل والملهم وأصبح يمثل اليوم بكل قوة معنوية وروحية البوصلة الفكرية والحضارية ونظاما أخلاقيا لليقظة والوعي وتلاحما عضويا بين الشعب والجيش ضد كل أشكال الإنحرافات التي قد تحدث في المستقبل، هذه الإنحرافات التي أخرجت الشعب الجزائري كله إلى الشارع في 22 فيفري 2019 للمطالبة بالتغيير وتصحيح المسار وتصويب الوجهة والعودة مجددا إلى حلبة التاريخ وأن  نكون من صناعه  لا من المتفرجين عليه والمتأثرين به.

1. الأسباب التي دفعتنا لتقديم هذه المبادرة:

وإن هذه المبادرة التي نقدمها ونعرضها اليوم للنقاش وهي مبادرة: الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة، هي مبادرة وطنية جزائرية خالصة نابعة من صميم المجتمع المدني المنخرط في معركة الوجود والمصير مُعبِّرًا عن ذلك كقوة اقتراح فكرية بعيدا عن المصالح الفئوية والطبقية والتجاذبات السياسية والاصطفافات الحزبية والإيديولوجية وتأمل هذه المبادرة وتعمل على ذلك بأن تكون على مسافة واحدة من الجميع، بين السلطة والمعارضة من جهة وبين االسلطة  والأغلبية الرئاسية من جهة أخرى وتطمح هذه المبادرة في جوهرها إلى فتح نقاش حر ديمقراطي وتحريك العمل الفكري والثقافي والسياسي داخل المجتمع الجزائري وإشاعته عموديا وافقيا، أي على مستوى النخبة والجماهير وكل الفئات والمستويات الشعبية لأنه لا يمكن بناء نهضة جديدة  أو الطموح إلى مستقبل  اجتماعي وحضاري أفضل بدون فكر أساسه الحوار الحر، المسؤول والملتزم لأن  بالفكر وبالفكر وحده نستطيع أن نغير الواقع وندفع به إلى الأمام.

2. لماذا فشلت المبادرات السياسية السابقة؟

قبل شرح الخطوط العريضة والعامة لمبادرتنا، ربما يتساءل الكثيرون وهو تساؤل  مشروع :ما هو الفرق بين هذه المبادرة والمبادرات السابقة التي تعج بها الساحة السياسية الوطنية؟ ألا يمكن أن يكون مصيرها الفشل أو النسيان وفي أحسن الظروف عدم تحقيق الأهداف التي كانت مرجوة ومنتظرة منها؟

بالفعل، لقد أطلقت حركة البناء الوطني مؤخرا مبادرة سياسية بعنوان: المبادرة الوطنية لتعزيز التلاحم وتأمين المستقبل. ولقد انخرطت عدة أحزاب ومنظمات وجمعيات في إطار هذا المسعى وحاولت إثراء هذه المبادرة مع تجنيد الطاقات والإمكانيات لتجسيدها على أرض الواقع وعقدت في سبيل ذلك لقاءات وطنية ومحلية.

ولا شك أن هذه المبادرة صحيحة من حيث المبدأ الذي تقوم عليه والتطلعات والأهداف التي تحملها ولكنها فشلت في تحقيق ما كانت تنتظره، وما كان منتظرا منها وهذا يعود في نظرنا للأسباب الرئيسية التالية:

أ‌- لم تكن السلطة، أي أجهزة الدولة ومؤسساتها طرفا في هذه المبادرة وهذا ما يفقدها طابع المصداقية والإلتزام والمسؤولية والطابع العمومي، هذا من جهة ومن جهة أخرى لأن السلطة هي التي تمتلك وسائل وأدوات التغيير الإجتماعي ( الثروة والبرامج التنموية وأدوات التنفيذ).

ب‌- تعرضت المبادرة لتجاذبات سياسية وحزبية بسبب مشكلة القيادة والتنافس (من يقود من؟) بين قادة الأحزاب السياسية وكذلك الحساسية التي تثيرها مرجعياتهم الفكرية والإيديولوجية وهذا ما أفضى نوعا من الضبابية والغموض على هذه المبادرة والنتيجة عدم الاهتمام وعزوف الجماهير عنها.

ج- لم تحمل المبادرة أهدافا عملية تطبيقية يمكن متابعتها وتقييمها ومحاسبة المسؤولين عنها بل طرحت أهدافا نظرية عامة هي أقرب للشعارات السياسية والاديولوجيه التي لا يخلو منها كل نظام سياسي مثل تحصين الجبهة الداخلية  و مواجهة الأخطار والتحديات الخارجية.

إننا لا نقول أن مبادرتنا هي المبادرة الوحيدة والممكنة ولكنها ولا شك مبادرة من بين مبادرات كثيرة، مبادرات مضت ومبادرات قد تأتي في المستقبل لأن المجتمع الجزائري بحاجته اليوم وفورا إلى نقاش يعمق رؤيته للقبض على أسباب نهضته وهو منغرس في ماضيه ومنتبه  لحاضره ومتوقع ومتهيئ لمستقبله.

3- في معنى هذه المبادرة وأبعادها الإستراتيجية:

إن هذه المبادرة هي مبادرة سياسية وحضارية ذات بعد استراتيجي لأنها مرتبطة بقضايا النهضة والتقدم وهي لا تقتصر على طرف دون طرف آخر بل  تهم  المجتمع ككل ودرجة الوعي التاريخي لديه في مرحلة تاريخية من تطوره.

إن النهضة الجزائرية التي ننشدها ترتكز على مصطلحين أساسيين وهما الميثاق الوطني والكتلة التاريخية وكلا المصطلحين  لهما  مرجعية فكرية وسياسية   في تاريخ الجزائر الحديث  و من هنا  قدرتهما على التوصيف والتحليل والتعبئة فالميثاق  الوطني  هو تلك النصوص الأساسية التي صادق عليها الشعب الجزائري لتنظيم شؤونه  وشؤون الدولة والمجتمع سنة 1976.

أما الكتلة التاريخية فتذكرنا بثورة أول نوفمبر الخالدة حيث  تحرر  الشعب الجزائري من أحزابه السياسية  التقليدية التي كان  يناضل فيها  وانخرط في جبهة جديدة (جبهة التحرير الوطني) مشكلا  بذلك كتلة تاريخية لتحقيق الأهداف المعلنة وهي أهداف الحرية والاستقلال واستعادة السيادة الوطنية واقامة الدولة الجزائرية المستقلة.

إن مبادرتنا إذا تعتمد على مجموعة مبادئ وأهداف يكون حولها إجماع  (ميثاق وطني)  وهذه الأهداف ذات طابع نهضوي ينخرط الجميع في تحقيقها وتقييمها  من خلال كتلة تاريخية جزائرية جديدة  والتي تمثل الطاقات الحية في المجتمع  بكل أشكاله وألوانه وأنواعه وتياراته ومشاربه.

4- ميثاق وطني من أجل النهضة:

يتذكر الجزائريون الميثاق الوطني الذي اقترحه الرئيس الراحل الهواري بومدين سنة 1976 وهو مجموعة من النصوص تؤطر النظرة التاريخية للمجتمع الجزائري وتبين طرق  تطوره و رقيه و نحن   ، كذلك في هذه المبادرة ولو يشكل مختلف تقترح مجموعة من الأفكار والمبادئ والأهداف تتمتع بالقبول العام والإجماع الوطني ولكن هذه الأهداف والمبادئ ذات طابع عملي ومرتبطة بنظام الزمن وهي بمثابة أهداف مستقبلية تشمل نهضة جديدة وتنمية  وطنية شاملة تغير مصير الإنسان الجزائري والمجتمع الجزائري في مرحلة معينة من التاريخ.

إن هذا الميثاق هو بمثابة عقد اجتماعي جديد يشمل  السلطة  والمجتمع بكل مكوناته وطاقاته ويؤسس لمرحلة تاريخية  جديدة مرتبطة بالمكانة الجديدة للمجتمع الجزائري في التاريخ المعاصر ويمكن تلخيص الخطوط العريضة والعامة لهذا الميثاق في النقاط التالية:

أ- الإتفاق على أهداف مستقبلية وحتى لا تبقى هذه الأهداف نظرية ومثالية يجب تفعيلها في الميدان واختبارها في الواقع بواسطة البرامج  التنموية  المختلفة في شتى المجالات المرتبطة بحياة الجزائري وواقعه وتطلعاته ،كما  يجب ربط كل هدف بتاريخ زمني معين حتى نتجاوز  ثقافة الكلام وحتى لا نهرب  من  المسؤولية  أو نتهرب منها .

ب- ضرورة تسطير أهداف قصيرة ومتوسطة وبعيدة مثل تحقيق الإكتفاء الذاتي في مجال الفلاحة (هدف قصير) وخلق اقتصاد انتاجي خارج المحروقات (هدف متوسط) وتبوأ  الجزائر مكانة  معتبرة في الإقتصاد العالمي على أن تكون ضمن العشر الدول على مستوى العالم في مجال الإقتصاد (هدف بعيد).

ج- التقييم السنوي والمرحلي  لهذه الأهداف مراجعة ومراقبة  وتقييما، ما تحقق منها وما لم يتحقق من خلال المؤسسات االدستورية  والمدنية و الشعبية.

د- الخروج من الوعود الميتافيزيقية أو بالأحرى، اللغة الميتافيزيقية مثل قول المسؤولين سنحقق هذا المشروع في السنين القادمة أو الأشهر أو  الأسابيع أو الأيام القادمة    وهي كلها مواعيد لا تأتي أبدا وهي لغة تخلف بامتياز تتميز بغياب المسؤولية وصوت الضمير ولعل مبادرة رئيس الجمهورية الأخيرة في التأسيس  لخطاب سنوي  رئاسي أمام ممثلي الشعب والأمة يندرج في إطار هذا المسعى وهذه النظرة الرقابية والتقييمية للأوضاع الاقتصادية والإجتماعية  والسياسية للبلاد وهي نظرة إستراتيجية  تحمل مشروع نهضة حقيقية تربط الفكر بالعمل وتعطي مصداقية للغة (الواقع الموضوعي) أي ما تحقق بالفعل بعيدا عن الوعود والرغبات والتمنيات والتهويمات التي تبقى مجرد أفكار في ذهن أصحابها وأحلام مجنحة بدون ضوابط.

إن تخصيص الدولة الجزائرية ميزانية  ضخمة  لسنة 2024 وهي أكبر ميزانية  منذ استرجاع السيادة الوطنية بمبلغ قدره 113 مليار دولار من شأنه أن يكون انطلاقة لنهضة جزائرية حقيقية تكون محل اعتزاز وافتخار لكل الجزائريين والجزائريات.

5- كتلة تاريخية جزائرية جديدة:

إذا كان الميثاق الوطني للنهضة هو مجموعة من المبادئ والأهداف المشتركة والمكرسة وذات طابع استراتيجي فإن مفهوم الكتلة التاريخية هو مفهوم سياسي وفكري شائع في الأدبيات السياسية الحديثة والمعاصرة، مثل الكتلة التاريخية العربية  أو الكتلة التاريخية لأي قطر من أقطار العالم العربي وعلى العموم فإن مفهوم الكتلة التاريخية يعني أن تحقيق الأهداف المأمولة لا يمكن تحقيقها بواسطة طرف دون طرف آخر، في غيابه أو في تهميشه وإقصائه وإنما يقتضي  تحقيقها مساهمة جميع الأطراف مشتركين ومتحدين  حول أهداف محددة دون أن يذوب أحدهما في الآخر.

وفي هذا الإطار وداخل هذه الرؤية، ماذا نعني بالكتلة  التاريخية الجزائرية الجديدة؟

إن الكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة هي ائتلاف فكري وتوافق وطني وإجماع داخلي محكوم برؤية إستراتيجية وفق أهداف محددة، معلنة وواضحة وتتكون  و تتشكل هذه الكتلة التاريخية من السلطة والمعارضة معا ومن كل القوى والطاقات الحية التي لها حضور داخل المجتمع كالأحزاب السياسية والنقابات والمهنيين والمجتمع المدني والشخصيات الفكرية والثقافية والدينية والفنية.

إن الكتلة التاريخية ليست بديلا عن الأحزاب السياسية  أو المنظمات الأخرى ولا يعني أن تتخلى هذه الأحزاب عن برامجها أو تجمد نشاطها أو تحل نفسها ولكنها تكتل تاريخي وطني لتحقيق أهداف النهضة الجزائرية المأمولة والتي تنقل المجتمع الجزائري من مرحلة تاريخية سابقة إلى مرحلة تاريخية جديدة نلمس فيها ومن خلالها مؤشرات التقدم والسير إلى الأمام.

والكتلة التاريخية الجزائرية هي جديدة ومتجددة لأن  الشعب الجزائري شكل  وأسس كتلة تاريخية في  تاريخه المعاصر إبان ثورة التحرير المباركة من خلال جبهة التحرير الوطني التي استوعبت جميع التيارات والأحزاب السياسية والاتجاهات الفكرية وانجزت بواسطة هذه الكتلة  التاريخية  أهداف الحرية والاستقلال وبالتالي فإن مفهوم الكتلة التاريخية ليس غريبا عن المجتمع الجزائري ومن هنا يمكن تشكيله وتأسيسه في أي مرحلة من مراحل تاريخنا المعاصر خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضايا النهضة والتقدم.

إن مبادرة الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة هو مشروع وطني حضاري أصيل تؤطره رؤية إستراتيجية للمستقبل  وحس   تاريخي نابع من تطلعات شعبنا الجزائري إلى تبوأ  مكانة  مهمة في التاريخ العالمي ولا شك أن المحطة  السياسية  التاريخية التي تربط بين 2024 و 2030 ستكون بلا شك محطة ملهمة وحاسمة في تحقيق الأهداف الإستراتيجية .إنه مشروع وطني كبير ويستحق منا كل جهد وتضحية.

***

الدكتور قادة جليد - استاذ جامعي وباحث وكاتب ونائب سابق

 

لتعريتهم لجرائم إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية

إستجابة للدعوى المرفوعة أمامها من قبل دولة جنوب أفريقيا ضد دولة الإحتلال الإسرائيلي، متهمة إياها بإرتكاب جرائم الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، ومخالفتها لإلتزامها بإلإتفاقية الدولية لمنع جرائم الإبادة الجماعية، الموقعة عليها، عقدت محكمة العدل الدولية جلستين يومي 11 و 12 كانون الثاني الجاري، خصصت الأولى لمرافعة المدعي- جنوب أفريقيا، والثانية لدفاع المدعى عليه- إسرائيل.

إستندت جنوب أفريقيا في الدعوى المؤلفة من 84 صفحة الى "أفعال إسرائيل وأوجه تقصيرها التي تحمل طابع إبادة جماعية لأنها مصحوبة بالنية المحددة لإبادة فلسطينيي غزة تدميرهم كجزء من المجموعة القومية والعرقية والإثنية الأوسع أي الفلسطينيين، فقتلت اَلاف المدنيين وأصابت اَلاف أخرين وقامت بتدمير كافة البنى التحتية في قطاع غزة، وهدمت البيوت والعمارات والمدارس والمساجد والمستشفيات على رؤوس المدنيين، ومنعت عنهم الماء والكهرباء والغذاء والأدوية.وهجّرت نحو مليون مدني فلسطيني من القطاع، وقتلت المئات منهم في المناطق التي أمرتهم بالإنتقال إليها.

وطالبت جنوب أفريقيا من المحكمة ان تتخذ تدابير وقائية/ إحترازية عاجلة لحماية المدنيين وأولها إيقاف العمليات العسكرية في غزة فوراً. وقدم الفريق القانوني لجنوب أفريقيا، المؤلف من خبراء قانونيين، برئاسة وزير العدل، أسباب موجبة قوية- برأي خبراء في القانون الدولي، موضحاً بان الوقف الفوري للعمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في غزة، وحماية المدنيين من سكانها الذين يبلغون 2 مليون و 300 ألف نسمة، لهو أمر هام وضروري وعاجل، لأن ما يجري في غزة الآن ومنذ السابع من تشرين الأول الماضي، ونتيجته قتل إسرائيل حتى الآن لأكثر من 23 ألف مدنياً،غالبيتهم من الأطفال والنساء وكبار السن، وأصابة نحو 60 ألف اَخرين، هي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتُرقى لمصاف جرائم الإبادة الجماعية.

وأكد الفريق القانوني بالأدلة القاطعة ان هذه الجرائم هي جزء من القمع الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين على مدار عقود طويلة.وفي ضوء حجم الدمار في غزة واستهداف المنازل والمدنيين، أصبحت الحرب حرباً ضد الأطفال. وكل ذلك يلقي الضوء على نية الإبادة الجماعية ووضعها حيز التنفيذ، وهو ما يشير بوضوح إلى أن المستهدف من هذه الحرب هو تدمير الحياة الفلسطينية. وان القصد الواضح هو تدمير حياة الفلسطينيين. وأن السمة المميزة للقضية هي تكرار وإعادة خطاب الإبادة الجماعية في كل مجالات الدولة في إسرائيل.وهو سلوك معروف لأجهزة الدولة ووكلائها وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها. وهو ما يشكل انتهاكا لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

وأكد الفريق فشل إسرائيل في منع الإبادة الجماعية، وفشلها في مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية من قبل كبار مسؤوليها. وبالمقابل، أعلنت قبولها بالمثول أمام المحكمة لمواجهة ما أطلقت عليه "الاتهامات السخيفة التي لا أساس لها، الموجهة لها من قبل جنوب أفريقيا"، متجاهلة  تأكيد معظم المنظمات الحقوقية وذات الطابع الإنساني والإغاثي، مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومن رايتس ووتش، وأطباء بلا حدود، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) الأونروا (ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة، والصليب الأحمر الدولي، للطابع الإجرامي للأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد السكان المدنيين، وحتى ضد موظفي هيئات الإغاثة الدولية. فعلى سبيل المثال، أعلنت الأونروا" ان الحرب الإسرائيلية على على قطاع غزة المحاصرة وجسامة الموت والدمار والتهجير والجوع والخسارة والحزن، في الـ 100 يوم الماضية، تُلطخ إنسانيتنا المشتركة".

وهكذا، كشف الفريق القانوني لجنوب أفريقيا الودجه الحقيقي البشع لإسرائيل ولتمثيلها دور الضحية.

في اليوم الثاني للمحكمة، قدمت إسرائيل دفاعها عن الإتهامات الموجهة لها في الدعوى، وقد فشل فريقها القانوني، المؤلف من خبراء قانونيين دوليين، في سعيه المحموم للإفلات من تهمة الإبادة الجماعية، مقدماً، برأي خبراء في القانون الدولي، دفاعاً ضعيفاً وبائساً وبعيد كل البعد عن الواقع والحقائق، ويتضمن ثغرات كبيرة.. دفاعا سياسياً، لا قانونياً، تارة يستجدي العطف بإسم المحرقة النازية لليهود أمام المحكمة التي تأسست من إجلها ومن أجل منع تكرارها، وتارة أخرى أراد إيصال تحذير لامحكمة. من أنها تنظر في قضية " ليست" من إختصاصها أو من صلاحيتها، محاولآ التشكيك بالإجراءات الشكلية للدعوى أمام المحكمة ببعد خطابي وليس قانونياً..

في جوهر الدعوى، لم تفلح إسرائيل بتفنيد إتهامها الموثق بالأدلة بتوفر النية في إرتكاب الإبادة الجماعية للفلسطينيين، حيث لم تقدم أي دليل مقنع يبرر جرائمها بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة التي ترقى الى مصاف جرائم الإبادة الجماعية، بالإستناد الى أحداث الحرب على سكان غزة ووفقاً للأتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية، وللقانون الإنساني الدولي.

وفشلت إسرائيل في الرد قانونياً على طلب جنوب أفريقيا من المحكمة إتخاذها الإجراءات الإحترازية لإيقاف العمليات العسكرية على غزة وحماية المدنيين الفلسطينيين.

وفشل فريقها القانوني بالتدليل قانونيا على زعمه:" ما قامت به إسرائيل هو دفاع عن النفس، ولم توجد لديها النية لإبادة المدنيين الفلسطينيين، وإنما حماس هي من يريد إبادة الشعب الإسرائيلي". وكرر بان "الإجراءات الإحترازية  المطلوبة تريدها جنوب أفريقيا لحرمان إسرائيل من حق الدفاع عن النفس، وجعلها عاجرة عن الدفاع عن النفس"(كذا!!!). وهم يعلمون ان المحتل لا يحق له الدفاع عن النفس، وفق القانون الدولي.

وبكل صلافة وغباء قال القانونيون الإسرائيليون:" كل ما قامت به إسرائيل لا يستوجب النظر أمام المحكمة الدولية، لأن الجيش الإسرائيل هو أكثر جيوش العالم أخلاقياً، والقضاء في إسرائيل مستقل، ويمكن رفع الدعاوى المدنية أو العسكرية إليه "..

عموماً،تقييم الرد الإسرائيلي إختصره خبير قانوني دولي بانه: رد المهزوم والمذعور والمفلس والكذاب والمفتري، الذي سعى وحاول نكران إرتكاب الإبادة الجماعية اليومية التي يشاهدها ملايين البشر في أرجاء العالم على شاشات القنوات الفضائية يومياً.

وعلق رئيس الفريق القانوني لجنوب أفريقيا في مؤتمر صحفي: لم تكن إسرائيل متوازنة أمام محكمة العدل الدولية، وكانت تردد أكاذيب وتوجه الإتهامات الواهية، ساعية لتبرير جرائمها، ولكنها فشلت،إذ لم تقدم أي دليل مقنع على إتهامها للفلسطينيين. وإجمالآ لم تقدم ما يبرر جرائمها التي تُرقى لمصاف الإبادة الجماعية وفق الإتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية..

وكتب الصحفي الجنوب أفريقي، توني كارون، في "الغارديان"، يقول إن شبح العزلة الدولية الذي طالما تخوّف منه قادة إسرائيل ظهر أخيرا في محكمة العدل الدولية.ورأى أن معظم هؤلاء القادة الإسرائيليين لم يكونوا يتوقعون أن يأتي ظهور هذا الشبح بموجب دعوى قضائية ترفعها جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية.

ولفت الكاتب إلى ما أظهرته تصويتات جرت مؤخرا في الجمعية العامة للأمم المتحدة من "صدمة المجتمع الدولي من وحشية إسرائيل في غزة، ورغم تلك الصدمة لا يزال هذا المجتمع غير قادر على اتخاذ أي خطوة".

ورأى كارون أن ما يجعل خطوة جنوب أفريقيا استثنائية هو حقيقة أن "اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية يعني بالتبعية اتهام مَن يقدّم لها الحماية والتمكين الدبلوماسي -الولايات المتحدة- بالتواطؤ في جريمة هي الأسوأ بين الجرائم".

وأكد خبراء في القانون الدولي بأن الإدارة الأمريكية، بقيادة الرئيس المختل عقليا جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، ووزير دفاعه لويد أوستن، ومساعديهم، جميعهم  يُعتبرون مجرمو حرب، وذلك لدعمها السافر لحكومة مجرم الحرب الصهيوني الفاشي نتنياهو،عسكرياً، ولتزويدها بكل أنواع الأسلحة الفتاكة حتى المحرمة دوليا، وإستخدامها ضد المدنيين والأطفال،وتوفيرها الغطاء الدبلوماسي إثناء إرتكابها للفضائع بحق المدنيين الفلسطينيين، وشلها المساعي الدولية لأيقاف المجازر الإسرائلية الهمجية اليومية في غزة.وهذا ما فعلته في إجتماع مجلس الأمن الدولي، مستخدمة حق النقض/ الفيتو،ضد مشروع قرار يدعو لوقف الحرب لأسباب إنسانية، والذي عقب عليه لويس شاربونو، مدير منظمة "هيومن رايتس ووتش" في الأمم المتحدة، قائلآ: "حق النقض الذي استخدمته الولايات المتحدة منع مجلس الأمن الدولي من القيام ببعض الإجراءات التي تطالب بها واشنطن نفسها، بما في ذلك الامتثال للقانون الإنساني الدولي وحماية المدنيين وإطلاق سراح جميع المدنيين المحتجزين كرهائن"..وأكدد أنه من "خلال الاستمرار في تزويد إسرائيل بالأسلحة والغطاء الدبلوماسي أثناء ارتكابها الفظائع، بما في ذلك العقاب الجماعي للسكان المدنيين الفلسطينيين في غزة،، فإن الولايات المتحدة تخاطر بالتواطؤ في جرائم الحرب"...

الى هذا، لابد من الإشارة الى تزايد الدعم الدولي بشكل متسارع لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل ولإتهامها بالإبادة الجماعية في غزة. فقد أيدت الدعوى 21 دولة، هي: تركيا وأيران  وباكستان وماليزيا وبنغلاديش وناميبيا وإندنوسيا وكوبا وبلجيكا وجزر المالديف وتشيلي وبوليفيا وفنزويلا والبرازيل ونيكاراغوا وكولومبيا وجيبوتي وجزر القمر، والأردن وليبيا و العراق .

أما فرنسا وكوستاريكا ومفوضية الاتحاد الأوروبي فقد أدلت بتصريحات تفيد بأنها ستدعم عملية التقاضي في محكمة العدل الدولية وقرار المحكمة، دون الإدلاء ببيانات تدعم جنوب إفريقيا بشكل مباشر.

ومن المنظمات الدولية المؤيدة للدعوى: منظمة العفو الدولية، المجلس التقدمي الدولي، التحالف الدولي لوقف الإبادة الجماعية في فلسطين، ومنظمة االتعاون الأسلامي وجامعة الدول العربية.ونشير هنا الى ما أعلنه  مكتب حقوق الإنسان:" إسرائيل تعرض نفسها للمسؤولية عن جرائم حرب بسبب سير عمليتها في غزة". وكررت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان دعوتها إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة على أسس إنسانية وحقوقية، وذلك "لإنهاء المعاناة المروعة والخسائر في الأرواح، والسماح بالإيصال السريع والفعال للمساعدات الإنسانية إلى السكان الذين يواجهون مستويات صادمة من الجوع والمرض".

ودعا تحالف سوبار وحزب بودوموس وأكثر من 250 شخصية حقوقية، بينهم قضاة ومحامون وأكاديميون،الحكومة الإسبانية للإنضمام الى البلدان الداعمة لدعوى جنوب أفريقيا ضد الجرائم الإسرائيلية.

وطالب حزبا اليسار البيئة الحكومة السويدية بالوقوف الى جانب جنوب أفريقيا في إتهاماتها لإسرائيل. وطالب جيريمي كوربين، الرئيس السابق لحزب العمال المعارض في بريطانيا، حكومة بلاده بدعم دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية.

وفيما أعلنت الولايات المتحدة (كالعادة) والمجر وباراغواي وغواتيمالا معارضتها للدعوى القضائية، أعلن 200 أكاديمي وخبير في القانون الدولي، معظمهم من جامعات أميركية عريقة، تأييدهم الدعوى ضد حكومة إسرائيل، لانتهاكها اتفاقية منع الإبادة الجماعية .وجاء في الرسالة التي يجري التوقيع عليها من الخبراء: " باعتبارنا باحثين وممارسين في القانون الدولي، ودراسات الإبادة الجماعية، والدراسات الدولية، والمجالات المماثلة المتعلقة بالعدالة العالمية، فإننا نؤيد طلب جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية كخطوة نحو وقف إطلاق النار الضروري في غزة، وتحقيق العدالة في فلسطين".

فتحية إجلال وإكبار وإمتنان لأحفاد منديلا الشجعان،فخر جنوب أفريقيا، لدورهم القانوني المهني الرصين في تعرية جرائم إسرائيل  النكراء أمام محمكة العدل الدولية، وتضامن حكومته غير المحدود مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، في وقت يصر الحكام العرب على مواقفهم الجبانة والمتواطئة المخجلة، وأغلبهم لم يعلن حتى الآن تأييده لدعوى جنوب أفريقيا !

***

د. كاظم المقدادي - أكاديمي عراقي متقاعد، مقيم في السويد

 

مقدمة: السياسة هي المجال الذي يتم فيه تقديم الوعود، وغالبًا ما تكون مصحوبة بالعظمة والقناعة. ومع ذلك، فقد أظهر التاريخ أن الوعود التي قطعها السياسيون غالبا ما يندر ما يتم الوفاء بها، مما يؤدي إلى انعدام الثقة بين السكان والسياسيين. يتعمق هذا المقال في الأسباب التي تجعل المرء لا ينبغي له أبدا أن يثق في السياسي بناء على وعوده فقط والآثار الضارة التي تحدثها على العملية الديمقراطية.

1. يعطي السياسيون الأولوية للشعبية على النزاهة: أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل السياسيين يخالفون وعودهم هو رغبتهم في الحفاظ على شعبيتهم. إنهم يقدمون وعودا خلال الحملات الانتخابية لتأمين الأصوات، لكنهم يفشلون لاحقا في الارتقاء إلى مستوى التوقعات. إن هذه الأولوية التي في غير محلها تؤدي حتما إلى تآكل ثقة الجمهور وتقويض أسس الديمقراطية.

2. المساءلة المحدودة والتداعيات: عدم وجود عواقب وخيمة على السياسيين الذين يخالفون الوعود يؤدي إلى تفاقم المشكلة. وعلى عكس عالم الشركات، حيث المساءلة أكثر انتشارا، نادرا ما يواجه السياسيون تداعيات كبيرة على أفعالهم الخادعة. ويؤدي هذا الافتقار إلى المساءلة إلى إدامة ثقافة الوعود التي لم يتم الوفاء بها.

3. تغير المشهد السياسي: غالبا ما يواجه السياسيون تحديات غير متوقعة عند توليهم مناصبهم. مثل هذه الظروف يمكن أن تفرض تغييرا في الأولويات والتخلي عن الوعود التي تم التعهد بها خلال الحملة الانتخابية. وفي حين أن التكيف مع المناظر الطبيعية المتغيرة قد يكون ضروريا، فإنه يكشف أيضا عن هشاشة الوعود السياسية وقابلية التلاعب بها.

4. ممارسة الضغط والمصالح الخاصة: كثيرا ما يجد السياسيون أنفسهم مدينين لمجموعات المصالح القوية وجماعات الضغط التي تمول حملاتهم. وبالتالي، قد يضحي هؤلاء السياسيون بوعودهم مقابل الحصول على خدمات سياسية، مما يزيد من تآكل الثقة بين الناخبين وبينهم.

5. الافتقار إلى الشفافية: في كثير من الحالات، يفشل السياسيون في تقديم خطة شفافة ومفصلة للوعود التي يقطعونها. وعندما لا يكون الناخبون على دراية بالجوانب العملية والتحديات المرتبطة بتنفيذ تلك الوعود، فمن المحتم أن يتبع ذلك خيبة الأمل وخيبة الثقة في السياسي.

6. التنازلات في السعي إلى السلطة: غالبا ما تتطلب الطبيعة المعقدة للسياسة تقديم تنازلات لتأمين دعم مختلف أصحاب المصلحة. ومن الممكن أن تؤدي هذه التنازلات إلى الإخلال بالوعود، مما يجعل المواطنين محبطين ومتشككين في قدرة الساسة على الوفاء بوعودهم.

7. تغيير الأيديولوجيات السياسية: تتميز السياسة بالتطور المستمر للأيديولوجيات وتغير الأولويات. ومع تكيف الساسة مع الأوقات المتغيرة، فإن بعض الوعود قد تصبح بالية أو غير متوافقة مع الأهداف الأحدث. وعلى الرغم من أهمية هذه القدرة على التكيف، إلا أنها قد تؤدي إلى خيبة الأمل بين الناخبين.

8. السياسة الحزبية والجمود: غالبا ما تقع الوعود التي يقطعها السياسيون ضحية للسياسة الحزبية والجمود السياسي. إن غياب التعاون بين الاحزاب السياسية غالبا ما يعيق الوفاء بوعود الحملات الانتخابية، مما يؤدي إلى استمرار الوعود الكاذبة وخيبة أمل الناخبين.

9. نطاق التحديات المجتمعية وتعقيدها: غالبا ما يتم تقديم وعود الحملات الانتخابية باستخدام حلول مبسطة لمشاكل معقدة للغاية ومتعددة الطبقات. عندما يواجه الساسة هذه التعقيدات، فإن الوعود غالبا ما تنكث بسبب المبالغة في تقدير التحديات المطروحة أو التقليل من شأنها.

10. الرضا عن النفس وعدم المشاركة: أخيرا، يجب على الشخصيات البارزة في المجال السياسي أن يتعاملوا مع جمهور الناخبين الذي يقبل باستمرار ويتسامح مع الوعود التي لم يتم الوفاء بها. فعندما يفشل المواطنون في محاسبة السياسيين ويظلون منفصلين عن العملية الديمقراطية، فإن دائرة الوعود التي لم يتم الوفاء بها تستمر.

خاتمة:

ورغم أهمية المشاركة في العملية الديمقراطية، فإن الاعتماد على وعود الساسة فقط يشكل ممارسة لا طائل من ورائها. تسلط الأسباب العديدة المذكورة أعلاه الضوء على المخاطر الكامنة في الثقة في قدرة السياسيين على الوفاء بتعهداتهم الانتخابية. ومن الممكن أن يساعد وجود ناخبين أكثر استنارة ومشاركة، إلى جانب تدابير المساءلة الصارمة، في الحد من تكرار الوعود التي لم يتم الوفاء بها واستعادة الثقة في النظام السياسي في نهاية المطاف.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الأستاذ حسن إسماعيل، بلا شك يتسيد الآن الساحة، وتنتظر شرائح كبيرة من مجتمعنا السوداني، طلته عبر الشاشة البلورية في شوق ولهفة، لقد تغاضى مجتمعنا عن انتهازية مزعومة للرجل، دمغه بها نفر عظيم من السودانيين، وبات هم الناس، كل الناس، في وطننا الجريح أن يسمعوه، وأن يسمعوه في تأني وحرص، ويساورهم ذلك اليقين الجازم، بأن كل ما يذهب إليه في تحليلاته الدقيقة، هو الصواب الذي لا فصال فيه، وفي الحق أن الكاتب الصحافي، والمحلل السياسي حسن إسماعيل، يعبر عن كل الغيظ والحنق، الذي يعصف بأفئدة الناس من المليشيا المارقة، مليشيا الدعم السريع، تلك المليشيا التي مزقت الأمصار، واعتدت على الديار، واستباحت الذمار، وانتهكت العروض.

 أنا على الصعيد الشخصي، يعجبني عقل هذا الرجل، ويمتعني حديثه، لأنه قد أصاب من البداهة نصيب موفور، ولأن كلامه الخالي من السذاجة والنقص، مترعا بالأدلة والشواهد، وعن كنه المواضيع التي يتناولها الأستاذ حسن بالشرح والتحليل، ويبسط فيها لسانه الطلق بغير حساب، فهي تلك المواضيع التي أقحمتها الأحداث، ووقائع الدهر، في حياة الناس العقلية والشعورية، فمما لا يغيب عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن هذه الهيجاء قد ابتدعت لونا من اللذة جديدا، ونوعا من الاعجاب فريدا، وهو التحلق حول شاشة تلك القناة التي جعلت كل برامجها وموادها الاخبارية رهينة لنصرة الجيش، وانتظار ذلك البرنامج، الذي يزيل فيه جنان الأستاذ عن نفسك طائفة من الغشاوات، غشاوات تتفاوت كثافة وحدة، تستمع فيها لتحليلات الأستاذ حسن، وأنت مقتنعا بها، مطمئنا إليها، مستسلما لها، وقد وضع لها نظاما فيه شيء غير قليل من الترتيب والتنسيق، فيعمد إلى أبسط هذه الغشاوات، وأشدها سذاجة، فيستقصي أمرها، ثم يبين لك عيوبها وأعطابها، وتهافت أصحابها، وفي الجملة يهدم معبادها، ويمحو شخصية أفرادها، ولا تزال أنت متابعا له، وهو يهضب في حديثه الذي يلائم حاجتنا إلى التشفي ملائمة صحيحة، ففي التفاتات الأستاذ، ما هو كفيل بأن يهدئ من شهواتنا الحادة، التي لا سبيل إلى تهدئتها، فنحن في حاجة فعلا، لأن نخضع تلك الشهوات المضطرمة وننظمها، فليس من اليسير جدا علينا، أن نطرد هذه الرغبة الملحة في الانتقام، الإنتقام ممن أحالوا حياتنا إلى شقاء، فالناس فعلا محتاجة لأن تنتقم من مصادر هذه النكبات، ونحن هنا نعترف في وضوح وجلاء، أن شهوة الانتقام صخابة متأججة، ممن دفع مجتمعنا لأن يبحث عن مواطن العزلة، في الكهوف، وأعالي الجبال، عله ينجو من سخط الجنجويد، وهجماتهم الوحشية، نقر أيها السادة في إذعان ووضوح، أن كلفنا بشهوة الانتقام من بربرية الدعم السريع، باتت هي المسيطرة على عقولنا، والمهيمنة على وجداننا الشاحب، وأمسينا في تماهينا الصاخب معها، نضيف إليها كل شيء، ونقصر عليها كل عناية، فإذا كان الأمر كذلك، فليس من الحق في شيء، أن يتهمنا أحد بالجموح والشطط، فهناك من يعتقد أن كلامنا هذا ليس من شأنه أن يفهم، فالألفاظ التي تدل عليه، وتوضحه، هو يمجها ولا يستسيغها، لأنه ببساطه لا يستطيع أن يتحمل نقدنا لمليشيا الدعم السريع، ولا حكمنا فيها، من هنا نستطيع أن نرى أشياء ولا نشك في صحتها، فالحقيقة التي لا نستطيع أن نغمط منها أو نزيد، أن هناك طائفة من الناس تكره رأينا هذا، وتنكره، وتنصب الحرب له، بل لا تتوانى عن شمتنا بأقذع الألفاظ في صراحة وحدة، إذا صدعنا برأينا المندد بسلوك المليشيا، والداعي إلى محقها وازالتها عن الوجود . ونحن نقرأ كل هذا الثلب والذم، ونبتسم في أسى، فقتل الرأي الحر وازهاقه، والاساءة إلى صاحبه، لا يعد جريمة في أرض النيلين، وهل نعد وأد الرأي وتكميمه جريمة، إذا ما قارناها بغيرها من الجرائم المتفشية في سوداننا الآن، والتي إنتقلت أطوارها في مجتمعنا الهش من طور إلى طور، حتى وصل لازهاق الشعب بأسره وإبادته، أمام مرأى من العالم، والعالم الذي يغفل عن مجازر السودان في كسل وتراخي، يسعى كما يزعم نافذوه، أن يستكشفوا حقيقة الدعم السريع، حتى يستطيعوا أن يصفوه وصفا واضحا لا لبس فيه.

إن كل ما وصلنا إليه، بعد كل هذه السنوات من الكتابة الصحفية، استحالة الرضى، وحسن الوفاق، بين طوائفنا السياسية المتعددة، فبعض الطوائف يسوؤها حقا أن تنتحل نهجا مخالفا لنهجها، ورأيا مغايرا لرأيها، فالتعصب لحزب، أو الانكفاء على جماعة، حقا مشاعا للجميع، ولكن كل هذه الحقائق التي تمثل خلاصة الحياة العقلية القديمة، ما زال البعض يجهلها، أو ينكرها في اسراف وشطط، هذه الطبقة الاقصائية، غالبا ما تطربها أنغام الذل والمهانة التي لحقت باطياف المجتمع السوداني، فما حلّ بمجتمعنا الصابر على عرك الشدائد، لم يمس شيئا من عواطف هذه الناجمة، أو يبعث في نفوسها الصدئة ولو خيطا ضئيلا من الرغبة في الانتقام، لأن قناعاتها أن هذا البلاء، لم تصليه مليشيا الدعم السريع، إلا على جحافل الفلول، من بقايا نظام الحركة الإسلامية، الذين قادهم حظهم العاثر لأن يبقوا في أتون هذه الكريهة، ولم يفروا بأموالهم المكدسة إلى تلك الدول الراقية، في الخليج العربي، أو آسيا الوسطى، هذه الطبقة من الناس تعتقد أن كل من شايع الحركة الإسلامية السودانية، قليل الحظ من الأمانة، وأنه لم يغتني- هذا إذا كان غنيا فعلا- إلا من سعة، لم يتعب هو في جنيها وتحصيلها، وأنه لم يصبها إلا من مال الشعب وذخائره، لكن تظل الأشياء حولنا ثابتة، لا تتغير جواهرها، ونحن حتى تصل الإنسانية إلى درجة متقدمة من الاصلاح والرقي، علينا أن نساير تلك الطائفة، وأن نتحمل عقابيلها، ونذود طعنها وتشنيعها بنا بالفتور والإهمال.

***

د. الطيب النقر

 

احاول ان اجد وصفا، ان اشتق مفردة، تعبر وحدها لما تقوم به عصابات القاعدة الاستراتيجية الصهيو استعمارية في فلسطين المحتلة، من مجازر دموية وجرائم وحشية وانتهاكات همجية فاقت فيها ما مارسته حكومتا النازية والفاشية الاوروبيتان، وما بعدهما في الحروب العالمية والدولية وما تلاها، فلم اجد غير اشتقاق كلمة من المفردتين لتمييز ووصف ما يحصل في غزة اليوم بعد ملحمة طوفان الأقصى. مفردة تقابل الممارسات الوحشية والتدميرية وتوصفها وتعتبرها ميزة لها سيكتب التاريخ عنها بما يخجل متابعتها ومشتركات المجازر الوحشية التي سجلت، لما سبقها من حروب وعدوان في فلسطين وباقي المعمورة، من قبل الامبريالية العالمية وادواتها وقواعدها الاستراتيجية.

صحيح ان النازية، اختصار لاسم حزب قاده ادولف هتلر، الذي ارسى تناقض وازدواجية المعايير والمفاهيم والقيم، ففي الوقت الذي حمل عنوان حزبه، الحزب الوطني الديمقراطي الالماني، زج بلاده في حروب داخلية وخارجية عالمية، استخدمت كل الاسلحة في الابادة والقمع والاضطهاد والتدمير للبلدان والشعوب التي استهدفت بخطط الفوهرر وعصاباته، ومثله حكم الفاشية في ايطاليا وزعيمه بينيتو موسوليني وحزبه الذي حمل اختصار اسمه عنوان الفاشية. وتحالف الحزبان والتياران وحكم التاريخ عليهما وسقطا بعدما خسّرا العالم والبشرية أفدح الخسائر المادية والمعنوية، ولاسيما البشرية منها، وسجلا اسميهما في صفحات التاريخ السوداء.

كل المفردات او المقولات التي قيلت او ترددت في حالة ما يحصل في غزة لا ترتفع لمستوى الواقع، فلا التطهير العرقي، الابادة الجماعية، التهجير القسري، الحرمان من كل مقومات الحياة اليومية والخدمات الاساسية، الماء والطعام والدواء والكهرباء والانترنت والوقود والسكن والامن والامان وغيرها من المتطلبات المطلوبة للحياة الطبيعية للمواطنين في اي بلد، وقصف المباني وهدمها وتدميرها، بما يسمى بالارض المحروقة، او التباهي بقصف الاحياء السكنية والمدارس والمستشفيات والمراكز الدينية بكل انواع الاسلحة المحرمة وتحطيم اية امكانية للاستخدام والتعامل فيها، وحصار السكان والاعتقالات والاضطهاد وصنوف من القمع ومنها تعرية المعتقلين وحجزهم في اوضاع لا اخلاقية ولا انسانية وغيرها من الجرائم الوحشية التي تحرّم في القوانين والاتفاقيات الدولية وتكون قوى الاحتلال  ملزمة في توفير الحماية وتنفيذ واجباتها القانونية لصالح السكان في البلدان المحتلة وفي ظروف الحرب والعدوان، ان تحافظ عليها وتراعي ظروفها وتحمي تكويناتها، وهي بالاخير صورة فاضحة لما يراد منها او تعبر عن حقيقة ما يجري في غزة. حيث ان المرجعية الفكرية لعصابات الحرب والعدوان في الكيان الصهيوني وداعميه في واشنطن لا تبتعد عن فكري وعقيدتي النازية والفاشية، على السواء، مفهوما واقعيا وعمليا، بل تم الجمع بينهما او مزجهما في صورتهما البشعة، رغم تناقضات المواقف بين الفترتين، الا إن الوقائع ترتبط بخيوط الممارسات الوحشية والابادات اللاانسانية التي كتبها التأريخ، لما سبق وحصل ولما يحدث ويجري في فلسطين حاليا. ويضاف لها ما لا يوجد وصفا له في الممارسات العملية الوحشية المميزة لحكم الاستيطان الامبريالي.

يكرر التاريخ نفسه في ما يجري في فلسطين في مرحلة سباقة لما سبقها، وفي  تطوير الادوات والاساليب والممارسات الارهابية الاستيطانية الاحتلالية الدموية الوحشية، والمؤلم في الامر ان هذا التكرار الذي يعقد على ارض وشعب فلسطين  يبرر له وباشكال مختلفة داخل الدول التي تزعم رعايتها لحقوق الانسان  والحريات ومحاربة الاستبداد والديكتاتوريات، ولم يتعظ من الاخطاء والخطايا والتوحش الاجرامي، لا سيما في النتائج التي كانت في التضحية لاكثر من 60 مليون شخص وعيش ما يقارب  ضعف هذا العدد في حالات تشوه وامراض نفسية او فقدان احد اعضائه الجسدية او الاصابة بعجز عام وخسارات وتعقيدات في العيش الكريم او كبشر عاديين طبيعيين. هذا التاريخ لا يغيب ولا يضيع، سيظل شاهدا وصارخا وناقدا لمن عاشه او يطلع عليه الان في ما يرى ويحصل امامه بكامله، او هو كما هو، في الواقع والحدث اليومي.

لقد فضحت معركة طوفان الأقصى وسلطت الاضواء على حقيقة حكومات الغرب والقوانين والمنظمات الدولية ووضعتها على المحك، عارية مكشوفة بممارساتها ومشاركاتها الفعالة في الجرائم النازشية، التي اصبحت وصمة عار يسجلها التاريخ لتلك الفترة الزمنية ما بعد السابع من تشرين اول/ اكتوبر 2023. وكشف التخادم الرسمي الغربي وبعض العربي والاسلامي تخاذلا كبيرا لحقوق الشعوب في الدفاع عن ارضها ومقدساتها وقيمها العقيدية والإنسانية، كما بين  بوضوح ازدواجية المعايير والمفاهيم والتضليل والتنسيق والتعاون باستخدام كل الاساليب والاشكال والوسائل، المحرمة وغيرها، بل وتجريب ما لم يجرب من وسائل عنف وارهاب وقتل واجرام، وليس الاسلحة النارية وحدها، بل وسائل الاعلام وماكينات وجيوش وشبكات الاتصال والتضليل والغش والخداع وبكل اللغات والامكانات. والاقسى في هذه الحالة اعتراف ممثلي المنظمات الدولية والاقليمية المتخصصة في حقوق الانسان والحروب والقانون الدولي وما له علاقة بكل ذلك، بنازشية ما يجري والاقرار به ولكن التفرج عليه، والسماح لاستمراره دون التدخل بتطبيق قواعدها واجراءاتها وقدراتها لردعه ووقفه ومحاكمته وعدم تركه يمعن في اجرامه ويفلت من العقاب.

لعل اطلاق هذا المصطلح، والمراد بالنازشية، وصف ما ينطبق على الجرائم الوحشية التي ارتكبتها عصابات الاحتلال في القاعدة العسكرية للامبريالية والدعم المفتوح من قبل قواها المتوحشة والساعية للهيمنة ونهب الثروات والخيرات وتدمير الشعوب والبلدان. وهو يعري مصداقية الحكومات الغربية والمتخادمة معها في محاولات انهاء قضية الشعب الفلسطيني وعدالتها وحقوقها المشروعة في التحرر والحرية والاستقلال. حيث كشفت التناقض الجوهري والظاهري في المفاهيم والقيم الانسانية وعرّت دعاة القوانين والحقوق والمعايير التي تزعم بها وتتسابق في التغني بها في اي مشكلة او قضية عالمية او اقليمية او حتى محلية.

هذا المصطلح، النازشية، مفهوم وصف حال يتطابق عمليا مع صورة ما يحصل في غزة اليوم، اذ فاق ما فعله النازيون والفاشيون، ويصم قوى العدوان مباشرة، تبينه الممارسات الدموية الجارية، والتوحش السافر في القتل والتدمير، مستثمرة مفارقات التساوي في موازين الاسلحة والامكانات الحربية بين قوات عسكرية مسلحة ومدربة ومزودة بجسور جوية وبحرية وبرية من الامدادات مع الخبرات والمرتزقة، والدعم المفتوح من حلف الناتو العسكري وقائدته الادارة الامريكية واجهزتها ومؤسساتها المساهمة في النازشية القائمة اليوم، وبين كتائب "شهداء" مسلحة بايمان قوي بعقيدتها وهويتها واخلاصها لتحرير شعبها ووطنها من الاحتلال الاستيطاني والعدوان الوحشي المتزايد في اجرامه وكمية اسلحته التدميرية، والفضائح له والداعمين والمتخادمين معه، في خططهم وممارساتهم واهدافهم المعلنة والمكتومة زمنيا.

لقد جمع الحكم الذي نفذ هذه الجرائم الوحشية، وتفنن في مواصلتها، كل ما قام به النازيون والفاشيون، وزاد عليه بما اضافه وامعن فيه، ولابد ان يحكم عليه بمثلهما، وتنتصر العدالة والحرية والتحرر الوطني رغم كل التضحيات.

***

د. كاظم الموسوي

للمرة الأولى منذ قيامها، تقف إسرائيل فى قفص الاتهام الدولي بفضل ما حدث فى السابع من أكتوبر واستمرت نتائجه الهائلة تتراكم، حتي تُوجت بمحاكمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية!

إن ما فعلته المقاومة الفلسطينية على مدار ما يقارب مائة يوم يشبه المعجزة التي لم يسبقهم إلى مثلها أحد. إنها ملحمة سطرتها المقاومة الفلسطينية بحروف كتبتها بدماء الشهداء سطراً من ذهب وسطراً من لهب مستعر أكل وجوه أعداء الإنسانية من النازيين الجدد. ومهما تكن نتائج تلك المحاكمة التي تُعد بلا أدني مبالغة محاكمة القرن، فإن إسرائيل باتت مدانة فى أنظار العالم، ولسوف تستمر خسائرها كلما تمادت فى تجبرها وعدوانها الغاشم حتي تصل حتماً إلى نقطة اللاعودة.

مانديلا يحاكم أعداء الإنسانية!

إنها جنوب إفريقيا، الدولة التي رزحت طويلاً تحت نير الفصل العنصري، ودفع نيلسون مانديلا، ومن معه من معارضي تلك السياسات القمعية الظالمة، أثمانا باهظة وسنوات طويلة من أعمارهم قضوها فى غياهب السجون عقوداً قبل أن يعود ليقطف ثمرة كفاحه الطويل، ويري كيف واصل تلامذته وأبناءه هذا الكفاح حتي النصر. وها هم التلامذة أنفسهم أو أحفادهم يشكلون جبهة دفاع تنتصر لقضايا الإنسانية، وتضع أعداءها من الصهاينة فى قفص الاتهام كمجرمي حرب ارتكبوا فظائع وانتهاكات فاقت ما تغنوا به طويلاً واتخذوه ستاراً لفظائعهم من محارق الألمان لليهود فى الحرب العالمية الثانية. وعندما أعطيت لهم الفرصة تفوقوا على النازيين فى العنجهية والتجبر والسادية !

إنه مشهد نراه للمرة الأولي فى تاريخ إسرائيل. وقد بذلت طوال عمرها المسروق من خزانة الزمن كل الجهد لكي لا يحدث مثل هذا المشهد الذي تُحاكم فيه أمام العالم، وتضطر للدفاع عن جرائمها درءاً لإدانة ثابتة عليها ثبوتاً لا تنكره عين. فكيف حدث هذا؟ ولماذا سمحت به أمريكا؟

الإعلام الإسرائيلي وقف أمام المحاكمة مذهولاً. خاصةً عندما تابع ما حدث فى الجلسة الأولي للمحاكمة، ورأي الموقف الضعيف والإعداد الهزيل لفريق الدفاع الإسرائيلي فى مواجهة الفريق الجنوب إفريقي الذي بدا وكأنه قد جهز أوراقه ومحاميه وملفاته منذ بدء الطوفان، وكأنه كان يعد على الصهاينة أنفاسهم تمهيداً لتلك اللحظة الفاصلة التي ستظل وساماً على صدر جنوب إفريقيا أبد الدهر.

أحد ضيوف برنامج توك شو في إحدي القنوات العبرية، وهو سياسي شاب، تحدث عما أسماه الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته إسرائيل بالموافقة على المثول أمام محكمة العدل الدولية. وأن هذه الخطوة قد تمت بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد استطاع وزير الخارجية الأمريكية خلال جولته الشرق أوسطية الأخيرة التي استهلها بزيارة إسرائيل أن يقنعهم باتخاذ تلك الخطوة، ويبدو أنه طمأنهم أنها مجرد مسرحية، وهو التعبير الذي استخدمه السياسي الإسرائيلي ضيف البرنامج العبري، وأنها مجرد شكليات لن تدين إسرائيل ولن تنتهي إلى شئ. غير أنهم فوجئوا بما حدث فى المحكمة، واكتشفوا أنها محاكمة حقيقية وأن قضاة المحكمة متحفزون وكان منهم مَن وصفته الصحافة الإسرائيلية بالمعادي للسامية لمجرد أن بشرته سوداء! فما حقيقة ما يجري فى أروقة محكمة العدل؟ وهل هى حقاً مسرحية كما تراها إسرائيل أو تراها أمريكا؟!

الخديعة المزدوجة

لو أنه فخ وقعت فيه إسرائيل كما يزعم الإعلام العبري، فمن الصائد ومن الفريسة؟!

طبقاً للرؤية الأمريكية أن الحرب الدائرة فى غزة لابد لها أن تتوقف، بينما إسرائيل مصرة على الاستمرار الأحمق بلا طائل. وقد تعدي جيش الاحتلال المهلة التي أمهله بلينكن إياها. لهذا كان لابد من اتخاذ إجراءات أخري سياسية تمتص الغضب العالمي العارم ضد فظائع الصهاينة. وكان الحل الذي رأته أمريكا أن يتم السماح لمحاكمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية لكي يعرض الصهاينة أدلتهم وبراهينهم ومبرراتهم المزعومة لاستمرار تلك الحرب أمام العالم. غير أن الجلسة الأولي للمحاكمة اتخذت مساراً مختلفاً عما توقعته إسرائيل طبقاً لتطمينات بلينكن! إذ فوجئ فريق الدفاع الإسرائيلي بالقضاة يطرحون أرضاً أغلب تلك المزاعم والمبررات باعتبارها حق من حقوق صاحب الدعوة لا المتهم! وهكذا وجد الفريق الإسرائيلي نفسه فى مأزق، لاسيما وقد برع الفريق الجنوب إفريقي فى أدائه الاحترافي بما أظهر الإسرائيليين وكأنهم حفنة من المهرجين والحمقي!

غير أن تلك المحاكمة استطاعت بالفعل تحقيق جزء من الخطة الأمريكية الذكية. إذ أن الإعلام العالمي بات ينصرف كلياً نحو قاعة محكمة العدل ليتابع مجريات محاكمة القرن وكأنه يتابع مباراة كأس العالم! وبالتالي تم تخفيف الضغط الداخلي فى أمريكا التي غدت اليوم على صفيح ساخن بسبب استعدادات الانتخابات الأمريكية للرئاسة. وثمة ألاعيب قائمة ومفاجآت قادمة فى تلك الانتخابات.. منها ما حدث فعلاً فى الأيام السابقة من فتح ملف قضية “جيفري إيبستن” مالك جزيرة المتعة، وما تم تسريبه من صور وأخبار عن شخصيات أمريكية سياسية وفنية متورطة فى فضائح تلك القضية الشهيرة. وإذا كانت ألاعيب السياسة الأمريكية قد وصلت حدَّ التشهير بسياسيين كبار ورؤساء سابقين والزج بحليفتها التاريخية إسرائيل فى قفص اتهام صوري لشغل الرأي العام العالمي فنحن أمام خطب جلل لدي صناعة القرار فى أمريكا، أو ربما فيروس أصاب عقولهم الإليكترونية فائقة الذكاء! إذ أن ما يحدث حتي الآن لا يبشر بأن القادم فى صالح إسرائيل أو أمريكا، وبخاصة بعد الضربات الأمريكية على اليمن..

غارات منتصف الليل

بعد 48 ساعة من تحذير بريطاني بضربة قادمة سيتم تنفيذها ضد الحوثيين فى اليمن، انطلقت الطائرات والغواصات والبوارج انطلاقة مجمعة اشترك فيها كل من أمريكا وبريطانيا واستراليا وهولندا ودول أخرى بدعم لوجستي، وتم ضرب 16 موقعاً من مواقع إطلاق الصواريخ ومواقع الرصد والرادار فى 60 غارة حدثت فى جنح الليل. ولاشك أن اليمنيين كانوا قد اتخذوا احتياطاتهم بعد التحذير البريطاني بقدوم الضربة، وهو ما يعني بالضرورة أن خسائر اليمنيين محدودة، وأن أمريكا لم تكن تريد تصعيداً للحرب بل أرادت تحذير اليمنيين ومن ورائهم إيران. فهل وصلت الرسالة لإيران؟ وهل تلتزم بمضمونها؟!

الوقائع تشي بعكس ذلك. إذ أن إيران ذاتها قامت باحتجاز ناقلة بترول تابعة لأمريكا انطلقت من أحد موانئ العراق، ثم رفضت الإفراج عنها برغم الضغط الغربي. أكثر من هذا أن روسيا دخلت على خط الحرب الشرق أوسطية فأدانت الغارات الأمريكية على اليمن، واعتبرتها خرقاً للقوانين الدولية! فهل يحدث ما تخشاه أمريكا وتتسع دائرة الحرب على غير مرادها. وإذا حدث هذا فكيف يكون مصير بايدن وحزبه الديمقراطي فى الانتخابات الأمريكية القادمة ؟ لابد أن الرياح لن تأتي بما يشتهون..

ملوك ومعجزات!

كل ما نشهده على الساحة اليوم من نتائج: محاكمة إسرائيل، وتخبط أمريكا، وانهيار معنويات المستوطنين، ومخاوف انهيار الحلم الإسرائيلي برمته.. كلها ليست إلا سقط أشجار من ثمار أكثر حلاوة ما زالت تنضج ببطء وعلى مهل فى ثنايا شجرة المقاومة الفلسطينية!

ملوك الميدان فى غزة حققوا ما لم يستطع أحد تحقيقه على مدار سبعة عقود. أشباح المقاومة الأبطال اكتفوا بتمزيق أوصال الجيش الإسرائيلي، ولم يعلموا أن غيرهم فى أنحاء العالم سوف يكمل الضغط على النازيين الجدد لوضعهم فى قفص اتهام محكم.

تمتد الأيام بطوفان الأقصي، وتتضاعف إنجازات محور المقاومة. وكل يوم يشهد مصيبة جديدة تقع على رأس إسرائيل، حتي يأتي اليوم الذي نشاهد فيه قشة ضعيفة تسقط من مكان ما فتقصم ظهر البعير!

***

عبد السلام فاروق

مقدمة: لم تكشف قضية جيفري إبستين عن الجانب المظلم للثروة والسلطة فحسب، بل سلطت الضوء أيضًا على القضية الأساسية المتمثلة في الثقة في السياسيين. لقد تضاءلت ثقة الجمهور في السياسيين على مر السنين، وهذه الحالة بمثابة تذكير صارخ لماذا لا ينبغي أبدا منح هذه الثقة بسهولة. سوف يدرس هذا المقال الروابط بين السياسيين و إبستين ، ويستكشف جوانب مختلفة من القضية التي تزيد من تآكل ثقة الجمهور بهم.

دور السياسيين

يتم انتخاب السياسيين لخدمة وحماية مصالح الشعب الذي يمثلونه. ومع ذلك، تكشف قضية إبستين عن افتقار عميق للمساءلة داخل المؤسسة السياسية. وحافظ العديد من السياسيين البارزين، سواء في الولايات المتحدة أو خارجها، على علاقات وثيقة مع إبستين لسنوات طويلة، حتى بعد ظهور جرائمه الشنيعة.

اتصالات ابستين

مكنت ثروة إبستين وعلاقاته الهائلة من بناء شبكة من المعارف المؤثرين، بما في ذلك السياسيين. لقد استخدم علاقاته لكسب الخدمات والنفوذ، والأكثر إثارة للصدمة، الحصول على درع الحماية. إن حقيقة ارتباط السياسيين بإبستين على الرغم من الادعاءات والأدلة تظهر استعدادهم لتجاهل المخاوف الأخلاقية لتحقيق مكاسب شخصية.

قوة المال

السياسيون ليسوا غرباء على المال والتأثير الذي يجلبه. تُظهر قضية إبستين  قدرة السياسيين على التأثر بالسلطة والثروة. على الرغم من مزاعم الاتجار بالجنس والاستغلال الجنسي، تمكن إبستين من الحفاظ على العلاقات مع السياسيين البارزين الذين كانوا على أتم استعداد للتغاضي عن سلوكه المستهجن أخلاقيا.

فن تشتيت الانتباه

في أعقاب اعتقال إبستين، سارع السياسيون إلى استخدام تكتيكات التحويل، في محاولة لتحويل التركيز بعيدًا عن علاقاتهم به. سواء من خلال إنكار المعرفة، أو التقليل من حجم علاقاتهم، أو تجنب الأسئلة تمامًا، استخدم السياسيون الخداع لحماية سمعتهم.

إساءة استخدام السلطة

تسلط قضية إبستاين الضوء على إساءة استخدام السلطة من قبل السياسيين. إن قدرة إبستين على التلاعب بالنظام القانوني وتأمين صفقة إقرار متساهلة تظهر رغبة السياسيين في استخدام نفوذهم لإحباط العدالة. ويشكل هذا النوع من الانتهاكات خيانة لثقة الجمهور ويزيد من تآكل الثقة في النظام السياسي.

الصمت والتواطؤ

أحد الجوانب الأكثر إثارة للقلق في قضية إبستين هو صمت وتواطؤ السياسيين الذين كانوا على علم بأنشطته غير القانونية. ومن خلال اختيار النظر في الاتجاه الآخر أو المشاركة بنشاط في تصرفاته، أدى هؤلاء السياسيون إلى إدامة ثقافة الفساد والخيانة.

الدائرة النخبوية

إن الدائرة المتماسكة من السياسيين والمشاهير وغيرهم من النخب التي بناها إبستين تكشف مدى تشابك السلطة والامتياز. وقد سمحت له هذه الشبكة المعزولة بمواصلة استغلاله دون رادع، مع منح هؤلاء السياسيين إمكانية الوصول إلى دائرة داخلية حصرية.

مسؤولية عامة

تؤكد قضية إبستين على الحاجة الماسة إلى زيادة المساءلة العامة في السياسة. من الضروري أن يكون المواطنون على دراية بالعلاقات التي تربط بين السياسيين وأن يقوموا بتحليلها بشكل نقدي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بأفراد لديهم تاريخ من السلوك الإجرامي. ولا يمكن تحميل السياسيين المسؤولية عن جمعياتهم وأفعالهم إلا من خلال جمهور يقظ ومشارك.

إعادة بناء الثقة في السياسة

ولإعادة بناء الثقة في الساسة، فلابد من إجراء فحص شامل للنظام. إن المبادرات التي تعزز الشفافية، والممارسات الأخلاقية لجمع التبرعات، وإجراءات التدقيق الأكثر صرامة، ضرورية لاستعادة الثقة في الطبقة السياسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن مساءلة السياسيين عن جمعياتهم والسعي بنشاط إلى قطع العلاقات مع الأفراد الذين يشاركون في أنشطة إجرامية سيكون أمرا بالغ الأهمية.

خاتمة:

كشفت قضية جيفري إبستين عن واقع مقلق للغاية، حيث تسبب السياسيون، مدفوعين بمكاسب شخصية وشبكة من العلاقات، في تآكل الثقة داخل النظام السياسي بشكل فعال. ومع ذلك، فإن هذه القضية أيضًا بمثابة تذكير بأن السلطة تقع في أيدي الشعب. ومن خلال المطالبة بالشفافية والمساءلة والالتزام بالسلوك الأخلاقي من المسؤولين المنتخبين لدينا، يصبح بوسعنا أن نبدأ الرحلة نحو استعادة الثقة والنزاهة في السياسة.

*** 

محمد عبد الكريم يوسف

 

قد عانت الأمة في غيابها العسف وسامها الطواغيت الخسف، فدين الله الخاتم الذي لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، قد أزاح ذلك الركام الثقيل من الظلم والاستبداد، وكفل للرعية التي تمقت الجور والشطط أن تبسط رأيها في الحاكم دون أن تخشى المهالك والحتوف، ولعلنا لا نُنكر أو نرتاب في أمر تلك الطائفة التي كانت ندية الصوت، حافلة الخاطر، دامغة الحجة، في صدر الإسلام فقد كانت تتدفق تدفق السيل الهادر إلى سهول الحاكم لتهدي إليه دواوين من العبارات الجزلة، وباقات من البيان المشرق، وآكام من الحجج المُفحِمة، نعم لقد كانت تلك الأمة في أزهى عصورها نابية عن الضعف، أبيَّة على السكون، بما أوجب الله عليها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ يقول الله عزّ وجلّ في مُحكم تنزيله:«ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون» آل عمران:104. ويقول المولى جلّ شأنه أيضاً في كتابه المُحكم السبك، الدقيق المعاني، المنسجم التراكيب، الناصع الأسلوب، «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» آل عمران:110. والنبي المرسل عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم الذي جدّد ما رثّ من حبل القيم، وجمع ما شتّ من شمل العرب، أمرنا بمراقبة الحاكم ورده إلى الصواب كلما أخطأ، وتقويمه كلما أعوج حينما قال:«لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم ببعض» رواه أبوداود والترمذي، ويقول خير من سار على الثرى أيضاً: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» رواه الترمذي والنسائي، أما حديثه صلى الله عليه وسلم الذي وعته العقول، وحوته الحفائظ والصدور، والذي يأمرنا فيه بدفع الباطل باليد، واستهجان الضلال باللسان أو حتى بالقلب، فلا أوخم مرعى، ولا أزيد في الشناءة من أن نظل موسومين بالعجز، موصومين بالفشل عن تطبيقه، على ضوء ذلك ليس من المغالاة أن نزعم أن التعاون بالهدي، والتعاضد بالنصيحة، فريضة على كل مسلم مكلف، يقوم المجتمع بقيامها، ويزول بزوالها، وفي هذا الصدد يقول الدكتور فتحي عبد الكريم صاحب كتاب الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي: «ما هلكت أمة يتواصى أبناؤها بالحق، ويتناهون عن الباطل، ولكن دالت دول كما جاء في الكتاب الكريم لأنهم «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون» المائدة:52. والناس جميعاً في خسر «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» العصر:3. اذن هذا الدين السامي الذي يشرق بنور العقل، وينبض بروح العدل، لم يدع الرعية تقاسي معرة الظلم، وتكابد مذلة الحرمان، دون أن تفصح عن دخيلة نفسها، بل حفزها أن تصاول برأيها دون غلو أو مبالغة، وليس شرطاً أن يكون هذا المجاهر برأيه من قبيلة الرجال الذين صقلهم العلم، وهذبتهم المعرفة، فقد ثبت أن الخليفة العادل عمر رضي الله عنه قد اعتلى المنبر وخاف ألا يرده الناس لهيبته فقال فيما معناه: «أيها الناس ماذا تصنعون إذا ملت بعنقي عن الحق هكذا» فقام إليه رجل من عامة الناس ملوحاً بيده وهو يقول: «اذن نقول بالسيف هكذا» فاطمأنت نفس من يجول في غُرته ماء الكرم، ويفوح من شمائلة عُرف المروءة، وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف» لله درّهم من رجال ولكن دعني أسالك أيها الأغرّ الأكرم هل يمكن أن يتحفنا زماننا هذا بخليفة عادل مثل الفاروق؟ وأن يكون من بين الرعية أسد هصور يجابه من لا يصعر خده، ولا يلوي عذاره؟ هيهات.. إليك رائعة أخرى تفغر فاهك من الدهشة حدث أن حبس معاوية بن سفيان رضي الله عنهما كما يخبرنا حجة الإسلام الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» العطاء عن الناس ذات مرة فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال له: يا معاوية.. إنه ليس من كدك ولا كد أبيك ولا كد أمك، فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال: مكانكم، ثم غاب عنهم ساعة ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال: ان أبا مسلم كلمني كلاماً أغضبني، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الغضب من الشيطان، والشيطان خُلِق من نار، وانما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليغتسل». وإني دخلت فاغتسلت، وصدق أبو مسلم..انه ليس من كدي ولا من كد أبي ولا من كد أمي فهلموا إلى عطائكم، ليت شعري من أي طينة صالحة برأ الله هذا النفر؟ ولماذا لم يتأتَّ لنا أن نكون على شاكلتهم؟ حب الدنيا الجارف وكراهية الموت هي العقبة الكؤود التي تحول أن نكون مثل هؤلاء الأفذاذ، دعني أفجؤك بقصة أخرى سيدي الفاضل بطلها تابعي نلتمس في كلامه ضوالُ الحكمة، وفي تعابيره مفاصل الصواب، انه سفيان الثوري رحمه الله فقد أُدخِل على الطاغية المستبد أبو جعفر المنصور فخاطبه من يأخذ الناس بالظنة قائلاً في صغار: أرفع إلينا حاجتك، فقال التقي النقي، اتقِ الله فقد ملأت الأرض ظلماً وجورًا، فطأطأ أبو جعفر رأسه، ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقال الثوري انما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار وأبناؤهم يموتون جوعاً فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم، أي شجاعة هذه، وأي جسارة تلك، أحلف غير حانث من صيغ فؤاده من جلاميد الجبال في عصرنا القميء هذا لا يجرؤ أن يخاطب طاغية من طواغيت هذا العصر بمثل هذا الإقدام، ماذا صنع المنصور هل أمر بالنطع والسيف؟ لا بل قال مثل قوله السابق: ارفع إلينا حاجتك، فقال الثوري أنزل الله على رمسه شآبيب رحمته: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لخازنه كم أنفقت؟ فقال بضعة عشر درهمًا، وأرى ههنا أموالاً لا تطيق الجمال حملها، ثم خرج، ولعل هذه الأمثلة والشواهد التي أوردتها من الصعوبة بمكان أن نحصي أخريات على شاكلتها، كما لا سبيل لإحصائها واستقصائها في هذه العجالة، ولكنها تبرهن بجلاء عن حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته على كيفية ادارته لدفة الحكم، هل أسبغ على رعيته جلابيب النُعماء؟ أم اصطفى نفسه وشيعته بشمول اللألاء؟.

إن الحقيقة التي لا يرقأ إليها شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن الرقابة في عهد الخلافة الراشدة لم تكن فيها معاظلة أو التواء، كما هو الحال الآن بل كانت حقًا مكفولاً للجميع، فمن وقت لآخر نبصر مشدوهين بعض الصحابة الميامين ينتقدون في رابعة النهار السلوك الذي يند من الخليفة كما حدث بين سلمان الفارسي وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في أمر الثياب، هذه الشواهد تجعلنا نشعر بوطأة خزي عجيب أيها السادة، فمجالسنا النيابية والوطنية التي اُنتخبت من قبل هذه الشعوب التي خلت حياتها من قلوب تحنو عليها، يتعالى صهيلها مطالبة «بحقوقها» المهدرة، كما نراها دائمة الوفاق مع السلطة التنفيذية التي لا يعتريها يأس، أو يخامرها قنوط، في تمرير ما توده من سياسات، فجل هذه المجالس تؤدي دون كلل أو ملال نفس الدور الذي تؤديه تلك المجموعات الجميلة التي تقف في شموخ ورفعة خلف مغنٍ فشا ذكره على الألسنة، وقرع صيته الأسماع، تجتر ما يقوله في نشوة، وتدمي أكفها في طرب بالغ.

***

د. الطيب النقر

 

مثلما في الماضي، ففي الحاضر أيضًا ما يزال العالم يدفع أثمانًا باهظة، بسبب الاستخدام السياسي للدين، حيث استُعمل كذريعة أو حجّة لاندلاع أكثر الحروب والنزاعات دمويةً بين الشعوب من جهة وبين جماعات دينية وطائفية مختلفة أيضًا من جهة أخرى، وكان له تأثيرًا سلبيًا خطيرًا، فأزهقت بسببه وما تزال تُزهق أرواح ملايين البشر، وتهدر أموال طائلة، وتُستنزف جهود عظيمة، لا على التنمية والتقدم والصحة والتعليم وتحسين نوعية الحياة والرفاه الاجتماعي، بل على إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة، وتغذية بؤر التوتّر بروح الكراهية والعداوة والحقد والانتقام والثأر.

ولمعالجة هذه الظاهرة، فإن الأمر لا يحتاج إلى إطفاء الحروب والنزاعات فحسب، بل البحث عن السبل الكفيلة لمعالجة جذورها، وتهيئة مستلزمات الوقاية منها، فضلًا عن حماية ضحاياها ماديًا ومعنويًا ونفسيًا.

وحين انطلقت مبادرة عالمية لحظر الاستخدام السياسي للدين، نشرت مقالة بخصوص الدين والاستخدام السياسي، تساوقًا معها وانضمامًا إليها، حيث توّجت الجهود لعقد مؤتمر دولي في الرباط - المغرب (2022)، تبنّى مشروع المبادرة، كيما يعرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة. وسبق لعدد من الشخصيات الفكرية والثقافية والبرلمانية أن وقعّت عليه مثل نعوم تشومسكي وأدونيس واللورد جيفري آرتشر وماري كيلي وعشرات الشخصيات الوازنة على المستوى الدولي.

وخلال الأسابيع المنصرمة حققت المبادرة نجاحًا جديدًا، حين أُدرجت على جدول عمل مجلس أوروبا، وحظيت بتأييد 40 عضوًا من 19 دولة، بينهم شخصيات اشتراكية ديمقراطية ومن مجموعات الخضر، وأعضاء من ألمانيا وإسبانيا واليونان والنرويج وسويسرا وغيرها.

أما حيثيات الفكرة وأسبابها الموجبة، حسب لغة القانون، فإنها تقوم على أن الاضطهاد الديني هو أكثر انتهاكات حقوق الإنسان شيوعًا في العالم، وأن عدد ضحاياه يتجاوز أية إحصاءات، ولا يقتصر على النساء والأطفال و"الأقليات الدينية" فحسب، بل يشمل قطاعات كبيرة من الأغلبيات أيضًا في العديد من البلدان، ويمكننا هنا أن نستعيد تاريخيًا العديد من الارتكابات والحروب والنزاعات الدينية، ونستذكر ما عشناه أيضًا، والتي ولّدت مآسي لا حصر لها في التاريخ البعيد والقريب، وبعضه يستمر بضراوة وحدّة حتى اليوم.

إن المبادرة لإقرار معاهدة دولية لحظر التوظيف السياسي للدين، هي توجّه جديد لوضع قواعد قانونية دولية جديدة وواضحة ومحددة، في إطار القانون الدولي، ووفقًا لمبادئ المساواة، التي هي ركن أساس من أركان المواطنة في الدولة العصرية، وهو ما ينبغي أن تأخذ به التشريعات والقوانين الوطنية لمنع التمييز على أساس ديني، أو تقييد حق الاعتقاد والعبادة وممارسة الطقوس والشعائر الدينية بحريّة.

لذلك سيكون إبرام المعاهدة نقطة انطلاق جديدة لتعزيز السلم العالمي من جهة، والتعايش السلمي المجتمعي من جهة أخرى في أي بلد متعدد الأديان، وسيكون عائقًا جديًا أمام القوى المتعصّبة والمتطرّفة استخدام الدين لأغراض سياسية أنانية ضيقة، بعيدًا عن قيم التسامح واللّاعنف والإخاء والمحبة والمشتركات الإنسانية.

إن النجاح في إبرام معاهدة من هذا النوع، لا يعني أن أعمال الاستغلال السياسي للدين ستتوقف في اليوم التالي، لكن وجودها سيكون عاملًا مساعدًا في تحديد مسؤولية المجتمع الدولي، فضلًا عن الدول التي ستنضمّ إليها للتصدّي لظواهر التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب، تلك التي تستقي الحركات الإرهابية والقوى المتعصّبة والمتطرّفة من منابعه أفكارها ووجودها واستمرارها باسم الدين، مثل تنظيمات القاعدة وداعش وأخواتهما.

ولا ينحصر الاستخدام السياسي للدين على مجتمعاتنا العربية والإسلامية فحسب، بل أن مجتمعات متقدمة ظلّت هي الأخرى تمارسه عمليًا، حتى وإن كانت تحرّمه قانونيًا، ولعلّ الكثير من المجتمعات الغربية تشهد اليوم هجمات ضدّ اللاجئين والأجانب والمجموعات الثقافية الأخرى، لاسيّما في ظلّ صعود نخب شعبوية متطرّفة وعنصرية، وأحيانًا تحت زعم الحفاظ على الهويّة والثقافة الموحدة، يتم التجاوز على الخصوصيات والهويّات الفرعية، بل يتم الاستخفاف بها والتنكّر لها، وأقرب مثال على ذلك أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، اتّخذت قرارًا بمنع رعايا دول محدّدة من الدخول إليها، وهي ذات أغلبية إسلامية، مثلما تُتخذ اليوم بعض الإجراءات القمعية بخصوص بعض أعمال التضامن مع الشعب العربي الفلسطيني وسكان غزّة في العديد من البلدان الغربية بحجّة العداء للسامية.

ولا يقتصر تكفير تلك الحركات الإرهابية والمتطرّفة على أتباع  الأديان الأخرى، بل أنها تقوم بتكفير كلّ من يعارض تعليماتها ولا يؤمن بأطروحاتها، حتى وإن كان من ذات الدين والطائفة، ملتجئة إلى التأثيم والتحريم والتجريم، واضعةً من نفسها قاضيًا وسلطة تنفيذية خارج نطاق القانون والدولة، بما يسيء للدين ذاته، ولاسيّما في إفساد العلاقة بين الشعوب والأمم على المستوى الخارجي، وفي تفجير الصراعات والفوضى والحروب الأهلية بين المجموعات الثقافية وأتباع المذاهب المختلفة على المستوى الداخلي.

***

د. عبد الحسين شعبان

نُشر يوم الجمعة 5 كانون الأول / يناير تقرير إخباري يتضمن خبرا منسوبا إلى رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مفاده تشكيل لجنة ثنائية عراقية أميركية لجدولة انسحاب ما تبقى من قوات الاحتلال الأميركية وما يسمى "قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب" من العراق. وبالعودة إلى تسجيل فيديو خطاب السوداني الذي ألقاه يوم أمس في الذكرى الرابعة لجريمة اغتيال قادة النصر على داعش من قبل سلاح الطيران الأميركي، نجد أن التقرير الإخباري الذي تكلم عن تشكيل تلك اللجنة لم يكن دقيقا. فقد ذُكر موضوع اللجنة الثنائية فعلا ولكنها ليست لجنة ثنائية أميركية عراقية شُكلت مؤخرا.

فما حقيقة هذه اللجنة وهل كانت الحكومات العراقية ومنها حكومة السوداني جادة فعلا في إخراج القوات العراقية واستعادة سيادة العراق واستقلاله وبناء جيشه ومؤسساته الوطنية أم أن الوضع سيبقى على ما هو عليه؟ يتبين لنا بعد التدقيق ومقارنة التقرير الإخباري الذي نشر حول الخطاب بتسجيل فيديو الخطاب نفسه ما يلي:

إنَّ عبارة "اللجنة الثنائية" وردت مرتين في التقرير الإخباري الذي نشر عن الخطاب في بعض المواقع الإخبارية العربية ثم حذف (ولدينا صورته كما نشر في موقع بحراني معارض قبل أن يحذفه لاحقا)، والملفت أن هذا الخبر لم ينشر في غالبية المواقع العراقية؛ وقد ورد مرة بصيغة غامضة وبالفعل المضارع في بداية الخطاب، وتقول الفقرة: "إن الحكومة تحدد موعداً لبدء عمل اللجنة الثنائية بما يتماشی مع الترتيبات النهائية المتعلقة بإنهاء تواجد قوات الاحتلال الدولية في العراق، وفي كل ما يتماشی مع توسيع التواجد العسكري في العراق". ويُفهم من هذه العبارة أنها مشروطة بحال استثنائية توجب حدوثها وفي اتجاهين أي باتجاه الإنهاء أوالتوسعة، وربما تكون هذه العبارة قد وردت في أوراق ما سمي جولات الحوار الاستراتيجي في عهد حكومة مصطفى الكاظمي. أي إنها ليست مخصصة لجدولة انسحاب القوات فقط، بل بترتيبات "إنهاء التواجد العسكري الأميركي أو توسعته في العراق".  وربما تكون هذه الفقرة قد وردت في الخطاب سهواً أو نقلاً حرفياً عن وثيقة، ثم حذفت لاحقا، أو أنها لم ترد في الأصل ولكن محرر التقرير قد أضافها وهذا احتمال مستبعد. وفي المناسبة فهذه ليست المرة الأخرى التي يُمَنْتَجُ فيها خطابٌ للسوداني لحذف عبارات منه، فقد سبق وأن حدث ذلك بعد الأزمة التي أثارتها تسمية السوادني للخليج العربي باسمه الصحيح "العربي" خلال افتتاحه دورة البصرة لكأس الخليج العربي لكرة القدم في تشرين الثاني - نوفمبر 2019، ما أدى إلى صدور احتجاجات رسمية من الجهات الإيرانية القومية ضده فتراجع وتمت مَنْتَجَةُ خطابه!

كما وردت عبارة "اللجنة الثنائية" في الفقرة الأخيرة من الخطاب، وفق التقرير والفيديو معا، ولكن بصيغة الماضي حيث قال السوداني: "ونؤكد موقفنا الثابت والمبدئي بإنهاء تواجد التحالف الدولي بعد انتهاء مبررات هذا الوجود. ومن خلال اللجنة الثنائية التي تم تشكيلها لتحديد الاستعدادات لإنهاء هذا الحضور، فإننا نحدد موعد بدء الحوار". ومن المرجح هنا أيضا، أن السوداني يتكلم عن لجنة "تم تشكيلها" خلال فترة ما سُمِّي الحوار الاستراتيجي مع الجانب الأميركي لسحب القوات في عهد مصطفى الكاظمي كما قلنا، ولا يتكلم عن لجنة جديدة تم تشكيلها بطلب من حكومته بعد الجريمة الأميركية الجديدة، ولكنه يضيف إليها مطلب "تحديد موعد بدء الحوار".

يمكن القول، أن هذه العبارة، بل والخطاب كله ليس إلا محاولة من السوداني لاحتواء الغضب الشعبي الذي تسببت به جريمة القوات الأميركية الجديدة باغتيال أحد قادة الحشد الشعبي ومرافقه وإصابة ستة آخرين بجراح في مقر للحشد الشعبي بقلب بغداد بعد استهدافات أخرى قوبلت ببيانات شجب واستنكار حكومية وحزبية كالمعتاد!  والسؤال الذي نطرحه هنا: إذا كانت هذه اللجنة الثنائية قائمة فعلاً في الواقع، أو كإمكانية مشروطة على الورق كما نرجح، فلماذا سكتَ السوداني وإطاره التنسيقي وحكومته عن هذه اللجنة الثنائية - إن كان لها وجود فعلي حقا- كل هذا الوقت، ولماذا لم تُفَعَّل هذه اللجنة وتقوم بواجبها لوضع جدول زمني لإخراج القوات الأميركية والأجنبية كافة من العراق حتى الآن؟.

يأتينا الجواب على هذا السؤال في شكل تصريح لخالد اليعقوبي مستشار السوداني السياسي قال فيه إن واشنطن "أوقفت مفاوضات إنهاء وجود التحالف الدولي في العراق إثر أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي (طوفان الأقصى)، أي قبل ثلاثة أيام من الموعد المقرر لبدء المفاوضات بين الجانبين". وحتى في هذا التصريح فالمستشار يتحدث عن لجنتين مستقلتين جديدتين أحداهما عراقية والأخرى أميركية "لدراسة الخيارات التي تؤدي إلى إخلاء الأراضي العراقية من أي تواجد للقوات الأجنبية" وليس عن لجنة ثنائية لوضع جدول انسحابات. ولكن أحداث السابع من تشرين ومشاركة فصائل عراقية في ضرب المواقع الأميركية تضامنا مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة الصهيونية الجماعية، مثلت "مبررات أمريكية" لتأجيل محادثات إجلاء قوات التحالف، كما قال المستشار، مبيناً أنّ هذه "المبررات ليست مقنعة بالنسبة للحكومة العراقية".

إنَّ الأهم من عدد القوات الموجودة والتي يجب أن تنسحب كلها هي "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" التي وقعها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي مع حكومة أوباما سنة 2011 لتنظم علاقات الهيمنة الأميركية على العراق بعد انسحاب جُلِّ قوات الاحتلال. ولكن جميع الحكومات العراقية وأحزابها والمرجعية التي دعمتها وساندتها تسكت على هذه الاتفاقية سكوتا مريبا، بل وتطالب أحيانا بتطبيق ما تعلق منها بالمساعدات الأميركية للعراق! ولهذا وبناء عليه، سيكون السوداني والإطار التنسيقي الذي شكل حكومته، وجميع أحزاب المنظومة الحاكمة داخل وخارج الحكومة أمام تحدٍ صريح وواضح وهو أن يجرؤوا على مطالبة واشنطن بالانسحاب ووضع جدول سريع لسحب قواتها وإلغاء "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" معها، وإلا فهي تساوى في السوء مع الحكومات السابقة التي فرطت بسيادة العراق واستقلاله وتركت العدو المحتل يسفك دماء العراقيين!.

-ولكن لماذا لم ينجح حكام العراق حتى اليوم بإخراج القوات الأجنبية وفي مقدمتها القوات الأميركية حتى الآن، ولم يراجعوا تلك الاتفاقية ويلغوها بعد أن خرقها الطرف الأميركي مرارا وتكرارا، وخصوصا حين امتنع عن تقديم الدعم العسكري للحكومة العراقية بموجبها حين راحت جحافل جماعات داعش المسلحة تتقدم نحو بغداد وقد سيطرت على ثلث أراضي البلاد تقريبا، وبعض تلك الأسلحة والطائرات الحربية كان العراق قد دفع ثمنها؟.

-الجواب لأن حكام العراق منذ سنة 2005 وحتى اليوم، صنفان؛ صنف يأتمر بأمر واشنطن المباشر فيرفض سحب القوات لأن واشنطن ترفضه. وصنف آخر انطلت عليه الحيلة الأميركية وصدق تهديدات واشنطن بإعادة العراق الى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالعقوبات وفرض الحصار، إذا تجرأ وطالب بانسحاب القوات والخروج من الهيمنة الأجنبية. إنهم يجهلون أو ربما يتجاهلون أن العالم قد تغير، ولم يعد اللاعب الأميركي هو الوحيد في الميدان العالمي كما كان في أيام آل بوش، بل هم في عصر الانحدار وفقدان الهيمنة القطبية الواحدة تدريجيا. وثانياً لا يوجد أي مبرر يسوغ فرض الحصار جديد ومعاقبة العراق إذا طالب برحيل قوات الاحتلال، بل أن بحوزة العراق أطنانا من الوثائق والأدلة التي تسمح له بمقاضاة أميركا وحلفائها في الهيئات الدولية على حرب التدمير التي شنّوها على العراق وما يزال الشعب يعاني منها الى اليوم. بين الصنف الأول والثاني هناك من يخشون من أن يؤدي انسحاب القوات الأميركية إلى سقوط العراق تحت الهيمنة الإيرانية المباشرة، والحقيقة هي أن مواجهة الهيمنة والنفوذ الإيراني المتنامي ستكون أسهل كثيراً على الوطنيين الاستقلاليين العراقيين بعد إخراج القوات وكسر الهيمنة السياسية والاقتصادية والأمنية الأميركية فإيران - حين ذاك- لم تعد مهددة من قبل الوجود الأميركي المعادي لها في العراق، وبالتالي يمكن تنظيم العلاقات بين البلدين الجارين وفق مبادئ القانون الدولي وحسن الجوار ومناهضة الكيان الصهيوني وإنهاء التدخلات الإيرانية في الشأن العراقي الداخلي وخصوصا حماية الفاسدين من الساسة الطائفيين في المنظومة الحاكمة واتخاذ مواقف حازمة بهذا الصدد.

*أما التهديد الأميركي ببعبع إضعاف الدينار العراقي وقطع الدولارات عن الخزينة العراقية فهو أمر سيفتح الباب أمام العراق ليتحرر من التبعية السوداء للاقتصاد الدولاري في زمن تخلت فيه ثلث دول العالم عن الدولار كعملة تداول وتبادل وحيدة. فثلث دول العالم بدأت تتخلى عن الدولار وتسعى لإيجاد وسائل دفع وطنية بعد عقوبات الغرب ضد روسيا، التي حمت اقتصادها بفضل منظومتها المحلية "مير" للدفع الإلكتروني كما قالت وكالة تاس الروسية في تقرير لها واستعرضت فيه تصريحات مسؤولي 193 دولة في وسائل الإعلام الروسية والدولية، انتهت إلى نتائج أفادت بأن 68 دولة تؤيد التخلي عن الدولار وتتخذ إجراءات ملموسة في هذا الاتجاه.

وذكرت الوكالة أن الدول الأكثر شجاعة تدعو علنا لمواجهة الدولار، وبينها قبل كل شيء الدول المشاركة منذ فترة طويلة في منظمات دولية بينها "آسيان" و"بريكس".

وأشارت إلى أن الرئيس البرازيلي اليساري لولا دا سيلفا يطالب بشكل مستمر بإطلاق عملة لاتينية بديلة للدولار، ويؤيده في ذلك وزير مالية جنوب إفريقيا غودونغوانا الذي يدعو إلى تعزيز الإقراض بالعملات الوطنية. وأخيرا فالعراق ليس بلدا فقيرا منعزلا بل هو صاحب رابع أكبر مخزون للنفط الخام في العام، والثاني عربيا باحتياط يفوق 140 مليار برميل وذو موقع استراتيجي خطير يضعه في قلب العالم القديم، ولكن مصيبة العراق الكبرى هي أنه يتفقد إلى قيادات وطنية جريئة، وتهيمن على زعامته مجموعات من السياسيين المنفيين الذين جاء بهم الاحتلال الأميركي ليمثلوا الطوائف الدينية والمجموعات العرقية ويحكموه تحت الإشراف والهيمنة الأميركية.

يبقى ثمة تهديد أميركي ضمني وخطر بدأ بعض المحللين السياسيين والساسة الأميركيين أو العرب والعراقيين المشتغلين في خدمتهم بترويجه ومفاده أن واشنطن قد تلجأ إلى تمزيق العراق أثنيا وضرب وحدته أرضا وشعبا إذا أصرَّ ممثلو "الغالبية الشيعية" على مطلب إخراج قواتهم بأن تدعم - واشنطن- الانفصال الكردي الذي تدعو إليه زعامات الاقطاع السياسي الكردي، وقد يتمادون فيُفَعِّلون حركة دعاة الإقليم السني أيضا ويدفعونهم إلى طلب الحماية الأميركية، وهذا تهديد جدي وخطر ينبغي التعامل معه وفق منظور وطني جدي مناهض للهيمنة الأميركية  يصل إلى حدود فتح تحالفات العراق الدولية والاتجاه شرقا للتحالف والانضمام إلى المجموعات الجديدة الخارجة على الهيمنة الأميركية الإنكلوسكسونية  كمجموعة بريكس وغيرها، ثم أن دعاة الإقليم السني وحتى دعاة الانفصال الكردي ليسوا بالقوة والتماسك الذي يخشى منه وهم أضعف من العراق وقدراته الاقتصادية الكبيرة خصوصا وأن  الاقطاع السياسي الكردي وكذلك الساسة من دعاة الإقليم السني يعتاشون على الاقتصاد العراقي ونفط الجنوب العراقي بدرجة رئيسة وسيدخلون مناطقهم في أزمة معيشية طاحنة إذا تجرأوا فعلا على المساهمة في المخطط الأميركي الغربي الصهيوني لتمزيق وحدة العراق أرضا وشعبا!

إن السيد محمد شياع السوداني، والقوى التي شكلت حكومته ودعمتها يواجهون اليوم تحديا تأريخياً وخطراً يمس سيادة العراق واستقلاله وكرامة شعبه وأي تفريط بحقوق العراق واستقلاله وسيادته وكرامته سيجلل المفرطين بالعار، وأي وقفة أحرار يقفونها ستتوجهم بالمجد والفخار على مر العصور، ولكن وقفة من هذا النوع لا يقفها إلا أحرار استقلاليون يرفعون هويتهم الوطنية العراقية الرئيسة راية لهم، وينكسون الرايات الطائفية والعشائرية والعِرقية؛ ومن دون تفكيك منظومة المحاصصة الطائفية والعِرقية التي جاء بها الاحتلال الأميركي ودعمتها وباركتها المرجعية النجفية والتي وصفت هؤلاء المحتلين بـ "ضيوف العراق" كما نقل عنها علنا مستشار الأمن القومي آنذاك موفق الربيعي وما يزال كلامه منشورا ومسجلا بالصوت والصورة على منصة يوتيب، ووجوب إعادة كتابة الدستور العراقي النافذ، من دون القيام بهذه الإجراءات والتغييرات يغدو كل كلام عن الإصلاح و استعادة الاستقلال الوطني العراقي أضغاث أحلام وهواء في شِباك!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

.........................

* رابط يحيل إلى فيديو خطاب السوداني:                

https://www.youtube.com/watch?v=mBulJPlbIQM&ab_channel=%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%A1

 * فيديو موفق الربيعي: حين اعتبرت الأمم المتحدة الوجود الأميركي احتلالا سنة 2003 واجهتنا مشكلة حقيقية "شرعية" فذهبنا إلى المراجع الذين نقلدهم لنسألهم ما العمل فهذا محتل من دولة أجنبية لأرض المسلمين، فما العمل؟ فقال لنا المراجع؛ هؤلاء ضيوف ويخرجون بالمقاومة السلمية!

https://youtu.be/GcUIO1LKzn8?t=37

يصعب فهم النمو الحضري الذي شهدته المدن العراقية بداية أربعينيات القرن الماضي، ولم تنتهي حتى الوقت الحاضر بسبب تجاهل الحكومات المتعاقبة لها ولأسبابها وعدم إيجاد الحلول المناسبة لإيقافها أو الحد منها على الأقل، دون التعرف على اسباب الهجرة والخروج الريفي. وعلى الرغم من كثرة الدراسات الإحصائية التي تناولت الهجرة الريفية إلى المدينة، إلاّ أن التحليلات النظرية ما تزال محدودة للغاية. وربما كان مفهوماً بين منطقة الطرد في الريف ومنطقة الجذب في المدينة من أشهر الأدوات التحليلية التي يستعين بها الدارس في دراسته عوامل الهجرة الريفية/ الحضرية ونتائجها. ومن الطبيعي أن تختلف العلاقة بين مناطق الطرد ومناطق الجذب؛ بين مناطق الفرات الأوسط والجنوب، والمناطق الشمالية.

ويتعين علينا الإشارة إلى هذين المفهومين (منطقة الطرد ومنطقة الجذب)، فكل العوامل تشير إلى أن منطقة الطرد هي تدفق القرويين نحو المدينة بفعل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والخدمية التي تعاني منها القرية. أما منطقة الجذب فتشير إلى كل الظروف التي تجذب المهاجرين إلى المدينة بحثاً عن فرص عمل أفضل وظروف معيشية أرقى. ومعنى ذلك أن عوامل الطرد كامنة في القرية؛ بينما عوامل الجذب مكفولة في المدينة. والتوازن بين هذين النوعين من العوامل يتوقف على اعتبارات عديدة منها:

1- مدى التفاوت الحضري بين القرية والمدينة.

2- الموقع الجغرافي للقرية.

3- نوع المواصلات التي تربط القرية بالمدينة.

4- معدل النمو الاقتصادي الحضري.

5- ظروف العمل الزراعي وحجم الملكية الزراعية.

وإذا ما ناقشنا العوامل الجاذبة وجدنا أن ابناء القرى ينجذبون إلى المدينة، لأنهم يعتقدون أنها تتيح لهم فرصاً للحياة، وإن نسباً من الشباب يهاجرون إلى المدينة لغرض الدراسة في الجامعات والمعاهد العليا، لكنهم سرعان ما يؤثرون في الوسط المدني بنقل عاداتهم وتقاليدهم، أو التأثر وكسب الثقافة الحضرية والإقامة في المدينة، فضلاً عن ترك القرية بعد تخرجهم والسعي إلى الحصول على وظائف أفضل، ويشكل هؤلاء نسبة عالية، ويمكن تفسير ذلك على ضوء معدلات الدخل في المدينة إذا ما قورنت بالقرية.

ونلاحظ أن نمواً كبيراً في اعداد المهاجرين خلال العقود الأخيرة الماضية وانتشار الأحياء العشوائية في اطراف المدن منها (أحياء الصفيح) التي انتشرت فيها الجريمة بعدة اشكال. وعلى الرغم من القيود التي كانت تفرضها الحكومات السابقة على الهجرة إلى المدينة وتغيير مهنة المهاجر من الفلاحة إلى العمالة، نظراً لاعتبارات اثنولوجية وسكانية وسياسية.

وقد زادت الهجرة الريفية إلى بغداد العاصمة وعلى الأخص من مناطق الفرات الأوسط والمناطق الجنوبية، بسبب العامل الاقتصادي وسيطرة الاقطاع على مساحات شاسعة من الأراضي؛ واتخاذ الفلاح كقنّ للعمل في الحقل؛ تعتبر من أهم العوامل المحركة للهجرة إلى بغداد واتخاذ منطقة الشاكرية مقراً لتجمعاتهم السكانية. وقد تركت ولا زالت، موجات الهجرة هذه على مدى العقود الماضية آثارها على الوجه الحضاري الجديد لمدينة بغداد، المدينة التي كانت قد بدأت تنهض ثقافياً وعلمياً وفكرياً واقتصادياً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1939/1945م، وتركت هذه الهجرة آثارها أكثر ما أثارت على الحياة الاجتماعية لسكان المدينة؛ وطابعها المدني بما حملته معها من ريف الجنوب من عقائد وتقاليد ومفاهيم وعادات وقيَّم وأعراف عشائرية.

لقد أوضح الدكتور مكي عزيز في كتابه (جغرافية السكان): (إن الدخل الشهري الذي يحصل عليه المهاجر إلى بغداد بغض النظر عن مستوى تدريبه ومهارته، يكاد يعادل الدخل السنوي الذي يحصل عليه القروي الذي يعمل في قرية عراقية جنوبية. ففي بغداد يستطيع المهاجر أن يحصل على عملٍ ملائم، مما يمكنه من التحرر من كبار ملاّك الأراضي الزراعية والمرابين). وفضلاً عن ذلك سجلت هذه الدراسة أن المهاجرين إلى بغداد يحصلون على فرص تعليمية ورعاية طبية لم يكونوا يحصلون عليها في قراهم الأصلية، وأنهم قد قبلوا تماماً الحياة الحضرية، حتى أنهم لا يرضون عنها بديلاً.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

كتائب القسام تترد على زيارةَ كبير "كذّابي" البيت الأبيض وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن إلى المنطقة انتهاء ب"إسرائيل" التي بدأت يوم أمس الثلاثاء، أيضاً على تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت حول ادعائه بإحكام سيطرة جيش الاحتلال على شمال قطاع غزة، وذلك بتوجيه ضربة صاروخية إلى تل أبيب الكبرى، تزامناً مع مقتلِ تسعِ ضبّاطٍ إسرائيليين في هجومين منفصلين في القطاع.

وقال بلينكن وفق-اسوشيتدبرس- "بأن زعماء الدول التي زارها في هذه الجولة الشرق أوسطية اتفقوا على مساعدة غزة في الاستقرار والتعافي ورسم مسار سياسي مستقبلي وأنهم مستعدون لتقديم الالتزامات اللازمة لاتخاذ القرارات الصعبة لتحقيق الأهداف" دون أن يحدد مكمن الصعوبة فيما لو كانت على صعيد المواقف الشعبية أو السياسية! مؤكداً على ضرورة إقامة دولة فلسطينية تجمع ما بين غزة والضفة الغربية تحت قيادة فلسطينية لم يحددها، مع حرص بلاده على عدم توسيع دائرة الحرب إقليمياً. أي أنّ السلطة كما يُفْهَمُ من ذلك قد لا تكون الخيار الأنسب لإدارة القطاع.

صحيح أن تغييب حماس عن المشهد كان من أهم ثوابت السياسة الأمريكية إزاء الحرب على غزة؛ ولكنّ بلينكن الذي دأب منذ انطلاق "طوفان الأقصى" على حمل شعار "القضاء على حماس أولاً أو نزع سلاحها" قد تخطى ذلك نحو الإشارة إلى ما بعد انتهاء الحرب، فهو يدرك بأنه أمر بعيد المنال -رغم ادعائه عكس ذلك- ، في ظل انقلاب موازين الحرب لصالح المقاومة من خلال ما حققته على صعيدين عسكري وسياسي.

وهذا يفسّرُ قيامَ مسؤوليين أمريكيين بتخيير نتنياهو بين طريقة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير، وحامل حقيبة المالية استموترتش، والقائمة على سياسة التطهير العرقي إزاء الفلسطينيين وتوسيع نطاق الحرب بغية اجتثاث حماس و"دحر" حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني.

أو الطريقة المقابلة التي تتبناها إدارة بايدن الأمريكية من خلال سعيها لإخراج "إسرائيل" من عنق الزجاجة، مع أنها ما لبثت تقدم ضمانات بقاء هذه الحكومة اليمينية المتشددة من خلال الدعم المفتوح لها.

سيما وأن بايدن يسعى إلى ضبط الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة على ساعته كيلا ينجح نتنياهو في رهانه بفوز حليفه ترامب من خلال داعمي السياسة الإسرائيلية في أمريكا عموماً.

وفي تقديري أنّ الطريقتين متوافقتان جوهرياً، ولو اختلفتا في الشكل، فهما وجهان لعملة واحدة.

ورغم مرونة بلينكن المصطنعة فإنه سيؤيد ما يطالبه به إسرائيليون بعدم السماح للفلسطينيين بعودتهم إلى شمال قطاع غزة؛ إلا إذا افرجت حماس عن جميع "الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لديها".

على الأقل هذا اعتراف إسرائيلي صريح بعدم قدرة جيش الاحتلال على تحقيق أهدافه.

وتزعم الولايات المتحدة أن الضغوط التي مارستها على "إسرائيل" في الكواليس أتت ثمارها في الأيام الأخيرة من خلال سماحها بدخول شاحنات مساعدات إلى غزة وفتح معبر ثان، دون الحديث عن علاقة ذلك بالضغوطات الجماهيرية في أمريكا التي ما لبثت تلاحق بايدن في كل جولاته الانتخابية ومطالبته بوقف الحرب والإصرار على أن إدارتَه شريكةُ في حرب الإبادة على غزة.

وهذا خطير في ظل التسابق المحموم نحو البيت الأبيض في الانتخابات المقبلة.

وبغية أقناع تلك الجماهير المتعاظمة بصدق نوايا الإدارة الأمريكية، أقدمت الأخيرة على تقليص الدعم العسكري ل"إسرائيل" بسبب ما يواجه جيش الاحتلال من استنزاف في المعدات والارواح، أدّت إلى تعاظم فاتورة الخسائر الإسرائيلية بمعدل 260 مليون دولار يومياً ليصل الإجمالي إلى قريب ال 20 مليار دولار.

ولإصرار حكومة نتنياهو على التصعيد الإقليمي بهدف جرّ أمريكا إلى تلك الحرب الخاسرة في بعدها الإقليمي سيّما وأن أمريكا غارقة الآن في أتونها، فقد أوقفت الإدارة الأمريكية صفقة مروحيات "أباتشي".

وعليه قالت صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية، بأن الجيش طلب على نحو رسمي مؤخرا من البنتاغون، مروحيات "أباتشي"، لكن لم يتخذ قرارا نهائياً بشأن تلك الصفقة رغم استمرار ضغط إسرائيل لتمريرها.

يحدث ذلك في ظل مقاضاة جيش الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أمريكياً وقادته في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي من خلال الدعوى المرفوعة عليه من قبل جنوب افريقيا، واتهامه بجرائم حرب إبادة ضد الفلسطينيين في غزة، بغية وقف هذه الحرب المجنونة ومحاسبة الاحتلال الإسرائيلي.

من جهة أخرى تشتد النداءات عبر العالم وخاصة في "إسرائيل" إلى وقف العدوان على غزة وإجراء صفقة تبادل أسرى وفق شروط حماس التي صار تجرعها مستساغاً على صعيد إسرائيلي، كونها باتت تشكل مخرجاً إسرائيلياً من مأزق غزة الكارثي.

وهذا يجعل من دعوة بلينكن إلى وجود حاجة ملحة لبحث الأزمة الإنسانية في قطاع غزة ومنع تصعيد الصراع في المنطقة -وفق تعبيره- غير منطقية وتأتي في سياق التضليل الإعلامي، كونها دعوة لا تنسجم مع الدعم الأمريكي المفتوح للحرب الإسرائيلية على غزة وهذا أمر يفهمه حتى الطفل في القماط.

ويدرك بلينكن بأن "إسرائيل" باتت تتخبط سياسياً وغير متماسكة في وجه العواصف التي تنتاب مجلسها العسكري المصغر (الكابينت) وكأنها لم تعد تقوى على الصمود أكثر في وجه المقاومة التي تثبت دائماً بأنها كالفينيق الكنعاني إذ تخرج من تحت الرماد أشد عنفواناً.

فإنه بعد مرور 100 يوم على طوفان الأقصى وجدت الحكومة الإسرائيلية نفسها في مواجهات داخلية بين أعضاء مجلس الحرب المصغر (الكيبينت) بعد تشكيل لجنة تحقيق حول السابع من أكتوبر برئاسة وزير الدفاع الإسرائيلي السابق شاؤول موفاز وهو أحد أشد خصوم نتنياهو ضراوة، إذْ دعا إلى استقالة نتنياهو كون حكومته فشلت في إدارة هذه الحرب الصعبة فلم تحقق إيّاً من اهدافها على الإطلاق..

حتى أوهام النصر التي يحاول الناطق العسكري تسويقها تنهار عند إخضاعها للتحليل ليكتشف الإسرائيليون بأنها محض افتراء.

وذلك على نحو ما أعلنه وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت عن اكتشاف مصنع صغير عالي التقنيات في أنفاق وسط غزة؛ تصنع بواسطته المقاومة الصواريخ التي تزيد مدياتها عن 100 كم، وما رافق ذلك من حملة إعلامية إسرائيلية مضللة.

ولكن عصف الأسئلة حول هذا المصنع المتطور وضع السردية الإسرائيلية في حيص بيص.

فكيف حصل هذا التطور في ظل غياب الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية؟

كيف يتم توزيع هذه الصواريخ الضخمة عبر الأنفاق إلى منصّاتها المنتشرة في انحاء قطاع غزة، ثم إطلاقها بزخم كبير لافت، رغم مزاعم جيش الاحتلال في أنه يبسط سيطرته على كامل القطاع؟

الا يثبت هذا الاكتشاف بأن المقاومة تصنع سلاحها بنفسها وتستغل حتى بقايا القنابل الإسرائيلية غير المنفجرة في إعادة تدويرها؟

وعلى رأي الجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي يزاك بريك في مقال نشره بصحيفة هآرتس الإسرائيلية إن كبار مسؤولي المؤسسة الأمنية والعسكرية يريدون تصوير الحرب على أنها انتصار كبير قبل أن تتضح الصورة.

وقال إن "إسرائيل" تتعاون مع قنوات تلفزيونية مهمة لتحقيق "صورة النصر"، وأشار أن هذه الحرب قد تكون الأكثر توثيقاً من خلال التسجيلات المصورة في العالم بأسره.

إنها حرب عقول وإرادات تتفوق فيها المقاومة في حرب مرصودة وموثقة إعلامياً عبر الفضاء الرقمي على صعيد عالمي، حتى باتت المعلومة غير قابلة للتزوير والإيهام كما كان الأمر سائداً في الحروب العربية السابقة مع الاحتلال.

***

بقلم: بكر السباتين

10 يناير 2024

واجهت الديمقراطية، التي كثيرا ما يتم التهليل والترحيب بها باعتبارها جسرا للحرية والتناوب على الحكم، نصيبها الوافر من الانتقادات في السنوات الأخيرة بعد الربيع العربي.

إن فكرة الديمقراطية الهشة والنسبية باتت تتجاوز الاعتقاد السائد على نطاق واسع بأن الدول الغربية، التي كثيراً ما تروج لنفسها باعتبارها نماذج ديمقراطية، تجسد حقاً المبادئ التي تدافع عنها. فضلا عن ذلك، هناك وجهات نظر مثيرة للجدل ومناورة في خلفيتها تشير إلى أن الديمقراطية قد لا تكون حلا سحريا مناسبا للكثير من الدول الفقيرة من العالم الثالث والعربي بالخصوص.

تتميز "نسبية" الممارسة الديمقراطية في الدول الغربية بتفاعل معقد بين الإطارات المؤسساتية والديناميات الاجتماعية والسياسية. وبينما تلتزم هذه الدول ظاهريًا بالمبادئ الديمقراطية، فإنها تكشف عن اختلافات في أنظمتها، وهياكلها الحزبية، ومشاركتها المدنية. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال ، يثير المجمع الانتخابي والتلاعب في الدوائر الانتخابية تساؤلات حول التمثيل الحقيقي لإرادة الناخبين. ومن ناحية أخرى، تعكس الأنظمة البرلمانية الأوروبية توجهات مختلفة في التعامل مع التمثيل النسبي وبناء التحالفات. فضلاً عن ذلك فإن المخاوف بشأن تأثير المال في السياسة لا تزال قائمة في مختلف أنحاء العالم الغربي "الديموقراطي".

إن صعود الحركات الشعبوية قد شكل تحدياً للمعايير الديمقراطية التقليدية، الأمر الذي دفع إلى إعادة تقييم التوازن بين حكم الأغلبية وحقوق الأقليات. وضمن التعامل مع هذه الفوارق الدقيقة، تتصارع الديمقراطيات الغربية مع التوتر بين الحفاظ على المثل الديمقراطية العليا والتكيف مع التوقعات المجتمعية المتطورة، مما يسلط الضوء على الطبيعة النسبية للديمقراطية في هذه الدول.

تشترك التنمية الاجتماعية والممارسة الديمقراطية في علاقة تكافلية، مما يعزز النمو الشامل والمشاركة المدنية. ويكمن جوهر الديمقراطية في حرية الأفراد المسؤولة، وضمان مشاركتهم النشطة في عمليات صنع القرار.

في المقابل، ترتقي التنمية الاجتماعية عندما تدعم المبادئ الديمقراطية السياسات العامة ، وتعزز المساواة وتعميم التعليم والرعاية الصحية وغيرهما .

إن الديمقراطية القوية تعزز التماسك الاجتماعي، وتحد من الفوارق الطبقية، وتمكن الفئات المهمشة من خلق وسائل العيش الكريم. كما أن التنمية الاجتماعية تنشئ مواطنين واعين بحقوقهم ومشاركين أساسيين للحفاظ على ديمقراطية صحية وصحيحة .

إن الترابط بين التنمية الاجتماعية والديمقراطية أمر محوري في خلق مجتمع لا يستفيد فيه المواطنون من التقدم فحسب، بل يساهمون بنشاط وفير في تشكيل مستقبلهم الجماعي.

إن مفهومي الديمقراطية الهشة والنسبية يتجاوز الطرح المقبول على نطاق واسع المحيط بالديمقراطيات الغربية، ويحثنا على إجراء فحص نقدي للتناقضات بين المثل والممارسات الديمقراطية الغربية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الطبيعة النسبية للديمقراطية في الدول الغربية تثير تساؤلات وثيقة الصلة حول فعالية ونزاهة أنظمتها الديمقراطية. فضلاً عن ذلك فإن الحجج القائلة بأن الديمقراطية قد لا تكون مناسبة للدول الفقيرة تتجاوز بعض المفاهيم المسبقة، وتدفع إلى إعادة تقييم العلاقة بين الديمقراطية والظروف الاقتصادية.

***

عبده حقي

 

ليتَ العراق لم يختر المثلث الصعب مكاناً، فلا يمر فارسٌ مِن الغرب إلى الشّرق، أو مِن الشّمال إلى الجنوب، إلا كان ساحةً للمبارزة، هكذا بالأمس واليوم كذلك. فترى أهل العِراق يتسننون ويتشيعون، حسب المتغلبين. نحتوا مِن هذا النّزاع كنايةً: «بيِن العجم والرُّوم بلوى ابتلينا» (العزاوي، العراق بين احتلالين)، وكان يُشار إلى الغرب بالروم، والشرق بالعجم.

لا تقف سنابك الخيل، القادمة من الأقاصي إلا ببغداد، فكم أطاح هولاكو (ت: 664هـ) بممالك، ومهد الجبال والوديان، وأخضع القلاع العصية، لكن لم يعلن استقلاله عن إمبراطورية أخيه، الخان الأكبر، إلا باجتياح بغداد. لهذا نقول: ليتها لم تكن عاصمةً، لنحو خمسمائة عام (145-656هـ)، وتزدهر على بقاع الأرض كافة، ثم تنتهي إلى حيث يتحكم بسلمها وحربها ولائيون لغيرها.

كان العراق وما زال مقصداً، فعندما جرى التفكير بشرق أوسط جديد، اُقترح أنْ تكون البداية خرابه، بعد حروب وحصارات جائرة، وما أثمره الغزو مِن مبكيات، وكان الغزاة جيوشاً وفصائل عقائديَّة، وبعدما صعب غلق الكارثة، ظهر أقطاب الغزاة يعتذرون، ولعبد الله البردوني (ت: 1999) بيتٌ يُغني عن المقال، قاله في كارثة، ما زال يئنُ مِن آثارها أهل عدن ولواحقها، ألا وهو يوم (13 يناير 1986): «ماذا أُسمّي ما جرى؟ حرفاً ولكن صار فعلاً/ الفاتحو باب الرَّدى/ لا يملكون الآن قفلا» (ديوان كائنات الشّوق الآخر/ فنقلة النَّار والغموض).

كان غزو العراق فاتحةً لموتٍ أحمر (لغزارة الدِّماء)، لا يملك أحدٌ غلق بابه، صفقنا له تحت إغراء «العراق الجديد»، وبدافع نظام لم يترك نافذةَ أمل. غير أنَّ العجب، رئيس مليشيا، دخل بفضل فاتحي باب الرَّدى، يتحدث وكأنه يملك رقاب الثلاثين مليون عراقي، لا يهمه ذبحهم قَرابين لعقيدته! يقول أحد فاتحي باب الرّدى، عابري الجغرافيا وحدود الدُّول، مِن ملجئه الحصين: صحيح، تُعرّض المقاومة شعوبها للمخاطر، لكنَّ العقيدة تستحق التّضحية! فلا وجود في عرفه لحكومات ووزارات دفاع تُقدر مصالح أوطانها وشعوبها!

بذلك التصريح وغيره يحبس العراقيون أنفاسهم، مستسلمين لمصائرهم، فطوال عشرين عاماً، مَن شبَّ فيها ومَن شاب، تعايشوا مع الأزمات والكوارث، حتَّى صار الموت عندهم بلا قتال ولا تفجير ولا اختطاف ولا اغتيال، رحمةً. لأبي الطّيب (قُتل: 354هـ)، وإن كان مِن المدائح: «كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِياً/ وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا» (الدِّيوان، قالها 346هـ، في كافور الإخشيدي).

أقول: يحبس العراقيون الأنفاس هذا العام (2024)، وكلَّ عام، يأملونه عاماً جديداً، استهل بحرب التّصريحات النارية والطائرات المسيرة. فهل سيعاد غزو العراق، والغزو فيه منذ (2003) غزوان، شرقاً وغرباً، مع اختلاف الشّكل. نحو سبعين فريقاً مسلحاً، صارت معسكراتها عواصم ليس لبغداد يدٌ عليها، وقواعد كبرى، ترى أنها صاحبة الفضل في وجود مَن يريد الانفراد بالغنيمة، بينما حكومتها تنتظر الرّحيل، لا تؤخذ كلمتها على محمل الجد، مِن قِبل الطَّرفين، فمَن لا يملك الأمر والمشيئة لتحرير مختطفٍ، هل يُطيعه قائد مليشيا أو آمر قاعدةٍ؟!

هذا، ولأن الحَجاج بن يوسف الثّقفي (ت: 95هـ) كان قد فتح باب الرَّدى، وأبقاه مشرعاً بعد موته، استعفى يزيد بن المُهلَب (102هـ) مِن إمارة العراق عندما كُلف بها. قال أبو جعفر الطَّبري (ت: 310هـ): «إن يزيدَ نظر لما ولاه سليمان، ما ولاه من أمر العراق في أمر نفسه، فقال: إنَّ العراق قد أخربها الحجَّاج، وأنا اليوم رجاءُ أهل العراق، ومتى قدمتها، وأخذت النَّاس بالخراج، وعذبتهم عليه، صرتُ مثل الحجَّاج، أدخل النَّاس الحرب، وأعيد عليهم تلك السُّجون» (تاريخ الأمم والملوك). كان ابن المُهلب بهذا الاستعفاء حكيماً، لكن ما رأيناه بعد (2003)، صار طلب الإمارة، بلا أمرٍ ونهيٍ، كالمتمني: «يَا حَبَّذَا الإمارَةُ ولَوْ على الحِجَارَةِ» (الميدانيّ، مجمع الأمثال).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

كسرت حكومة جمهورية جنوب أفريقيا الصمت الحكومي الدولي والموقف المخجل للحكام العرب تجاه الجرائم النكراء لحكومة الصهيوني الفاشي نتنياهو،المدعومة عسكرياً ومالياً ودبلوماسياً من قبل الإدارة الأمريكية  والإتحاد الأوربي، وبادرت مشكورة الى تقديم دعوى قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل، متهمة إياها بإرتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، وطالبتها بإصدار أمر عاجل يعلن أن إسرائيل تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، في حملتها على سكان غزة. وإتخاذ تدابير عاجلة مؤقتة من أجل حماية المدنيين من أي ضرر إضافي جسيم وغير قابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

وقد أقامت جنوب أفريقيا الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية بإعتبارها هي المكلفة بالتحقيق في قضايا جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والعدوان ، ومحاكمة مرتكبيها أو من أمر بها أو شارك فيها أو حرض عليها. والمحكمة واحدة من الأجهزة القضائية الرئيسية الستة للأمم المتحدة.

وتألفت لائحة الأتهام من 84 صفحة،أعدها خبراء دوليون في الإبادة الجماعية، وبالإستناد الى إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الإبادة الجماعية النافذة، ويتمثل جوهر الإتهام بإرتكاب إسرائيل عمداً أفعال الإبادة الجماعية ضد سكان غزة.وتضمنت اللائحة عدة محاور،في مقدمتها حجم القتل العمد والتدمير.

وأكدت صحيفة "الغارديان" بان الدعوى القضائية لجنوب أفريقيا مبنية على أدلة قوية وموضوعية تدين إسرائيل بإرتكابها للأبادة الجماعية في غزة.

وقد أعلنت المحكمة الجنائية الدولية أنها ستعقد جلستي استماع علنيتين يومي الخميس والجمعة القادمين(11 و12 كانون الثاني الجاري) في مقرها في لاهاي، بخصوص الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في 29/12/ 2023، المتعلقة بالوضع في غزة. وأوضحت بان يوم الخميس سيكرس للإستماع الى  مرافعة جنوب أفريقيا الشفهية. فيما ستقدم إسرائيل مرافعتها الشفهية يوم الجمعة..

الأبادة الجماعية والأمم المتحدة

قانونياً، تُعرفُ الإبادة (Extermination) بأنها القتل المتعمد الجماعي لمجموعة كاملة من الناس، وهي تعتبر من ضمن الجرائم ضد الإنسانية. أما الإبادة الجماعية ( Genocides)، فتُعرفُ بأنها الفظاعات التي ترتكب أثناء الحرب أو العدوان، على أساس عرقي أو ديني أو سياسي.

وقد عرفتها المادة الثانية من "اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بمنع جريمة الإبادة الجماعية"(1948) وكذلك "نظام روما الأساسي"(1998) المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، بأنها(الإبادة الجماعية) أي فعل "يرتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة على أسس قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية".وتشمل هذه الأفعال- بحسب التعريف المذكور:  قتل البشر(الجماعة)، وإلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأفراد الجماعة، وإلحاق الأضرار بظروفهم المعيشية بشكل متعمد بهدف الإبادة الفعلية،كلياً أو جزئياً. ومنع الولادات في هذه الفئة السكانية، والإبعاد القسري للأطفال.

وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قد أعلنت بقرارها 96 (د – 1) المؤرخ في 11/12/ 1946، أن الإبادة الجماعية هي إنكار لحق وجود مجموعات بشرية بأكملها، لأن القتل هو إنكار حق الفرد في العيش. وإن هذا الحرمان من حق الوجود يصدم ضمير البشرية، ويتعارض مع القانون الأخلاقي وروح الأمم المتحدة وأهدافها. لذلك، تؤكد الجمعية العامة على أن الإبادة الجماعية هي جريمة بموجب القانون الدولي، سواء ارتكبت لأسباب دينية أو عنصرية أو سياسية أو لأي سبب آخر.وهي جريمة تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها، ويدينها العالم المتمدن.

وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن الإبادة الجماعية قد ألحقت، في جميع عصور التاريخ، خسائر جسيمة بالإنسانية،ون تحرير البشرية من مثل هذه الآفة البغيضة يتطلب تعاوناً دولياً.ومن هذا المنطلق إعتمدت الجمعية العامة "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" في 9/12/ 1948، والتي دخلت حيز التنفيذ في 12/ 1/ 1951.

وأوضح جاك نوسان بورتر، عالم اجتماع أمريكي أوكراني (1982) : ان الإبادة الجماعية هي التدمير المتعمد، كليًا أو جزئيًا، من قبل الحكومة أو عملائها، لأقلية عرقية أو جنسية أو دينية أو قبلية أو سياسية. ولا يشمل التعريف القتل الجماعي، فحسب، بل ويشمل أيضاً المجاعة والترحيل القسري والإخضاع السياسي والاقتصادي والبيولوجي. وتنطوي الإبادة الجماعية على ثلاثة عناصر رئيسية: الإيديولوجيا والتكنولوجيا والبيروقراطية / التنظيم.

وأكدت فاليري غابارد، خبيرة القانون الدولي في لاهاي: في السياق القانوني، فإن التعريف دقيق للغاية وغير فضفاض.وأوضحت بان تحديد الإبادة الجماعية لا يتعلق بالأرقام، وإنما المعيار الأكثر أهمية هو نية الإبادة الجسدية لمجموعة ما..

من جرائم إسرائيل

شهد التأريخ الحديث إرتكاب دولة الاحتلال الإسرائيلي،منذ قيامها في 15/5/ 1948، وحتى اليوم، لعدد كبير من الجرائم البشعة والمجازر الدموية بحق الشعب الفلسطيني، أغلبها ينطبق عليه تعريف الإبادة الجماعية، حيث عملت العصابات الصهيونية على إبادة وتقتيل وتهجير قرى وبلدات فلسطينية كاملة، وأحلت محلها تجمعات لمستوطنين يهود جلبتهم من أنحاء العالم.

من أبرز الأمثلة على جرائم الإبادة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية ما وقع في حرب 1948 وحرب 1967، ومذابح صبرا وشاتيلا ودير ياسين والطنطورة وخان يونس وكفر قاسم والحرم الإبراهيمي ومخيم جنين.

وأمعنت في الإبادة الجماعية للفلسطينيين في سلسلة من الجرائم  التي ارتكبتها في قطاع غزة في سنوات 2008 و2009 و2012 و2014 و2021،. والمعروف ان كل تلك الجرائم مرت دون عقاب..

وفي تشرين الأول 2023 شن الجيش الإسرائيلي حرباً همجية على قطاع غزة، مستمرة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وقتل خلالها حتى اليوم أكثر من 24 ألف فلسطينياً، يشكل الأطفال والنساء الثلثين، وأصاب  اكثر من 62 ألف اَخرين. وارتكب مئات المجازر في الأحياء السكنية وفي المدارس وحتى في المستشفيات.

وقد أعلن المرصد الأورومتوسطي أن نحو 4% من إجمالي سكان قطاع غزة(أكثر من مليونين) باتوا في عداد القتلى أو المفقودين أو الجرحى، جراء القصف الجوي والمدفعي الإسرائيلي على القطاع.،وان كثر من 1.9 مليون فلسطيني نزحوا من مناطق سكنهم في القطاع دون توفر أي ملجأ آمن لهم.

وبشأن الأطفال،أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) إن أكثر من مليون و 100 ألف طفلآ في غزة يواجهون تهديدا ثلاثيا قاتلا يتمثل في زيادة تفشي الأمراض وسوء التغذية وتصاعد الأعمال القتالية.  وأضافت أن آلاف الأطفال في غزة لقوا مصرعهم بالفعل، فيما تتدهور بشكل سريع الظروف المعيشية للأطفال الآخرين، مع انتشار حالات الإصابة بالإسهال والهزال، بما يزيد مخاطر وفاة مزيد من الأطفال.

وتشعر اليونيسف بالقلق بشكل خاص بشأن تغذية أكثر من 155 ألف امرأة حامل وأم مرضعة وما يزيد عن 135 ألف طفل دون سن الثانية، نظر لاحتياجاتهم الغذائية الخاصة وضعفهم.

وحذر منسق الشؤون الانسانية في الأمم المتحدة، مارتن غريفيث من أن قطاع غزة لم يعد مكانا صالحا للعيش، بعد أن دمره القصف الإسرائيلي الكثيف. وقال: بعد ثلاثة أشهر من القصف باتت غزة مكانًا للموت واليأس، ويواجه سكانها تهديدات يومية على مرأى من العالم.

وقال مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك، من أمام معبر رفح، أن "العقاب الجماعي الذي تفرضه إسرائيل على المدنيين الفلسطينيين يرقى إلى جريمة حرب، مثله مثل الإخلاء القسري غير القانوني للمدنيين.

وكانت المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، رانشيسكا ألبانيز، قد حذّرت من تحوّل الصراع في غزة إلى "إبادة جماعية".

وفي 28/ 10/ 2023، قدم كريغ مخبير، مدير مكتب نيويورك لمفوضية الامم المتحدة السامية لحقوق الانسان (HCDH)  استقالته،ووصف ما يحدث في قطاع غزة وما يقوم به الجيش الاسرائيلي هناك: ‘مرة أخرى تحدث أمام أعيننا إبادة جماعية ومنظمتنا لا تستطيع ايقافها .

وفي 16/11/ 2023 دعا 36 خبيراً في الأمم المتحدة المجتمع الدولي الى منع الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، ووصفوا تصرفات إسرائيل منذ 7/10/2023، بأنها إبادة جماعية قيد الإعداد.

إستنفار إسرائيلي

رداً على الدعوى القضايا لجنوب أفريقيا ضد جرائمها، وخوفاً من تداعياتها،أعلنت حكومة المجرم نتنياهو حالة الإستنفار لمواجهة إدانتها بجريمة الإبادة الجماعية أمام المحكمة الجنائية الدولية.ووضعت خطة طارئة لأحباط الدعوى، بضمنها تعيين 4  محامين خبراء، من بينهم خبير النزاعات الأقليمية البريطاني مالكولم شو. وأصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية تعليمات عاجلة لسفاراتها طلبت منهم حشد ضغط دولي على الدبلوماسيين والسياسيين في البلدان المضيفة لهم لإصدار بيانات ضد "ملف جنوب أفريقيا".وجاء في التعليمات المسربة: ليكن الهدف الاستراتيجي لإسرائيل هو أن ترفض المحكمة طلب إصدار أمر قضائي، والامتناع عن تحديد ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة، والترويج بأن الجيش الإسرائيلي يعمل في القطاع وفقا للقانون الدولي(كذا !!!)..

من جهته،اعتبر البيت الأبيض أنّ الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل وتتهمها بارتكاب إبادة جماعية بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزة: "لا أساس لها"، وأنه "لا يرى أي أعمال إبادة جماعية في غزة".وقال المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي إنّ "هذه الدعوى لا تستند إلى أيّ حقائق".وأضاف المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر في مؤتمر صحافي اعتيادي: "هذه مزاعم يجب التحقق منها بعناية... نحن لا نرى أي أعمال تشكل إبادة جماعية"...

هكذا، وبكل إستهتار، تتجاهل إدارة الرئيس المختل عقلياً بايدن جرائم الإبادة الجماعية التي إرتكبتها وترتكبها ربيبتها إسرائيل عبر مئات المجازر الدموية بحق الفلسطينيين، والتي شاهدها ملايين الناس في أرجاء العالم، وأدانوها.

***

د. كاظم المقدادي

الحروب يخوضها العسكريون ولكن قرار إعلانها وخوضها، أيضا المفاوضات حول إنهائها والترتيبات على الأرض بعد الحرب هو قرار سياسي بامتياز بمشاركة العسكريين، وهو قرار يحتاج الى درجة كبيرة من العقلانية والابتعاد عن العواطف وقد يضطر العسكريون للتنازل بعض الشيء عن طموحاتهم وكبريائهم العسكري من اجل المصلحة الوطنية.

منذ سيطرة حركة حماس على القطاع عام 2007 وحصاره وتوالي موجات العدوان والحرب حتى حرب الإبادة الراهنة ونحن نتحدث ونكتب محذرين من مخطط صهيوني هدفه إبعاد الأنظار عما يجري في الضفة وتكريس فصل غزة عن بقية الوطن وحتى تقول إسرائيل للعالم إنها تتعرض لتهديد وجودي من صواريخ وأنفاق وكتائب حماس والمقاومة المحتشدة على حدودها الجنوبية وبالتالي لها الحق في الدفاع عن نفسها، وتحت شعار وذريعة الدفاع عن النفس تمرر كل مخططاتها في فلسطين وفي المنطقة، وما زاد الأمر تعقيداً العلاقات القوية بين حركتي حماس والجهاد من جانب وإيران ومحور المقاومة من جانب آخر.

من مفارقات هذه الحرب التي حركت وحرضت العالم ضد دولة الكيان الصهيوني بحيث تعم المظاهرات كل المدن عبر العالم وتم عقد عدة اجتماعات دولية في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وطرحت كل هذه الجهات مقترحات وتصورات لمواجهة العدوان وحلول مقترحة لوقفه وسيناريوهات لإدارة القطاع ... ومع ذلك لم نسمع عن أي اجتماع أو مجرد لقاء تشاوري بين الفصائل الفلسطينية وهي المفترض أنها تمثل الشعب الفلسطيني، لا على مستوى استراتيجية توحيد الجهود لصد العدوان ولا على مستوى الاتفاق على مستقبل القطاع ومن يديره بعد الحرب.

لن نجدد الجدل حول تفرد المنظمة بقيادة الشعب وتمثيله وموقف حماس من الموضوع منذ أن ظهرت في الثمانينات كبديل عنها وما زال الجدل محتدماً حتى اليوم، وكلما حدثت مواجهة أو حرب بين إسرائيل وحماس كلما ابتعدت فرص المصالحة وتراجعت إمكانية انضواء حماس وحركة الجهاد في المنظمة.

حتى مع التسليم بأن المنظمة تمثل الشعب قانونياً وشرعياً فإن هذه الصفة لم تبرز أو تثبت حضورها عملياً على أرض الواقع لا في الضفة المحتلة ولا في غزة التي تتعرض للإبادة الجماعية حتى حضورها شبه غائب في التحركات العربية والدولية حول مجريات الحرب ومستقبل القطاع، ليس فقط لأن المنظمة غير راغبة في ذلك أو لأنها ضعيفة بل أيضا لأن هناك محاولات مقصودة لإبعادها عن الموضوع، وهو الأمر الذي يجعل إمكانية عودتها لحكم قطاع غزة دونه صعاب كثيرة وخصوصاً أن حماس لن تسمح لها بذلك، أيضاً إسرائيل التي لن تسمح إلا إن كان عودة السلطة والمنظمة لغزة مقابل إنهاء وجودها في الضفة والقدس.

أما بالنسبة لحركة حماس وفصائل المقاومة في غزة ومع تقديرنا لملاحم البطولة في التصدي لجيش الاحتلال إلا أن التباساً يشوب خطابها السياسي حول الحرب بشكل عام ومفهوم وشكل النصر الذي تسعى له وحول مستقبل القطاع بعد الحرب، وتصريحات بعض قادتها تربك المشهد أكثر فأكثر كحديث البعض أن حماس وفصائل المقاومة وأهل غزة جاهزون ومستعدون لمواصلة الحرب لأشهر وسنوات حتى آخر طفل ورجل في القطاع! ولا ندري إن كانت الجيوش والحكومات وحركات المقاومة وجِدت من أجل الدفاع عن الشعب وحمايته والتضحية من أجله أم أن الشعب وجِد من أجل حماية الأنظمة والحكومات وحركات المقاومة، وفي حالة القضاء على الشعب وتدمير كل مقدراته فما قيمة وفائدة أي انتصار؟ أيضاً حديث بعض قادة حماس بأن الحركة لن تقبل بوجود أية سلطة فلسطينية لحكم غزة بعد الحرب إلا سلطة حماس.

صحيح أن حركة حماس لن تختفي من المشهد السياسي بغض النظر عن نتائج الحرب، ولكن استمرار تمسكها بحكمها لغزة بعد الحرب معناه استمرار الحصار وتحكم إسرائيل إعادة الاعمار بل حتى منع دخول متطلبات الحياة اليومية من دواء وتجهيزات طبية وغذاء ووقود واصلاح شبكات الكهرباء والمياه مما سيجعل الحياة بعد الحرب لا تقل قساوة عن حالة الحرب، وهو الأمر الذي يتطلب سلطة محلية مقبولة دولياً وعربياً لإدارة القطاع بعد الحرب.   

هذه الجولة من الحرب وإن كان مركز ثقلها وقوتها التدميرية في القطاع إلا أنها جزء من استراتيجية صهيونية أوسع تهدف لتدمير المشروع الوطني التحرري وتصفية القضية الفلسطينية بما فيها منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وفكرة حل الدولتين أيضا كل شكل من أشكال المقاومة سواء كانت حمساوية أو غيرها، كما أنها حرب لا تنفصل عن مخطط صناعة الانقسام ودولة غزة وتكريس كيان في غزة منفصل عن الكل الوطني الفلسطيني، وبالتالي فإن مواجهتها تتطلب رداً من الكل الفلسطيني وعدم الوقوف في انتظار نتائج الحرب ، ونتمنى تغليب العقل الجمعي الوطني حتى لا تذهب هباء دماء أبناء غزة وعذاباتهم وهذا التعاطف والتأييد الشعبي المتعاظم عالمياً ليس لغزة والمقاومة فقط بل لكل القضية الوطنية الفلسطينية.

وبالعودة لغزة ما بعد الحرب، فبالرغم من عدم معرفة ما الذي يخطط له نتنياهو بالضبط ومتى تنتهي هذه الجولة من الحرب بالفعل، وما إن كانت نهايتها بتهجير أهل القطاع أو الاكتفاء بما جرى، فمن الضروري وطنيا التفكير بكيفية إدارة قطاع غزة بعد خروج جيش الاحتلال وعدم ترك الأمر للمخططات الإسرائيلية والأمريكية.

ومع تقديرنا للمنظمة والسلطة وحركة حماس وفصائل المقاومة إلا أن صعوبة تعقيدات المرحلة والكرب الشديد الذي يعانيه أهل القطاع يتطلب درجة كبيرة من التعالي على الجراح ووضع المشاحنات الحزبية جانبيا ولو مؤقتا لإنقاذ أهل القطاع من التصفية وضمان ثباتهم على الأرض.

ونقولها بصراحة لا يجوز لمن لم يستطيع حماية الضفة والقدس من الاستيطان وعربدة المستوطنين أن يحكم قطاع غزة منفردا وخصوصا إن كانت عودته لغزة بشروط إسرائيلية وعلى حساب التخلي عن الضفة والقدس، وليس من حق من شارك في الانقسام وفصل غزة عن الضفة وتسبب بكل هذه الحروب المدمرة على غزة أن يعود لحكم القطاع. قطاع غزة يحتاج في هذه المرحلة وبشكل مؤقت أن يكون منزوع السلاح تديره حكومة محلية غير حزبية ترتبط فيدراليا بالدولة والسلطة الفلسطينية، إدارة قادرة على التعامل مع كل الأطراف المحلية والعربية والدولية وحتى الإسرائيلية لإنقاذ ما تبقى من الشعب والأرض.

***

د. ابراهيم ابراش

 

على مدى  عام ونصف، ابتعدت أوروبا بسرعة عن روسيا، وبنت جدرانًا حجرية في الدبلوماسية،  وأقامت أسوارًا حقيقية على الحدود، ولكن بشكل غير متوقع بدأت التفاوض مع موسكو، وقد تم اتخاذ الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، وهي تبدو مثيرة للإعجاب، وكان أول حدث عام بمشاركة دبلوماسي روسي تحت العلم الروسي في أوروبا، بنتيجة إيجابية هو لقاء رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو مع السفير الروسي إيجور براتشيكوف، وقال رئيس الحكومة السلوفاكية عقب الاجتماع إن على براتيسلافا، الاستعداد لفترة ما بعد انتهاء الصراع في أوكرانيا و"توحيد العلاقات مع روسيا"، بيان قوي، إذا كان القدر أن سلوفاكيا كانت مؤخرًا في طليعة الحركة المناهضة لروسيا في أوروبا.

وبالنظر إلى النتائج التي بدأت تظهرها القوى السياسية المحافظة في أوروبا، فإن الوضع في الاتحاد الأوروبي قد يتغير في غضون عامين إلى ثلاثة أعوام، وبشكل خاص، يتقدم اليمين بالفعل في استطلاعات الرأي في ألمانيا، ويحظى بدعم واسع النطاق في فرنسا، ويُظهِر إمكانات انتخابية عالية في الدول الاسكندنافية، فضلاً عن ذلك فقد فازت القوى المحافظة بالفعل بالانتخابات في إيطاليا، ومن المدهش تماماً أن فازت في هولندا، الدولة "اليسارية" تقليدياً، وتتغير أوروبا كثيرًا، والخطوات الأولى نحو روسيا بهذا النظام المحدث أصبحت ملحوظة بالفعل.

إن وحدة أوروبا - الخيالية والحقيقية - لم تنهار بعد، لكن الإجماع الذي فرضته بروكسل أصبح مرفوضا بالفعل، فأوروبا التي  تشبه الامرأة العجوز ومريضة،  تعذبها الكوابيس في الليل والأخبار السيئة أثناء النهار، وإنها تتوق إلى سلامها السابق وراحتها المفقودة،  وإنها منزعجة من السياسيين الفارغين والشعارات الكاذبة، وقد سئمت من جحافل المهاجرين، والدعوات لمساعدة أوكرانيا وكبح جماح روسيا، وتريد هذه السيدة أن يتم العثور على الأشخاص الذين يمكنهم وضع حد لهذا الهرج والمرج واستعادة النظام، وربما تعتقد السيدة العجوز في أوروبا، أنه في العام الجديد سيكون لديها مخاوف أقل وستتحسن صحتها، وفي هذه الأثناء، لا يمكنها الاستغناء عن الأدوية "الصحيحة".

التغييرات تحدث بالفعل، وهي مذهلة، ويظهر المزيد والمزيد من السياسيين اليمينيين، وهم أشخاص حاسمون لديهم وجهات نظر حول موضوع اليوم، إنهم يدفعون جانباً القادة السابقين، ويكسبون المؤيدين بنشاط، فقد بدأ كل شيء مع رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان، الذي يشبه بركاناً هائلاً في وسط أوروبا، وينتقد أوربان شركاء الاتحاد الأوروبي، بسبب سياسات الهجرة الفاشلة التي أغرقت القارة بالوافدين الجدد المضطربين من آسيا وأفريقيا، وهو لا يتقبل موقف الغرب من الصراع في أوكرانيا، والذي أدى إلى القطيعة السياسية والاقتصادية مع روسيا، وهو ضد المواجهة الخطيرة معها، ومع ذلك، فإن أوربان ليس مدمرا، بل هو منافس على زعيم الإصلاح، ويصر على أنه لا يزال يرى المجر جزءًا من الاتحاد الأوروبي، ويريد مواصلة التعاون مع قيادته، لكن مع قيادة جديدة، لأن القديمة، التي ارتكبت الكثير من الأخطاء، فقدت مصداقيتها، وحان الوقت لمغادرة المشهد السياسي.

ومحاولات توجيه أوربان على "الطريق الصحيح" لن تؤدي إلى أي شيء، علاوة على ذلك، فإن انزعاجه يتزايد، ولم يعد يختار الكلمات، وقد اعترف مؤخراً بأنه سئم بالفعل من استمرار الاتحاد الأوروبي، الذي يحشر أنفه في كل مكان، ولذلك فهو يعتزم السعي إلى إجراء تغييرات في قيادة الاتحاد الأوروبي، وهو ما يأمل أن يحدث في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو من العام المقبل، وإن خطاب أوربان الاتهامي لا يهز أوروبا فحسب، بل إنه ينشط أيضا قوى الاحتجاج في بلدان أخرى، وهذه هي النتيجة - تلقى "المتمردون" المجريون الدعم من الزعيم الجديد لسلوفاكيا روبرت فيكو، الذي يشاركه آرائه إلى حد كبير، كما أنه يعارض استمرار العقوبات ضد الاتحاد الروسي، ويعتقد أنه من الضروري إقامة علاقات بناءة مع موسكو، واعرب فيكو مؤخرا  في مقابلة مع موقع InfoVojna، عن ثقته في أن روسيا لن تترك شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوغانسك، ودعا الاتحاد الأوروبي إلى التوقف عن تزويد أوكرانيا بالأسلحة، لأن هذا لا يؤدي إلا إلى وقوع ضحايا لا داعي لها ويظهر أن الغرب ينوي القتال حتى آخر الأوكراني،  ولا يُعتقد أن "انشقاق" أوربان وفيكو من الممكن أن يؤدي إلى تدمير الاتحاد الأوروبي، لكن تصريحاتهم تؤدي إلى «تآكل» أسس «التضامن الأوروبي»

وفي سويسرا فاز حزب الشعب المحافظ اليميني (SVP)، والذي يعتبر من المتشككين في أوروبا، في الانتخابات البرلمانية السويسرية، ويدعو زعيمه ماركو كييزا إلى الحد من الهجرة، وينتقد انضمام البلاد إلى العقوبات ضد روسيا، وفي رأيه أن هذا ينتهك مبدأ الحياد التقليدي للبلاد (منذ عام 1815!) ، ولا داعي لسويسرا الهادئة والهادئة، وهي ليست أيضاً جزءاً من الاتحاد الأوروبي، التورط في صراع بعيد كل البعد عن ذلك بالمعنى الحرفي والمجازي، وإن الرغبة في مواكبة الاتحاد الأوروبي، تتسبب بالفعل في ضرر ملموس - فقد ارتفعت أسعار الطاقة بشكل ملحوظ بسبب العقوبات، ومع ذلك، فمن غير المرجح أن تخضع السياسة السويسرية لتغييرات كبيرة، فممثلو حزب الشعب السويسري، كما كان الحال من قبل، لديهم ممثلان في الحكومة - وزير الاقتصاد والتعليم والعلوم ورئيس قسم حماية البيئة والنقل والطاقة والاتصالات.

ويحدث شيء مماثل في هولندا، حيث فاز حزب الحرية (PVV) بالانتخابات البرلمانية هناك، ويدعو زعيمها خيرت فيلدرز إلى "صفر" هجرة، ويرى أنه من الضروري منع المساجد والقرآن والحجاب الإسلامي في المباني الحكومية، وهدف آخر للحزب هو خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، واستعادة الضوابط الحدودية على الحدود المفتوحة حاليًا للبلاد داخل الاتحاد الأوروبي، وذلك لمنع الضيوف غير المدعوين من آسيا وإفريقيا من دخول هولندا،  وبالإمكان  أضافة  إلى هذا أن فيلدرز، يدعو إلى رفع العقوبات المفروضة على روسيا، وبعبارة ملطفة، لا يوافق على توريد الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا، ولكن مرة أخرى، فإن انتصار حزب الحرية لن يغير المناخ السياسي في هولندا، وخاصة في أوروبا.

لكن صعود نائبة البوندستاغ سارة فاغنكنشت، يمكن أن يغير هذا المناخ، وأعلنت بشكل حاسم مؤخراً في مؤتمر صحفي في برلين: "لدينا أسوأ حكومة في تاريخ ألمانيا، وقررنا تأسيس حزب جديد، لأن الطريقة التي تسير بها الأمور الآن لا يمكن أن تستمر"، والملايين من الألمان، ذوي وجهات نظر مختلفة، يتفقون مع هذه السمراء المتحمسة، المولودة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، والعضو السابق في الحزب الاشتراكي الديمقراطي (المشابه للحزب الشيوعي السوفييتي)، وهذا أمر مفهوم - فالأهداف التي أعلنها فاغنكنشت، الملقبة بـ "الستاليني" و"الغضب الأحمر"، قريبة من الجميع، وهذا يحد من هيمنة الاهتمامات الكبيرة، ويضمن المنافسة العادلة، ويزيد الأجور والمعاشات التقاعدية في المظهر، والسياسة - رفع العقوبات المفروضة على روسيا والمدمرة للاقتصاد الألماني، ووقف إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا.

وتريد فاغنكنشت أن يعيد إلى الألمان ألمانيا البطريركية النظيفة والهادئة، وأن ينقذهم من الخطر الذي يشكله "الضيوف" الداكنون غير الحليقين، وإنها متطرفة فيما يتعلق بالمهاجرين، فهي تعتزم وقف تدفقهم بالكامل، وبرأيها  "اليوم يجب أن تكون الرسالة إلى العالم هي: ألمانيا مكتظة، ولا يوجد مكان في ألمانيا، ولم تعد ألمانيا مستعدة لتكون الوجهة الأولى".

وبات اسم عضوة البرلمان الألماني، اليسارية سارة فاغنكنشت، مصدر سعادة في روسيا، بعد أن تزايدت دعواتها لوقف العقوبات ضد موسكو، والعودة إلى تدفق الغاز الروسي نحو بلادها، ما يصب في صالح تعزيز رهانات الكرملين على الزمن لتغيير المزاج الشعبي الأوروبي والغربي لوقف دعم أوكرانيا مالياً وعسكرياً، وأشارت الاستطلاعات إلى أن فاغنكنشت، الأكثر شعبية بين اليساريين، تحتل المرتبة الثالثة عن أكثر السياسيين شعبية في ألمانيا ككل، وهو ليس بمؤشر هيّن للطبقة السياسية التقليدية.

ولن تكتمل اللوحة الملونة التي تحتوي على صور "المتمردين" الأوروبيين بدون صورة ما توصف به  "عميل الكرملين" الرومانية، وهو اسم السيناتورة ديانا شوشوكي، التي تترأس حزب SOS رومانيا، والجمعية نفسها غير واضحة وليست ذات تأثير كبير، ولكن يا لها من قائدة! غالبًا ما تعطل ديانا الممتلئة والصاخبة التدفق الرتيب لاجتماعات البرلمان الروماني بتصريحاتها، و شوشوكي هو "الخروف الأسود" في صف من السياسيين الذين ينفذون دون أدنى شك الأوامر القادمة من واشنطن وبروكسل، وهي، على العكس من ذلك، تتصرف بشكل مخالف لهم، وتدعو  إلى خروج رومانيا من الاتحاد الأوروبي، وتحتج على المساعدات المقدمة لأوكرانيا، وتوجه اتهامات غاضبة لزعيمها زيلينسكي،  وشوشوكي غاضبة من الموقف العدائي لسلطات الاستقلال تجاه ممثلي الأقلية الرومانية والحظر السخيف على استخدام لغتهم الأم.

وعندما كان رئيس أوكرانيا، في بوخارست، يعتزم إلقاء خطاب في البرلمان الروماني، قدمت احتجاجا قاطعا، ووصفته بأنه "مجرم، وخائن لشعبه، ونازي"، ووعدت بأنه إذا ظهر زيلينسكي فسوف تضربه بشدة، وبعد هذا التهديد، ألغى الرئيس الروماني كلاوس يوهانيس اجتماع البرلمان، إما أنه كان خائفًا من أن تفي شوشوكي المصممة بوعدها، أو أن زيلينسكي نفسه أصبح خائفًا، فهذه المرأة لها وزن سياسي كبير!

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

(بين موشيه زيمارمان وتيلر كوين)

لن يكون السؤال صعبا. ولن يكون أيضا مثار تناذر واهتياج، من قبل الباحثين في علم الاجتماع السياسي. فالقضية أثمرت خلال الشهرين الأخيرين من عمر العام 2023، انشغالات جديدة في تسيير البنى الصراعية لمفهوم سلطة الاحتلال والقوة. إذ منذ انطلاق عملية المقاومة الفلسطينية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي، أعيدت صياغة أو تقييم "الصهيونية" كحركة يهودية، التي يعتبرها أنصارها " حركة تحرير وطنية لإعادة شعب مضطهد مقيم كأقليات في مجموعة متنوعة من الدول إلى وطن أجداده"، مؤلبة ضمير العالم ضدها، بعد تقليب تاريخ المعاناة (الاضطهاد) إلى ما يشبه محاكاة "الهولوكوست" الألماني بما تعززه آليات الفتك الإسرائيلية في قطاع غزة، وما ينتج عن هذا التقليب من جنوح إلى فرز حقائق مطمورة للتاريخ وملاحقته وتنميطه.

لقد تابعت بشغف كبير خلال أسبوع واحد من استمرار تفكك نظرية الصهيونية وانحسار تمدد هويتها القومية، رأيان قويان في منجز الفكر الغربي والإسرائيلي على السواء. الأول للمؤرخ الإسرائيلي موشيه زيمارمان، والثاني للمفكر الأمريكي تيلر كوين. وهما معا يجسدان وحدة ذاتية رمزية في الصراع التدميري الحالي الذي يتم تنفيذه في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

موشيه زيمارمان الذي يشغل كرسي مركز ريتشارد كوبنر مينيرفا للتاريخ الألماني في الجامعة العبرية في القدس، منذ العام 1986، هو من بين أهم الأكاديميين الإسرائيليين المهتمين بالتاريخ الاجتماعي لألمانيا في القرنين الثامن عشر والعشرين، بالإضافة إلى تاريخ اليهود الألمان ومعاداة السامية. وقد تمت محاكمة زيمرمان مرات عديدة لاتهامه بالتشهير في أعقاب التعليقات التي أدلى بها في عام 1995 بشأن المقارنات التي يعتقد أنه قد يتم إجراؤها بين المستوطنين في الخليل والشباب النازي، في أعقاب مذبحة الحرم الإبراهيمي لباروخ غولدشتاين، لكن الدعاوى القضائية المرفوعة ضده سقطت جميعها. يقول زيمارمان (في في مقابلة مع صحيفة “هآرتس” العبرية)، إن عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي "كشفت فشل الإيديولوجية الصهيونية". وهو رأي ناذر لصوت أكاديمي مرموق في صفوة النخب الفكرية الإسرائيلية. والأخطر في تفكير المؤرخ زيمارمان، أنه يعتبر حركة حماس قوة حاسمة، وأزاحت الستار عن وهم "إسرائيل التي لا تقهر"، مؤكدا أن "إسرائيل فقدت الأمن منذ 7 أكتوبر"، حيث "دمرت إحساس الإسرائيليين بالأمن".

يعيد الأكاديمي الإسرائيلي قراءة تاريخ الصهيونية، تأسيسا على الأهداف والوظائف التي تقوم عليها وتنهض بها. ويقول، "إنه إذا كان الهدف من تأسيس الصهونية هو تخليص اليهود في الشتات من الوضع الذي كانوا فيه (اضطهاد النازيين لليهود)"، فإن "هجوم حماس في 7 أكتوبر كان بمثابة نقطة تحول في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني"، وهو ما يفضي بداهة إلى “كشف فشل الإيديولوجية الصهيونية”..

 هذا التوجه يدحض نظرية بنجوريون الذي كان يؤمن بأنه "من كان مؤمناً فيجب أن يعيش في إسرائيل، وكل يهودي يعيش خارجها فلا إله له"، وهو ما يشبه إلى حد بعيد زعوم الحق الإسرائيلي العقدي في أرض فلسطين، بما ينحو إلى مثالهم الشهير " بجلد الإبل الذي إذا عطش وجاع انكمش، وإذا شبع وارتوى تمدد".

واللافت في رأي موشيه زيمارمان، اعترافه بفشل الصهيونية، وارتداد أفكارها وعودة الخوف إليها، حيث اعتبر الصهيونية خارح الحل المثالي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مستنتجا بجرأة "إننا ذاهبون إلى وضع يعيش فيه الشعب اليهودي في حالة من انعدام الأمن التام، وهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك."، مادامت إسرائيل عاجزة عن ضمان أمن الشتات اليهودي، وهو ما يضعف "الحل الصهيوني" ويجعله منقوصا".

وإذا كان الإسرائيليون يثيرون هذا الشكل من النظر، في اعتبار الصراع الأبدي هو جزء من العقيدة الصهيونية، واستمرارها هو مهمة إلاهية قبل أن تكون سياسية، فإن زيمارمان، يذهب إلى أكبر من ذلك وأكثر، إذ يشبه الأعمال التي يمارسها بنو جلدته، شبيهة تماما بالنازية ضد الفلسطينيين (الإبادة)، وهو ما يحتمل قيام الفلسطينيين بنفس الأفعال درءا لما يقاسونه "أن يفعل الفلسطينيون ذلك (بنا)”.

الرأي الثاني جاء على لسان المفكر الأمريكي تيلر كوين، وهو أستاذ كرسي هولبرت إل.هاريس في قسم الاقتصاد بجامعة جورج ماسون الأمريكية، المدير المشارك لمدونة “الثورة الهامشية” على الإنترنت، وكاتب عمود “المشهد الاقتصادي” في صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، والذي يحتل المركز 72 في قائمة مجلة “فورين أفيرز” (شؤون خارجية) لأهم 100 مفكر عالمي. يرى كوين (في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء)  أن الدرس الأبلغ من هذه الحرب هو "أن القدرة على الردع لم تعد بنفس القوة التي كنا نتصورها، وإن الإصرار مع إيمان المرء بقضيته وتشبثه بالدفاع عنها يمكن أن يتفوق على القوة العسكرية الكاسحة للخصم".

ولا يتردد كوين في اعتبار الجيش الإسرائيلي يتمتع بالقوة والهيمنة العددية والآلية، أقوى بكثير مما تتمتع به حركة “حماس”، لكنه يستطرد أن هذا الواقع "لم يمنع قوة الجيش الإسرائيلي “حماس” من مواصلة ضرباتها داخل إسرائيل، لافتا في إطار مقارنته بين الصراع الإسرائيلي والفلسطيني والروسي والأوكراني، إلى أن "الولايات المتحدة التي تعتمد على الردع لدعم العديد من حلفائها"،  "ستتقبل هذه النتيجة بسوء وللعالم أجمعه"، "لأن الردع  حسب نظره   يدعم النتائج السلمية والحفاظ على الوضع القائم.."

المسألة الأخرى التي يستقيها المفكر الأمريكي تيلر كوين، هي ما يسميه ب" المكاسب الهائلة التي يمكن تحقيقها في التكنولوجيا بسرعة". حيث إنه "قبل عام، أو حتى أشهر قليلة، لم يكن أغلب الناس يدركون أن الذكاء الاصطناعي، وبخاصة منصة المحادثة الآلية شات جي.بي.تي4، سيؤدي إلى تحولات كبيرة متعددة الأبعاد بهذا الشكل. والآن؛ يتوقع الخبراء أن يتفوق الذكاء الاصطناعي على الإنسان في أغلب مجالات التفكير، خلال أقل من 10 سنوات. وهناك الكثير من الخبراء من يتوقع حدوث ذلك خلال أقل من 3 سنوات". وهو ما يمنح قوة إضافية نوعية لتعاظم استعمال "الذكاء الاصطناعي" و"التكنولوجيا الحربية السريعة" في الحروب الجديدة. لكن كوين، لم يشر إلى أضرار هذا التمثل المروع لاستغلال التدمير الآلي تجاه الإنسان، وتناقض المنظومة الديمقراطية إزاء هذا التحول، في الوقت الذي تشكك الآليات الأممية بمختلف توجهاتها وأوضاعها الإدارية والتدبيرية، في نجاعة القوانين الدولية وقوة تنزيلها وإحلالها؟.

والمثير في هذا التوجه لدى الأكاديمي الأمريكي، هو الانحياز المكشوف للآلية العسكرية الإسرائيلية والغربية المدعمة، وتجاهله للتفوق التكتيكي الميداني للمقاومة الفلسطينية، رغم حصارها وتجويعها وتزييفها إعلاميا وأيديولوجيا، وهو أمر لا يؤطر تسويغه المعرفي بالأوضاع وعلاقة ذلك بنفسية "المقاومة"، وتحررها من منطق قوة "العدد والعدة"، إلى ما يصفه كوين بميسم "الإيمان"، الذي يتفوق على كل شيء.

لكن الجدير بالاهتمام، أن يؤسس كوين منطقه العقلاني والعلمي، من كون  "الحوكمة غير مهمة حتى يثبت العكس"، مستدلا بما شهدته ردهات الجامعات الأمريكية مؤخرا، وما استفاضته به ساحاتها من جدل "معاداة السامية" وارتباط ذلك كله بمفهومي "الحرم الجامعي" و"الحرية الأكاديمية"، إلى ما يسري على التعليم الجامعي الأمريكي وسلامة الطلاب وضمان تعزيز ثقافة التبادل الثقافي وما على ذلك.

وقال كوين في هذا المضمار، إن كل ذلك "يمثّل كارثة لصورة التعليم الجامعي الأمريكي. فما يحدث في الجامعات الأمريكية حالياً يعني، على الأقل، أن أداءها سيئ".

القولان يجدان أثرهما في الإقبال المفتوح على التعدد الفكري، وانتعاش دورة الصراع الحضاري من جديد، بعد أفول مؤقت فرضته الزمنية السياسية الدولية، طيلة حقبتين كارثيتين، أو أكثر، من أفغانستان إلى العراق ، ثم فصل الربيع العربي الأسود. وتنفعل هذه القابليات النقاشية المستديمة، رغما عن أنف "الإسلاموفوبيا" المستعرة والمتواطئة مع متلازمة "النظرية الإسرائيلية"  معاداة السامية 

إنها دورة لا تهم موشيه زيمارمان وتيلر كوين فقط، لأنهما أشبعاها قضما واحتدادا، بعد نفض الغبار عما سبق وأن عكسه سابقاهما، صامويل هنتغتون وفرانسيس فوكوياما، في اعتبار تقييد الأنظمة المؤثرة في صراع الحضارات، بما يلزم لتأسيس النظام العالمي الخامس، الشاهد على تمكين الإمبراطوريات الصناعية الكبرى؛ من الانتقال بالعالم إلى التبعية وتقييد الأحلام وتسطير الوجود؟، فالعالم الجديد الذي تتروعه مفاجآت ما بعد الحرب على غزة، لن يتمكن من ادخار ما تختزله مفكرات علماء الاجتماع والسياسة وتحليلاتهم في علوم المنطق والرياضيات والفيزياء، لأن  القضية المركزية في التفكير الأممي الجديد ستنهض لا محالة على تصنيف "قوة القيم" و"الأخلاق المرجعية" و"تقديس المقاومة" ضدا على "الردع الفاشستي"  و"التدمير الوحشي" و"التهجير والقتل"، دون أن يعني ذلك طبعا، وفي الوجهة المعاكسة، أن يكون لطفرة "الذكاء الاصطناعي" يد آثمة في هذه الجرائم، وسياقا امتداديا لحصر البشرية في ما ينتظرها ويقض من مضاجعها. فالأمل ألا تصمت الشعوب عما يلحق بمنظوماتها الحكمية، وأن تستعيد زخمها الثوري لقيادة العدالة والكرامة والمساواة إلى الوجهة السليمة.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

لقداختلفت وتغّيرت العلاقات الإنسانية بين بني البشر في الكثير من المجتمعات  بمختلف طوائفهم ودياناتهم وأعراقهم الذين اصبحت  تتناسل وتتوالد مآسيهم وكوارثهم،، ولم تعد علاقاتهم كما كانت في السابق يسودها الود والاحترام على الرغم من الاختلاف الجوهري فيما بينهم وعلى مستوى الناس عمومًا من كل الأجناس، ولو ضيَّقنا تلك الدائرة اليوم، وجعلناها على مستوى العائلة الواحدة، بين الأقارب والمعارف في مجتمعاتنا على سبيل المثال، وبين الإخوة الأشقاء، لوجدناها اختلفت اختلافًا كثيرًا، بل جذريًّا، ولم تعد روح التكاتف الأسري والعائلي والعشائري والقبلي - إن جاز التعبير - موجودًا كالسابق؛ ولذلك تغيَّرت كثير من المفاهيم، وتبدَّلت القناعات، بل انقلبت رأسًا على عقب، وأصبحت -مع الأسف- المادة تجمعهم وتُفرِّقهم، تُقرِّبهم لبعضهم، وتُنفِّرهم من بعض، بل أصبحت المظاهر هي السائدة، يحترمون من لديه المال والمكان ومن طراز عالٍ أو ممتاز، بل وصل ببعض الناس أن ينظر لحذائك -أكرمكم الله وأجلكم-!! فإن كان جديدًا رق لك، وهش لك وبش، وإن كان قديمًا ربما ازدراك ولم يعبّرك مع الاسف.

التاريخ يثبت ان المواقف السياسية ليس على حال واحد، فمن كان صديق اليوم، قد يصبح غداً عدواً ومن كان أخ اللحظة يصبح على حين غفلة خصماً كبيراً وتفرقت الكثير من المكونات الاجتماعية  وحصلت بينها القطيعة بسبب الانحيازات في المواقف السياسية او المادية، أصدقاء عمر دبت بينهم القطيعة الكاملة، أخوة تفرقوا وباتوا أعداء، لكن  ونشعر ان الجميع خاسر اليوم حيث ليس هناك منتصر فيهم.

في الماضي كانت الازمات  تستعيد شيئا فشيئا بعضا من العلاقات والصلات المفقودة، والتواصل ولو من باب رفع العتب، لان ذلك أفضل من القطيعة، إذ مهما طال الزمن، سوف يعود التلاقي  يوما ويكتشفون أن لا غنى لهم عن التواصل، وأنهم محكمون بالانتماء الى اصولهم، مهما عصفت بهم الأهوال وأخذتهم الاصطفافات السياسية إلى مساحات أخرى، لان الدم لا يتحول الى ماء فهي الرابطة الاقوى، والسياسة بلا أخلاق غالبا وبلا مصداقية، وقد يتحول عدو اليوم في السياسة إلى صديق الغد، فالمصالح الشخصية والمصالح الفئوية تنتصر في النهاية لدى لاعبي السياسة، لكن الدم يبقى نقياً،  والتجربة العراقية مثال واضح، القادة هم من يشكلون اليوم التحالفات الطوائفية والتوافقية بين حين واخر،لكن ضحاياهم صاروا ترابا، ومن لم تقتله الحرب الطائفية تقتله الازمات والمعاناة، هذا ما يجب أن تدرك الشعوب ان السياسة بلا مصداقية، ويجب التعلم من دروسها ومن كل الأحداث التي عصفت وتعصف في مجتمعاتنا وبلادنا، وحدهم المرتبطون بالأنظمة ومافيات السياسة والمال والحروب والقتل يخربون المجتمعات، أو من يمكن تسميتهم بالأبواق أو العملاء أو المرتزقة، وحدهم هؤلاء، يشعلون النار في جمر الخلافات المجتمعية،  بصنعها للحكام وتقديسهم لهم، وصناعة الحاكم ليس بجديد، فهو موجود منذ قديم الزمان، وفرعون خير دليل على ذلك حتى سمى نفسه "أنه الرب الأعلى عندما أخبروه شعبه بأنه كذلك." هؤلاء من يعطون للسياسة صفتها اللاأخلاقية، هؤلاء، الذين قد ينقلب، بعد لحظات، خطابهم العدائي إلى خطاب تصالحي، حسب ما يتم توجيههم، يجب أن يحاكم هؤلاء في محاكم  الأوطان والشعوب، المرتزقة، لم ينجون يوماًعلى مدى التاريخ، من العقاب، وسرعان ما ينساهم التاريخ ، هم أقل حتى من أن يتذكرهم تاريخ شعب ما، يتذكر التاريخ من اشتغل على تغيير مساره: القادة والسياسيين وكتاب المال وزعماء المال والسياسة والحروب والموت، أما من كانوا أجراء لديهم، مهما كانت أدوراهم في الخراب، فهؤلاء سيركنون إلى زوايا التاريخ المهملة أو إلى مزابله، أدوارهم آنية، رهناء الذي يدفع لهم اكثر، كونهم لا يحملون ذرة من الوطنية ولا المواقف التي هي في صالح الشعوب ولا يهمهم المستقبل  وينسون الحاضر، والقيمة الوحيدة التي ينتمون لها المصلحة الشخصية الآنية، ولهم مريدين الرخص من عامة المجتمعات، ولان يرحمهم وسينسونهم في زمن قصير جدا والتاريخ أيضا مليء بأمثلة لهذه النماذج ويذكرهم كعبرة.

***

عبد الخالق الفلاح  - باحث واعلامي

 

إن الهجمات التي استهدفت رموز قيادية في محور المقاومة سواء الفلسطينية اي حماس او ايران عبر اغتيال كل من القائد الايراني التابع لفيلق القدس في دمشق او الشيخ صالح العاروري تنذر بأوضاع خطرة تهدد بإشعال فتيل حرب اقليمية يتم من خلال استدراج هذا المحور لها، فهل تستجيب ايران لدعوات اسرائيل بشن حرب اقليمية واسعة؟.

بداية لا بد من توضيح ما يجري بأنها محاولة استفزازية وعبثية تعمل من خلالها اسرائيل على جر المنطقة نحو حرب اوسع اقليميا بعد أن فشلت في تحقيق أهدافها في غزة وارتكاب ابادات جماعية غير مسبوقة في التاريخ الحديث، وذلك بعد ان رفعت سقف أهدافها عندما دعت الى القضاء على حماس وتصفية القضية الفلسطينية عبر قتل المدنيين وتهجيرهم، الامر الذي يمكن اسرائيل من الاستفراد في غزة والضفة وكسب الانتخابات الاسرائيلية واستعادة الرأي العام الاسرائيلي بعد ان بدأ يشعر بالقلق وعدم الرضى اتجاه ما يجري من عمليات خطف للمدنيين الاسرائيليين .

إن رهان نتنياهو على جر ّ المنطقة نحو حرب اقليمية تعد خطوة اخرى تضاف الى سجل الهزائم التي يتكبّد أوزارها في كل مرة لان عملية استهداف رضي موسوي في دمشق وصالح العارودي في الضاحية تطرح علامات استفهام حول طبيعة الخروقات التي يتعرض لها المحور الايراني في عقر داره عبر الجواسيس والعملاء الذين يقدمون إحداثيات عن اماكن تواجد هؤلاء بهدف اصطيادهم وبخاصة ان نتنياهو قد صرح مراراً بأنه ينوي القضاء عليها واستهدافهم فهل تأتي كل تلك العمليات تأتي في اطار الاشارة الى المهادنة مع اسرائيل بعد ان حقق مكاسب كثيرة ولا يريد التفريط بها، فيغض الطرف عن تلك الحواث والاغتيالات أم انه معني بشكل مباشر بالرد وبخاصة أن جريمة الاغتيال وقعت في الضاحية ولما تشكله من رمزية امنية محصنة؟

يقول الصحفي أحمد حسن لمجلة لا لوتشيه الايطالية، بأن ما يجري هو استنفار اسرائيلي يقف خلف تلك السلسلة من الاغتيالات المتزامنة في دمشق ولبنان وايران بهدف جر المنطقة نحو حرب اقليمية تجر ّ اسرائيل الولايات المتحدة اليها بعد أن عبرت عن رفضها وعدم رغبتها في ذلك لانها تعلم علم اليقين بأن حلفاء واشنطن لن يؤيدوها في الحرب لاعتبارات خاصة بهم، فمثلا المملكة العربية السعودية تعمل على مشروع اكسبو 2030 وهي بحاجة لان تنعم باستقرار وامان في محيطها الجغرافي بعيدا عن هجمات الحوثيين وعودة النزاعات والصراعات مع ايران بعد أن تم توقيع اتفاقا امنيا برعاية صينيية يقوم على التهدئة والمهادنة وتخفيض حجم التوتر بينهما.

غير ان اللافت في كل تلك العمليات التي استهدفت قادة ايران وحزب الله وحماس تعبر عن محاولات فاشلة لن تحقق اهدافها لان الايران لن ترد بالشكل الذي يتوقعه الاسرائيلي وربما تستخدم اطرافا اخرى غير مباشرة للرد على العدوان الاسرائيلي مثل الحوثيين وهجمات الصواريخ والقرصنة والخطف للسفن الاسرائيلي وتهديد التجارة العالمية وبحر العرب ليصبح عرضة لاستهداف المسيرات الحوثيين او شن هجمات نوعية في العمق الاسرائيلي وتكون ضربات موجعة تسهم بمزيد حالة النفور والاستنفار والعدوانية لدى اسرائيل .

بالختام، صحيح أن المنطقة دخلت في حرب شاملة في العمق الايراني الا ان المحور الايراني يعلم من اين يؤكل الكتف وتكون فيها الضربة نجلاء كالتي حدثت في السابع من اكتوبر في غزة لكن بالرغم من جميع تلك الحوادث تبقى المفاوضات والاستثمار السياسي هي سيد الموقف بخاصة ان الولايات المتحدة في صدد انتخابات كما انها لا تريد تقويض الهدنة الهشة للحرب الاهلية في اليمن لكن لا احد يعلم متى ينفذ صبر الولايات المتحدة وتعود عن قرارها وتساند نتنياهو في حرب الاقليمية.

***

كتابة: أورنيلا سكر

إن حقيقة التاريخ تراكم وسريان للأحداث والوقائع، أحدهما يكمل الآخر في مجرى تعمق وتوسع وعي الذات التاريخي. فالحقيقة التي سبقت ثورة تموز 1958م هي حقبة بناء تراكم العقلية في مجال الحياة والابداع الثقافي والأدبي، وظهور شخصيات لكبار بدون توظيف حزبي. لذلك نقف أمام تجزؤ للتاريخ العراقي. فقد كان لتتويج الملك فيصل الأول المستورد بحد ذاته دليلاً على ضعف سياسي، وهي اقرب إلى البضاعة الجاهزة والتي اعطت لها الموافقة العراقية.

كذلك لو سلطنا الضوء على ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني، ونتأمل مقدماتها وقواها وبرامجها، فإنها أقرب إلى الانتفاضة لا الثورة، أما ثمار التضحيات فقد تجسدت كما ذكرت باستيراد حكومة صعدت عرش العراق.

نجد الكثير من المؤرخين والباحثين يدعون إلى الحيادية والتجرد بصورة تامة عن الايديولوجية التي يعتنقها المؤرخ أو الباحث. وهي دعوة ايجابية لأنها تعيد كتابته بتجرد عن التدخلات الحزبية التي ترغب بكتابته كما تريد، أو كما تستجيب لأهوائها السياسية والحزبية، لذلك مثل هكذا توثيق للتاريخ هو اقرب ما يكون إلى التأويل، والابتعاد عن الرؤية العلمية والموضوعية في كتابة التاريخ.

فكتابة التاريخ برأي (تحتاج إلى تأهيل علمي رفيع واحتراف مهني، ونزاهة، والعمل بالمعايير المستقلة. فالجهل بالتاريخ لا ينتج غير التخلف والانحطاط، وهو دليل على فقدان العقل النقدي والرؤية المستقبلية. وحقيقة التاريخ تراكم معقول ومتغلغل في الوحدة الروحية للأمم والثقافة، وإعادة كتابته العقلية هي نفعية ونفعية للقيَّم المعاصرة. لكن كتابة التاريخ يفترض كتابته بمعايير المنهجية والموضوعية والوطنية والمستقبلية، بمعنى إمكانية كتابة تاريخ علمي حي برؤية مستقبلية، لذلك نجد من الصعب أن يصل المؤرخون جميعاً إلى صيغة موحدة في كتابة التاريخ، إلا أن الاختلاف والتنوع طبيعي ومحكوم بالقابلية والكفاءة والاحتراف. بعبارة أخرى: إن الاسلوب الأمثل لكتابة التاريخ هو صناعته استناداً للفكرة الوطنية العامة أو الهوية الوطنية).

كما يرى صاحب موضوع الدراسة في التاريخ (وسيلة فاعلة للحد من اعتبار أن الماضي زمنٍ مات، بل هو الذاكرة التي نحيا بها وتقود سلوكنا وسلوك الأفراد والجماعات في صناعة حاضرهم. والتاريخ يقدم لنا مادة تمتد إلا آلاف السنين، كي تعيد أمام عيننا انتاج شخصيات ماتت مادياً لكنها ما زالت حية من خلال نتاجاتهم، وهذا ما يؤكده الدكتور فالح مهدي في كتابه (تاريخ الخوف) حين يذكر أن "من يقرأ كلكامش يشاركه لوعته بفقدان صديقه انكيدو، ومن يقرأ الإلياذة يحس بما عاناه يوليسوس في رحلته تلك. ومن يقرأ محنة علي بن أبي طالب، يجد نفسه متعاطفاً معهُ. التاريخ لوحده يكفي لإعطاء صورة عن ذلك الذي جرى، إن اسطرت ذلك الحدث أفقده الكثير من مصداقيته. بل حتى عندما نقرأ شكسبير، نتعاطف مع الملك لير في مواجهة دونية ابنتيه. بل نتذكر فعل الليدي ماكبث عندما وجد ضميرها نقطة ضوء ممعنة في الصغر لينطلق منه. تلك الأحداث وتلك الشخصيات حفظها لنا التاريخ وأصبح بعضها جزءاً من ثقافتنا"(1). فالتاريخ يتعلق بمعرفة ماضي الإنسانية والبحث عن إعادة بنائه. لذا "فنحن عبارة عن ذاكرة حيث نحيا اليوم أربعة مليارات من اللحظات عبر الذاكرة الحية لماضينا بما فيه من ظلمات وإشراقات، تلك الذاكرة تؤدي بنا حسب ثقافتنا وتربيتنا إلى تذكر إنسانية كلكامش، وعمق التوحيد، وألمعية المعتزلة، وإشراق الحلاج، كما أنها تؤدي بالبعض منا إلى تمجيد أكاذيب صنعت على شكل ايديولوجيات"(2). واعتبار بعض الظلمة والمجرمين والطغاة نموذجاً للحكام الصالحين الأتقياء.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

.....................

المصادر

1-  فالح مهدي، تاريخ الخوف.. نقد المشاعر في الحيز الدائري، مصر، بيت الياسمين للنشر والتوزيع، ط1، 2020، ص50.

2-  المصدر نفسه، ص51.

يجب أن أعترف بأني لا أعرف كيف أبين في عدة أوراق تاريخاً حافلاً لا يبلغ مداه إطناب، ولا يستغرقه إسهاب، تاريخ انتظمت حقبه هالات المجد التليد من كل نوع، وأحاطت به ضروب العز الباذخ من كل ناحية، ولعل اليقين الذي لا يخامره شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن هذا التاريخ الذي عاش على أسلات الأقلام، وفي بطون المجلدات والدواوين، قد حجبه ظلامٌ قاتم فاحم في كثير من عصوره، فما سبب هذا الاحتجاب؟ وما باعث هذه الدهمة التي اكتنفت تاريخ هذا البلد الذي تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات؟ وما هو السر في انقطاع وتيرة التواصل بينه وبين دول تربطه بها آصِرة رحم، ونسب شابك، باعث هذا الأمر يتمثل في كيد الشقيق، وتدليس العدو، فتاريخ السودان في وجهة نظري القاصرة قد تعرض لمراقبة دنيئة، وإفتئات مرذول، ولم يقتصر الأمر على السودان، بل تعداه ليشمل القارة برمتها، فقد روجت مجموعة من المستشرقين حتى بداية الستينات من القرن الماضي لمقولة مفادها أن التاريخ نتاج الكلمة المكتوبة فقط، وبناء على هذا الفهم القاصر، ولما حسبوه ندرة بل انعدام للمصادر المكتوبة فيما سمّوه إفريقيا جنوب الصحراء، فقد زعم أولئك المستشرقون بأن ذلك الجزء من العالم لم يكن له تاريخ يستحق المعرفة أو الدراسة قبل اتصاله باوربا في أواخر القرن التاسع عشر. ولعل أهم ما تبنّى هذا الموقف الفيلسوف الألماني هيجل 1770-18031م الذي أطلق زعمه المشهور بأن إفريقيا قارة غير تاريخية وأن سكانها الزنوج غير قادرين على التطور والتعلم. وسار لاحقاً في الاتجاه نفسه المؤرخ البريطاني هوك تريفور روبر الذي زعم في سلسلة محاضرات ألقاها عام 1961م بجامعة أكسفورد بأن تاريخ أوربا هو التاريخ العالمي الوحيد المفيد والذي يستحق الإشادة والاعتبار.

ومن هنا شاع الزعم بأن إفريقيا السوداء عاشت في عزلة تامة وظلام دامس، وبالتالي لم تسهم البتة في إثراء الحضارة الإنسانية، بل ومثلت هذه القارة في الخرائط القديمة بفضاء واسع كتب عليه هنا مرتع السود رمزاً للهمجية والتوحش، وحتى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي الذي عُرِف بموضوعيته، لم يضمّن في موسوعاته التسع المشهورة عن تاريخ وإسهامات الحضارات العالمية أي ذكر لإفريقيا السوداء في هذا المجال.

غير أنّ دراسات علمية أخرى تبنتها مجموعة مرموقة من العلماء الأفارقة  خاصة منظمات اليونسكو الثمانية بعنوان: تاريخ إفريقيا العام  دحضت هذه المزاعم مبينة أنها نتاج للغرض والجهل، فبها أراد أولئك المستشرقون الترويج لما سمّوه  مسئولية الرجل الأبيض  نحو الشعوب المتخلفة، وبذلك تبرير الهيمنة والسيطرة الأوربية على شعوب العالم الثالث عامة والأفارقة خاصة الذين قسمت قارتهم عَقِبَ مؤتمر برلين 1884-1885م تقسيماً عشوائياً بين الدول الاستعمارية، وأهم من ذلك جهلهم التام بأفريقيا حتى القرن السادس عشر، وحتى عندما اتصلوا بها حينئذٍ فقد اقتصر ذلك على سواحلها ولم يتعداه إلى معرفة المجتمعات في دواخل القارة.

أما الجناية على تاريخ هذه الديار التي كل شيء فيها الآن معتل يفتقر إلى علاج، فيتمثل في السعي لطمس عظمة هذا التاريخ، والحرص على إخفاء صداه، فدأبت هذه الأقلام التي لم يدركها قط شيء من الخمول، طاغية باغية، موفقة أو غير موفقة، على اختلاق الكثير من الزيف والبهتان وإلصاقه بتاريخ حاز من الرتب أعلاها، ومن المعالي منتهاها، ذلك التاريخ الذي أوجد حضارة لم تألفها الأمم في ذلك العهد البعيد، ولعل من أهم الحضارات السودانية التي أدت أدواراً متميزة في مسار الحضارة الإنسانية كما يرى البروفيسور عبدالرحيم محمد خبير الحضارة الكوشية المروية 900 ق.م – 350م،  والتي عرف فيها السودان وأفريقيا جنوب الصحراء الكبري ولأول مرة ظاهرة الدولة  State كبنية سياسية مؤسسية ومشروعية سلطة منذ ما يربو عن أربعة آلاف عام بظهور دولة كوش الأولى كرمة والتي بسطت ظل سلطتها على شمال السودان الحالي وكل منطقة النوبة 2500 – 1500 ق.م ودولة كوش الثانية مملكة مروي 900 ق.م – 350م. وبلغت الدولة السودانية أقصى اتساع لها في التاريخ في العهد الكوشي المروي حيث كانت تمتد في أوج ازدهارها من شواطئ البحر الأبيض المتوسط مصر شمالاً إلى ضفاف النيل الأبيض الكوة والنيل الأزرق جبل موية جنوبا. ولعل من المدهش أن هذا الاعتراف العالمي بتفوق الشخصية السودانية وتبوأها مكاناً علياً في سلم الحضارة الإنسانية لم يصل إليه رواد علم الآثار الأوائل الذين عملوا في هذا القطر. وقد كان هؤلاء وكلهم من الأوربيين قد أنجزوا أعمالاً متنوعة في المسح والتنقيب الآثاري وبخاصة في شمال البلاد منذ فواتيح القرن العشرين، وفيما يلي الحضارة الكوشية المروية فثمة افتراضات ونظريات أثارها نفر من العلماء الغربيين حول أصل هذه الحضارة والجذور الإثنية للأسرة الحاكمة الكوشية التي يرجع إليها الفضل في بزوغ فجرها في فترة باكرة من تاريخ أفريقيا والشرق الأدنى القديم.

ومما شحذ همتي لتسطير هذا الموجز عن أصل الحضارة السودانية كوشمقال نشر باللغة الإنجليزية في مجلة “ناشونال جوغرافيك National Geographic  عدد فبراير 2008م للكاتب روبرت داربر – R. Draper  موسوم بالفراعنة السود: فصل مجهول من التاريخ يحكي عن ملوك من أدغال أفريقيا فتحوا مصر القديمة. وتنبه الكاتب إلى حقيقة هامة وهي أن مملكة كوش الثانية مروي لم تظهر بصورة فجائية على مسرح الأحداث في التاريخ إنما كانت امتداداً لدولة أفريقية قوية هي مملكة كرمةوحاضرتها كرمة عند الشلال الثالث في أقصى شمال السودان. ونوه درابر إلى آراء بعض الرحالة الأوائل من المكتشفين للآثار السودانية في القرن التاسع عشر والذين أثار انتباههم المنشآت المعمارية الرائعة المعابد والأهرامات التي تمثل أطلال حضارة كوش العتيقة أمثال الإيطالي الدكتور ج. فرليني 1834م الذي نهب العديد من الأهرامات المروية والألماني رتشارد لبسيوس 1842- 1844م الذي زعم أن الكوشيين الذين أنجزوا هذه الحضارة الراقية ينتمون إلى الجنس القوقازي شعوب البحر الأبيض المتوسط ولا صلة لهم البتة بشعوب أفريقيا الحامية. ومن الملفت للانتباه أن فرية الأصل القوقازي للحضارة الكوشية وجذورها الوافدة من السواحل البحرسطية لشمال أفريقيا ناجم من التفسير العرقي والنظرية العنصرية للفكر الأوربي في القرن التاسع عشر والذي دون شك أثرَ كثيراً في التحليلات التاريخية والسياسية والاجتماعية وتلك التي تتناول التوجه القومي لعدد غير قليل من الكتاب والمفكرين الذين درسوا السجل الآثاري للسودان خلال أحقاب التاريخ المختلفة. ومما جعل الأوربيين الذين كانوا يسيئون الظن بأفريقيا وبدولها ويستخفون بمن فيها أشد الاستخفاف، يقفون حيال هذا الاعتقاد موقفاً صريحاً واضحاً يزيل الشك، ويجلي الريب، اكتشافهم وجود تطور حضاري سابق للعصور اليونانية الرومانية التي ملأوا العالم بها تشدقاً وضجيجا، فكانوا  كلما ازدادوا قربا وبحثاً عن ذلك التراث تأكد لهم أن أوربا ليست سيدة العالم في التراث القديم، وأن تلك السيادة ربما بل وكل الأدلة تشير إلى أنها تمت على أيدي شعب وادي النيل القديم، فمن هو ذلك الشعب العظيم الذي خلف كل ذلك التراث؟ المشكلة التي واجهتهم هو المفهوم القديم الذي كان سائداً في الأوساط العلمية عن شعوب أفريقيا والذي يقسم سكانها إلى ساميين وحاميين وزنوج.

وقد ارتبط تصنيف الحاميين في ذلك الوقت باللون الأسود، وكان المصريون وقفاً لتلك التقسيمات أبناء كوش التي ينتمي إليها كل السود في أفريقيا، فكيف يعقل أن يرتبط هذا الجنس الأسود بهذا التراث الحضاري؟ وبدأت الفرضيات والتفاسير التي جعل بعضها الشعب المصري شعباً سامياً لا صلة له بالسود، ….ويبدو أن البعض الآخر لاحظ سمات العنصر الزنجي واضحة في بعض الآثار المصرية وبخاصة العناصر السوداء التي تقطن جنوب مصر، فتطورت النظرية التي فصلت الجنس الحامي من الجنس الزنجي، وأصبح سكان أفريقيا في نظر الأوربيين ثلاث سلالات رئيسة هي السلالة السامية والسلالة الحامية ونُسِبَ إليهما كل التطور والإنجاز الحضاري الذي عثروا عليه في القارة، ثم السلالة الثالثة وهم السود باقي سكان أفريقيا الذين ظلوا في المفهوم الأوربي يعيشون في مراحل التخلف وفي حاجة إلى خدمة الرجل الأبيض ينتشلهم من دنيا الظلام والهمجية إلى عالم النور والحضارة، ويرى المؤرخ السوداني الذي قرّب البعيد، وأظهر الخفي، وبيّن المُلتبس من تاريخ أرض النيلين البروفيسور يوسف فضل أنّ هذه النظرية أو التقسيم الذي جرد الزنوج من كل مكرمة لم ينضجه بحث، أو تصاحبه روية، وأن طبقة الزنوج أو الجنس الأسود أو الأفارقة تعبير فضاض يستعمل في غير دقة في هذا البحث للدلالة على السكان الوطنيين الأصلاء السود الذين ربما وضعوا اللبنة الأساسية في تاريخ هذه البلاد وتطور ثقافتها، ومن المرجح أن ذلك الشعب الأسود ظل يعمر السودان في الأجزاء الجنوبية والجنوبية الغربية كما أن مجموعات منه قد تفاعلت مع سكان المنطقة الشمالية والمنطقة الشرقية. ومن الممثلين لهذا الشعب الأسود القبائل التي تسكن دارفور وجنوب السودان والنوبة في كردفان، والنيليون الحاميون في جنوب السودان، وكان رواد هذا الجنس الأسود من سكان منطقة الخرطوم وأنهم بصناعتهم الفخار قد وضعوا اللبنة الأولى للحضارة السودانية”.

ويرى العلامة البروفيسور عبد الله الطيب رحمه الله أن الشيء الذي دلّ عليه البيان، واتسق به البرهان، أن خصيصة اللون هي التي جعلت أخياف من البشر تقطب لتاريخ هذه البلاد، وتعرض عنه، وتتآبى عليه، ويرى الراحل عبد الله الطيب أن مرد ذلك نوعاً من العنصرية جعل يحول بين العلم والعلماء وبين تتبع تاريخ هذه البلاد، وهذا أمر رغب العلامة في الوقوف عنده، ولكنه يحتاج إلى من هو أدرى مني، حسب تعبيره، يقول البروفيسور عبدالله الطيب أن هذه البلاد ابتدأت تهمش كما يقال في اللغة العصرية من حوالي القرن السادس قبل الميلاد، قبل ذلك كانت مهمة، وابتدأت تهمش ويهمش معها لون الناس، السواد يعتبر متأخراً، وأهله يعتبرون متأخرين، وهذه البلاد على حضارتها أخذوا ينكرون وجود حضارتها، وانتقلت هذه العدوى إلى المسلمين، فالصلة كانت قوية جداً بين هذه البلاد وبين الشاطئ الشرقي والتبادل كان مستمراً واستمر حتى بعد الإسلام لمدة طويلة، لأن ابن بطوطة عندما جاء في شاطئ البحر الأحمر وجد بني كاهل ووجد قبائل البجة متصاهرين مع أهل مكة وبينهم صلات واشجة.

***

د. الطيب النقر

 

أشاعت العملية السياسية، بين أوساط المجتمع، وعلى مدى السنوات العشرين الماضية، الإحساس بضعف التآزر الاجتماعي والخوف والقلق من انعدام الضمان المستقبلي والتعرض المفاجئ للخطر، وانعدام الثقة والشكوك والتطير من إجراءات السلطة وممثليها، وهم ممثلو الأحزاب الحاكمة،  مما جعل الكثرة من الشعب العراقي تجد في العزوف عن المشاركة في الانتخابات، واحدة من أوجه رفض العملية السياسية برمتها كآليات وشخوص. ولم تظهر وعلى مدى تلك الأعوام  قيم توسطية يمكنها جسر الخلاف أو قمع الشكوك وإبعاد المخاوف وتطمين النفوس، لدى هذه الشرائح الشعبية الواسعة من خلال إشراكها الفعلي  بالقرار والمسؤولية وعبر التمثيل الحقيقي والشفاف والتضامن المجتمعي، بل العكس دائما ما كان أداء السلطة وأحزابها يغذي نوازع الفرقة ويكون مجافيا وبعيدا عن طموح الجماهير ومحبطا لمشروعية آمالها بالحرية والتقدم والديمقراطية.

 ونتيجة لهذا الشرخ الفاضح والمؤذي. فنحن بحاجة ماسة لمعرفة وتدقيق مجموعة القيم التي من خلالها نحكم بشرعية مؤسسات السلطة ومدى تمثيلها لطموح الناس وتطلعاتهم، وقبلها معرفة مدى المشاركة الجماهيرية التي تدعمها الوقائع، وعلى وفقها تم تفويض تلك المؤسسات لتمثيل الجماهير التي انتخبتها.  وتتمثل تلك القيم منذ البداية بحقيقة التفويض وشخوصه وغاياته وشفافية البرامج ومسؤوليتها في الشراكة البعيدة المدى القانونية والسياسية،وتوفر نظام اقتراعي منصف وتبني أساليب مكشوفة توفر إجراءات تسجيل وتصويت للجميع،مع قانون ونظام عمل حزبي منضبط يقر بالتعددية السياسية ويقصي بعيدا لغة السلاح، مع تمتع جهة الإشراف باستقلال كامل عن سيطرة الحكومة والأحزاب، وقبل كل هذا، البحث في مدى عدالة وفعالية القوانين التي تحكم التنظيم الحزبي الداخلي وطبيعة الحرية السياسية التي يتمتع بها أفراد التنظيم ووسائل تمويله المالي . وهذه القيم بالذات تستخدم كمقدمة لفهم مجريات العملية الانتخابية الديمقراطية.

 ولكننا دائما ما نجد تلك القيم تختفي ويستغنى عنها لصالح مصالح حزبية وفئوية، مما يجعل النوايا تبتعد ببون شاسع عن خيار البحث عن ضمانات لعملية انتخاب شفافة وحقيقية وفاعلة، وعندها ينتج إثرها وبشكل فج مؤسسات لا تملك غير شرعية الأحزاب والقوى التي أدارت العملية الانتخابية وفق خياراتها وأساليبها، بعد أن أقصت بالقوة والعنت جميع تلك القيم. ونتيجة لطول عهد وتكرار تلك الممارسات والتدخل الفج لقوة المال والسلاح،لذا وجدت آليات لدولة عميقة حقيقية تتحكم وتدير دون حياء وخوف وبعيدا عن رغبة الأغلبية، قواعد وطرق العملية الانتخابية.

فمجموعة القيادات والشخصيات السياسية التي شاركت المحتل الأمريكي وعملت تحت شروطه ووصايته، شرعت بوضع آلية اختزال الحراك المجتمعي وتقنينه عبر تصعيد الانفعالات ونوازع الشد والنفرة والتطير الطائفي والقومي، ونجحت محاولاتها تلك في شطر لحمة المجتمع العراقي على هشاشتها إلى أنداد وخصوم، لتطفو على السطح بشكل فج وقبيح تلك التشوهات وتصبح قواعد ومعايير في احتساب الولاء للجماعة، أو ما روج له وأطلق عليه التخندق أو التآزر المجتمعي القومي والطائفي ومثله المناطقي .

 ومع ضعف السلطة صعدت القبائل من سطوتها ومكانتها كمنظومة اجتماعية سياسية لها دور فاعل في تقرير مصائر الأفراد والجماعات والتأثير في أعمال مؤسسات الدولة، وقبلها في سير العملية الانتخابية. ومثلها فعلت المؤسسة الدينية لتحل رؤيتها وفتاويها في الكثير من الأوقات بديلا عن القوانين الوضعية والدستور، وساعد هذا التصعيد، على استشراء ظواهر هجينة وغريبة في المجتمع، ولعبت البطالة والجهل المجتمعي الفعل المؤثر في تفجير الخصومات وشق الصفوف وبناء استحكامات خاصة لخلق التضادات.

شكل ظهور الفصائل المسلحة وبالذات التابعة للتنظيمات الحزبية والدينية، الملمح الأكثر سطوة ونفاذا في تفجير الخطر الداخلي ورفع مستوى العدوانية في العلاقة بين التشكيلات المجتمعية، ليسفر عن  عداوات وتشنجات تتبنى منهج محاربة وقمع ما سمي بالمخالف فكريا وعقائديا. وخلق مواجهات مفتعلة بادعاء الخوف من الأخطار المحدقة جراء محاولات انتقام يمكن أن يقدم عليها الخصوم.

 وترسيخا لتلك الهواجس وتعميما للغة الخصومة والترقب والخوف، فرض على الكثيرين تسليم زمام قيادتهم واجبروا على الخضوع لقانون الولاء الأعمى للجماعة أوالطائفة والعرق أو العشيرة أو المنطقة، وقبول ما يملى عليهم، ليتحول الفرد إلى رقم في مجموعة الصنف المدجن، ليصل في البعض من الحالات إلى ما يشبه الغيبوبة وفقدان الوعي، حيث يسلم الفرد مصيره لما فوق، دون إثارة التساؤلات، وعندها لا يجد الفرد ضيرا في مواقف التبخيس التي يتعرض لها، ولا حتى في حالة فقدان قيمته الإنسانية.

ففي مثل هذا الولاء الأعمى يكون التنظيم القوي المدجج بسلطة المال والقوة هو الحاضن والرفقة التي تضمن للفرد الحماية قبل أية مؤسسة أخرى. وعندها يصبح ولاء الفرد ناجزا وغير خاضع للريبة والقلق. فالتنظيم هذا يكون مصدرا للاحتماء من الخصوم، وفي ذات الوقت مصدرا للرزق، ويجد الفرد في ذلك الحيز ما يضفي عليه نوعا من التوازن النفسي، ولا حاجة له للتفكير فيما هو صالح أو طالح، فهناك من يفكر بدلا عنه، ولديه القدرة على إبعاد التهديد الذي يراه حسب التفسير العقائدي قادما لا محال من الطرف الأخر

ولا تبتعد العديد من مؤسسات الدولة عن مثل هذه المشاهد المشوهة وتلك الحالات المعقدة. فأوامر وتوجيهات الأحزاب المشاركة بالسلطة تلعب أدوارا حاسمة ومؤثرة في تراتيبية وسلوك تلك المؤسسات، وغالبا ما يكون ولاء مدرائها و الكثير من طاقمها الوظيفي ناجزا ومؤثرا لجهة حزبية بعينها وعلى وفق طرق البناء المحاصصي الذي بنيت عليه مؤسسات الدولة بعد التغيير عام 2003 .

ولذا انعكس تأثير تلك الولاءات في مشاهد ضعف الحراك الجماهيري واقتصاره على مجاميع ليست بالكبيرة نسبة لأعداد المتضررين من سياسات السلطة. ولذا نرى من الخطأ والإجحاف منهجيا دراسة حراك الشارع العراقي وميول أفراده الشخصية وكتله المجتمعية، وتأثير ذلك في النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية المتعددة أو انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، دون البحث في العلاقة الجدلية بين طبيعة تلك الموالاة والإصطفافات الفردية والجماعية، وقوة تأثيرها في مجمل وقائع الحراك الجماهيري أو في نتائج الانتخابات. والتي أصبحت اليوم سمة مميزة لواقع العملية الانتخابية في العراق. فالولاءات الشخصية والدينية والحزبية والعشائرية وحتى المناطقية، وبسبب السياسات التي اتبعتها السلطات الحاكمة على مدى العشرين عاما الماضية، باتت الفضاء الواسع الذي تتمكن من خلاله الأحزاب، فرض سطوتها وخياراتها للسيطرة على نتائج الانتخابات ومن ثم إحكام قبضتها على مفاصل الدولة العراقية ومؤسساتها.  

***

فرات المحسن

التاريخ هو: (الوعاء الذي يحتوي على كل مظاهر الوجود الإنساني. فوجود كل شيء تاريخ. والتاريخ هو وجود الأشياء جميعاً، فمن غير الممكن التحدث عن الإنسان دون تاريخهُ، كذلك نفس الشيء قوله عن الطبيعة والوجود. فضلاً عن اهمية كيفية قراءة التاريخ، ومن الممكن تطبيقها على اوضاع العراق الحالية، أي كل باحث ملزم بقراءة التاريخ وتحليله والنظر فيه. والتاريخ نسبي، والأحداث حقائق ووقائع وتراكم وعي الذات. وحقيقة التاريخ هي تراكم وعي الذات، وهي إنتاج ثقافي ومنظومة فكرية حية، والرؤية الفلسفية للتاريخ تعكس في ملامحها العامة والخاصة الرؤية الثقافية.

والصيغة المثلى للنظر إلى التاريخ من خلال التجارب المتنوعة التي تتوقف آفاق تطورها على كيفية حل الاشكاليات الواقعية الكبرى التي تواجه الدولة والمجتمع والثقافي، فالتاريخ لا يعرف قوانين حتمية وإنما هو تجارب وبحث عن البدائل، مثال ذلك: لم تكن ثورة تموز 1958م حتمية تاريخية أو ضرورة كما يضعها بعض الكتّاب ذات الميول الايديولوجية الماركسية، فكل ما حدث لهُ اسبابه ومقدماته، لأن فكرة الحتمية والضرورة تصبح أكثر اشكالاً في الحياة السياسية، لأن الحتمية في الحياة السياسية جزء من الاحتمال. فما حدث يوم 14 تموز 1958 بدايته انقلاب عسكري قام به مجموعة من الضباط الحرار ثم تحول لاحقاً بعد ألتفاف الجماهير حوله إلى ثورة، فتدّخل الجيش المباشر هو انقلاب على شؤون الحياة السياسية والمدنية، وهو مؤشر لضعف الدولة والنُخب السياسية، مما جعل من العسكريين الذي قادهم الزعيم عبد الكريم قاسم مغامرة لتغيير الحكم الملكي، ثم جرى بعدها سلسلة من الانقلابات وانعدام الاستقرار الأمني، واحتقار القانون من خلال تسخيره كمآربهم الضيقة.

مع العلم أن ثورة 14 تموز 1958 هي فعل تاريخي كبير، لكن تدخل الجيش في حياة الدولة والمجتمع فتح الأبواب لصعود التيارات السياسية الغير قادرة على قيادة الدولة، كما كانت أقرب إلى قوة الطوفان العارم في الذاكرة العراقية. ثم تبعتها احداث أخرى منها انقلاب 8 شباط 1963، وهو استمرار لانقلابات عسكرية أخرى، فتحت الطريق أمام المغامرة لسهولة استلام السلطة، واشتراك الحثالة الاجتماعية في الانقلاب وجعل الدولة تابعة لتلك الحثالة، بحيث تحولت الدولة إلى اضعف شيء، وجعلت هذه الحثالة من السلطة الشيء الوحيد المطلوب والمرغوب ليتمتع بالسلطة وقتل المنافسين، مما ساهمت هذه الفئة بالخروج عن القانون وسحقه مع الدستور، وتحويل تاريخ العراق إلى مجرد تاريخ للجريمة والتخريب، ثم تبعها انقلاب 17 تموز 1968، لتصنع معايير لرؤية الانحلال الاجتماعي وقتل الروح الوطنية، وتبعها الانحطاط الثقافي العام والتخلف السياسي بسبب تفسح الدولة، وجعلت من السلطة الشيء المقدس وعسكرة الثقافة والمجتمع، ثم انتعشت الطائفية كانتعاش الطاعون، لتعود إلى صانها الرئيسي الدولة الأموية بوصفها سنّة للسلطة وقانون يحكم سلوكها، فالطائفية بدايتها ذات ابعاد سياسية، وهي ظاهرة مصطنعة رغم تاريخها العريق، والطائفية الاداة التي تقتل فكرة المواطنة والعدالة والمساواة وتتعارض مع العقل النقدي والروح الإنساني واستعادة للانغلاق والأذية الأولى.

إن اشكالية كتابة التاريخ هي اشكالية التاريخ نفسه، فالتاريخ تراكم يتحول بالضرورة إلى مؤسسات وتقاليد ومبادئ ضابطة للسلوك الفردي والاجتماعي، امثال ذلك: المبادئ والقيَّم والأعراف والتقاليد المغروسة في الوعي والمؤسسات. أما فكرة إعادة كتابة التاريخ فتلك جريمة لا تغتفر، أي بمعنى نقف أمام محاولة جديدة لقطع ما لا يعجبنا لرميه في مزبلة التاريخ، أو كتابة التاريخ وفق الايديولوجية والخطاب السياسي لقلب الأمور كلها رأساً على عقب لنجعل من التاريخ ارجوحة تعلو وتهبط وفق امزجة أزلام السلطة. ومهمة المؤرخين التعامل مع الماضي والحاضر بمعايير موضوعية وفق الانتماء الثقافي لنجعل من الماضي مصدراً مهماً لوعي الذات.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

دخل عراق ما بعد (2003) عامه الواحد والعشرين، وكان الأمل حاضراً قُبيل كلّ انتخاب، وآخرها كان في (18 ديسمبر2023)، لكنْ ظل «القديم هو الجديد»، فصائل تتخذ مِن كهوفها عواصم بديلة عن بغداد، وجرف الصّخر شاهد.

بعد هدم الدَّولة العِراقيَّة تمت السّيادة للقبائل والفصائل، فتكون اللادولة واقعاً، إذا صار «جرف الصَّخر عاصمة، تسجن وتخطف، وحصتها من الميزانيّة معلومة! وكنت كتبت «بغداد لا أبو هاون» (الشرق الأوسط)، عندما أراد أحدهم التباهي بالنعمة، التي هبطت عليه، وكان «أحَذَّ يَدِ القَمِيصِ»، على حساب بغداد، ما زال صاحب هذا العبث بلا مساءلة عن دماء الشباب ونهب الثّروة. فلماذا يُلام العراقيّ على ما هو فيه مِن الهيمنة العشائريّة والفصائليَّة؟! وقد استبدلت القبائل والفصائل بالدَّولة؟ أحزاب وجماعات شاهرة معاولها للهدم، والدّيمقراطية تغسل العظائم، يجري الهدم بغطاء تشييد نظام (جديد)، مع أنّ الذين سرهم الهدم، مِن الأغراب والأصحاب، ستهدم أحلامهم نفسها.

لم نجد في التّاريخ العربيّ الإسلاميّ مصنفات في القبائل، إلا ما نزر وندر، قياساً بالمصنفات التي تناولت الدّين والدُّول، مع أنّ القبيلة ظلت فاعلة، في الغزوات والفتوحات، ولكن تحت راية الإسلام الشَّاملة، فبدل ديوان زعيم القبيلة ظهرت دار الإمارة والمسجد. من الكتب التي اختصت بالقبائل، ووصلت إلينا «مختلف القبائل ومؤتلفها» لمُحمَّد بن حبيب(ت: 245هج)، و«القبائل»، وأظنه مِن المفقودات، لمحمّد الزَّاهد غلام ثعلب(ت: 345هج)، ناهيك عن وجود كتب اختصت بشعراء القبائل.

ما يخص العراق يبقى «عشائر العراق»(1937-1956) لعباس العزاويّ(ت: 1971)، الأساس لكل مَن كتب بعده، اختص الجزء الثّاني بالعشائر العراقيّة الكُرديّة، وقبله كتب إبراهيم صبغة الله(ت: 1882) عن العشائر العراقيّة، لكنه اقتصر على القبائل العربيّة والكُرديّة، ومع أنه كان كردياً، إلا أنه أخذ بخرافة الأولين عن أصل الكُرد(عنوان المجد 1869).

اشتد الاهتمام بالقبائل بعد (2003)، عندما برزت القبيلة موازية، حتى مجاميع في الوسائط الاجتماعيّة صُنفت بأسماء القبائل، وقد دُعيت شخصياً إلى الانضمام، ولم أجب خجلاً، مِن العراق نفسه. مقابل ذلك لما شعر الفقهاء أنَّ القبيلة، أخذت تُنافسهم ظهر ما عُرف بـ«فقه العشائر»، ففيها ما يُبطل حكم أو دور القبيلة لصالح الفقيه لا الدَّولة، ولم يكن المقصد وطنياً.

لكنَ، خارج مَن عرفوا بشيوخ التسعينيات، غير الأصلاء، لعبَ شيوخ القبائل، منذ تأسيس الدّولة الحديثة، دوراً في بسط نفوذها لا نفوذهم، ومَن يطلع على نص «قانون دعاوى العشائر المدنيّة والجزائيّة 1922» يجد مواده لصالح الدّولة، فأخذ دور القبيلة يتناقص، بظل شيوخ متنورين وواعين لمعنى الوطنيّة، ولا تغفل حملات التسقيط ضدهم، وتقديمهم جهلةً، وهذا مخالف للواقع. ليس كما هو الحال اليوم، تُطارد القبائل الأطباء، وليس أكثر مِن مجالسها لفرض الدِّيات، لأتفه الأسباب.

أما عن الفصائل، وقد غذتها القبائل بأبنائها، وتتدخل عن طريقهم في الشّأن العام، فهذه فصائل مسلحة، وتلك قبائل مسلحة أيضاً، فقد وصل عددها إلى سبعين ميليشيا، منها لها أمنها الخاص وشرطتها الخاصة ومعتقلاتها، ومعسكراتها موزعة على المحافظات، ماعدا إقليم كردستان، الذي منذ (1991-1992) حُصرت القوى الأمنيّة والدفاعيّة بيد سُلطة الإقليم، مع الانفلاق الذي لم يسده توحيد أربيل والسّليمانيّة، لكن مع ذلك لا توجد سلطة أمنية غير ما يعرف بـ«الأسايش»، وقوات «البيشمركة»، أما حرس الحدود فمرتبط ببغداد مباشرة.

تعمل القبائل والفصائل على جعل العِراق دولةً كسيحةً، لتبقى غنيمةً لأمد بعيد، وكذلك عملت قوى خارجيّة الدّور نفسه، خوفاً مما صوره أبو العلاء المعريّ(ت: 449هج)، قبل ألف عام: «وبالعِراقِ وَميضٌ يَستهلُ دَماً/ وراعدٌ بلقاء الشّرِ يرتجزُ/ وآخرُ الدَّهرِ يُلفى مثل أوّلهِ/ والصَّدرُ يأتي على مقداره العَجُزُ»(لزوم ما لا يلزم).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

هل حقا انقشع ضباب الاستعمار عن سماء الاوطان العربية، أم أن ما يعكسه المشهد العام هو على النقيض من ذلك، حيث يرى عالِم الاجتماع الامريكي إدوارد شيلز، أن المثقف هو الشخص المُتعلم الذي الذي لديه طموح سياسي إما بصورة مباشرة من خلال السعي ليكون حاكماً لمجتمعه، او بطريقة غير مباشرة يسهم في صياغة ضمير مجتمعه. إن الانتلجنسا لها تعريف متعدد الوظائف لا يمكن حصرها بعنصر واحد بحيث تتعدد تعريفاتها. لكن، ما يهمني هو تأكيد طبيعة هذه الاشكالية التي تعتري هذا المفهوم وتأثر على البنية الفكرية للانتلجنسيا العربية ببقايا الاستعمار في فترة الكولونيالية الجديدة وما بعد الكولونيالية، لان اي تأثر بالثقافة الاستعمارية هو دليل على حضور المستعمر داخل الجسم الثقافي العربي و استحكامه بفعل القدرة على توجيهه معرفياً وعقائدياً واقتصادياً وثقافياً.

وتظهر القراءات التاريخية أن الانتلجنسيا العربية قد تأثرت تأثراً كبيراً بالكولونيالية بصيغتها الكلاسيكية والمستحدثة التي يخطئ من يظن فيها دور الاستعمار قد ولى لذلك إن هذه المقالة هو التركيز على الهوية العربية المستهدفة والمضطهدة بشتى الوسائل لطمسها والغائها وتغيبها عبر استراتيجيات قاتلة وشيطانية تهدف الى تشويه صورة الانسان العربي والاسلام عن طريق حملات اعلامية تستهدف العقل العربي والذاكرة الجماعية عبر مشجموعة ادوات اسهمت في خرق المجتمعات العربية وتشويهها وتزوير التاريخ من أجل خدمة الاجندة الاستعمارية وذلك عبر القوة الناعمة والمعرفة وعمالقة الاعلام التقليدي والرقمي عبر نشر التفاهة وتسطيحها بفعل طبيق نظرية القطيع من خلال التلاعب بالعقول وتمكين النسيان كما هو الحال مع القضية الفلسطينية.

وهنا، أتساءل لماذا ندور دائما في حلقة مفرغة من الاستبداد والمظلومية المتداولة والتي لا حلول لها سوى بتجديد حكم المستبد دون مساءلة او محاسبة. إن سؤال وجيه، والجواب عليه بديهي بعد سلسلة ممنهجة من التدمير والتخريب عبر عملاء بالوكالة تم زرعها من قبل الاستعمار تخدم المشروع الكولونيالي في المنطقة من خلال مبدأ القوة والهيمنة والسلطة التي استطاعت عبر قرون تأبيد هيمنتها واستفحالها عبر بروغندا تقوم على الكذب حتى باتت الكذبة حقيقة غير أن عملية طوفان الاقصى اعادت الاعتبار لكبرياء هذه الامة من خلال تعرية حقيقة الغرب الذي يتشدق بحقوق الانسان والعدالة والمساواة وكشفت حقيقة الخداع الممتدة عبر قرون والذي يفيد بنشر التعددية والعملمانية المزعومة عبر احترام حقوق الانسان والاقليات، إلا أن كل ذلك كان كذبة كبير تم خداع وايهام العالم به، فالغرب في معظم أحقابه التاريخية لم يكن علمانيا، والكنيسة المسيحية بكل تأكيد لم تدعُ الى العلمانية، فكيف لنا أن نزعم بأن العلمانية مندرجة في تعاليم المسيحية لان ما نشهده من عملية تصنيف وتميز عنصري من قبل الغرب الاوروبي وارثه الاستعماري ليس الا موروث ديني يقوم على تدنيس الاخر بسبب نزعة العرق الاعلى او المتفوق على باقي الشعوب فعملية القتل العباد والاطفال والنساء هي سلسلة ممنهجة لا تنفصل عن التراث اليهودي- المسيحي الذي ينبغي مراجعته لانه يحتمل الكثير من القراءات التي تحث على التدمير والترفع ان العالم السفلي مدنس، فالخطيئة التي منيت بها المسيحية انه تم تسيسها وصهينتها، بدليل تصريحا البابا فرنسيس الذي دعا الى الاعتراف بالمثليين وزواجهم فضلا عن تفاصيل كثيرة تعتري الفاتيكان ومواقفها لكن ما يهمنا، هو ان التعويل فقط على الانتصارات العسكرية فقط دون متابعة ورصد وملاحقة للحدث اي السابع من اوكتوبر، هو بمثابة عملية انفعالية وردة فعل اكثر منه فعل اذا لم تترجم هذه الانتصارات بمشروع فكري مناهض ومواجه لسياسة الاستعمار سواء من خلال الدراما العربية والعمل التوثيقي والاعلام وبخطاب عربي جديد يليق بتضحيات القضية ونضالاتها وشهدائها.

بالختام، إن إعلان محكمة العدل الدولية، بأنها تلقت طلباً من جنوب افريقيا لبدء إجراءات ضد إسرائيل لاتهامها بارتكاب «أعمال إبادة ضد الشعب الفلسطيني» في قطاع غزة باعتبار أن نضال شعب جنوب افريقيا يقاسم فلسطين تجربة إسقاط نظام الفصل العنصري للأقلية البيضاء، في حين أن مواقف بعض الدول العربية المؤثرة لم يصدر عنها اي موقف يذكر بهذا الشأن. فمن المهم أن نتعلم من تجرب جنوب افريقيا كيف تصدى لقوى الاستعمار وكيف قام بمراجعة علاقته بالمستعمِر وفق ادبيات جديدة تعبر عن الادب الافريقي المقاوم للرواية الاستعمارية والتي يطلق عليها هوسرل بالاختزال الوضعاني لفكرة العلم، فلطالما كان العلم بحسب الحضارة الغربية عبارة عن معرفة تهدف الى تحقيق السلطة الهيمنة على الشعوب الاخرى من خلال استغلال الرواية التوراتية في خدمة المشروع الصهيوني الاستعماري على ارض فلسطينية، الامر الذي يطرح تساءلات عديدة مطلقة بالمحرقة اليهودية في اوروبا ما اذا كانت حقا استهدف ستة مليون يهودي وابادتهم ام انه كذبة تم استغلال اليهود واليهودية بهدف تحقيق المشاريع الاستعمارية في الشرق الاوسط ؟ وان الغرب التنويري ليس الاّ خدعة تم فيها ايهام اليهود بحقهم بالوجود من اجل هذه الاهداف الشيطانية وتفكيك وتدمير هذه المنطقة وفق مفهوم الانقسامية لبول باسكون (1985-1923)، والذي يقوم على تفسير عامل الانشطار حين يصبح الواحد مصدرا لاجزاء جديدة تتفرع عنها وحدة سلالات جديدة من الانقسام والتمزق بهدف السيطرة؟

إن عدم مراجعة هذا الموروث الاستعماري وتصحيح ادبياته ومناهجه الفكري يسهم في توليد العنف المعرفي والفكري وتوريثه الى الاجيال دون محاسبة، ما يجعل العالم امام قطيعة وانفصال بدلا من المراجعة وتصحيح المسار التاريخي والإستعماري من أجل خدمة المشروع الوطني والهوية الوطنية والحد من نزعات العنف والتطرف والاستعلاء الغربي والتأكيد على لغة الخصوصية لدى الجماعات المحلية والاصيلة بهدف التلاقي والتسامح والحوار والنقد والمراجعة بهدف تطوير الحداثة السياسية، فنزاعات اوروبا القومية لم تكن الا مشروع حرب يهدف الى تطوير تلك المجتمعات بحجة التجانس القومي وتطوير مفهوم الدولة واحداث تحول في السلطة المطلقة والانتقال نحو الحداثة.

***

كتابة: أورنيلا سكر

 

ترجمة: عباس علي مراد

عنوان المقال بالانكليزية

Australia’s institutional silencing of those who dare to object to mass slaughter

BERNARD KEANEDEC 21, 2023

Crikey

***

إذا تجرأت على التحدث علنًا ضد القصف الإسرائيلي لغزة في أستراليا، فإنك تخاطر بالتعرض للرقابة أو فقدان وظيفتك، لأن أي انحراف عن الخط المؤيد لإسرائيل يعتبر مشكلة.

إذا كنت تعرف أين تمكن مصلحتك، فلا تتحدث علناً في أستراليا ضد المذبحة الجماعية العشوائية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة.

لا تدعوا إلى العدالة والتوازن في التغطية الإعلامية. لا تدقق في ادعاءات المدافعين عن إسرائيل وإسرائيل نفسها.

 لا تذكر أن إسرائيل قد ترتكب جرائم حرب. لا تقولوا أن هذا فصل آخر في صراع أطول بكثير شهد فظائع وهمجية وعنفًا جنسيًا ومذابح من جميع الأطراف.

لا تشيروا الى أنه يجب الحزن على الأطفال الفلسطينيين الذين ذبحتهم القنابل الإسرائيلية بقدر الحزن على الأطفال الإسرائيليين الذين ذبحتهم وحوش حماس الفاسدة.

إن الرقابة التي فرضتها مؤسسة القناة التاسعة الأعلامية على الصحفيين كانت بمثابة ضربة خطيرة للصحافة الحرة.

وفي أحسن الأحوال، سيتم تصنيفك كمعاد للسامية، أو مؤيد للاغتصاب وقطع رؤوس الأطفال. إذا كنت صحفيًا أو عضوًا في البرلمان، فسوف تتعرض لانتقادات علنية من قبل قادتك. قد تكون وظيفتك مهددة، وقد تخضع للرقابة وقد تفقد وظيفتك.

لنأخذ على سبيل المثال رئيس وزراء نيو ساوث ويلز(من حزب العمال)، كريس مينس، الذي كان يدير عملية الدفاع عن إسرائيل. وبعد أسبوعين من فظائع حماس التي بدأت الهجوم الأخير، انتقد مينس نوابه لتوقيعهم رسالة تعرب عن دعمهم لفلسطين وطالبهم "بالتحدث بصوت واحد". كما هاجم مينس أنصار الفلسطينيين، وقال إنه لن يُسمح لهم بالاحتجاج والتظاهر، واشتكى من تكلفة مراقبة الشرطة بشكل مكثف لهم. كما وبخ مينس نواب حزب العمال الذين انتقدوا إسرائيل منذ ذلك الحين.

أيضاً، فقد هاجم مدراء وسائل الإعلام التجارية الأسترالية الصحفيين الذين دعوا إلى التوازن في التغطية. مؤسسة القناة التاسعة الأعلامية  تفرض رقابة على الصحفيين الذين وقعوا على رسالة مفتوحة تدعو إلى التوازن والدقة في تغطية الصراع، حتى صحيفة صحيفة الغارديان الأسترالية والتي عادة ما تكون أكثر وعياً وتوازناً انتقدت الصحفيين الذين وقعوا على الرسالة.

شركة نيوز كورب لم تكتفي بدعم المذبحة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل بصورة آلية فحسب، بل عملت جاهدة على تأطير أي شيء أقل من الدعم الكامل لإسرائيل باعتباره معاداة للسامية. وقد انخرطت في مطاردة أي شخصيات إعلامية فشلت في دعم إسرائيل بشكل كافٍ، وسخر أحد صحفيي نيوز كورب من " مدوني المومياء"  الذين يعبرون عن دعمهم لسكان غزة، وتشويه سمعتهم والقضاء على مصداقيتهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم ممن قد يفكر في دعم الغزاويين وانتقاد أسرائيل.

أيضاً، الصحفيون من هيئة البث الأسترالية أي بي سي (ممولة من الدولة) الذين وقعوا على الرسالة المفتوحة تعرضوا لانتقادات، وقد قامت أي بي سي بطرد المذيعة ا أنطوانيت لطوف بسبب دعمها لفلسطين على وسائل التواصل الاجتماعي. وكانت لطوف قد شاركت في كتابة مقال ل"كريكي" أشارت فيها إلى عدم وجود أدلة على الادعاءات التي روج لها أنصار إسرائيل وشركة نيوز كورب بأن المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين هتفوا "بقتل اليهود بالغاز" امام دار الأوبرا في سيدني.

شكك في السردية المؤيدة  لإسرائيل، واخسر وظيفتك – حتى لو لم تكن تعمل كصحفي.

سلوك شركة نيوز كورب هو المعيارونموذج أعمالها هو الترويج للكراهية والانقسام والتظلم الأبيض. وتعتقد نيوز كورب إن صمت المدافعين المتعصبين عن حرية التعبير عن الهجمات على الصحفيين ليس مفاجئًا - فحرية التعبير لا تُستخدم إلا للضغط على شركة نيوز كورب، حتى ولو أدى دعمها لإسرائيل وتشويه سمعة منتقديها إلى المزيد من ذبح الفلسطينيين والخلق الحتمي لجيل آخر من الناس الغاضبين والمظلومين المصممين على الانتقام من إسرائيل، فذلك أفضل لأنه  يمكن استغلال الإرهاب كجزء من نموذج الأعمال. وقد رأينا ذلك في "الحرب على الإرهاب" الفاشلة، التي هللت لها "نيوز كورب" بحماس منذ البداية.

لكن سلوك وسائل الإعلام الأخرى وإن لم يكن بنفس القدر من التطرف، فكان يهدف أيضًا إلى تطبيع موقف غير انتقادي تجاه إسرائيل وتصوير أي شيء آخر غير الدعم على أنه إشكالي. لا يتعلق الأمر فقط بإقالة الأشخاص أو فرض الرقابة عليهم، بل يحدث بطرق بسيطة أيضًا. على سبيل المثال، ركزت الروايات المستمرة من وسائل الإعلام السياسية، وخاصة في صحف القناة التاسعة ، على كيفية انقسام حزب العمال بشأن غزة، وكيف أن هناك شيئًا إشكاليًا في أي شيء أقل من التوافق الكامل مع إسرائيل.

خطاب وسائل الإعلام الأسترالية عن غزة يكشف النضال من أجل الحقيقة في أستراليا، لنأخذ مثلاً تغطية تصويت الحكومة في الأمم المتحدة، إلى جانب 152 دولة أخرى بما في ذلك فرنسا وكندا ونيوزيلندا والنرويج وإسبانيا واليابان، للدعوة إلى وقف إطلاق النار الأسبوع الماضي فالعناوين الرئيسية لصحف القناة التاسعة في تغطيتها كانت هكذا "أستراليا تغضب إسرائيل بتصويت الأمم المتحدة المفاجئ على وقف إطلاق النار".

فقد ركزت تغطية صحف القناة التاسعةعلى ان تظهر للقراء بأن التصويت "لم يذهب إلى مجلس الوزراء للموافقة عليه"، "وكان بمثابة صدمة للعديد من كبار الوزراء" وأزعج بعض "المجموعات اليهودية البارزة". ونقلت آراء السفير الإسرائيلي على نطاق واسع، ومنحت السيناتور الليبرالي ديف شارما البوق الدعائي لنتنياهو مساحة لاتهام بيني وونغ(وزيرة الخارجية)  بـ "الاستسلام". كل ذلك من أجل دعوة لوقف إطلاق النار تتضمن المطالبة بالإفراج عن جميع الرهائن.

ثم أعقب ذلك مقال مفصل حول كيف كان القرار بشأن التصويت "سريًا" وانقسام حزب العمال، ثم مقال آخر ادعى أن حزب العمال "يتعرض لضغوط لاتخاذ موقف كموقف أقرب شركائه الأمنيين الدوليين" واتهام الحزب بعدم التحرك بشأن فرض العقوبات على حماس.وحتى نكتشف حقيقة تلك الادعائات كان علينا  أن نقرأ المقال إلى النهاية لنكتشف أنه كان يعيد تدوير نقاط الحديث لوزير خارجية الظل في الائتلاف سيمون برمنغهام، بدلاً من أن يعكس أي تصريحات أو "ضغوط" أو اتهامات من العالم الحقيقي.

لكنك فهمت الرسالة: أي شيء أقل من الدعم القوي لإسرائيل يمثل مشكلة، ويعكس المعارضة الداخلية ونتاج القرارات المتخذة سراً. فالطبيعي هو دعم إسرائيل دون أدنى شك. أما الأمر غير الطبيعي فهو التشكيك بأي شكل من الأشكال في الرواية الإسرائيلية، أو التعبير عن القلق بشأن مقتل 20 ألف فلسطيني (مع التحذير من أن هذا العدد "وفقاً لوزارة الصحة التي تديرها حماس في غزة"). أنسى، ذلك على مسؤوليتك الشخصية.

وفي ختام مقالته قدم الكاتب الكشف التالي: وقع برنارد كين على الرسالة المفتوحة في نوفمبر التي تدعو إلى تحسين التغطية للصراع بين إسرائيل وغزة، وفي عام 2016 زار فلسطين كضيف على شبكة مناصرة فلسطين الأسترالية.

***

 

ما يحدث في غزة الآن يحتاج إلى تأمل وإلى دراسة، خاصة ما يتعلق بردود الأفعال الدائرة حول الأحداث الكارثية التي تقع على مرأى ومسمع من العالم كله دون أن يحرك أحدهم، ممن يملكون سلطة اتخاذ القرار، ساكنا. والحقيقة المؤسفة أن الأحداث الكارثية لا يقابلها إلا صمت لا يقل كارثية، لأنه صمت متخاذل أمام عملية إبادة جماعية ممنهجة للقضاء على شعب كامل!

ويقينا لا يحتاج الأمر إلى تأمل ودراسة بقدر ما يحتاج إلى تدخل فعلي لإيقاف آلة الحرب غير الشريفة، التي لم تكتف بالقضاء على النساء والشيوخ، ولكن هجمت بوحشية لتغتال براءة الأطفال. غير أن موقف الصمت العاجز يفرض على الوعي الحائر هذه الوقفة التأملية الدارسة لأسباب الهزيمة النفسية وشيوع روح اللامبالاة تجاه ما يحدث للعرب عموما وللفلسطينيين على وجه الخصوص.

لا يخفي أن هناك اعتبارات سياسية وتاريخية معقدة يمكن أن تفسر موقف الحكام، وهي مسألة تخص علم السياسة، لكن يظل موقف الشعوب، العربية بخاصة، هو الذي يحتاج إلى دراسة من نوع آخر. دراسة فلسفية، فينومينولوحية، تتعلق بالفرد والمجموع، وتبحث في الكيفية التي تأسس بها المفهوم في الوعي، أي حضور القضية في العقل العربي الجمعي.

ولما كان البحث الفينومينولوجي يستوجب البدء من الذات، وتحديدا من اللحظة التأسيسية التي خبر بها الوعي موضوعه، فإننا سنبدأ من الأنا، ولتكن الذات الكاتبة، أو الساردة، هي موضوع هذا البحث.

وبهذا المعنى، أجد لزاما علي أن أعود إلى سنوات حياتي الأولى عندما كنت في الصف السادس الابتدائي وسمعت مدرس الحساب، الذي كان يدرس لنا المواد الاجتماعية! يتهكم قائلا: "فلسطين.. أولها فلس وآخرها طين". وكنت قد سمعت عن فلسطين والقضية الفلسطينية من قبل من خلال التلفزيون والإذاعة المدرسية، لكني كنت أصغر من أن أفهم أبعاد القضية، فظلت الصورة في وعييّ ضبابية. وربما لهذا السبب تفاعلت مع الدعابة اللغوية الممجوجة بالابتسام، لكني، مع ذلك، حاولت أن استنبط معنى القضية من التحليل اللغوي الهزلي الذي قدمه المدرس خفيف الظل! وفهمت أن المسألة ربما تتعلق بالأمور المالية للدولة وكونها أفلست فانحدر بها الحال.

وأذكر أن السنوات الست التالية، أي من الابتدائية وحتى الجامعة، لم ندرس القضية الفلسطينية بنحو يمكنه أن يعمق القضية في وعينا الناشئ، فلا أذكر سوى وعد بلفور وحرب ٤٨، أذكرها كأحداث تاريخية كانت تستوجب الحفظ من أجل الامتحان، في الوقت الذي كان فيه التركيز على أسباب الحملة الفرنسية، التي في مقدمتها إقامة مستعمرة فرنسية في الشرق، وكذا أهداف ثورة يوليو، والتي كان في صدارتها إقامة جيش وطني قوي. وهي، في المجمل، دروس تاريخية تعكس حقيقة العلاقة المتهافتة بين العرب والغرب، التي تعبّر عن ضعف الأنا وقوة الآخر. ولم تكن من أهمية لدرس دون آخر إلا بدرجة احتمالية طرحة كسؤال في الامتحان! لكن تظل التربية السياسية غائبة عن المنهج الدراسي الذي يأبى إلا أن يجعل التربية قاصرة على الأخلاق الفردية دون السياسة التي تمس قضايا المجتمع والأمة العربية والإسلامية بعامة. كما أن مادة التربية الوطنية التي كانت تُعرف بالتربية القومية كانت عبارة عن كتيب صغير لا يتم شرحه في الفصل ولا يُضاف إلى المجموع في نهاية العام مثل التربية الدينية في مفارقة تستحق التأمل!

وفي ظل غياب هذا الوعي أذكر أن صورتي نابليون بونابرت وكليبر كانتا معلقتين على الحائط في الفصل السادس الابتدائي، وسألتنا مدرّسة العلوم عن رأينا في هاتين الشخصيتين: هل نحبهما أم نكرههما؟ صمت الطلبة ولم يستطع أحد أن يجيب عن السؤال غير التقليدي المفاجئ، وهممت برفع يدي لأقول أني أحبهما لأنهما بطلان، وكان هذا هو الاعتقاد الذي ترسخ لدي لأن الصورتين كانتا بالزي العسكري. غير أن أحد الطلبة سبقني برفع يده، وأجاب بأنه ينبغي علينا أن نكرههما، لأنهما من المستعمرين. وهنا أفقت على تلك الحقيقة المباشرة التي درستها ضمن الأهداف الاستعمارية للحملة الفرنسية،  وتبخرت في لحظة أمام التعبير الفوتوغرافي الكاذب عن حقيقة الشخصيتين.

لكني تساءلت فيما بعد، لماذا صورتي نابليون وكليبر، زعماء الحملة الفرنسية، على الحائط بجوار صورة عمر مكرم، الشخصية الوطنية المعروفة،

 ولم أعثر على إجابة مقنعة عدا كون الأمر لا يعدو أن يكون مجرد ممارسة للون من النشاط المدرسي يلتزم به الطلبة والمدرسون دون سياق فكري أو عقيدة سياسية يمكنها أن تميز بين ما يستحق أن يـُعلق على الحائط وما لا ينبغي أن يُعلق.

غياب التربية السياسية والوطنية جعل الوعي لدي، وبدرجة ما لدى جيلي، يتجه إلى موضوعات أخرى بدت أكثر جاذبية ومناسبة للسن الصغيرة التي كنا عليها وقتها مثل الأدب والفن والرياضة. فأذكر أني كنت لا أقرأ من جريدة الأخبار التي دأب أبي، رحمة الله عليه، على شرائها إلا الصفحة الثانية التي كانت تحتوي على برامج التليفزيون والكلمات المتقاطعة وأبراج الحظ، وكذا صفحة الرياضة خاصة ما تعلق بكرة القدم، بالإضافة إلى فقرة "نص كلمة" التي كان يكتبها الكاتب الساخر أحمد رجب، وكاريكاتير مصطفى حسين ومقال مصطفى أمين في الصفحة الأخيرة، وكلها مواد لا تمس الحياة السياسية إلا مسا خفيفا  من بعيد.

ويمكن أن يقال الشيء نفسه فيما يتعلق بقراءاتي الحرة في تلك السن، فبالرغم من أني كنت قارئ نهم إلا إن قراءتي كانت تقتصر على كل ما هو غريب ومثير مثل الروايات البوليسية وكتب السحر والخيال العلمي، كما كان كتّابي المفضلين هم أنيس منصور ومصطفى محمود ثم زكي نجيب محمود بعد ذلك، وفي كل الأحوال أنت لا تجد لدى هؤلاء ما يغذي لديك الوعي السياسي، أو قل أن اختياراتنا، وربما اختيارات المكتبة المدرسية، ومراكز الشباب التي كنا نتردد عليها لم تكن تتجه إلى ما يكتبه هؤلاء في السياسة وقضايا الأمة!

وبالرغم من أن التليفزيون كان يمثل أداة مهمة لنقل المعرفة السياسية إلا إننا لم نكن نهتم سوى بالأفلام والمسلسلات ومباريات الكرة، وكانت نشرة الأخبار بمثابة الجملة الاعتراضية البغيضة التي تلي مسلسل المساء وتسبق فيلم السهرة! هذا فضلا عن أن البرامج الحوارية السياسية كانت ثقيلة الظل، ولم تكن من الجاذبية بحيث نجلس أمامها طويلا.

اختلف الأمر في الجامعة، لكنه لم يختلف كثيرا، فقد تحولت القضية الفلسطينية، من خلال الأسر الطلابية، إلى صور مفجعة تنقل ما يحدث في فلسطين من اعتداءات سافرة من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي، وإلى شعارات تندد بالأحداث وتطالب المسؤولين، في الداخل والخارج، بالتدخل العسكري. لم يختلف الأمر كثيرا لأننا دخلنا إلى الجامعة بوعي سياسي وقومي متهافت، وكانت النتيجة أننا كنا نستقبل تلك الصور والشعارات بنوع من التعاطف الوجداني اللحظي، الذي ما كان يلبث أن يزول خلال دقائق قليلة، بعدها نواصل حياتنا اليومية وكأن شيئا لم يكن!

وبهذا المعنى كان الوعي متقلبا، يروح ويجيئ وفقا لدرجة سخونة الأحداث، حدث ذلك في الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧، التي عُرفت بانتفاضة الحجارة، والانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠، التي عُرفت بانتفاضة الأقصى. ففي كل مرة كان يخرج الطلاب باللافتات، وتذيع الفضائيات أغاني فيروز، وتتراوح المواقف السياسية العربية، بل والدولية، ما بين الشجب والمطالبة بضبط النفس، ويعود رجل الشارع للمطالبة بالتدخل العسكري. وفي ظل شعور عام بالضعف والعجز، يتم طرح السؤال المحرج حول حجم قوتنا العسكرية الحقيقية مقارنة بقوة السلاح الإسرائيلي!

وأذكر أن الرئيس مبارك خرج ذات مرة في وسائل الإعلام، وقال، معلقا على وقفة الشباب بالجامعات ومطالبتهم إعلان الحرب على إسرائيل، إنه يقدر هذا الموقف، ولو كان في نفس مكانهم لاتخذ الموقف نفسه وطالب بالحرب، لكنه كرجل دولة في موقع المسؤولية لا يستطيع أن يتخذ مثل هذا القرار بسهولة، خاصة أنه رجل عسكري ويفهم معني دخول البلاد في حرب.

وتزامنا مع هذه المرحلة، الثمانينيات والتسعينيات، وحتى بداية الألفية الثالثة تحولت القضية الفلسطينية، في الوعي، من الشعارات والوقفات الاحتجاجية إلى موضوع فني، عندما بدأنا نقرأ اشعار محمود درويش ونستمع إلى أغنيات فيروز الوطنية، ونشاهد كاريكاتير ناجي العلي وشخصيته الأيقونية "حنظلة". وفي هذه المرحلة، كما المراحل الأخرى، لم تقربنا هذه الأعمال من القضية الفلسطينية بقدر ما أبعدتنا، لأننا، وفي مفارقة لافتة، لم نكن نتفاعل مع القضية قدر تفاعلنا مع العمل الفني، أي أننا كنا نتلقى الأحداث، رغم بشاعتها، بوعينا الجمالي لا السياسي، لأننا تربينا على الأول أكثر من الأخير.

وفي هذا السياق، ينبغي أن نلاحظ أن كل الوسائل التي كان من المفترض أن تقربنا من القضية كانت بمثابة المسافات التي أبعدتنا عنها، ما جعل الأحداث التي تدور في الأراضي المحتلة مسألة قائمة على هامش الوعي. ففلسطين بعيدة في الزمان لأنها صارت مسألة تاريخية، وبعيدة في المكان لأننا لا نعيش تحت القصف، وإنما تحت أصوات الأغاني الوطنية والتصريحات السياسية المؤدلجة!

وبقدر بعد هذه المسافات كان الوعي العربي يعيش متفرجا تحت مظلة كاذبة من الشعور بالأمان. وبقدر هذه المسافات كان الوعي العربي يتعامل مع القضية الفلسطينية في نسختها المعاصرة، في الألفية الثالثة، كريموت كنترول معطوب، لا يحرك ساكنا مهما ضغطت على أزراره! ساعد على ذلك انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي حولت القضية إلى أيقونة تاريخية وجعلت النضال العربي، من أجل القضية، رمزيا. فيكفي أن تضع على بروفايلك صورة للمسجد الأقصى أو كوفية لفلسطين حتى تشعر أنك قمت بواجبك تجاه القضية الفلسطينية، بل تجاه القصف والحصار والقتلى الذين يتساقطون يوميا بالمئات!

بعد طوفان الأقصى الذي وقع في السابع من أكتوبر، كان رد الفعل الإسرائيلي عنيفا جدا، ولا إنسانيا إلى أبعد الحدود، لكن الوعي العربي، العاجز دوما عن الفعل، ابتكر طرقا ملتوية للتعبير عن تضامنه مع القضية الفلسطينية، وهي طرق تحقق له راحة الضمير وتنقذه من وطأة الشعور بالذنب، دون أن يدفع فاتورة الإخلاص للقضية الفلسطينية. وكانت استراتيجية هذا الوعي في ذلك السياق هو نقل المعركة من أرض فلسطين إلى ساحات التواصل الاجتماعي، أي تحويل نضال الرصاص والدم إلى معارك كلامية، وتوجيه سهام النقد إلى أعداء وهميين بدلا من توجيهها إلى العدو الحقيقي!

وضح ذلك في الحملة التي شنها المصريون على محمد صلاح، نجمهم الساطع في سماء الكرة الإنجليزية، ومطالبته باتخاذ موقف مما يحدث في غزة، واستمرت الحملة أياما، وفي ظل صمت صلاح أمام الضحايا الفلسطينيين الذين يتساقطون كل ساعة، بدا الأمر سخيفا، لأن الوعي العاجز جعل القضية الفلسطينية كلها مرهونة بكلمة من لاعب كرة لا يجيد سوى التسديد على المرمى! ولتأكيد هذه الأهمية وسلبها من صلاح في الوقت نفسه عمل الغيورون على القضية (ظاهريا)، الراغبين في التخلص من عقدة الذنب، على استدعاء مواقف ايجابية لنصرة القضية من قبل لاعبين آخرين، مثل "أبو تريكة" و"رونالدو"، بل إن الأمر وصل إلى حد الاستشهاد بموقف لممثلة أفلام بورنو تبرعت بأموالها من أجل نصرة القضية!

ولأن المشهد عبثي في مجمله، خرج صلاح عن صمته ليسجل فيديو مفتعل، يخلو من الروح، ومن خلال صورة داكنة وأداء آلي، يتحدث بكلمات محايدة لا تدين أحدا، فقط تندد بالعنف من قبل الطرفين وتطالب بضبط النفس. وهو الأمر الذي استفز الداعمين للقضية على الفضاء الافتراضي، ودفعهم للقول " ليتك ما تكلمت"! بمعنى أن المسألة لم تكن أن يتكلم صلاح، لكن أن يتكلم بنحو ما يريد هؤلاء. والحجة أن كلمته مسموعة، بحكم شهرته العالمية، وبهذا المعنى يمكن أن يكون معبرا عن صوت الشعوب العربية.

 والحجة هنا منطقية ومقبولة، غير أن الصورة تتضح أكثر عندما يسجل باسم يوسف مداخلة تليفزيونية مع الإعلامي الانجليزي بيرس مورجان وينجح في إفحامه بأسلوبه الساخر، وهنا يهلل العرب، ويتم الاحتفاء بالمداخلة على مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها نصرا مؤزرا للقضية الفلسطينية وللعرب بعامة. ومنذ هذه اللحظة يتحول باسم يوسف إلى بطل، و تنتشر مقاطع فيديو تصور باسم في صالات الجيم وهو يؤدي تمارينه الرياضية ببراعة، بعد أن تم نقل الصراع من الأرض الحقيقية (المحتلة) إلى العالم الافتراضي، وصار النصر يقاس بالقدرة على إفحام الخصوم على شاشات التلفزيون والموبايل، وليس في ساحات الحرب الدائرة فوق رؤوس الفلسطينيين!

ويعود المنطق نفسه للظهور، أن باسم شخصية عالمية وأن كلمته ستصل إلى العالم الغربي وهي مسألة تعد مكسبا للقضية في حد ذاتها، لكن الأيام التالية تكشف عن زيف هذا المنطق عندما يقرر المذيع الانجليزي استثمار النجاح الذي حققته مداخلة باسم في البرنامج، والتي لم تتعد الدقائق، ليشرع في تقديم حلقة كاملة حول القضية الفلسطينية، تتجاوز الساعتين بالاتفاق مع باسم يوسف. يصول فيها الأخير ويجول لتحقيق مزيد من المشاهدات. ويستمر باسم في دعمه للقضية بأسلوبه الاستعراضي عندما يشارك في حفل يرقص فيه رقصة الدبكة وهو متشح بالعلم الفلسطيني! في إشارة إلى أن البعد الرمزي للقضية هو السمة الغالبة على الوعي العربي.

فالوعي العربي يتعامل مع القضية من خلال استراتيجية خاصة يمكن اختزالها في مسألتين: البحث عن بطل رمزي، ومعركة افتراضية يمكن أن تُدار بملابس النوم! فنحن دائما في حالة بحث عن بطل للاحتفاء به أو نذل كي نصب جام غضبنا عليه، بعد أن تطهر الوعي من الذنب، وعرف طريقه نحو النضال الآمن. تأكد ذلك في واقعة اعتذار الممثل محمد سلام عن مسرحية كان من المقرر عرضها في السعودية، تضامنا مع فلسطيني غزة، وفي المقابل وقوف الممثل بيومي فؤاد على المسرح في الرياض للرد على موقف سلام بأنه لم يأت للإضحاك ولا لجمع المال، لكن من أجل تقديم فن! فيكفي أن تحتفي بموقف سلام وتكيل التهم لشخصية فؤاد حتى تشعر بأنك أديت واجبك تجاه ما يحدث في غزة!

وفي خطوة أخرى يتم استخدام القضية لأغراض سياسية. وهي مسألة ليست جديدة على مستوى الحكومات، لكن ربما صارت كذلك على مستوى الشعوب. حدث ذلك في الانتخابات الرئاسية في مصر، حيث روج المؤيدون إلى مقولة أن الرئيس حمى البلاد من التورط في حرب مع إسرائيل، بينما روج المعارضون لمقولة أن عدم وصول المساعدات لمنكوبي غزة تم بالتواطؤ مع أمريكا وإسرائيل لاستكمال مشروع الإبادة الجماعية. والمسألة برمتها إنما تعني أن القضية لم تعد غاية في ذاتها بقدر ما أصبحت وسيلة لأغراض أخرى، وأن وعي رجل الشارع العربي لم يعد مهموما بالقضية الفلسطينية بنحو يتناسب وحجم الكارثة، لهذه الأسباب لم تشهد العواصم العربية مسيرات احتجاجية كتلك التي شهدناها، وما زلنا، في العواصم الأوروبية!

الوعي العربي، في التحليل الأخير، هو وعي مستلب سياسيا، بحيث لا تجده إلا غارقا في همومة اليومية، واهتماماته السطحية التي لا ترسخ إلا لوضعيته المستلبة، المهادنة للواقع، المستسلمة للتكرار البغيض، الذي لا يضيف إلا مزيدا من القهر والمعاناة، يؤكد ذلك ما حدث بعد الهدنة القصيرة التي توقفت خلالها آلة الحرب.

بعد الهدنة عاد القصف الإسرائيلي مرة أخرى تجاه سكان غزة بشكل أكثر عنفا، وفي ظل مباركة العالم للإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، عاد الوعي العربي المتهافت لاهتماماته اليومية الأكثر سطحية، وعلى رأسها متابعة مباريات الكرة، كأس العالم للأندية بخاصة، وأخبار الفنانين من قبيل طلاق شيرين عبد الوهاب وزواج سامح الصريطي!

حدث ذلك في الوقت الذي ارتفعت فيه نبرة التطبيع مع إسرائيل من قبل بعض الدول العربية مثل السعودية والإمارات، وهب الإعلاميون المصريون، ربما لأول مرة،  للتصريح بأن القضية الفلسطينية تخص الفلسطينيين وحدهم، ما يعني أن المسافة قد اتسعت بين الوعي العربي والقضية الفلسطينية، لتعود محض مسألة رمزية لدى رجل الشارع، يتم اختزالها في شعار "فلسطين في القلب"، وهو شعار يعلقه الناس فوق مركباتهم وداخل محالهم التجارية، لتظل فلسطين في القلب، لكن دون أن يتحول الشعار إلى فعل مؤثر في العالم الخارجي!

***

د. ماهر عبد المحسن

ها هي مقارنة مع (مجموعات وهويات مشابهة)

افريقيا، الهنود، الترك، الأمريك لاتين، الاوربيون!

ان افضل طريقة لمعرفة مدى صلاحية (تسمية عرب) وصحة القول بـ(هوية عربية مشتركة)، ان نجري عملية مقارنة مع  (هويات المجموعات الاخرى) المعروفة في العالم. سوف نكتشف بوضوح كيف ان كل واحد من هذه المجموعات تعاني من نقص بـ(الصفات الهوياتية المشتركة)، وان (المجموعة العربية) هي اكثرها توفرا لصفات الهوية الجامعة:

اولا، مثال قارة افريقيا:

1ـ بالحقيقة ان هذه القارة ، مثل قارة آسيا المتعددة الاقاليم الجغرافية والمجموعات الهوياتية المختلفة عن بعضها البعض بيئيا وبشريا،  فليس هنالك هوية مشتركة بين الصيني والسعودي والسيبيري، رغم انهم من آسيا.  كذلك افريقيا رغم وحدتها الجغرافية الا انها منقسمة الى مجموعتين مختلفين من النواحي البيئية والبشرية:

ـ القسم الشمالي البحر متوسطي: (وادي النيل المصري السوداني) مع بلدان شمال افريقيا المغاربية.

ـ القسم الجنوبي (افريقيا السوداء: جنوب الصحراء): المنفصل جغرافيا وبيئيا عن الشمال بصحارى شاسعة (الصحراء الكبرى) حيث يسود المناخ الاستوائي والغاباتي، والنوع الافريقي الزنجي.

ـ ان هذا القسم الجنوبي، بسبب موانع بيئية: (مثل المناخ الاستوائي وصعوبة تربية حيوانات النقل من خيول وجمال)، ادت الى عدم انبثاق دول كبرى وحضارات كتابية.

ـ  بسبب هذا الضعف العسكري والثقافي عانت هذه الشعوب، خصوصا المطلة على المحيط الاطلسي، من العبودية  في الحقبة الاستعمارية الاوربية، مما ادى الى خلق جاليات من زنوج  افريقيا في الامريكتين الشمالية والجنوبية، مرتبطة عاطفيا وعرقيا بافريقيا السوداء. وهذا الوضع التاريخي العالمي ادى الى تعميق الشعور لدى شعوب افريقيا السوداء بـ(هوية زنجية عالمية: Negritud) كما عبّر عن ذلك مثقفيهم الكبار.  لهذا ليس صدفة انه في جميع انحاء العالم  يفهم من تسمية: (افريقي)، ليس المصري والمغاربي، بل (الزنجي الاسود)، بحيث صار اسمهم الرسمي في امريكا بدلا من (زنوج): (افريقي امريكي: African Americans).

ـ من كل هذا، فأن العلاقة بين القسمين الشمالي والجنوبي لقارة افريقيا، هي علاقة جغرافية اسمية وليس (هوياتية)، اشبه بعلاقة عرب آسيا مع باقي شعوب الهند والصين واليابان.. الخ.. أي يصح الحديث عن مجموعتين بهويتين  مختلفتين في قارة افريقيا: المجموعة العربية في الشمال: (بلدان النيل والمغاربية)، والمجموعة الزنجية السوداء في الجنوب. ([1])

ثانيا، مثال (دولة الهند)، و(شبه القارة الهندية):

من المعلوم ان (اسم الهند) يطلق على (الدولة)، وايضا على (شبه القارة) التي تشمل سبع دول، اكبرها الهند وباكستان وبنغلادش (الخارطة مرفقة). هذه معلومات اساسية بخصوص (اسم وهوية الهند):

1 ـ بالنسبة لدولة الهند نفسها، فأن الناطقين باللغة الهندية فقط 47% من السكان، ثم عدة قوميات ناطقة بلغات اخرى: (تامول وبنجاب وبنغال.. الخ..).

2ـ لكن (العقيدة الهندوسية) هي الجامع الاكبر لاقوام (دولة الهند)، إذ يعتنقها 80% ، اما باقي بلدان (شبه القارة) مثل باكستان وبنغلادش، فهي مسلمة.

3 ـ  هذه معلومة مهمة: ان (الزعيم غاندي)، مؤسس الهند الحديثة، ليست الهندية لغته الاصلية رغم انها لغته الوطنية الثقافية، بل (اللغة الغوجاراتية) التي ينتمي الى مجموعتها، وحتى كتاباته بها، لكنه على (الديانة الهندوسية) ايمانا وتطبيقا.(عن الهند)([2])

ثالثا، مثال (منظمة الدول التركية):

وهي تجمع سبعة دول: تركيا وآذربيجان مع خمسة دول من آسيا الوسطى (الخارطة):

1 ـ  هذه الدول تتكلم عدة لغات مختلفة، لكنها ضمن:(عائلة اللغات الاتراكية: 35 لغة)، بعضها متشابهة مثل (اللغات الاوغزية: الآذربيجانية والتركية والتركمانية والتترية)، وبعضها كاختلاف العربية عن السريانية، مثل (الاوغورية والاوزبكية، والكازخستانية..).

2ـ كذلك هي تستعمل انظمة كتابية مختلفة: السيريلية الروسية واللاتينية والعربية.

3ـ في مجموع هذه البلدان، هنالك حوالي 20 % من السكان يتكلمون لغات خاصة بهم بعيدة تماما عن (العائلة الاتراكية) ، بنسب مختلفة، مثل: الروسية والكردية والعربية، وغيرها.. بل ضمنها (دولة هنغاريا الاوربية) المختلفة تماما جغرافيا ودينيا ولغويا عن (الاتراك)، ولمجرد ان (لغتها) مرتبطة من بعيد بالتركية: (عائلة اللغات الأورالية – ألالتائية).)

4ـ اكثر من 80% منهم (مسلمون) مع اقليات مسيحية مثل الروس. كذلك (هنغاريا) كلها مسيحية.

5 ـ غالبية هذه الدول غير مترابطة جغرافيا، ولا يجمعها غير التشابه اللغوي. ومنقسمة عموما الى اقليمين جغرافييين منقطعين تماما عن بعضهما بدولة ايران وبحر الخزر: (بلدان آسيا الوسطى)، ثم (تركيا وآذربيجان وقبرص التركية).

6 ـ ان هذه القطيعة الجغرافية، ادت طبيعا الى ضعف (الرابطة التاريخية) بسبب حصول الهجرات الكبرى منذ حوالي الف عام، للـ(القبائل التركية المسلمة: السلاجقة والعثمانيون)  من (آسيا الوسطى) الى (أذربيجان) والى (الاناضول: تركيا الحالية)، لمواجهة التهديد المسيحي الصليبي والبيزنطي. ([3])

رابعا: مثال امريكا اللاتينية

وهي  شعوب (قارة امريكا الجنوبية والوسطى)(الخارطة):

1ـ تحمل اسمها: (لاتينية) لانها تتكلم بلغتين لاتينيتين: (الاسبانية والبرتغالية) بالاضافة الى المذهب الكاثوليكي(اللاتيني).

2ـ لكن هنالك بجانب الاسبانية والبرتغالية، عدة لغات مهمة لـ(شعوب الهنود الحمر). في عدة دول، بالاضافة الى لغات اوربية متداولة بصورة محدودة: الانكليزية والهولندية، كذلك العربية التي ينطق بها عدة ملايين.

3ـ علما بأن اسم (امريكا) قد فرضه المستعمرون الاسبان والبرتغال تيمنا بالمكتشف الثاني بعد(كولمبس)، القبطان الايطالي (أمريكو فسبوتشي: Amerigo Vespucci: 1497).

4ـ صحيح ان هنالك الرابطة الجغرافية (في قارة واحدة) رغم الموانع الطبيعة الكبيرة بين البلدان: (غابات الامازون وسلاسل جبال)، لكن بالحقيقة هنالك اشكالية جغرافية داخلية مهمة: ان هذه القارة تمتد طوليا بين عدة اقاليم مناخية متناقضة جدا:  خط الاستواء الساخن شمالها، الى القطب الجنوبي المثلج جنوبها. وهذا يعني الاختلاف الكبير بين شعوب القسمين من جميع النواحي الثقافية والنفسية، رغم المشترك اللغوي التاريخي.

5ـ ان شعوبها تشترك بالتاريخ الشامل في مرحلتيه: الاولى القديمة السابقة للغزو الاوربي: (تاريخ من اطلق عليهم جزافا تسمية (هنود حمر) ودولهم القديمة: (المايا والانكا والازتك). ثم التاريخ الحديث مع الغزو الاوربي في القرن 15، الذي ارتكب عمليات ابادة جماعية كبرى حربية ووبائية ضد الشعوب الاصلية. وقد احتاجت الكنيسة الكاثولية حوالي القرن كي تقر بأن (الهنود الحمر) بشر وبتوجب نشر المسيحية بينهم.

6ـ انها تتكون من ثلاث مجموعات عرقية مختلفة تماما من الناحية التاريخية والاصل الجغرافي: الاوربيون الذين نزحوا بعد الغزو (حوالي 43%)، ثم (الهنود الحمر وهم السكان القدماء)، ثم (الزنوج) الذين جلبوا كعبيد من قبل الاوربيين.  وبين الجميع هنالك ايضا(المختلطون من هذه الاعراق). ([4])

خامسا ـ مثال قارة اوربا

1 ـ تشترك في جغرافية قارة واحدة اسمها(اوربا) وهو اسم اشاعه اليونان من اصل فينقي: (غوربا: الغرب: منطقة الغروب)..

2ـ مع اختلاف كبير جغرافي وبيئي بين القسمين الغربي والشرقي من القارة، ادى تاريخيا الى انقسام (ديني ولغوي ومصالحي) بينهما: (اوربا الغربية: الكاثوليكية والبروتستانية، واللغات الجرمانية واللاتينية)، وارتباط غالبيتها بـ(الاتحاد الاوربي)، ثم  (اوربا الشرقية: الارثوذكسية، واللغات السلافية). وهذا الانقسام سبب العداء التاريخي لـ(روسيا) بسبب موقعها كمصد طبيعي يمنع تمدد الغرب نحو شرق اوربا وآسيا.

3ـ منذ اكتشاف امريكا في القرن 15 راح يتفاقم الانقسام بين القسمين الشرقي والغربي، بعد تعمق انتماء (اوربا الغربية) الى (امريكا الشمالية) ثقافيا وسياسيا وتعاطفيا ومصالحيا، تحت اسم: (العالم الغربي).

4 ـ ان شعوب اوربا لا تشترك بلغة واحدة بل بعشرات اللغات المختلفة، مع نظامي كتابة لاتيني وسيرلي. ولكنها متفقة اكثر واكثر على استخدام الانكليزية لغة الثقافة والتداول والتفاهم.

5 ـ انها متفقة تقريبا على ان جذورها الثقافية تعود الى التاريخ الحضاري(اليوناني ـ الروماني) وهو التاريخ الاوربي الاول. ثم الحقبة المسيحية في القرون الوسطى. ولا زالت المسيحية بطوائفها، هي الديانة الغالبة.

6 ـ ان شعوب اوربا تتكون من نوعين(جنسين) من البشر: النوع الشمالي الاشقر، والنوع الجنوبي البحر متوسطي الحنطي وغلبة المختلط بينهما. رغم اصرارهم وخصوصا في الوقت الحالي على الادعاء الاستعلائي العنصري بتمثيلهم الاوحد لـ: (النوع الابيض) واعتبار جميع الشعوب الاخرى:(ملونين)، رغم انهم هم الملونون بالشقار والحمار والسمار!؟

7 ـ رغم التداخل التاريخي والميراثي والديني، الا ان شعوب اوربا طيلة تاريخها عاشت بينها حروبا كارثية دينية وعرقية وطبقية ابادت مئات الملايين من الاوربيين، وآخرها واهولها: الحربين العالميتين.

8ـ ان شعوب اوربا الغربية خصوصا، تتفاخر بان بلدانها معقل انبثاق الحضارة الغربية الحديثة، وانهم (مع امريكا الشمالية) لا زالوا ومنذ عدة قرون يتحكمون في باقي العالم.([5])

***

المجموعة العربية وصفات هويتها المشتركة

الامثلة المذكورة اعلاه، تساعدنا على المقارنة والاجابة على هذه الاشكالية المصطنعة، من خلال تحديد (المشتركات) بين هذه (الشعوب العربية) التي تسمح لنا بالقول بأنها بـ(هوية جماعية مشتركة: عربية):

1 ـ لأنها تجتمع بجغرافية (ارضية: منبسطة عموما وبوادي مترابطة من الجزيرة العربية وسيناء حتى الصحراء الكبرى المغاربية. كذلك (مناخ شبه صحراوي)، مع ضفاف مشتركة على (البحر المتوسط) ممتدة مفتوحة (عكس ضفاف اوربا المتعرجة والمتقطعة)، تمتد شبه مستقيمة من (اسكندرونة سوريا) حتى (طنجة المغرب).

2ـ أي ان بلدان هذه (المجموعة العربية)  جغرافيا وبيئيا مشتركة ومتداخلة ولا توجد بينها موانع كبرى وانقطاعات. فمثلا لو ان(قناة السويس) كانت موجودة منذ التاريخ القديم، يقينا لحصل انقطاع جغرافي تاريخي بشري كبير بين القسمين بسبب صعوبة تنقل القوافل والجيوش والاختلاط  والتجانس السكاني والثقافي بين المجموعتين ألآسيوية المشرقية والافريقية المغاربية.

3 ـ  لانها تتمتع بشرط مهم جدا وحاسم تفتقده كل التجمعات المذكورة اعلاه: اللغة العربية الواحدة، هي اللغة الرسمية والثقافية الاولى والشعبية والعائلية لاكثر من 80% من الشعوب العربية.  مع وجود نسب معينة من الناطقين بلغات مختلفة اهمها لغات: الاكراد والبربر(الامازيغ)، مع السريان والتركمان  والارمن، وغيرهم..

4 ـ لأنها بغالبية دينية كبرى: (مسلمة)، مع نسب مسيحية ويهودية.

5ـ لأنها جميعها تشترك في التاريخ  الحضاري العربي الاسلامي،  الذي لا زال حاضرا وحيا لدى هذه الشعوب ونخبها ودولها.

6 ـ لأنها تنتمى ايضا الى تاريخ حضاري اقدم: (الحضارة الشرقية الاولى: مصر والشام والعراق، مع قرطاجة) والاساس الثقافي واللغوي الاقدم: (السامي ـ الحامي). لكنها لاسباب عديدة و(سوء فهم قومي وبلداني) لم تبادر النخب العربية حتى الان باعتبار هذه الحقبة القديمة، هي اساسنا التاريخي الحضاري الاول السابق والمرتبط بالاسلام والعربية، مثلما اتفقت الشعوب الاوربية  باعتبار: (التاريخ اليوناني الروماني) هو جذورها وتاريخها الحضاري الاول، قبل المسيحية.

7ـ لأن جميع الشعوب العربية تشترك بالتكوين العرقي الخلقي الشكلي المزيج والمختلط الى حد كبير من مختلف الانواع البشرية: الحنطية والسمراء الافريقية والشقراء والاسيوية.

8ـ لأن  هذه الشعوب العربية، مهما اختلفت وتآمرت واغلقت الحدود بينها، الا انها طيلة التاريخ لم تشتعل بينها حروبا كارثية طاحنة تبيد الملايين،  مثلما حصل في التاريخ الاوربي. حتى الصراعات الطائفية(بين الشيعة والسنة، المسيح والمسلمين) لم تبلغ حدتها وعدد ضحاياها عشر العشر ما حصل في اوربا الغربية بين(البروتستان والكاثوليك: حرب الثلاثين عام) وعمليات الابادة ضد اليهود: (الهولوكوست)

9ـ لأن هذه الشعوب العربية في المشرق والمغرب، تشترك بمصالح عديدة تفرض عليها (التجمع وتقوية هويتهم المشتركة) لمواجهة المخاطر التاريخية التي تواجهم جميعا بدون استثناء: العداء التاريخي الجغرافي (الاوربي: ضفة البحر المتوسط المقابلة)  ومشاريع السيطرة والاستحواذ، منذ حقبة الاحتلال اليوناني ثم الرومان وحروب قرطاجة قبل اكثر من الفي عام، وحتى الآن.  وما تأسيس (اسرائيل) الا تعبير عن هذا الهوس الاوربي الممزوج بروح الجشع والسادية.([6])

10ـ هذه الشعوب في طريقها للتتخلص من الفهم(العرقي القومي العروبي وغيره)، واعتبار الروابط بينها اكبر واقدم من حكاية الاصول العرقية والجينية وغيرها، بل هي: روابط جغرافية تاريخية ثقافية مصالحية تعاطفية ووو..

11ـ بما انه لا توجد حاليا (دولة اتحادية تجمعها) فمن الخطأ الحديث عن:(امة عربية ووطن عربي) بل هناك: (عالم عربي) يتكون من(امم عربية) بعدد دولها، وكل (امة) تتكون من قوميات وطوائف خاصة بها.  كما هو حال(امم اوربا) التي قد تصبح: (امة اوربية واحدة) لو استمرت بتوحدها الى حد تكوين:(الولايات المتحدة الاوربية) على غرار(الامة الامريكية).

12ـ من المهم جدا التذكير: ان الانتماء الى(الهوية العربية الجامعة) يجب ان يكون جزءا من الانتماء الى(الهوية الانسانية الجامعة) لكل شعوب الارض، المتجنبة للعنصرية والاستعلاء.

اخيرا، يتوجب تذكير ذوي الخطاب العنصري ضد العرب: انتم تستكثرون على (العرب) انهم نشروا العربية والتعريب بين شعوب العالم العربي الحالي، لكنكم تتقبلون قيام الاوربيين الغربيين بتغريب قارات امريكا واستراليا وفرض لغاتهم  وثقافتهم  ودينهم على شعوب الارض، بواسطة الحروب والعبوديات والابادات.

***

سليم مطر ـ جنيف

...........................

لمن يرغب بمطالعة دراستنا مع الخرائط التوضيحية العديدة، والمصادر المفصلة، فانها في موقعنا:

https://www.salim.mesopot.com/hide-feker/162-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D8%B4%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B3%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9.html

المصادر:

تماشيا مع الدور الكبير للعالم الرقمي(الانترنت) فأننا تسهيلا للقارئ، نسجل له المصادر التي يمكن بسهولة مطالعتها على شاشته:

[1] ـ عن موضوع افريقيا، ابحث عن: إفريقيا جنوب الصحراء../ سنغور وحركة الزنجية الأفريقية من منظورإفريقي../ أصل كلمة Negro (النسخة kamite) - الأفريكيبري

[2] ـ عن الهند وشبه القارة الهندية وعن غاندي، ابحث عن:

ـ  دولة الهند والهندوسية../ شبه القارة الهندية../ لغات الهند../ لغة غاندي الغوجاراتية

[3] ـ عن موضوع الاتراك، ابحث:

ـ منظمة الدول التركية../ اللغات الاتراكية../ دول آسيا الوسطى.

[4] ـ عن قسم: امريكا اللاتينية، ابحث عن المواضيع المنشورة التالية:

ـ تاريخ امريكا اللاتنية../الشعوب الأصلية في الأمريكتين../عرب أمريكا اللاتينية/ الجرح الغائر لأميركا اللاتينية: صفحات من تاريخ العبودية../الفاتيكان كيان إجرامى دولى.. / معسكرات الإعتقال الكنسية والقتل العرقى../ Catholic Church and the Age of Discovery../ الكنيسة الكاثوليكية وعصر الاستكشاف../ البابا يطلب العفو من سكان المكسيك الأصليين../الكاثوليكية في كندا تعتذر للسكان الأصليين.../ التنوع العرقي للقارة الأمريكية الجنوبية: Demographics of South America/ Diversité ethnique de la population sud-américaine).

[5] ـ عن موضوع اوربا، ابحث عن:

ـ الاتحاد الاوربي../ الحروب الدينية في اوربا../ روسيا، البعبع الدائم لاوربا الغربية: سليم مطر.. /معاداة الروس../لغات اوربا وطوائفها.. اوربا الغربية والولايات المتحدة

[6] ـ عن موضوع (العرب) راجع دراساتنا العديدة  عن العرب، المنشورة في موقعنا:

https://www.salim.mesopot.com/

كثير من الأكاذيب الإسرائيلية والأمريكية صاحبت حرب الإبادة في غزة سواء فيما جرى يوم السابع من أكتوبر أو حول مجريات الحرب أو مسماها (الحرب على غزة) وهو مسمى مضلل وبالتالي هناك حقائق يجب تسليط الضوء عليها والتأكيد عليها وهي:

1- بالرغم مما يتعرض له قطاع غزة من حرب ابادة غير مسبوقة تاريخياً وفلسطينيو غزة الأكثر معاناة الا أنها في الحقيقة حرب على كل الشعب في غزة والضفة والقدس وعلى القضية الوطنية برمتها؛ وهدف العدو من هذا المسمى تعميق الانقسام وتجاهل الحرب الدائرة في الضفة والقدس

2- الحرب على الشعب الفلسطيني لم تبدأ يوم إعلان إسرائيل الحرب على غزة بل هي متواصلة طوال ٧٥ عاما ولو لم يكن هناك احتلال لكل فلسطين وحصار لغزة ما كانت حرب غزة وما بعدها.

3- قطاع غزة وأهله جزء لا يتجزأ من فلسطين: الدولة والشعب ولن تنجح اية تسوية تتجاهل هذه الحقيقة.

4- مقاومة حركة حماس وكل الفصائل مقاومة شرعية للشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال

5- لأول مرة في تاريخ الكيان الصهيوني يخوض قتالاً حقيقياً يكشف أكذوبة الجيش الذي لا يقهر ويؤكد أن إسرائيل قابلة للهزيمة بل وللزوال.

6- المشاركة المباشرة والفعلية لواشنطن ودول غربية في الحرب مّكن العدو من إطالة أمد الحرب والقتال على عدة جبهات.

7- واهم الاحتلال إن اعتقد أنه بمجازره وإرهابه سينهي القضية الفلسطينية وحتى لو تم تهجير سكان غزة والضفة فالمقاومة ستستمر أشد مما كانت؛ حيث انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة منتصف الستينيات من خارج الأراضي المحتلة قبل أن تمتد للداخل.

8- الحرب لم تعد عسكرية في غزة فقط بل توسعت للضفة وتحولت لحرب سياسية أيضاً على القضية والقيادة بهدف إنهاء الصراع كما ورد في (خطة الحسم) التي طرحها المتطرف سموترتش.

9- المجازر في غزة والضفة أنتجت جيلاً فلسطينياً أكثر حقدا وكراهية للاحتلال وأكثر تصميماً على مواصلة النضال.

10- مجازر الاحتلال في غزة والضفة أكدت أن عدونا ليس فقط نتنياهو واليمين الصهيوني بل اليهودية الصهيونية كديانة وعقيدة شكلت المرجعية لكل أشكال الإرهاب والتطرف.

11- جرائم وعنصرية الكيان الصهيوني وممارسات اليمين الصهيوني المتطرف بددت كل فرص السلام في المنطقة وأكدت صعوبة التعايش بين الشعبين بل والديانتين.

12- أسقطت جريمة الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال أوهام التطبيع الذي يصنع السلام لأنها كشفت الوجه الحقيقي لدولة الكيان وأحرجت الأنظمة المطبعة أو على الأقل حدت من اندفاعها نحو التطبيع.

13- بطولات وصمود المقاومة في غزة الصغيرة بمساحتها والفقيرة بإمكانياتها للشهر الثالث يؤكد أن الجيوش العربية لم تحارب بجدية في كل حروبها السابقة بل كانت حروباً تآمرية وخيانية كانت السبب في ضياع فلسطين.

14- أكدت الحرب أن أمريكا هي العدو الرئيس ولا يمكنها أن تكون وسيطاً للسلام.

15- ما زالت واشنطن مسيطرة ومهيمنة على الشرق الأوسط مما يتعارض مع مراهنات وتحليلات البعض على تراجع حضورها لصالح روسيا والصين.

16- هناك كثير من الأمور مازالت خفية وملتبسة سواء المتعلقة بقرار (طوفان الأقصى) أو العلاقة بين حماس الداخل وحماس الخارج أو بمحور المقاومة

17- هزال وتردد المواقف الرسمية العربية يؤكد أن هذه الأنظمة متواطئة وشريكة في العدوان وليس فقط عاجزة.

18- غياب إيران عن المشهد وهي الداعم الأكبر عسكريا لفصائل المقاومة واكتفائها بمناوشات وكلائها في اليمن ولبنان والعراق يطرح أكثر من سؤال حول دورها في الإقليم؛ ونفس الأمر بالنسبة لتركيا وقطر اللتان تتصرفان كمحايدين.

19- صمود المقاومة ورفض الشعب لمخطط التهجير يؤكد عظمة الشعب الفلسطيني وبدد أوهام العدو وأنظمة التطبيع بأن الشعب الفلسطيني استسلم للأمر الواقع وتخلى عن حقوقه الوطنية.

20- حتى لو افترضنا جدلاً أن العدو تمكن من القضاء على حركة حماس أو إضعافها فحماس مجرد فصيل أو حزب والقضاء عليها لا يعني القضاء على الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة، فالمقاومة ستستمر بحماس أو بدونها

21- الحراك الشعبي في العالم المندد بجرائم الاحتلال أعاد القضية الوطنية للواجهة وأكد أن لا سلام الا بدحر الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

22- للأسف، بالرغم من الخطر الوجودي الذي يهدد حاضر ومستقبل القضية الوطن إلا أنه لم يحدث أي اجتماع وطني للحث قي كيفية مواجهة الخطر والاتفاق على مستقبل القطاع، بل هناك تصريحات تعكس خلافات كبيرة حول الموضوع كتصريحات السنوار وهنية.

23- بالرغم من أهمية المواقف العربية والإسلامية والدولية المنددة بالعدوان وقرارات الجمعية العامة بوقف العدوان إلا أن كل هذه الدول لم تتخذ أي خطوات عملية في مواجهة المعتدي كقطع العلاقة مع الكيان الصهيوني أو مجرد سحب السفير.

24- بالرغم من تراجع الحديث عن التهجير الى سيناء إلا أن دفع حوالي مليون فلسطيني إلى رفح على الحدود المصرية مؤشر خطير.

بعد كل هذه الحقائق أو الملاحظات ما هي سيناريوهات نهاية العدوان ومستقبل قطاع غزة والقضية الفلسطينية بشكل عام؟

لا شك أن العدو بجرائمه ألحق أضراراً هائلة في القطاع وقد يفرض معادلة سياسية جديدة ولن يكون القطاع ما بعد الحرب كما قبلها على كافة المستويات وستكون الحياة فيه أكثر قساوة؛ ولكن أهالي غزة مصممون على الصمود ورفض التهجير حالهم كحال أهلنا في الضفة.

ولأن لكل حرب نهاية الا أن نهاية هذه الحرب لا تعني نهاية الصراع ولن تجلب للعدو الأمن والأمان.

بالرغم من عدم معرفة ما هي مخططات العدو الحقيقية جنى الان إلا أن السيناريو المحتمل في حالة فشل التهجير خارج حدود القطاع وفشل مشروع دولة في غزة فقط أن يسحب العدو جيشه من داخل القطاع مع الحفاظ على منطقة أمنية على طول حدود القطاع الشرقية والشمالية

أما مستقبل القطاع وكما نتوقع ونأمل:

1 - صدور قرار أممي ومرابطة قوات دولية وعربية.

2 - أن تدار غزة مؤقتاً من طرف حكومة أو سلطة مدنية غير حزبية؛ مرتبطة بالسلطة والدولة الفلسطينية فيدرالياً بقيادة وطنية عليا مشتركة.

3- ان تكون منزوعة السلاح مقابل التزام دولي بحل عادل للقضية من خلال مؤتمر دولي للسلام.

***

د. ابراهيم أبراش

 

لقد ورثت النخب السياسية التي تولت الحكم في العراق بعد 2003 تراكماً سلوكياً وفكرياً وأنماطاً من الممارسات التي كان يمارسها الرئيس السابق صدام حسين ويستخدمها مع تمتعه بكاريزما عالية مدعمة بقوة وشدة في التعامل وإفراط في الإنفاق من المال العام، حتى أصبح بنظر العراقيين وغالبية الشعوب العربية إمبراطوراً يمتلك كل مقدرات العراق وله حق التصرف بها لوحده دون غيره.

هذا الإرث وغيره من الموروثات التاريخية تحول بدراية أو بدونها الى سلوك لدى كثير من الزعامات السياسية التي تبلورت خلال العقدين الماضيين، وأصبح جزءاً من ممارساتها اليومية في تقليد شخصية صدام حسين أو غيره بوعي أو كشعور انعكاسي وتحصيل حاصل لتراكم تاريخي من الحكم الفردي والشمولي المتكلس في الذاكرة الفردية والاجتماعية، ورغم أن صدام حسين في تاريخنا المعاصر يكاد أن يكون الأكثر تميزاً في هذا السلوك الطاغي في الفردية المطلقة إلا أن جولة سريعة في دهاليز التاريخ القريب والبعيد سنجد فيها المئات من أمثاله في مجتمعات مثقلة بالتخلف وغياب الوعي إلى درجة أن كل ما حدث في العراق وفي العديد من البلدان المتشابهة معه من تغييرات ترقيعية في النظام السياسي لم تزل تلك المتكلسات المتوارثة في التفكير والسلوك، بل ربما زادت اكثر في توالدها منذ تحطيم الأصنام الحجرية التي صنعها الانسان قبل آلاف السنين بديلة لرب يعبده أو قوة يخشاها أو مرجع يعود إليه في انكساراته وهزائمه حتى يومنا هذا، حيث تم استبدال الحجارة بالإنسان في صناعة الأصنام!

هذه الصناعة بحد ذاتها هي عملية بحث عن ملاذ او ملجئ يهرب اليه الفرد والمجتمع من حالة الانكسار للخلاص من التردي المتراكم، ولعلنا نتذكر قصة الحذاء الذي قذفه أحد الصحفيين بوجه الرئيس الامريكي في بغداد وتهافت كل وسائل الاعلام العربية على ذلك الحذاء الحدث الذي حولته خلال ساعات إلى رمز من رموز المقاومة والوطنية، وحولت الصحفي إلى شخصية تكاد تنافس عنترة بن شداد في ذاكرة التراكم الانكساري!

وبجولة سريعة في تاريخ منطقتنا المعاصر نرى أن هزائم الحروب في أربعينات القرن الماضي أفرزت ثورة مصر وزعيمها الرئيس عبدالناصر، كما أنتجت هزائم حزيران عام 1967م صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي، وأخيرا انتجت ماكنة الهزائم بعد اجتياح لبنان وسقوط بغداد العشرات من المنظمات المتطرفة والميليشيات وزعمائها التي تعمل ليل نهار في تخدير شعوب هذه المنطقة وسوقها الى أتون حروب مدمرة وانتكاسات جديدة كما حصل في هزيمة حزيران وحرب الخليج الثانية وسقوط بغداد وتدمير لبنان واخيراً ذبح غزة من الوريد الى الوريد تحت شعاراتهم وعنترياتهم الفارغة التي جاءت كالعادة صدى لتلك الماكنة الإعلامية العوراء التي تستهين بعقول الناس كي تحول تلك الهزائم المخزية الى انتصارات وهمية تشبه ذلك الانتصار البائس في حرب الخليج الثانية وجعله (ام المعارك) بعد تدمير العراق بالكامل، واعتبار تدمير غزة وقبلها لبنان انتصاراً لفرسان الأمة ومجاهديها؟

إن إطلاق وتداول تسمية الرئيس أو القائد على رؤساء مجموعات مسلحة وميليشيات وأحزاب واختزال الشعب أو الأمة فيها، هو بحد ذاته انعكاس لشعور داخلي متأثر جداً بسلوك صدام حسين وأمثاله في التاريخ، وهي أيضاً بداية عملية تصنيع أصنام بشرية وإدامة ثقافتها في بيئة نفسية واجتماعية لم تتغير بإسقاط نظام صدام حسين، وما زالت تعاني من تراكمات نفسية واجتماعية أدت الى الفشل في تكوين دولة ونظام سياسي معاصر تسوده القوانين وأسس الدستور تحت مظلة المواطنة، حيث بدلاً من إحداث تغيير جذري في بنية المجتمع والدولة لجأت تلك الأحزاب والمجموعات والأفراد تحت مطرقة تلك الأنظمة الفاسدة وتراكماتها وبغياب الوعي وتسيّد النظام القبلي والمذهبي وانتشار الفساد المالي والإداري إلى تقزيم الدولة بمجموعات مسلحة وميليشيات تتزعمها شخصيات مافياوية تحولت الى حيتان للفساد الذي ينخر مفاصل الدولة والمجتمع.

لقد اثبتت تجارب الشعوب أن إقحام الدين ورجالاته والقبيلة ورموزها وأنظمتها في تكوين وإدارة الدولة سيربك عملها ويزيد الفجوة بينها وبين بقية مكونات وتوجهات الشعوب، خاصة وان القبيلة كنظام اجتماعي في مجتمعاتنا محل احترام وتقدير له ولرموزه حاله حال الدين وقدسيته، ولذا فالنأي بهما عن الدولة والسياسة سيحفظ لهما مكانتهما ويبعد الدولة من ارهاصات تشابك وتشتت مراكز القرار ومن ثم اضعاف سلطة القانون والدولة واقحام هذين المكونين في الاعيب السياسة واداء الدولة، ولعل في تجارب دول أوروبا وأمريكا واليابان وكوريا دروس تؤكد أن طريق الخلاص يبدأ بالعلم والمعرفة والتربية الحقة وبناء دولة السلام والعدالة والعلم بعيداً عن هذا الإرث المتكلس في ذاكرة وسيكولوجية هذه الشعوب.

***

كفاح محمود

استحوذ الصراع فى فلسطين المحتلة على الاهتمام الإعلامي عالمياً فى نهايات عام 2023، وإن لم يكن الصراع الوحيد، بل سبقه الصراع فى السودان، وقبلهما الصراع الروسي الأوكراني. ثم هناك ما حدث فى الغرب الإفريقي من تداعِي للهيمنة الفرنسية على عدة دول انحازت للمعسكر الروسي سياسياً. وهو ما يجعل كل تلك الصراعات تصب فى المعركة الكبري القديمة والمستمرة بين القطب الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والقطب الشرقي بقيادة روسيا والصين. وليبدأ عام جديد وفصل مختلف من فصول الصراع الممتد بين الفريقين فى مستهل عام 2024.

9 شهور سوداء

كأنها ولادة متعسرة لجنين سوداني مشوه خارج من بوتقة حرب لم يخسر فيها إلا الشعب السوداني.

تقترب الحرب السودانية من إكمال شهرها التاسع، وقد تحول أكثر من 60% مما تبقي من السودان إلى ساحات حروب، وبدأت المناطق الآمنة للنازحين من ويلات المعارك تتقلص. وبات نحو ثلثي الشعب السوداني معرضين لأخطار المجاعة والمرض، ناهيك عن تعرضهم لمخاطر القتل والنهب والسلب والخطف والاغتصاب. ولتعلن الأمم المتحدة عن تعرض الشعب السوداني لمأساة إنسانية وشيكة، وأن هناك سبعة ملايين نازح سوداني غادروا بيوتهم متجهين إلى المجهول.

آخر الأخبار تتحدث عن سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة (ود مدني) فى الجنوب الشرقي من مدينة الخرطوم بعد انسحاب الجيش منها. وهو الأمر الذي يوسع رقعة الصراع ، ويزيد الانقسامات بين عناصر النسيج الداخلي للمجتمع السوداني. ذلك المجتمع القبلي الذي وصل فيه عدد الحركات المسلحة به إلى نحو 92 حركة، أكثر من 90% منها فى دارفور وكردفان. وبعد نحو 300 يوم من الحرب، اختلفت انحيازات تلك الحركات إما نحو الجيش أو نحو الجنجويد، وإن أعلن أكثر تلك الحركات وقوفه على الحياد.

القطاع الصحي فى السودان يتداعَي، وحتى منظمات الهلال والصليب الأحمر توشك أن ترفع راية الاستسلام بسبب انعدام قدرتها على مواصلة خدماتها فى ظل صراع دموي بغيض ينتهك الأعراف. والمناطق التي اجتاحتها قوات الدعم السريع شهدت عمليات نهب وسرقة واسعة النطاق، وانتشرت مشاهد لسيارات محملة بأكوام من النقود يتم تداولها بين جنود الجنجويد. كما انتشرت أخبار النازحين والمفقودين والقتلي فى الطرقات. كما انتشرت فظائع الاغتصاب وانتهاك الأعراض لدرجة حدوث نقص حاد فى أدوية منع الحمل بسبب الطلب الشديد عليها من جانب ضحايا الجنجويد من نساء السودان!

وما تزال عمليات تدفق السلاح تمثل الخطر الأكبر على تمدد واتساع نطاق الصراع، فحتى لو جلست أطرافه على مائدة المفاوضات كما هو مرتقب خلال أيام أو أسابيع. سوف تبقي شعلة الخلاف متأججة بين مجتمع انقسم على ذاته وتحولت كل مكوناته إلى ميليشيات يحارب بعضها بعضاً، بما ينذر بإعادة تقسيم السودان جغرافياً وسياسياً وعسكرياً. والأخطر من التقسيم أن يستمر الصراع بين الدويلات المقسمة ويستمر التدمير والتهجير حتى يتم تفريغ السودان تماماً من كل مواردها البشرية والطبيعية، وتصبح مرتعاً للقوى الخارجية تتحكم فيها كيف تشاء!

إن الاتفاقات القادمة بين أطراف النزاع فى السودان لن تكون اتفاقات سلام ووقف للحرب بقدر ما ستكون تفاهمات حول تقسيم الكعكة السودانية، وليذهب كل طرف بما كسب! وليكون الشعب السوداني هو الخاسر الوحيد فى أى اتفاق قادم!

إسرائيل تصرخ!

الإعلام الإسرائيلي تحدث فى الأيام الأخيرة عما أسماه انتصارات نوعية لجيش الاحتلال، تمثلت فى اكتشاف نفق كبير شمال جباليا. ثم نفقين جديدين وجدوا بأحدهما خمسة من الأسري قتلي داخل النفق. كما أعلنت إسرائيل تمكنها من اغتيال أحد قادة الحرس الثورى الإيراني فى سوريا. وكل تلك الأخبار تصب فى حالة تصعيدية تشير لتوسيع الحرب بدلاً من إنهائها. بينما يتحدث الإعلام الأمريكي عن الضغط فى اتجاه إنهاء الحرب وبدء المفاوضات قبيل بداية العام الجديد. فأي السيناريوهات أقرب للحدوث؟

هناك أنباء عن ضربات موجعة وجهتها كتائب حزب الله اللبناني ضد مستوطنات ومواقع عسكرية قريبة من جنوب لبنان، بينما الإعلام العسكري الإسرائيلي يتكتم حول حجم الخسائر ومواقع الضربات. وهو ما يشي بمحاولات التحجيم والتعتيم. فى نفس الوقت الذي تسببت فيه تهديدات الحوثيين للسفن الإسرائيلية المارة بمضيق باب المندب ذهاباً وإياباً لوقف الكثير من الرحلات وتحويلها إلى مسارات بحرية وبرية بديلة، وهو ما تسبب فى رفع تكلفة التأمين على جميع الرحلات التجارية المارة بالمضيق. ويبدو أن التحالف الأمريكي الذي تم توجيهه للوقوف فى وجه تهديدات الحوثي لم يفلح فى تحقيق أية نتائج تكتيكية ملموسة، وهو ما يعني تفاقم الوضع  وازدياد التهديدات ضد إسرائيل من جهة اليمن.

لقد أعلن الجيش الإسرائيلي مؤخراً عن استعداده لبدء المرحلة الثالثة من الحرب على غزة. وبدأ تلك الخطوات بسحب لواء جولاني من منطقة الشجاعية، وربما ألوية أخرى من شمال غزة، ليركز أعماله القتالية فى منطقتي الوسط والجنوب. والحديث الآن يدور حول ترتيبات ما بعد الحرب. وأن المطلوب هو تقويض قدرات حماس فى غزة، وإنشاء منطقة معزولة تقع تحت سيطرة إسرائيل خاصة عند المعابر والمحاور الرئيسية، وهو ما يعنى مزيداً من إحكام الحصار حول غزة والمقاومة. غير أن ما يحدث على الأرض يسير فى عكس الاتجاه الذي تخطط له إسرائيل..

الأرقام تؤكد حدوث خسائر حادة للجيش الإسرائيلي على كل المحاور.. هناك أكثر من خمسة آلاف جندى وضابط إسرائيلي سقطوا فى أرض المعركة بين قتيل ومصاب ومعاق. ونحو مليار شيكل خسائر يومية لاقتصاد إسرائيل. وأهالي الأسري ما زالوا يضغطون على حكومة نتنياهو وقادة الجيش لاستعادة أسري فشل الجيش فى استعادتهم بالعمليات القتالية، ولم يعد أمامه إلا استعادتهم من خلال المفاوضات. وربما كانت استراتيجية "هانيبال" لقتل الأسري قائمة فى أعراف الجيش، بعد أن أعلن الأخير عن قتله لثلاثة من الأسري الإسرائيليين عن طرق الخطأ!

ومهما كانت نتائج الحرب، فإن ما بعدها أسوأ بالنسبة لإسرائيل، فالنازحون والهاربون من جحيم الحرب قد لا يعودوا للمستوطنات، وسوف تتعرض حكومة إسرائيل لهزة سياسية كبيرة وستحدث بها استقالات وانشقاقات بالجملة، بخلاف التحقيقات الرسمية التي ستسفر عن انكشاف فضائح وأسرار كثيرة تم التعتيم عليها طوال فترة الحرب.

المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي قادمة لا محالة، لأن إسرائيل تنزف بشدة وتبحث لنفسها عن مخرج. وكلما ضغط دعاة الحرب فى حكومة نتنياهو لمزيد من إطالة أمد المعارك، فهم يستنزفون إسرائيل أكثر وأكثر، ويجعلون المفاوضات القادمة أشد صعوبة على المفاوض الإسرائيلي. وليس عندى أدني شك أن إسرائيل هى الخاسر الأكبر من هذه الحرب.

أمريكا وبداية النهاية

أسابيع قليلة وتبدأ أعنف وأسوأ انتخابات رئاسية أمريكية تحدث فى ظل انقسامات داخلية حادة هوت بشعبية بايدن وحزبه الديمقراطي إلى الحضيض. وعلاقات خارجية هى الأسوأ فى تاريخ الدبلوماسية الأمريكية. والعداء والكراهية ضد أمريكا وسياساتها فى تصاعد مستمر.

يحدث هذا فى الوقت الذي حققت روسيا عدة انتصارات كان آخرها السيطرة على منطقة محصنة شرق أوكرانيا، فى نفس الوقت الذي يقرر فيه الكونجرس الأمريكي تجميد المساعدات المقدمة لأوكرانيا. وربما جاءت انتخابات أمريكا القادمة بتغيرات دراماتيكية فى المشهد السياسي لا فى أمريكا وحدها بل فى العالم أجمع. إذ أن الحديث يجري عن إمكانية عودة ترامب لسدة الحكم، وهو ما قد يعني إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بالمفاوضات وبدء حلقة جديدة من الصراع الأمريكي الصيني، فى ظل تقلص حجم الحلف الأمريكي الغربي مع تزايد كراهية الدول للعنجهية الأمريكية فى مقابل علاقات اقتصادية أسرع نمواً نحو الحلف الصيني ودول البريكس.

لاشك أن عام 2024 سيحمل الكثير من المفاجآت هنا وهناك. وهو ليس عام الحظ بالنسبة لأمريكا ولا إسرائيل.

***

د. عبد السلام فاروق

 

"إذا كانت الحرب تقوم على قضايا معينة، فيجب أن تكون هذه القضايا بالضرورة قضايا عادلة. فلا حرب عادلة من دون قضية عادلة"  ديفيد فيشر

كسٌر العام الميلادي الجاري الذي نودعه بعد أيام قليلة، جدل الاحتيال الأخلاقي والسياسي، الذي يبتدعه الغرب، وينافح عنه بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة. وصار الاختزال النمطي للتدجين بالأساليب الادعائية، مجرد قشرة رقيقة، تجتزؤها فراغات قيمية وإنسانية، سرعان ما ترعوي وسط ركام فظيع من التخرصات التاريخية المليئة بالندوب والآلام والقذارات الممارسة خلال أحقاب وعقود.

فالغرب الديمقراطي، المتفاخر بإنجازات الحداثة والعولمة والتكونولوجيات العالية والحروب السيبرانية المتسارعة، المجاهر بسمو النظام العالمي لحقوق الإنسان والحيوان، والمناصر لقضايا العدالة والسلام والمساواة، هو نفسه، المستعمر القديم، المهيمن على مقدرات الشعوب المستضعفة، المستنزف لثروات بلدانها الثالثية، المستبد بالحكم الأممي المصيخ إلى قالب الفيتو الظالم.. لا ينفعل مع نهضته الفلسفية والعمرانية، في أقرب تصوراتها ومرجعياتها. فقد افتقد روح الأخلاق الأرسطية المنزوعة، المرتبطة بالسعادة الإنسانية، غاية الوجود والعقل والتسامح. بل إنه هدم قيم كانط، المرتكزة على الواجب الأخلاقي والمثالية الإنسية المتبعة للعقل والوجدان.

خلال عقدين من الزمن، ارتكزت بروبجندا الغرب الأخلاقي، على الترويج الإعلامي للأخطار المحدقة بالعالم، على سبيل مواجهة التطرف الديني، ومجابهة التيارات الإسلامية المتحالفة مع المشاريع السياسية المشبوهة، وبرامجها لتزييف حقيقة "الإسلام" و"المسلمين"، فكانت الأحداث الكبرى التي اهتز لها ضمير العالم، هجمات 11 سبتمبر 2001 وما أعقبها من الحروب الإبادية والتخريبية، في العراق وأفعانستان. ثم بزوغ نظرية الربيع العربي عام 2011، التي صارت وبالا وشنارا مأفونا على البلدان العربية، في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا.

صار لزاما علينا، أن نعيد تقييم سؤال الغرب والإسلام، أو في الحد الأدنى، إثارة الاستفهام السيروري المتصل ب: "ماذا يريد منا الغرب؟ أو لماذا يكرهوننا؟"، والذي يؤسس في العمق، لمحاولة استجلاء عناصر التشكيل الحضاري الإسلامي المتجاور مع التشكيل الحضاري الغربي (المسيحي)، وعلاقة ذلك بالتحريض الصهيوني واندغامه في السياسة والاقتصاد الموجهين؟.

هل ثمة ما يحيل إلى هذا التشاكل بين عقيدتين أو منظومتين أخلاقيتين متباعدتين، تؤثثان حقولا تاريخية ضاربة في القدم، من البغضاء والتنافر والعداء والقطائع؟

لقد أفرزت المساحة الثقافية والهوياتية للأحداث المترابطة، في سياقاتها المتشعبة، نوعا من التصادم في إنتاج جبال من المشاكل وما تفرزه من عراقيل وإكراهات، لم تكن لتحجب مستوى القلق المرتفع بين الطرفين، وتجاذبات المصالح السياسية بينهما، لدرجة الإسفاف وضعف القابلية، وتمكين توجيه طفرة التبادل وتصحيح المسار وتنظيم العقد السياسي وتخفيف حدة التوتر وتقبل وجهات النظر وترسيخ مبادئ السلوك الحضاري والتفاهم والاحترام المتبادل. ما أضحى يغلب على واقع التباس غامض ومناكف للواقعية والنظرية الأممية القائمة على "السيادة" و"الهوية الوطنية" و"الانتصار للقيم الكونية"، من جهة كون الغرب، يزجي بفوقيته وأنانيته وانتقائيته واستغلاله، بل وانتقامه وغصبه للحقوق؟.

لم تكن سنة 2023، سوى نافذة لفرز هذا التوجه. وفيها ظهر للعيان، كيف يمكن للغرب أن يعود لسابق عهده، وأن ينقاد من قبل منظومته لتأكيد تسامي "الاستراتيجية الاستعمارية"، و"الخيار الحربي" على كل المفارقات السلوكية والأخلاقية المغايرة.

وعلى الرغم من أن "التاريخ يعيد نفسه"، كما يقال، فإن الحروب اللاأخلاقية للمثالية الغربية "الأمريكية"، منذ غزو خليج الخنازير عام 1961، وغرينادا 1983، وبنما 1989، وحرب الخليج الثانية 1990، وحرب العراق 2003، وقبل ذلك كله حرب الفلبين ومورو 1899/ 1913، وفيتنام 1955/1975، ثم أفغانستان 2001/2021، أزاحت القناع عن الوجه الحقيقي لتمثال الحرية المصطنع، وأعادت صياغة مفاهيم "الغرب الحداثي الحقوقي" ، وأبصرت الفوارق السياسية والمجالية والثقافية للخلفية الإيديولوجية والبراغماتية التي يرتديها مديرو العمليات في الغرف الموجهة، بلبوسات متعددة، منها ما هو تنموي، ونسائي وبيئي ومالي وشبابي ..إلخ.

لقد تحدث بعض أبناء هذا الغرب، في الكثير من المحطات النقدية المتفردة، عن أزمة الغرب الأخلاقية، وانتقالها إلى "الهمجية" و"الإسراف في العداوة"، والتأليب الميؤوس. فكان من بعض هذه الأمثلة، ما ينصف ويرد الصاع، لدرجة أن أحدهم وهو عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، استعمل أداة "أزمة الغرب" لنقد الحداثة وما تشكله من تناقضات وتأثيرات سلبية على الفكر والحياة، ليستقوي بعناصر أسئلته الحارة والمؤلمة، كسؤاله عن:"هل نسير نحو الهاوية؟" و"الأزمة التي تتخبط فيها حضارتنا" و"عنف العالم" و"الأزمة الكوكبية للحضارة الراهنة" و"دوامة الحاضر" و"أزمة الحداثة"؟."

لكن قسوة الغرب ونكوصيته، فاقت كل تصور ونظر، قبل أن تغادرنا سنة 2023 الدموية والعصية على التأويل. فقد أعمت سلطة الغرب أخلاقية المنظمة الأممية، وعرت كل ما تبقى من أقنعته الخفاشية، بعد أن استوعبت قناعاته المشؤومة، الفاشستية الصهيونية في أيشع صورها. حيث انقضت الأخيرة بحلف شيطاني مع "الغرب" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لإبادة غزة المحاصرة المحتلة، وتدميرها وتهجير ما تبقى من ساكنتها ...

تكشفت نوايا الغرب بشكل لا يدعو للشك، بعد أن فشلت المنظومة الدولية، حتى في أبسط قراراتها لوقف إطلاق النار وإبادة الشعب الغزاوي وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع، وإيقاف تدمير المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والخدمات الإنسانية ...

تأكد كذب الغرب واحتياله على النظام العالمي، وزيف ادعاءاته بالانتماء لقيم الحداثة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر و....

لقد جأر الغرب بما لم يكسبه أملا في إعادة تصحيح صورته، التي أدغمت بين الاحتلال والقتل والعدوان، إلى كسر الشأفة وإبطال القوة والجبر على الخنوع والخضوع. فصار هذا الغرب، شوكة في حلق، وطغمة في نحر، ونصبا في قعر.

لقد باتت "سياسات الغرب غير مستقرة، وهي إلى ذلك مترددة ومتأرجحة في تعبير بليغ عن الأزمة البنيوية التي تعتري الغرب"، كما يذهب إلى ذلك حسن أوريد في "أفول الغرب"، لكن هذه السياسة لم تكن محجوبة أو غائبة، عن أنظار أصحاب التفكير والاجتماع، بل إنها تتمترس في سياق تأويل براديجم التغيير في صلب مجتمعاتها ومكوناتها الثقافية، التي تشكل إحدى أهم خصوصيات ديمقراطيتها النخبوية، وهو ما يظهر جليا في رفض الشارع الغربي، بشكل عام، لسياسات إداراته وتناقضاتها الصارخة. ولنا في مثال غزة أبلغ نموذج لرفض الاحتلال والعدوان والإبادة والظلم.

***

د مصطَفَى غَلْمَان

جاءت كلمة الامين العام للأمم المتحدة في الذكري الخامسة والسبعين لحقوق الانسان في العاشر من الشهر الجاري، متزامنة مع مرور خمسة وسبعين عاما ايضا على احتلال اسرائيل لأرض فلسطين العربية .

هذه السنوات الطوال حرم فيها الفلسطينيون من الأمن والسلام وحرية التنقل واقامة دولتهم المستقلة على أراضيهم، بل استبيحت دماؤهم بالقتل، واستبيحت أنفسهم بالاعتقال، وسلبت اراضيهم ومنازلهم وسرق عمرهم في الصمود على الارض .

عبرت كلمة أنطونيو غوتيريش عن كل انسان علي كوكبنا الارض ذاق مرارة الظلم والاضطهاد والتهجير وسلب الحقوق الأساسية للحياة، فتفاعلت معه العقول والافئدة الانسانية الشريفة، خاصة عندما ذكر وذكّر بالفاتحة الشهيرة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص على: " يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق".

هذه الحقوق الأساسية للإنسان لم تجد لها محلا من الاعراب الا بإرادة القوي العظمى، فهي التي تحدد الدول التي تحظى بالديمقراطية وتتحقق فيها العدالة والمساواة في الكرامة والحقوق الأساسية، وتحرم دولا أخرى منها في منطقتنا العربية من الفوز بهذه الحقوق وشعب فلسطين المحاصر يعد المثال الصارخ لانتهاك هذه الحقوق.

نعم ان الاعلان العالمي لحقوق الانسان قد كرس قيما شريفة تحفظ كرامة الانسان وتصون حقوقه، ولكن البشرية أو بالأحرى قادة المنظومة الدولية المسيطرة على العالم، جعلت هذا الميثاق بمثابة حبرا على ورق، حينما انتشرت الحروب في العالم شرقا وغربا ولم تسع لوقفها، لسبب بسيط وهو تجارة السلاح العالمية ومكاسبها الخرافية .

وانتشار الفقر في العديد من قارات العالم، بل تعمد افقار دولا كانت غنية أو على الأقل تحقق الاكتفاء الذاتي من غذائها ودوائها مثل العراق و اليمن وسوريا، لسلب خيراتها من نفط وغاز وجعلها خاضعة وتابعة للقوى العظمي وميراثها الاستعماري .

 جرى تغييب قيم السلام العالمي سواء من خلال الكيل بمكيالين كما في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وعدم تطبيق قواعد القانون الدولي لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني الواقع تحت نير الاحتلال، أو بافتعال الفتن الطائفية والعرقية والدينية لتقسيم وتفتيت منطقتنا العربية في العراق ولبنان والسودان واليمن وسوريا وغيرها .

نشر الأوبئة في العالم لسنوات طويلة لصالح شركات الأمصال والأدوية وتجارتها الرابحة على حساب صحة المرضى وأموال الدول والشعوب . ومع تعاظم الإجرام العالمي خارطة طريق لإنهاء الحروب .

دول القوى العظمى هي التي تنعم بحقوق الانسان، لان دولها ليست موطنا لدفن النفايات الخطرة كما يجري في قارة افريقيا، وتنعم الدول الكبرى بحقوق التعليم الجيد، بينما فتات العلم يساق الينا دون ان نستفيد منه الا اذا حصلناه في المدراس والجامعات العالمية .

حق الحياة نفسها لم يعد مضمونا ليس فقط بسبب الحروب والنزاعات، ولكن بسبب رغبة بعض القوى العالمية في حصد أرواح الناس وتقليص سكان البسيطة الى مليار نسمة فقط والعمل على تحقيق هذا المخطط الشيطاني بأساليب متنوعة مثل اوبئة كورونا وغيرها، وإحداث خلل متعمدا في المناخ بقطع الاشجار وإحراق الغابات، واشعال حروب المياه وغيرها .

ان وصف الامين العام للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنه: " بمثابة خارطة طريق تهدى الى السبيل لإنهاء الحروب ورأب الانقسامات وتعزي العيش في سلام وكرامة للجميع، وصف حق وخريطة حق ولكن لم يريد السلام للبشرية، بينما الواقع ان البشري رجعت القهر في حقوق الانسان، بل انها تعيش رغم تطورها العلمي والتكنولوجي الفائق في ظلام جاهلية توظف فيه العلم لدمار الانسان وسحقه بدلا من امنه وسلامه وكرامته .

***

 سارة طالب السهيل

 

كتبَ عبد الرحمن الكواكبيّ(ت: 1902): «تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعيّ للأديان، على أن الاستبداد السّياسيّ متولد مِن الاستبداد الدّينيّ، والبعض القليل يقول: إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان، أبوهما التّغلب وأمهما الرَّئاسة»(الكواكبيّ، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد). قال الكواكبيّ ذلك في زمن الإمبراطوريات، التي لا تهيمن بلا عقيدة دينية، وقد عاش ورَحل في الزَّمن العثمانيّ(1849-1902).

انتهى التَّلازم بين الاستبداديَن، الدَّينيّ والسّياسيّ، بانتهاء الإمبراطوريات، ولهذا التّلازم جهد الإسلاميون على إحيائها بعنوان «الحاكميّة»، «ولاية الفقيه» بعينها، لكنَّهم تحولوا بالظَّاهر إلى الهتاف الوطني، فاختصر معروف الرُّصافيّ(ت: 1945) التَّحايل ببيته: «أُحبولة الدِّين رَكت مِن تقادمها/فاعتاض عنها الورى أُحبولة الوطنِ».(الدِّيوان 1959، الدِّين والوطن).

كنا نقرأ في المدارس، وما تداولته كتب المعاصرين، مِن مقالة للخليفة الرّاشديّ عُمَر بن الخَطَّاب، قالها قبل دهرٍ طويلٍ: «متى استعبدتم النَّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».. سمعناها وقرأناها هكذا، وقبل العثور على مصدرها، قلنا اُختلقت لأجل التّربية والتّعليم، ولم يُكلف المعاصرون أنفسهم البحث عن مصدرها، فصاغوها بلغة أقرب إلى ألسنة العصر الحديث.

لكن المقولة ليست مِن مختلقات المعاصرين، ولم ترو لهدف سوى كتابة التّاريخ، رواها المؤرخ عبد الرَّحمن بن عبد الله بن عبد الحكم(ت: 257هج) كالآتي: «مذ كم تعبّدتم النَّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً»، (ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب)، ثم رواها: الثَّعالبيّ(ت: 429هج)، في «الشّكوى والعتاب»، والمفسر المعتزليّ محمود الزّمخشريّ(ت: 537هج) في «ربيع الأبرار ونصوص الأخيار»، وابن حمدون(ت: 562هج) في «التّذكرة الحمدونيَّة»، وبعدها انتشرت في كتب مَن أتى بعدهم. رويت عن سندها الصَّحابي أنس بن مالك(ت: 93هج).

كان بين زمنيَ الخليفة الرّاشديّ الثّاني وعبد الرّحمن الكواكبي نحو 1300 عام، قالها الأول وهو صاحب أمر، ونفذها قولاً وفعلاً، أمَّا الثّاني فكان مثقفاً داعيّةً ضد الاستعباد، وكذلك تبناها قولاً وفعلاً، وراح ضحيتها.

ستكون مقالة الخليفة سنداً قويّاً لكتاب الكواكبيّ ونقده للاستعباد لو ذكرها، وقد استعان بأمثلة كثيرة مِن تراث الخلفاء والأمراء في الاستعباد، مِن التّاريخ والدّين، كما ذكر الخلفاء الرَّاشدين: «أظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الرّاشدين، التي لم يسمح الزّمان بمثال لها، بين البشر حتَّى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف، إلا بعض شواذ، كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العبّاسيّ ونور الدّين الشّهيد(قصد نور الدّين زنكيّ (الكواكبيّ، طبائع الاستبداد...).

يغلب على الظّن أنه لم يلاحظ مقولة عُمَر بن الخَطَّاب، وإلا لم تفته، وكانت موثقة مِن مؤرخين أقدمين، لكنها لم تنتشر، عندما كتب الكواكبيّ كتابه، وهو القرن التَّاسع عشر الميلاديّ، فالمصادر التي وردت فيها لم تُحقق آنذاك وتُنشر، وإلا لو لاحظها الكواكبيّ لكانت جوهرة كتابه.

قد يقول قائل، ومن أدراك أنّ الخليفة قالها؟! فعادمو التّاريخ أخذوا يتكاثرون ويتكاتفون. جوابنا ليكن ابن الخَطَّاب لم يقلها، لكنّ خذوا قِدمها مِن تاريخ روايتها المتصل بعصرنا، وهو زمن ابن عبد الحكم، وزمن رواتها عن تاريخه «فتوح مصر والمغرب»، كالثّعالبيّ والزّمخشري وابن حمدون، واتركوا مِن رواها قبلهم وبعدهم!

هذا، وقد يثور سؤال آخر، إذا كان عمر قالها فلماذا لم يلغ العبوديّة، التي استمرت حتَّى بداية قرننا العشرين؟! الجواب، كانت العبوديّة سمة اجتماعيّة واقتصادية سائدة، يُنزع إلى رفضها والتّخفيف عنها، لكن لم تحن الظّروف لإلغائها بالكامل، والحِقب الاجتماعيّة لا تلغى بأمر أو رأي، إنما مثل تلك المقولة كانت بداية التّدرج في إلغائها، وفكرة التَّدرج، عبر العتق، جاءت في خطاب عبد الرّحمن الكواكبي، راداً على مَن شكك في مؤتمر زنجبار العالمي بخصوص إلغاء الرِّق(الكواكبي، الأعمال الكاملة).

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

اجتماع المجلس الاقتصادي الأوراسي الأعلى، الذي اختتم في العاصمة الشتوية الروسية سانكت بطرسبورغ، انتهى بالتوقيع على وثائق مهمة في المقدمة منها، التوقيع مع ايران على اتفاقية للتجارة الحرة مع إيران، والتي ستحل محل الاتفاقية المؤقتة المعمول بها منذ العام 2019، ووقعها رئيس مجلس إدارة اللجنة الاقتصادية الأوراسية ميخائيل مياسنيكوفيتش ونائب رئيس وزراء الروسي أليكسي أوفتشوك، ووزير الصناعة والمناجم والتجارة الإيراني عباس علي آبادي، كذلك وقع على الاتفاقية ممثلو بيلاروس وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان..

وسبق وان تم إبرام اتفاقية مؤقتة بشأن إنشاء منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الأوراسي (والذي أنشأ مطلع عام 2015 على أساس الاتحاد الجمركي الذي كان قائما آنذاك بين روسيا وبيلاروس وكازاخستان، وانضمت إليه لاحقا كل من أرمينيا وقرغيزستان في السنة ذاتها). وإيران في 17 مايو 2018 وهي سارية اعتبارا من 27 أكتوبر 2019، وتضمن اتفاقيات، للاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يضم كلا من روسيا وأرمينيا وبيلاروس وكازاخستان وقرغيزستان، ويقدر سوقه بنحو 190 مليون مستهلك، لجميع أعضائه حرية تنقل السلع والخدمات ورؤوس الأموال واليد العاملة، وانتهاج سياسة متفق عليها في قطاعات التجارة والطاقة والصناعة والزراعة والنقل.

أن اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وإيران، لها أهمية كبيرة في تعزيز العلاقات الاقتصادية، وفقا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي أكد خلال الاجتماع على إمكانية أن تكون هذه الاتفاقية مهمة حقا في سياق تعزيز علاقات الاتحاد الأوراسي، مع أحد أكبر الاقتصادات وأكثرها تقدما من الناحية التكنولوجية في منطقة أوراسيا، وبمجرد دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، فإن جميع فئات السلع المنتجة في الاتحاد تقريبا ستتمتع بإمكانية الوصول إلى السوق الإيرانية الواسعة، والتي يبلغ عدد سكانها 90 مليون نسمة بدون رسوم جمركية، وسيتم تخفيض العوائق الغير الجمركية بشكل كبير.

كما ووقع زعماء الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي على إعلان مشترك حول تطوير التعاون الاقتصادي حتى عام 2030 ووثيقة "الطريق الاقتصادي الأوراسي" للفترة حتى عام 2045، واعتبرت روسيا هذه الوثيقة الجديدة بأنها ذات طابع منهجي، تنص على إجراءات محددة لتكثيف الجهود المشتركة في القطاعات الرئيسية، وهي تحدد كذلك المجالات الإضافية للتعاون مثل جدول الأعمال الخاص بالمناخ والطب والسياحة وغيرها، وأكد بوتين أن الاقتصاد يسجّل نمواً في جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وأن روسيا تعول على مصادقة الدول الأعضاء في الاتحاد على انضمام إيران إليه على وجه السرعة.

وحرص الرئيس الروسي خلال كلمته على تذكير الدول الغربية بعقوباتهم، التي لم " تهز " تبادل بلاده التجاري ودول الاتحاد، واكد نمو إجمالي الناتج المحلي في روسيا خلال الأشهر التسعة من العام بنسبة 3%، بينما بلغت نسبة النمو في أرمينيا أكثر من 9% وكازاخستان نحو 5% وقرغيزستان أكثر من 4% وبيلاروس 3.5% خلال الفترة ذاتها، لافتا الانتباه إلى أن حصة العملات الوطنية في التعاملات التجارية بين دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بلغت 90%، مشيرا إلى أن هذه النسبة ستزداد في المستقبل بفضل الإجراءات المشتركة التي تتخذها هذه الدول في القطاع المالي.

في غضون أربع سنوات فقط، قطع الاتحاد الأوراسي وايران، الطريق نحو التفاعل العميق، قدر الإمكان في الظروف الحديثة، في مجالات الاقتصاد والتجارة، وهو ما استغرق تحقيقه عقودًا أخرى، ويمكن التوصل إلى هذا الاستنتاج ليس فقط من خطابات كبار المسؤولين، وليس فقط من نتائج الاجتماع بين قادة إيران وروسيا، العضو القيادي في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ولكن أيضًا، على سبيل المثال، من نتائج المعرض السادس من إمكانات التصدير الإيرانية التي انتهت مؤخرا .

والاتفاقية بالنسبة الى ايران يمكن تسميتها من وجهة النظر الإيرانية، بانها بداية انتقال علاقات إيران مع الدول إلى مستوى مختلف، وفي الواقع، سيتم توسيع نطاق اتفاقية التجارة التفضيلية المعروفة، والتي تم التوقيع عليها في عام 2018 ودخلت حيز التنفيذ في 27 أكتوبر 2019، قدر الإمكان، ولنتذكر أنه بموجب هذه الاتفاقية، خضعت حتى الآن حوالي 862 مادة سلعية للتعريفات التفضيلية، وليس هناك شك في أنه في إطار اتفاقية التجارة الحرة، سيتم توسيع هذه القائمة بشكل كبير للغاية، وفي الوقت الحالي، ينمو حجم التجارة المتبادلة بين إيران والدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بوتيرة تتطلب تحديثًا فوريًا، قبل الإطار القانوني بشكل ملحوظ، وهكذا، في الأشهر الثمانية الأولى فقط من السنة التقويمية الإيرانية الحالية (21 مارس - 21 نوفمبر)، زادت قيمة الصادرات الإيرانية إلى دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بأكثر من 20٪ مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، ويتم توفير هذه البيانات من قبل لجنة العلاقات الدولية وتنمية التجارة التابعة لغرفة الصناعة والتعدين والتجارة في جمهورية إيران الإسلامية.

يذكر أن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي يضم كلا من روسيا وأرمينيا وبيلاروس وكازاخستان وقرغيزستان، وتتمتع كوبا ومولدوفا وأوزبكستان بصفة عضو مراقب فيه، ومن المقرر أن تستضيف موسكو قمة الاتحاد في عام 2024، حيث ستحل الذكرى العاشرة لإنشاء الاتحاد.

ولايقتصر التعاون بين دول الاتحاد وايران، فهناك وكما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى وصول اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومصر " الى مرحلة متقدمة"، مؤكدا الحرص على التوقيع عليها بأسرع ما يمكن، وفي الوقت الراهن هناك مفاوضات هامة قيد الإعداد مع دول أخرى ذات قدرات اقتصادية كبيرة، والحديث يدور عن اتفاقية حول التجارة التفضيلية بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومصر، "أحد شركائنا الرئيسيين في العالم العربي وفي القارة الإفريقية بحسب تعبير الرئيس بوتين، مؤكدا "أننا معنيون بالتوقيع عليها بأسرع ما يمكن"، والإشارة أيضا إلى أنه بالإضافة إلى ذلك تجري المفوضية الأوراسية مفاوضات مع الإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا، والتأكيد أن إقامة مناطق التجارة الحرة مع هاتين الدولتين ستسمح بزيادة صادرات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وزيادة التوريدات إلى أسواق الدول الصديقة وتحفيز التنمية الاقتصادية لدول الاتحاد وستزيد من حجم السوق المشتركة وتنويعها.

وكثيرون على استعداد لاعتبار تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي مع إيران خطوة أولى نحو انضمام الجمهورية الإسلامية إلى الوحدة الاقتصادية للجمهوريات السوفييتية الخمس السابقة، ومع ذلك، ومن خلال نظرة رصينة إلى آفاق التعاون بين إيران والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، لا يسع المرء إلا أن يعترف بمثل هذا التقييم، باعتباره رغبة في تمرير ما هو مرغوب فيه على أنه حقيقة واقعة، والنقطة المهمة هي، أولاً وقبل كل شيء، أن الظروف الموضوعية لا تسمح ولن تسمح لإيران بالتحول الكامل نحو الشمال لفترة طويلة، ومع تزايد حجم التجارة وأنواع التعاون الأخرى بين إيران وروسيا وشركائها في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، فإن الاتجاه الشرقي هو السائد تقليديًا في الاقتصاد الإيراني، وهو أكثر توجهاً نحو الدول المجاورة، وليس من قبيل الصدفة أنه بالتوازي مع توسيع التعاون مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، هناك تقارب بين إيران والمملكة العربية السعودية والدول الصديقة لها.

وفي الوقت الحاضر، تواجه قدرات النقل والخدمات اللوجستية في إيران وعلى الجانب الجنوبي من الاتحاد الاقتصادي الأوراسي صعوبات كبيرة بسبب الحاجة إلى خدمة التبادل التجاري المتنامي، وذلك على الرغم من أن حصة الأسد من الصادرات والواردات بين إيران ودول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي تقع على المنتجات الزراعية والغذائية والحيوانية، وتمثل البضائع من هذا النوع أكثر من 84% من حيث الوزن وما لا يقل عن 71% من قيمة الواردات الإيرانية من الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، أما حصتها في صادرات إيران إلى الاتحاد الأوروبي فهي أقل ــ 20% من حيث الوزن و39% من حيث القيمة.

ويجب الاعتراف بأنه في المستقبل، بدون تنفيذ عدد من مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق، فإن احتمالات التكامل الأعمق لإيران مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ستكون موضع تساؤل، ومما يزيد أهمية ذلك أن طهران أوضحت أكثر من مرة أن أولويتها الرئيسية في التجارة الخارجية هي تصدير الخدمات الفنية والهندسية، وبطبيعة الحال، لا يمكن لأي قطاع في الاقتصاد الإيراني أن يضاهي تصدير النفط والمنتجات النفطية من حيث الحجم والقيمة، لكن هذا لا يعني أن هذا سيكون هو الحال دائمًا.

وبالنسبة لروسيا وكما يؤكد المراقبون، فإن الصراع في أوكرانيا لا يشكل عائقًا، بل يشكل عاملاً محفزًا لتعميق التكامل الأوراسي، وهناك تفسيرات عديدة لذلك، أولاً، تعمل روسيا، آخذة في الاعتبار تقليص الحوار متعدد الأشكال مع معظم الدول الغربية، على تنويع وجودها في مناطق أخرى من العالم، وفي الوقت نفسه، لا يوجد ما يسمى بالتحول نحو الشرق، بل هناك تجسيد لسياسة روسيا متعددة الاتجاهات، ثانيا، تم إعلان دول الجوار أولوية لأنشطة السياسة الخارجية الروسية منذ عدة سنوات، ولم تنته هذه المهمة، بل على العكس من ذلك، تكتسب زخما إضافيا، وثالثًا، ان العقوبات الاقتصادية غير القانونية التي فرضتها الدول الغربية والصراع في أوكرانيا على روسيا، تدفع إلى استخدام مزايا التكامل في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي بشكل أكثر نشاطًا، مع الأخذ في الاعتبار عددًا من العوامل، بدءًا من غياب الحدود الجمركية وانتهاءً بانتقال الروس إلى الدول المجاورة.

وبطبيعة الحال، ومع الأخذ في الاعتبار الأهداف الحالية وطويلة الأجل، تسعى روسيا إلى تعميق التكامل، ضمن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ورابطة الدول المستقلة ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ودولة الاتحاد بين روسيا وبيلاروس، وكذلك ضمن اتحادات أكبر مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، و بريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، والشراكة الأوراسية الكبرى. وتنعكس هذه الاتجاهات أيضًا في تطوير الإطار القانوني لتشكيل اتحادات.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

يكثر القادة الإسرائيليون من استخدام مصطلح «تغيير الوعي الفلسطيني»، منذ بداية الحرب على غزة، كأحد أهداف هذه الحرب وتبريرات لنوعية العمليات الحربية التي ترافقها، وفيها يدفع المدنيون الفلسطينيون ثمنا مريعا، وليس صدفة أن وزير الدفاع، يوآف غالانت، ردد الكلام بعد ساعات من تنفيذ القصف الدموي على مدرستي الفاخورة وتل الزعتر، وفي مخيم جباليا، والتي أوقعت في يوم واحد نحو ألف قتيل من المدنيين، لكن هناك أساسا عقائديا لهذا التصعيد وهذا الثمن الباهظ من الدمار، يأتي من مكان آخر. لقد أسماه الوزير غالانت «تغيير الوعي الفلسطيني». وهذا المصطلح ورد للمرة الأولى في الوثيقة التي وضعتها وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، نهاية الشهر الماضي، لغرض التوصية بترحيل جميع أهالي قطاع غزة إلى مصر. وتضمن المخطط فقرة تؤكد أن أي حل لمستقبل غزة «يجب أن يترافق مع حملة كي للوعي الفلسطيني يتم فيها تغيير المفاهيم والعقائد المعادية لإسرائيل، بحيث يقتنع الفلسطينيون بأن هجوم حماس على إسرائيل كان فاشلا وتسبب لهم في الدمار وسقوط الضحايا والتشرد،هذا التعبير ظهر قبل ذلك في الأبحاث التي أجريت في رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي عام 2018، عندما كان رئيس الأركان غادي آيزنكوت، يتحدث عن حرب متعددة الجبهات. وآيزنكوت هو أحد أعضاء المجلس الخماسي لإدارة الحرب على غزة

نتنياهو اختار مبدأ تقوية حماس عن طريق تعزيز الانقسام الفلسطيني، الضامن الأكبر لمنع مفاوضات على إقامة دولة فلسطينية. لكن نتنياهو هذا كان قد تحدث عن تغيير الوعي الفلسطيني في سنة 2005، أيضا بمعرض الحديث عن غزة. ففي حينه ظهر أمام مؤتمر القدس وقال إن الفكرة التي رسمت عن إسرائيل في اتفاقيات أوسلو وخطة الانفصال عن غزة هي أن ديننا الهرب. ويجب أن نهاجم بقوة شديدة حتى يبدأ لديهم تفكير جديد عن إسرائيل. وقال: «بهذه الطريقة تصبح مسألة تغيير الوعي والثقافة والمفاهيم لدى العرب أصعب حتى من فكرة تغيير المفاهيم لدى الألمان واليابانيين،، فليس صدفة أن نتنياهو عاد ليتحدث عن الألمان واليابانيين في بداية الحرب على غزة. وغالانت، الذي كان في سنة 2005 قائدا للواء الجنوبي في الجيش ومسؤولا عن قطاع غزة، عاد ليتحدث عن الألمان واليابانيين، في المؤتمر الصحافي الذي ظهر فيه مع نتنياهو وبيني غانتس في الليلة الماضية. المشكلة في هذه التصريحات تكمن في الأسلوب الذي اتبعه الأميركيون والغرب لتغيير الوعي في ألمانيا واليابان،، وبحسب المؤرخين، كان تدمير مدينة دريسدين الألمانية في فبراير (شباط) سنة 1945 وقتل 35 ألف مواطن فيها بمثابة الحدث الذي حفر في ذاكرة الألمان على أن النازية جلبت له الكوارث وأن الغرب مصر على سحق النازية. وأما في اليابان فقد تغير الوعي عندما ألقى سلاح الجو الأميركي أول قنبلة نووية في التاريخ على كل من هيروشيما فدمرها بالكامل وقتل من سكانها 66 ألفا، وناغازاكي التي قتل من سكانها 40 ألفا، ودمرت المدينتان بالكامل، بعد فشلهم في إخضاع الفلسطينيين بقوَة السَلاح، صار الهدف الإسرائيلي الجديد هو احتلال الوعي العربيّ وطمس الهويّة الإسلامية في فلسطين، وذلك لمعرفتهم بكون العنصر العربي عنصرًا أكثر شراسةً وإقدامًا وصبرا على الحرب من العنصر الأشكينازيَ الحاكم ومن الجنود الّذين لملمتهم إسرائيل من شتى بقاع العالم لتكوّن شعبًا غير متجانس يعينها على تصدير روايتها البائسة إلى العالم. كون الإسلام قد شرع الجهاد ضد المعتدين، فقد باتت إسرائيل تذوق الأمرّين من التفنّن والتنوّع الفلسطيني في أساليب المقاومة مع البسالة منقطعةِ النظير التي أبداها المجاهدون والمجاهدات في سبيل إيلام هذا الكيان وإضعافه ودبّ الرّعب بين سكانه

تصريحات المسؤولين الصهاينة ومن شايعهم تحيل إلى أمر آخر تمامًا، وتنطلق من قاعدة أنّ حماس “حركة إرهابية” ذات أيديولوجية دينية متطرفة تهدف إلى إبادة اليهود، وهذه الأيديولوجية متغلغلة في العقل الجمعي الفلسطيني، ومن ذلك مقال منشور على موقع “ميدا” العبري ذي التوجهات اليمينية المتطرفة، بعنوان “حماس هي عرضٌ لمرض فلسطيني“، ويردُ فيه أنّ الفلسطينيين هم من يمكّنون حماس من الوجود، وهي تتمتع بتأييد في المناطق الفلسطينية بسبب أنها تمثل الهدف الديني المتطرف، وهو إقامة دولة إسلامية تقتلع إسرائيل

حيث بات جليًا أنّ دولة الاحتلال تهدف إلى إحداث تغيير في الوعي الفلسطيني يهدف إلى التخلص من فكرة حماس، كما يراها قادة الاحتلال،وتجاهلوا ان حركة حماس فكرة وأيديولوجيا مغروسة في الوعي الفلسطيني، ولذلك يصعب القضاء عليها، وتجاهلوا مقولات شارو ن ويهود باراك حين وصفوا حماس من غير الممكن القضاء على حماس، لأنها فكرة أيديولوجية، وإنما يجب ضربها وإضعافها بصورة لا تتعافى منها.

***

نهاد الحديثي

 

قد يستغرب البعض من العراقيين المتفائلين انتكاسة التيار السياسي (المدني) المنضوي تحت مسمى (قيم) في الانتخابات المحلية التي جرت يوم الاثنين المصادف الثامن عشر من الشهر الجاري (كانون الأول)، بعد أن داعبت مخيلتهم المجيشة بالشعارات والمعبأة بالخطابات الكثير من الأحلام والأوهام . من منطلق ان الشارع العراقي قد ذاق ذرعا"بممارسات القوى السياسية التقليدية (الشوفينية والطائفية والقبلية)، التي أدخلت البلاد في دوامات من الخراب الحضاري واليباب الإنساني على نحو غير مسبوق، جراء تعميم الفوضى واستشراء الفساد في كل مرفق من مرافق الدولة وضمن كل قطاع من قطاعات المجتمع . بحيث ان هؤلاء اعتقدوا ان فرص نجاح التيار في هذه الانتخابات (المحلية) ستكون مجزية لا بل وفيرة، وبالتالي سيشهد العراق باكورة تحولات نوعية على كافة الصعد والمستويات .

وعلى أساس من هذا الاعتقاد الخاطئ، فقد ظن أولئك البعض أن العراقيين هذه المرة سوف لن يكرروا ذات الأخطاء التي ارتكبوها في السابق، لاسيما حيال اختيار مرشحيهم (ممثليهم) - كما حصل في الانتخابات التشريعية الماضية - وفقا"لقواعد الانتماء الأصولي والولاء العصبي الأثيرة لدى الجميع، بعد أن تكشفت لهم عواقب ذلك الاختيار وتعرت أمامهم أكاذيب وادعاءات من سوقوا أنفسهم ك (منقذين) و(مخلصين) لنيل أصوات الناخبين المخدوعين بالوعود . وإنما سيغيرون بوصلة توجهاتهم صوب القوى (المدنية) المستقلة التي روّج الكثير عن أهدافها (الوطنية) وبرامجها (الإصلاحية)، متجاهلين حقيقة ان مكونات المجتمع العراقي – ضمن جغرافية الوسط والجنوب - لن تفضّل مصالح (المواطنة) على مصالح (القبيلة / العشيرة) أو (الطائفة / المذهب) . مثلما ان مكونات الشطر الشمالي من جغرافية الإقليم العراقي، لن ترجح انتمائها (الوطني) الشكلي على ولائها (القومي / الاثني) الأساسي، لاسيما وان جميع المكونات العراقية – شمالا"وجنوبا"شرقا"وغربا"- باتت غارقة في مستنقع الانتماءات التحتية والولاءات الفرعية، وانه يستحيل عليها التخلص من هذه الروابط الأولية والتملص من تلك الوشائج العاطفية بهذه السهولة مهما كانت التحديات التي تواجهها والتضحيات التي تتطلبها .

والغريب في الأمر ان مرشحي التيار السياسي (المدني) المهمشين، فضلا"عن الجمهور المنخرط في حملاتهم الانتخابية الفقيرة، لم يروادهم أدنى شك حيال معطى سوسيو – سياسي أضحى واقعا"ملموسا"مفاده ؛ ان الشعارات التي تبناها هذا التيار وراهن عليها، لم تعد تجد لها ضمن تكوين المجتمع العراقي الحالي صدا"يمكن الركون إليه والتعويل عليه كما كان يظن، خصوصا"وان الأفكار والرؤى والتصورات التي أسس عليها هذا التيار وجوده الاجتماعي وشرعيته السياسية، لم تعد تحظى بذاك الاهتمام والتعاطف الذي كانت تتمتع به في السابق، وذلك جراء مجموعة من الأخطاء والانحرافات التي تورط بها رموزه بعد أحداث (السقوط) التي تمخضت عن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 . وهو الأمر الذي أفضى – ولا يزال - الى عزوف الكثيرين ممن كانوا يحملون تلك الأفكار ويروجون لها، كما لو أنها كانت تمائم دينية تستحق التوقير والتقدير .

وبدلا"من أن يصار الى مراجعة هذه التجربة الكسيحة مراجعة (نقدية) صارمة ودراستها دراسة موضوعية معمقة، تتوخى البحث عن الأسباب الفعلية والكشف عن العوامل الواقعية التي أفضت الى حصول هذا الفشل والإخفاق، رغم كل العوامل الذاتية والموضوعية التي كان من المتوقع أنها ستحقق (فوزا") كاسحا"لمرشحي هذا التيار على منافسيهم، فقد ارتأى (الفاشلون) - لتخفيف وطأة الصدمة – صبّ جام غضبهم على فساد المؤسسات المسؤولة عن فبركة نتائج هذه التجربة، فضلا"عن اتهام القوى والكتل السياسية (الفائزة) في التلاعب بأعداد الناخبين لصالح هذا الطرف أو ذاك، وكأنهم لم يكونوا على دراية تامة بطبيعة هذه العملية التي مهما طبل وزمر عن طابعها (الديمقراطي) المزيف، لم يكن مخطط لها تحقيق العدالة وضمان المساواة بين المتنافسين .

والحقيقة ان كل من تناول تجربة هذا التيار (المدني) ظلّ – حتى بعد مفارقات وتداعيات ما بعد السقوط – متمسكا" باعتقاد ان كل ما جرى ويجري، لم ولن يؤثر على سيرورات البنى الاجتماعية والأنساق الثقافية والسياقات التاريخية التي كانت فاعلة في مضامير الواقع الاجتماعي للعراق، وبالتالي فان معظم الجماعات المنضوية تحت شتى مسميات (اليسارية) و(العلمانية) و(الليبرالية) و(الديمقراطية) استمرت محافظة على رصيدها الشعبي وصيتها الجماهيري، حتى بعد أن جردها الواقع المعاش من صدقية الكثير من الادعاءات والمزاعم التي كانت تتحصن خلفها وتحتكم اليها، بحيث استمر وهم الاعتقاد بأنها لم تفقد مواقعها ولم تخسر أنصارها رغم كل ما طرأ على الواقع من انهيارات مدوية وانكسارات مفجعة . أي بمعنى انه كان ينظر الى واقع المجتمع العراقي الحالي نظرة استاتيكية جامدة لا جديد فيها سوى الثبات والاستمرارية، وان كل الذي حصل من تغيرات جذرية وتحولات عميقة وانقلابات واسعة، حيث عصفت بهذا الواقع المتداعي على نحو دراماتيكي لم تطال سوى أبعاده (الفوقية) السياسية والاقتصادية والعسكرية، في حين حافظت أبعاده (التحتية) السوسيولوجية والانثروبولوجية والسيكولوجية على ثباتها الأصلي وسكونها الدائم .

وهكذا يمكن القول؛ ان الانتكاسة التي مني بها التيار السياسي (المدني) في الانتخابات المحلية، لم تكن حالة شاذة خارج السياق أو واقعة طارئة غير متوقعة، بقدر ما كانت تعبير عن واقع حال جرى نسيانه وإهمال معطياته، الأمر الذي لم يتأخر في الثأر لنفسه من كل أولئك الذين اهتموا بكل شيء، سوى أنهم وضعوا سيرورات الواقع ودينامياته خلف ظهورهم ! .

***

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي

في المثقف اليوم