آراء

آراء

نحن شعوب العالم العربي خضعنا في السنوات الأخيرة الى عملية تنويم مغناطيسي عن طريق قانون يُدعى (قانون إماتة الاحتمالات الحية،وإحياء الاحتمالات الميتة) . هذا القانون يُثير في ذهن الجمهور أشياء وأمور ووقائع موهومة، لا وجود لها في الواقع، أو لها وجود ضئيل ولكن تُضخم بشكل كبير جداً، حتى يصلون بالمجتمع الى حد الفزع والحيرة، ومن أمثلة ذلك هو أختلاق عدو موهوم، وقد يكون هذا العدو الموهوم مستعد لصداقتنها أكثر مما يكون عدو لنا، ومثال ذلك هو أيران، حيث أُقيمت بها ثورة أسلامية تحررية، يمكن أن تكون عون للمسلمين، فقام الأعلام المضلل بقلب الحقائق وتزيفها، وهو يمتلك أدوات هذا الأعلام، والمسيطر على أكبر أمبراطورياته، والمهيمن على معظم برامجه، والمختار لما يُنشر، والمانع لما لايرغب بنشره، وقد ذُكر ذلك في كتابهم (برتكولات حكماء صهيون)، والذي يمثل لهم خارطة طريق في سلوكهم السياسي، حيث جاء فيه فيما يخص صناعة موضوع الخبر (..ولن ننشر إلا مانختار نحن التصريح به من الأخبار)،كما أنه ينبش التاريخ السحيق وأسقاطه على الحاضر، ووصم الشعب المسلم بالمجوسي وعبدة النار، وبالكفرة، وأستطاعوا بأدارة بوصلة العداء لهم، وضرورة الأطاحة بحكومتهم الأسلامية بأعتبارهم أخطر من اليهود لأنهم رافضة، لذى يكون من الضرورة القصوى التصدي لهم وتأجيل التصدي لإسرائيل بأعتبارها أقل خطراً،بل لاتشكل أي خطر على الأطلاق، بل يمكن التعاون معها بدل حالة العداء، وما تطبيع بعض الدول العربية إلا مصداق لهذا الرأي، وإن أسرائيل لها من الأصل والفصل ما يقترب من أصلنا السامي، وهي دولة لا تكن لنا الأ السلام والمحبة، وهكذا ضُللت الشعوب بوسائل أعلام مثل قنوات العربية والحدث والجزيرة والشرقية وغيرها من قنوات الأعلام المضللة، والتي غرضها هو نقل مشاعر الغضب والكراهية من وجهة أسرائيل الصهيونية الى وجهة إيران الأسلامية، بأعتبارها رافضية، والروافض في قناعة بعض العرب أشد خطراً وأدهى من اليهود،وقد لعب وعاظ سلاطين الضلالة دور مهم وكبير في هذا التوجه الخطير، كما للأسف لعب بعض الأكاديمين المؤدلجين دوراً لايقل خطورة وبشاعة من دور الطائفيين من بعض رجال الدين وإن النتائج الكارثية التي نعاني منها اليوم، وما تقوم به أسرائيل هو نتيجة طبيعية لهذا الخداع والتضليل التي مارستها ضدنا بمساندة الخونة من حكام العرب، وهنا أحب أن أُشير الى مقطع في كتاب (بروتوكولات حكماء صهيون) حيث يوضح طرقهم في مخادعة الشعوب وتضليلها حيث جاء فيها (ولضمان الرأي العام يجب أولاً: أن نحيره كل الحيرة بتغييرات من جميع النواحي لكل أساليب الآراء المتناقضة حتى يضيع الأمميون (غير اليهود) في متاهاتهم، وعندئذ سيفهمون أن خير ما يسلكون من طريق هو أن لا يكون لهم رأي في السياسة: هذه المسائل لا يقصد منها أن يدركها الشعب، بل يجب أن تظل من مسائل القادة الموجهين) . و هكذا تُخدع الشعوب بأدوات محلية وفكر غربي يستهدف تركيع هذه الشعوب، فقد أوهمونا بحروب مع إيران والكويت، وبنزاعات في السودان واليمن، حتى وصلنا إلى درجة الإعياء، ودرجة من الضعف والهوان لا نُحسد عليها (حكومات منخورة، مدن مهدمة، بنى تحتية فاشلة وغير موجودة، شعوب منهكة وفقيرة، أمراض وجهل، وفوضى ) لقد نجحوا في خداعنا وإهامنا بأن هناك عدو مفترض هو إيران، فأنهكونا وأنهكوا أيران معاً بحرب مجنونه، كما أثاروا العداء بين العرب أنفسهم حتى لا يطيق بعضهم البعض، مما ساعد في تباعدهم وتباغضهم، وحان الوقت لإسرائيل أن تقطف ثمار خداعها للعرب، وبدأت آلة الموت الأسرائيلي تسحق العرب تحت سرف آلياتهم العسكرية ولات وقت ندامة.

***

أياد الزهيري

صدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال عن أهل مصر: "هم وأزواجهم في رباط إلى يوم الدين"

الأحداث تتوالى والتاريخ يسجل أن مواقف مصر وأهلها الثابتة في نصرة القضايا العربية والإسلامية وكافة القضايا العادلة في العالم تؤهلها بحق وعن جدارة للسير بثقة فوق بساط التألق .

أن تكون مؤهلا بالقدر الكافي للوفاء بالتزاماتك أمر ليس هينا، وأن تصبح قادرا دوما على النهوض بواجباتك ليس يسيرا، وأن تصير مستعدا في كل الأوقات لأداء مسؤولياتك هذا أمر ليس سهلا، الله سبحانه وتعالى ييسر على الأمم والأفراد سبيلهم ويسهّل أمرهم بالقدرالذي يمنحهم القدرة على القيام بأداء الرسالة الإنسانية، أنه دور تاريخي ـ مصيري لصيق بالشخصية المصرية، لا يمليه على قيادتها أحد، ولا يفرضه على شعبها سوى الضمير الجمعي، إنه مجتمع لا يذوب في شخصية أخرى وتذوب سريعا في بوتقته كل الشخصيات، فتتحد معها كل الشعوب وقت المحن على كلمة سواء فتنتعش معها المواقف بعد أن تطفئ ظمأها من مياه النيل العظيم،فتسري في الأجساد روح التحدي وإرادة الحياة ورغبة التوثب للانتصار.

تشرفت مصر وأهلها بالحضور المتميز لشخص فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي في سدة الحكم وقيادة الشعب نحو نهضة مصر في أدق الظروف السياسية وأكثرها خطورة وحساسية، نهضة تشع كعادتها خيرا ونماء يمتد إلى كل من حولها، وقوة مصر العسكرية ضمانة لكل العرب وعامل سلام واستقرار لكل منطقة الشرق الأوسط، ولعل ما نشاهده اليوم من مظاهر التفاعل الإيجابي للدور المصري المؤثر في التطورات الخطيرة في فلسطين المحتلة التي أصبحت تنذر بمستعظم النار على شعوب المنطقة ما يؤكد ذلك، فالهبة المصرية قيادة وحكومة وشعبا لنصرة الشعب الفلسطيني لا تطيق الانتظار، ولا تنتظر إشارة أو تلميحا من أي طرف، إنها جينات تفعل فعلها لتؤدي الشخصية المكرمة دورها فيحمي البلاد بالدم وقت الشدائد جيش الكنانة .

يقوم الشعب المصري والعربي كعادته بدور كبير و مشرف في دعم صمود أشقائه بفلسطين أمام الاعتداءات الإسرائيلية المسلحة بتقديم ما تيسر لهم من المساعدات الأخوية للتخفيف من حدة أثار الكارثة الإنسانية التي حلت بقطاع غزة وفي أجزاء من الضفة الغربية جراء الغارات الجوية الإسرائيلية،الجسور الجوية قائمة ومتواصلة، وجهود الشحن والتفريغ يتسابق لأدائها الشباب، هناك سباق ضد الساعة لتوفير المستلزمات الطبية والمواد الغذائية وكافة أوجه الدعم اللوجيستي في أسرع وقت، فالجرح العربي في فلسطين غائر، ويتحمل الجانب المصري عبئا هائلا من المسؤولية لنقل المساعدات من كل دول العالم بكل همة إلى قطاع غزة في ظروف جد خطرة حيث ما تزال تنهال القنابل على أهداف مدنية بدون تمييز، وهذا لكي لا يواجه أحد بمقولة جئت متأخرا!

بنظرة سريعة على خريطة المنطقة قد يصاب المرء بالذهول من حجم المشاكل التي تفجرت على حدود مصر خلال فترة قصيرة، في ليبيا غربا، وفي السودان جنوبا، وفي فلسطين شرقا، ومع ذلك ظل وجود الجيش المصري هو العامل الأساسي في صمود مصر وقوتها، وشكّل مركز الثقل في توازن المنطقة، وكان ذلك في صالح الدول العربية وخاصة دول الجوار حيث أدى الجيش دورا في دعم جهود إعادة الاستقرار وفي إغاثة شعوب هذه الدول من الكوارث الطبيعية، وتبقى مصر مستمرة في مساعيها للدفع بالجهود الإقليمية والدولية نحو تبني مسار التهدئة ووقف التصعيد العسكري في قطاع غزة لتجنب التبعات الإنسانية الخطيرة من اتساع رقعة الصراع على كافة دول المنطقة، لقد تطور الموقف المصري بشكل ملحوظ منذ بداية التصعيد العسكري الأخير بين إسرائيل وحركة حماس، بداية من إعلانها إجراء اتصالات مكثفة مع الجانبين لوقف إطلاق النار، ودعوتها للجميع بضبط النفس، وصولا إلى منع خروج الأجانب من قطاع غزة عبر معبر رفح إن لم تسمح إسرائيل بإدخال المساعدات للقطاع، مرورا بالتصريحات المتكررة، بأن سيادتها ليست مستباحة وأمنها القومي ذات أولوية، ثم كانت دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي للمجتمع الدولي لعقد " قمة القاهرة للسلام " واحتضنت مصر في 20 أكتوبر2023 أعمال القمة بحضور قادة وزعماء 34 دولة ورؤساء أربع منظمات عالمية لمناقشة تطورات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وإدانة استهداف المدنيين المسالمين، والتعبير عن التنديد الصريح بمؤامرات الاحتلال الصهيوني الرامية إلى تهجير أهالي غزة من مدينتهم وترحيلهم إلى مناطق أخرى في جنوب القطاع، والتأكيد على رفض سيناريوهات دفع ملايين الفلسطينيين نحو إقامة دولتهم في صحراء سيناء المصرية، ودفع الفلسطينيين من الضفة الغربية نحو الأردن، والمطالبة بفتح معبر رفح الفلسطينية لمرور قوافل المساعدات الغذائية والدوائية الدولية لمواطني المناطق المنكوبة جراء القصف الإسرائيلي الجوي والبري. لقد تم بالفعل مرور قوافل المساعدات في أجواء حماسية فرحا بالمواقف الانتصارية، ولم يخل الأمر من تعرض أبناء مصر بالقوات المسلحة لبعض الإصابات الخطيرة من شظايا القذائف الإسرائيلية، وهذه ضريبة يدفعها أبناء مصر الكنانة بكل عزة وشرف.

***

صبحة بغورة

جاءت مشاركة العراق في ما سمي "مؤتمر القاهرة للسلام"، وخصوصا بعد رفض الجزائر وتونس المشاركة، جاءت مفاجئة بعض الشيء للعديد من الأوساط المحلية والخارجية على اعتبارات عديدة من بينها إنَّ الحكومة العراقية الحالية والتي يرأسها السيد محمد شياع السوداني متبناة ومدعومة ومقترحة من قبل الأحزاب والفصائل الإسلامية الشيعية الحليفة لإيران والتي يجمعها "الإطار التنسيقي" ضمن تحالف أوسع يدعى "إدارة الدولة".

لقد انتهى المؤتمر المذكور بفشل ذريع، فلم يصدر عنه حتى بيان ختامي، بعد أنْ تحول إلى ما يشبه منصة إعلامية مباحة للوفود الغربية - وبعض الأطراف العربية كالأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط - للتهجم على الشعب الفلسطيني ومقاومته الذي ترتكب بحقه حرب إبادة شنيعة وللدفاع عن الكيان بذريعة "حق الدفاع عن النفس".

وقد ذكرت بعض التسريبات أن الحكومة العراقية حين علمت باحتمال مشاركة ممثل عن حكومة الكيان الصهيوني وهو أمر لم يؤكده أو ينفيه الطرف المصري المنظم هددت بالانسحاب الفوري من المؤتمر إذا حضر فيه ممثل الكيان، أما الجزائر وتونس فقد اختارتا أقصر الطرق وأكثرها مبدئية ورفضتا المشاركة في المؤتمر كما ذكرت جريدة الشروق الجزائرية – عدد 20 تشرين الأول /أكتوبر 2023 تقرير لمحمد مسلم. وخلال جلسة المؤتمر الافتتاحية كانت كلمة السوداني موضع إعجاب وإطراء واسعين لأنها كانت قوية وواضحة في إدانتها للمجازر الإجرامية المرتكبة في غزة وللأطراف المساندة للكيان والساكتة على جرائمه وخصوصاً في الفقرة التي خرج فيها السوداني على نص خطابه المكتوب وردَّ بها بشكل مرتجل وغير مباشر على الخطاب العدواني والاستفزازي الذي ألقته رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتطرفة الفاشية جورجيا ميلوني والتي سبقت السوداني في الكلام حسب الترتيب الهجائي لأسماء الدول، وقد رد السوداني على ميلوني بحزم حين جاء دوره في الكلام بعدها قائلا "إن بعض الأصدقاء هنا يصفون الشعب الفلسطيني الصامد على أرضه في كلماتهم بأنه يقوم بأعمال إرهابية بينما يعتبرون الجرائم المدمِّرة المُمنهَجَة التي يقوم بها الاحتلال الصهيوني بأنها أعمال دفاع عن النفس"! كما أن السوداني رفض في فقرة أخرى أن يتطوع أي طرف عربي فيتكلم نيابة عن الفلسطينيين ويتبرع باسمهم بأي شيء في إشارة فسَّرها البعض بأنها موجهة إلى الدول التي ترتبط بالكيان الصهيوني باتفاقيات ومعاهدات استسلام مذلة.

وعند نهاية الجلسة الافتتاحية انسحب السوداني لحظة التقاط الصورة الجماعية التذكارية لرؤساء الوفود المشاركة، وقيل عندها أنه والوفد العراقي انسحب من المؤتمر ولذلك لم تظهر صورته فيها بينهم، ولم يصدر بيان عراقي رسمي يؤكد انسحاب الوفد. غير أن أنباء تسربت بعد ساعات وقالت إن السوداني رفض المشاركة في التقاط الصورة الجماعية لأسباب بروتوكولية تتعلق بترتب مكان وقوفه حيث طلب منه الطرف المنظم المصري أن يقف خلف أمير قطر فرفض وانسحب. ومعلوم أنها ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الانسحاب فقد سبق ان غاب السوداني عن الصورة التذكارية للقمة العربية الثانية والثلاثين في جدة، ولذات السبب، وهو رفضه الوقوف في الصف الثاني.

بعيدا عن كل هذه التفاصيل الصغيرة والتي قد لا تخلو من دلالة، يبقى الدور العراقي في الدفاع عن الشعب الفلسطيني ضد حرب الإبادة التي تشن عليه وفاق عدد الشهداء فيها الأربعة آلاف موضع تساؤلات قد نجد بعض الإجابات والتفسيرات لها في الآتي؛

معلوم أنَّ العراق ومنذ الاحتلال الأميركي سنة 2003 وقيام حكم المحاصصة الطائفية سنة 2005 يعتبر بلدا منزوع السلاح وخاضع للمراقبة الأميركية والغربية وحتى الإسرائيلية غير المباشرة أو عبر القوات الأميركية العاملة في العراق، وممنوع من شراء الأسلحة من الدول الشرقية كروسيا. فقد أفشلت واشنطن محاولته عراقية لشراء منظومة صواريخ (أس 300) سنة 2020 كما ورد في تصريح لعضو لجنة الأمن والدفاع النيابية على الغانمي كما منع من شراء منظومة رادارية روسية وبقي العراق مستباح جواً حتى الآن كما تعرقلت محاولة عراقية أخرى بحر العام الجاري لشراء سرب من طائرات رافال الفرنسية المقاتلة ولم تتم حتى الآن.

كما شكت الحكومة العراقية أكثر من مرة من عدم تزويدها من قبل الجانب الأميركي بقطع الغيار والعتاد الخاص بطائرات أف 16 التي اشتراها العراق واستلمها بعد انتظار طويل وعرقلة مديدة ما أدى إلى أن يتحول بعض هذه الطائرات إلى كومة من السكراب التي لا نفع فيها لانعدام قطع غيارها.

غير أن العراق رغم ما تقدم من بؤس تسليحي يضعه خارج دائرة الصراع الفعلي ولكنه يتوفر على عدة أوراق قوية بإمكانه استعمالها في الدفاع عن نفسه واستعادة سيادته واستقلاله أولا. وفي المساهمة الفعالة في قضية العرب الأولى فلسطين والدفاع عن شعبها في وجه المجازر الدموية الصهيونية المتتالية ثانيا. ولعل من أهم هذه الأوراق هي القدرات القتالية البشرية والخبرة العسكرية المتراكمة لدى الجيل العراقي الشاب الحالي والذي ساهم عبر قوات الحشد الشعبي في حرب تدمير العصابات التكفيرية الداعشية كانت حربا قاسية دامية تكللت بالانتصار. يمكن لهذه القوى المدربة جيدا أن تلعب دورا مركزيا وباسلا بأسلحة خفيفة ومتوسطة إذا ما تطور الصراع وتدخلت واشنطن مزيدا من التدخل في العراق والمنطقة.

الورقة القوية الثانية هي تفعيل القرار الصادر عن مجلس النواب العراقي بتاريخ 5 كانون الثاني يناير 2020، والقاضي بإخراج قواتها العسكرية فورا من الأراضي العراقية، ومطالبة السفارة الأميركية بإخلاء مبانيها وهي قلعة حصينة مؤلفة من عدة مبان مسلحة بالأسلحة الثقيلة ومنظومات صاروخية حديثة تحرسها وتديرها قوات خاصة، ومطالبتها الانتقال إلى مبنى آخر لا يزيد على حجم السفارة العراقية في واشنطن عملا بمبدأ التعامل بالمثل!

إن هذه الورقة المشروعة لا تحتاج حتى في جانبها الإجرائي إلى طرح الموضوع للتصويت مجدداً في مجلس النواب فالقرار متخذ، ولا يحتاج إلا إلى تفعيله من خلال مطالبة الحكومة بتنفيذه الفوري.

ويمكن لنا أن نتخيل الهزة التي سيحدثها هذا الأمر على بايدن وإدارته، وهو الذي يحاول أن يجعل من إسناده للكيان الصهيوني في مجازره رافعة انتخابية فعالة له في معركته الرئاسية القادمة.

إن هذه الإجراءات على محدوديتها وتواضعها هي الرد المعقول على الهمجية والوحشية الصهيونية الأميركية في فلسطين وإلا سيلعن التأريخ كل من كان بمقدوره القيام بها ولكنه رفض وتردد في القيام بها حرصا على بقائه في الحكم وترك دماء أطفال غزة تسفك مدرارا!

ولكننا من جهة أخرى لا نعول كثيرا على القوى السياسية النافذة والتي تدير الحكومة وتهيمن عليها وعلى مجلس النواب بغض النظر عن هويتها الطائفية أو العرقية، نظرا لارتباطاتها المسبقة بدولة الاحتلال، وتعويلها عليها في توفير الحماية والغطاء الغربي، وبسبب فسادها الداخلي وصراعاتها الداخلية النابعة من طبيعة الحكم القائم على المحاصصة الطائفية والعرقية، بل نلقي بالحجة عليها من خلال طرح هذا التحدي على هذه القوى الحاكمة كنوع من الشهادة أمام التأريخ!

لقد انتهى زمن الصواريخ السياسية العتيقة التي كانت تلقى لتسقط على مرائب ومخازن القواعد الأميركية الخالية وجاء زمن استعمال كل الأوراق الممكنة لإنقاذ الشعب الفلسطيني من حرب الإبادة المتفاقمة ضده هذه الأيام!

***

علاء اللامي- كاتب عراقي

التاريخ بحر تتلاطم أمواجه على مرفأ الحاضر.. إنها أحداث مفصلية ومنعطفات تاريخية قلبت الموازين وبدلت خريطة العالم الجيوسياسية..بدءاً من البعثة النبوية وما تلاها من سقوط إمبراطوريتي الفرس والروم.. لعنة التتار.. وتوسع رقعة الاستعمار الأوروبي فى آسيا وإفريقيا تزامناً مع سقوط الخلافة العثمانية..سايكس بيكو وتقسيم كعكة الشرق الأوسط مع صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية، ولعل أشد وأسوأ موجات التاريخ المدمرة ما حدث من قيام دولة إسرائيل كشوكة مغروسة فى صدر الأمة العربية..فهل ما نشهده من أحداث ينبئ باقتراب إحدى موجات التاريخ الكبري التى تتغير على إثرها صفحة الأرض؟ وهل تكون هى الموجة الأخيرة؟

البوصلة تتجه شرقاً

شمعة الغرب توشك أن تذوب..البريق الأمريكى يكاد يخبو ويذوى..والقارة الأوروبية العجوز تستند على عصا نفوذها الاستعمارى القديم وتكافح كى لا تسقط..

أمريكا تتآكل من داخلها تآكل الرميم..الشباب الأمريكى غارق حتى أذنيه فى الملذات والمخدرات حتى لا تكاد تجد من بين كل مائة منهم واحداً صالحاً للعسكرية، وقد تفشى بينهم التهرب والفرار من التجنيد.وانتشرت عدوى اقتناء السلاح بينهم لدرجة أن عدد قطع السلاح فى شوارع وبيوت أمريكا يزيد عن ربع مليار قطعة؛ ولهذا انتشرت الجريمة بأنواعها فى ربوع الولايات تقودها عصابات منظمة زاد عددها عن 500 منظمة إجرامية، وارتفعت حالات الاعتداء الجنائى على تلاميذ المدارس عن عشرة آلاف حالة سنوياً، واكتظت السجون الأمريكية بسجناء بلغ تعدادهم أكثر من مليون سجين! واختفى الوازع الدينى تماماً ، فلولا الآلاف من رجال الشرطة لتحولت أمريكا إلى غابة تسيطر عليها جرائم السرقة والقتل والنهب والاغتصاب.

أزمة الاقتصاد العالمية أصابت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بضربات مهلكة، أشدها ضربة الحرب الروسية الأوكرانية التى ما فتئت تستنزف خزائن حلف الأطلسي ومستودعات أسلحته، والدين الأمريكى تجاوز حد 33 تريليون دولار، وباتت أية هزة اقتصادية بسيطة كافية لتدمير الاقتصاد الأمريكى ومن خلفه اقتصاديات الدول والبلدان المعتمدة على الدولار.

وبينما أوروبا وأمريكا مشغولتان بحروب وصراعات لا تنتهى ينطلق التنين الصينى فى مساره الاقتصادى كالصاروخ لا يعبأ بأمريكا ومخططاتها ومؤامراتها. إنها مسألة وقت حتى يصبح الاقتصاد الصينى هو الأول عالمياً . ولا شك أننا على أعتاب مرحلة تاريخية تنعكس فيها البوصلة من الغرب إلى الشرق..

البداية من الشرق الأوسط

لطالما كانت بؤرة الأحداث الكبري عبر التاريخ تنطلق من ها هنا..  أرض الشام بالتحديد كانت أهم بؤرة تدور حولها الصراعات منذ تم فتحها على عهد عمر بن الخطاب وحتى تسليمها لليهود بعد وعد بلفور..والمقاومة الفلسطينية لم تتوقف منذ عهد ياسر عرفات و أبو جهاد وحتى كتائب عز الدين القسام التى صنعت ملحمة السابع من أكتوبر باقتحامها لمستوطنات غلاف غزة وبدء معركة حاسمة ما زال مداها يتسع، وقد تصل إلى حد الحرب الشرق أوسطية متعددة الأطراف..

الإعلام الغربي يريد إعلانها حرباً دينية تلمودية من أجل إشعال فتيل شرارة هرمجدون ..تلك الحرب التى لها فى نفوس اليمين الأمريكي المتطرف قداسة خاصة..ولعلك تندهش إذا علمت أن السياحة الدينية فى إسرائيل حققت فى عام واحد ما زاد عن 4 مليارات دولار أغلبها أنفق على زيارة أرض الميعاد "مجيدو" المذكورة فى أساطير اليهود حول معركة هرمجدون.

الوضع فى فلسطين المحتلة يشتعل أكثر فأكثر..تل أبيب يتم قصفها يومياً بصواريخ تنطلق من الجنوب الغزاوى، وقد تم إجلاء أكثر من 60 ألف إسرائيلي من مناطق القصف المتاخمة للشواطئ إلى الداخل الإسرائيلي..وحزب الله بدأ مناوشات على الحدود الشمالية مهدداً باقتحام الحدود والاشتراك فى المعركة حال بدء الاجتياح البري لغزة..وأمريكا بدأت إجلاء رعاياها عبر ميناء حيفا..فى الوقت الذى يضغط فيه الرأى العام الإسرائيلي على حكومة نتنياهو من أجل استرداد الأسرى وإنهاء الحرب.

وجهة النظر الغربية تتفق مع توجهات الحكومة الإسرائيلية فى الرد العنيف الحاسم رغبة فى القضاء على عناصر المقاومة وللثأر لكرامة الجيش الإسرائيلي التى أهدرت فى السابع من أكتوبر بعملية طوفان الأقصى، ولهذا تحرك الأسطول الأمريكى متمثلاً فى حاملتى الطائرات الرابضتين فى شرق المتوسط.

وبالرغم من نبرة التهديد وحماسة الغضب لدى إسرائيل ومن خلفها أمريكا، يبدو خوفهما واضحاً بادياً من تردد إسرائيل فى اقتحام غزة برياً خوفاً من توسع دائرة الصراع. بل إن ماكرون أعلنها من فرنسا أنهم يخشون انتقال الصراع خارج الحدود. وأن جرائم الكراهية قد تنتشر وتتفشي كما حدث فى أمريكا من جريمة قتل مريعة نفذها مسن يهودى ضد طفل فلسطينى مقيم بأمريكا!

كل جرائم القتل التى ارتكبها اليهود فى فلسطين المحتلة لن تمر دون قصاص.. ولعلنا نشهد اليوم بدايات المعركة الفاصلة التى تنهدم فيها الجدران والحواجز..

لعنة العقد الثامن

ثمة أدلة متكررة من التاريخ أن العِقد الثامن من حياة كثير من الأمم يحمل نذيراً بقرب نهايتها..

إسرائيل الآن تعيش لعنة جيل الأحفاد؛ أولئك الذين يحدث بينهم الشقاق والتشظى بما ينذر بالأسوأ.. هناك انقسام حتى فى دوائر الحكومة الإسرائيلية ذاتها ما بين حكومة نتنياهو وأنصار بن غفير، وبدا هذا فى الخطاب الذى أراد نتنياهو إلقاءه على مسامع الضباط فى غلاف غزة فواجهوه بالسباب والصراخ ولم يستطع إلقاء الخطاب! أكثر من هذا أن كثيراً من المستوطنين باتت لديهم قناعة أن الحياة فى إسرائيل باتت مستحيلة، وتزداد تلك القناعة رسوخاً كلما توسعت دائرة المعارك وطال أمدها..ولأنهم جميعاً من مزدوجى الجنسية، فقد فر الكثير منهم إلى بلدانهم الأصلية فى أوروبا والأمريكتين خاصةً الأثرياء ورجال الأعمال منهم.

على الناحية الأخرى، أمريكا تعانى اقتصادياً بسبب دعمها لإسرائيل. وهناك أصوات تنادى برفع الدعم عنها وأن أمريكا تورطت فى صراع لا تريده، خاصةً وأنها تحقق لروسيا مكاسب غير مباشرة بفتح جبهات قتال متعددة بما يضر بمصالح أمريكا ضرراً كبيراً يزداد كلما استمرت الحرب.

اتساع نطاق الحرب ليس فى مصلحة إسرائيل. وخطة الاجتياح البري لغزة التى تنوى إسرائيل تنفيذها ستكون وبالاً عليها، وسوف تنفتح عليها أبواب الجحيم من كل جانب.. ولعل لعنة العقد الثامن قد أصابت جيل الأحفاد المترف المهزوم.

أحداث عظيمة قادمة

منذ عام 2020 ومع تفشى وباء كورونا وهناك نبرة تتصاعد أننا قادمون على أحداث النهاية!

مع كل تهديد بحرب نووية بين روسيا والناتو يقال إنها مقدمات للحرب العالمية الثالثة..ومع كل زلزال أو طوفان أو إعصار مدمر تصحو الهواجس وتنتشر الدعاوى أننا نشهد علامات آخر الزمان، وأن النبوءات والآيات تأتى تترى لتؤكد أن ما يحدث ليس إلا بدايات النهاية.

المؤكد أننا نشهد إرهاصات أفول الأحادية الأمريكية، وبداية موجة عظمى من موجات التاريخ التى من شأنها أن تغير وجه العالم..ولعل ما يحدث فى الشرق الأوسط هو الشرارة التى تنطلق منها أحداث عظيمة قادمة تجعل ما يأتى بعدها لا يشبه أى شئ مما كان قبلها.. فلا نظام عالمى، ولا مجتمع دولى، ولا شرطى كونى اسمه أمريكا، ولا شوكة فى خاصرة الأقصى اسمها إسرائيل.. وإنما خريطة سياسية جديدة وقواعد عالمية تختلف عما عهدناه ..والتاريخ يعلمنا أن الصراعات والحروب بدايات لموجة تاريخية عاتية تندثر على إثرها أمم وتنهض بدلاً منها أمم غيرها.

***

عبد السلام فاروق

فجر اليوم الجمعة بتوقيت القاهرة ألقى الرئيس جو بايدن بخطاب متلفز إلى الشعب الأمريكي، عن الأحداث الجارية في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، ليعيد لنا ما كتبة كل من:(بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في كتابة رقعة الشطرنج عام 1992/ وصامويل هنتنجتون الكاتب الأمريكي صراع الحضارات)... ركز أمس الرئيس بايدن حول الحرب الأوكرانية والصراع الدائر. حول الاستحواذ علي من يسيطر علي المنطقة. وجاء في سياق الخطاب دول البلطيق وبولندا، وإيران...!!

إن رقعة الشطرنج. التي تدور عليها اللعبة كما يقول المؤلف هي أوراسيا وهي لعبة تنتهي بسيطرة الغالب على الإدارة الاستراتيجية للمصالح الجغرافية السياسية، حيث الاعتقاد الراسخ لدى السياسيين بأن من يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم. وفي عصرنا الحديث، اهتمت أميركا للسيطرة على هذه البقعة الحيوية من العالم، حيث الهدف النهائي للسياسة الأميركية يتمثل في صياغة وتشكيل جماعة دولية متعاونة تكرس هذه الهيمنة...، كما جاء في خطابة فجر اليوم...

والكاتب يذهب إلى أن الوقت قد حان بالنسبة للولايات المتحدة لصياغة وتنفيذ (جيوستراتيجي متكاملة وشاملة وطويلة الأمد لعموم أوراسيا). ويرى المؤلف أن القوة التي تسيطر على أوراسيا هي القوة التي تتحكم في اثنين من مناطق العالم الثلاث الأكثر تقدما والأوفر في مجال الإنتاجية الاقتصادية، فالذي يسيطر على أوروبا يسيطر على أفريقيا. وفي أوراسيا تقع الدول الست التي تلي الولايات المتحدة في ضخامة الاقتصاد وحجم الإنفاق على التسلح، وفيها أيضا توجد جميع الدول النووية المعلنة باستثناء واحدة.

ظهرت مع نهاية الحرب الباردة ويقصد الكاتب كوريا الشمالية، ومع انهيار الكتلة الشرقية وسقوط حائط برلين،. وتفكك الاتحاد السوفيتي، مجموعة من الأطروحات التي تقر بالتحول الجذري للعلاقات الدولية، وهذه الأطروحات تنظر بشكل سلبي ومتشائم لما ستكون عليه الحضارات من صراعات عنيفة بدل من أن تقوم على المصالح الاقتصادية المتبادلة، إن الأحداث الجارية في غزة وتحريك الأساطيل في الغرب وتحركها إلى منطقة الشرق الأوسط. وازدواج المعايير. ضد شعب أعزل ومحاولة جر دول. للدخول في الصراع، إخراجها من كنف الهيمنة الأمريكية مثل إيران.، ليعيد لنا صراع الحضارات في المنطقة من حملات صليبية جديدة...!!

ويعتبر البروفيسور/ صامويل هنتنجتون من أشهر من تحدث عن نظرية صراع الحضارات. لقد جاءت فكرة صراع الحضارات في البداية على شكل مقال صغير نشر عام 1993م في إحدى المجلات الأمريكية. وقد انتشر مقال الكاتب الأمريكي/ صامويل هنتنجتون بشكل كبير وواسع، وكان المقال الأكثر قراءة منذ أن صدرت هذه المجلة الصغيرة وبعد عدة سنوات قام" هنتنجتون" بصياغة مقالته في كتاب شرح فيه نظريته بشكل موسع، كما برر كل ما ذكره في ذلك المقال، يرى صامويل هنتنجتون في كتابه (صراع الحضارات) أن الصراعات التي سوف تنشأ بعد الحرب الباردة سوف تكون صراعات حضارية ذات أسباب ثقافية، ودينية وليست صراعات قومية ذات عوامل سياسية، أو أيدولوجية، أو حتى اقتصادية، ومن أهم القضايا التي تحدث عنها هنتنجتون في كتابه، تغير السياسة الدولية لتصبح ذات أقطاب وحضارات متعددة، فالحداثة على حد قوله ليست المنتج للحضارة العالمية، يتحدث صامويل هنتنجتون عن تأثير الغرب النسبي الذي بدأ بالتناقص، فهو يرى أن الحضارات الآسيوية أصبحت ذات قوة أكبر في مختلف المجالات الاقتصادية، والسياسية، وكذلك العسكرية، وأن (العالم الإسلامي) أصبح قوة حقيقية وهي عامل تهديد للحضارات التي تجاورها على حد رأيه، وقد أثير هذا الموضوع عقب أحداث برجي التجارة العالمي عام 2001..   وقد قدم هنتنجتون مجموعة من الإحصاءات التي تظهر تناقص الأوروبيين بالنسبة للعدد الإجمالي لسكان العالم، وفي المقابل تزايد عدد الآسيويين والمسلمين.، صعود الإسلام من الأمور التي تحدث عنها صامويل هنتنجتون في كتابه (صراع الحضارات)، وقد ذكر في كتابه الامتداد الإسلامي من الناحية الجغرافية، وكذلك من الناحية السكانية، حيث وصلت مساحة البلاد الإسلامية إلى ما يقارب 21 % من المساحة المأهولة للكرة الأرضية ، ووصل عدد المسلمين إلى أكثر من مليار نسمة، كما سيطروا على نسبة كبيرة من الاحتياط العالمي للنفط والغاز، وقد كان صامويل هنتنجتون قلقا من أن العالم الإسلامي غير قادر على مواجهة تحديات التنمية الاقتصادية. وظهور نظام دولي جديد يقوم على أساس الحضارة، وهو يضم تجمعات اقتصادية لها هوية مشتركة وهذا سر نجاحها، وقد ذكر هنتنجتون أمثلة على ذلك منها مجموعة الكاراييبي التي تضم مستعمرات بريطانية قديمة يبلغ عددها 13 مستعمرة، وبحسب رأي هنتنجتون فإن العالم سوف يقسم إلى خمس حضارات وهي:- حضارة الغرب: تضم هذه الحضارة أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، وقد تشكلت من امتداد المسيحية واعتمدت على العلمانية بشكل أساسي. الحضارة الأرثوذكسية: تضم هذه الحضارة العالم الروسي، وأوروبا الشرقية، وقد ظهرت في هذه الحضارة سيطرة الكنيسة الأرثوذكسية. الحضارة الهندوسية: وتضم هذه الحضارة الهند وبعض الدول القريبة منها. الحضارة البوذية الكونفشيوسية: تضم هذه الحضارة الصين ومن يعيشون في الشتات منهم. الحضارة الإسلامية: وتضم هذه الحضارة جميع البلاد التي يدين أفرادها بدين الإسلام. هل حان الأن أن نفهم ما يدور ضدنا ..!!

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب مصري وباحث

هكذا ينظر خصوم  الإسلام للإسلام

إسرائيل وما تملكه من إمكانيات وثقافة معلوماتية وتحكمها في التكنولوجيا والرقمنة استطاعت أن تتحكم في مصائر العرب والمسلمين ليس بأسلحتها وصواريخها فحسب، بل بالتكنولوجيا الحديثة، وبهذا التطور الرقمي استطاعت إسرائيل أن تؤثر في الشباب واستهويهم بل تغريهم عن طريق الفضاء الأزرق (الفيسبوك)، هي معركة امتزجت فيها الثقافة والسياسة والحرب وحتى الحب، الذي يعتبر الوسيلة الأكثر استعمالا في عمليات غسل المخ، وإلهاء الشباب العربي، هي معركة قادها شاب اسمه مارك، بعبقريته أنشا فضاء أزرقا، استقطب من خلاله الملايين من الشباب والكهول وحتى الشيوخ، بالإضافة إلى النساء والشابات، يتحكم في علاقاتهم (ن) وتواصلهم، يعاقبهم إن أساءوا التصرف مع إسرائيل بتقييد حسابهم، ثم يصفح عنهم ويغفر خطيئتهم

في المخيال الإسرائيلي، الفضل يعود إلى العقل الإسرائيلي في تقريب العالم العربي من العالم الغربي والتطلع على حضارات وثقافات الآخر، في ظل العولمة التي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، مما مكنها من أن تحتل المرتبة الثانية بعد الصين في الصناعة التكنولوجية، استطاعت إسرائيل،- وفي منظورها هي- أن تحقق التواصل الإجتماعي وتربط بين الشعوب في العالمين الغربي والعربي وخلق بينهم علاقة وروابط عربية/ عربية وعربية/غربية، ومكنت العرب من رسم وجودهم في الخريطة، لكن ما هو المقابل؟، المقابل طبعا هو عدم "معاداة السامية"، وعدم المساس بإسرائيل، كما ترى إسرائيل نفسها مطورة العرب والفضل يعود إليها في رقيّهم، بيدها إحياؤهم وبيدها إبادتهم ومحوهم من الوجود، وهو ما تفعله مع سكان غزة وفلسطين، وبذلك تجبرهم على أن يُطَبِّعُوا ويكونوا تُبَّعًا لها، فتعاملهم بلغة الغالب والمغلوب، "و لن ترضى عنك اليهود حتى تتبع ملتهم".

إن إنشاء هذه الفضاءات الرقمية للتواصل الإجتماعي الغاية منه فرض عملية التجسس على العرب والمسلمين وتتبع عوراتهم ومواقعهم وماهي مخططاتهم، وقد عملت إسرائيل كل ما وسعها لتحقيق أهدافها، ولم تتوقف عند هذا الحد فقط بل اندست في صفوفهم باسم البعثات العلمية، قام بها مستشرقون،  تعايشت معهم  لغاية في نفسها واكتشفت عاداتهم وتقاليدهم، كما تعلمت لغتهم نطقا وكتابة، وقد كان للمستشرقين دور في هذا، والمسلمون غافلون، هي عبارة عن "بروبغندا صهيونية"، لطمس الهوية الإسلامية بل القضاء على الإسلام ومحوه من الوجود، فالفكر الإسرائيلي يحاول وبشتى الطرق ان ينشر أفكاره منذ تواجده للقضاء على الأديان، حيث اطلقوا على أنفسهم اسم " البناؤون الأحرار"، وهذان اللفظان لهما دلالة قوية في التأثير في الشباب (البناء والحرية) "ابني نفسك وعش حريتك"، أرادت الماسونية أن تروج لفكرة أن البشرية مقيدة بشيء اسمه "الدين" ولابد من تحريرها من هذه القيود، والدفاع عن القيم الإنسانية، وقد وضعت في بروتوكولاتها (بروتوكولات حكماء صهيون) قواعد وبنود واستراتيجيات في استغلال الكراهية، وأصدرت قوانين لتحريم معاداة السامية  anti sémitism، هذا القانون الذي أضفى القداسة على إسرائيل والصهيونية.

ما زاد في ضعف العرب والمسلمين وتشتتهم في المخيال الإسرائيلي هو الصراعات الطائفية والحروب الأهلية التي تقع بين الشعوب وأنظمتها المستبدة وتقاتلهم فيما بينهم (أي عربي يقتل عربيا ومسلم يقتل مسلما)، وأرجعوا هذه الفتن إلى بداية ظهور البشرية والصراع بين قابيل وأخيه هابيل والذي انتهى بموت أحدهم، وكما يقال " كفر المنجمون ولو صدقوا"، فإسرائيل عزفت على هذا الوتر لتشويه صورة الإسلام أمام الرأي العام الدولي، لا ضير إذن أن يقتل يهوديٌّ مسلمًا، طالما المسلم يقتل أخاه المسلم باسم الدين وبأبشع الطرق، فالحديث عن الفكر الإسرائيلي يعني الحديث عن الفكر الماسوني الذي تحركه الصهيونية التي ازدادت شوكتها بفعل "التطبيع"، يقول داوود بن غريون: "نحن لا نخشى غير الإسلام"، ويقول شمعون بيريز: "لن نطمئن حتى يُغْمَدَ الإسلام سيفه"، ويقول إسحاق رابين: "الدين الإسلامي عدونا الوحيد"، هكذا ينظر خصوم الإسلام للإسلام، والمسؤولية لا تتحملها إسرائيل، طالما الأنظمة العربية (وبدون تعميم) باعت دينها وارتمت في أحضان إسرائيل، من أجل المصلحة الذاتية الضيقة، فكل شيئ عندها للبيع، الأرض والعرض ومن عليها، المهم ان تنتفخ الجيوب والبطون، رضيت بالذلّ والهوان والعبودية وسلمت رأسها للكيان الصهيوني، فكانت لها القابلية للاستعمار والاستعباد.

***

علجية عيش

يا أيّها الأحياء تحت الأرض عودوا... إنّ النّاس فوق الأرض قد ماتوا

الشاعر الفلسطيني محمود درويش

***

بعد محرقة غزّة التي لا تزال متواصلة منذ حوالي أسبوعين. تلك المحرقة التي تدمي الحجر قبل البشر، جاء موقف جامعة الدول العربية صنيعة بريطانيا لا يختلف جوهريّا عن الموقف الأمريكي الذي عبّر عنه رئيس "ديمقراطي !!!

وإن كان عذر الأمريكيين هو أنّهم لا يختلفون جوهريّا عن الصهاينة، فكلاهما هجّر السكّان الأصليين للارض، إن في أمريكا الشماليّة، أو في أرض فلسطين. وإن كان عذر أوروبا انّها لا تعدو أن تكون إلّا ذيلا من ذيول العم صام، فضلا عن عقدتها المزمنة من المحرقة النازية لليهود في الحرب العالمية الثانية، فإنّ جامعة الدول العربيّة بجميع أعضائها ال22 لا عذر لها ولهم، ولا بواكي لها ولهم، في هذا الظرف العصيب الذي تمرّ به الامّة العربيّة، من هوان وضعف وإذلال و تدمير لكلّ مقدّراتها. وهو ما تجلّيه صور الدمارالشامل الذي اصاب ويصيب قطاع غزّة أمام انظار العالم "الحرّ" الذي يتفرّج باندهاش ولا يحرّك ساكنا.

لذلك، فقد سقطت ورقة التوت الاخيرة التي تستر عورتهم جميعا، إن في الشرق أو في الغرب، وسقطت معها كل المساحيق وأقنعة الزيف و النفاق التي لطالما ارتدتها الدول الغربية كما العربيّة لسنوات طويلة، وراوغت بها شعوب المنطقة العربيّة، لتغطّي بها عورتها كريهة الرّائحة، يشاركها في ذلك "بيت العرب" الموسوم، من باب التجوّز، بجامعة الدول العربيّة " فيما كان من الأفضل أن تسمّى بجائحة الدول العربيّة. وذلك، إنسجاما مع الكوارث التي سبّبتها للعرب. ولعل قرار المشاركة في حرب الخليج الثانية/ الثلاثينيّة ضد العراق فيما سمّي بعاصفة الصحراء" أفضل دليل على أنّ تغييبها أفضل من وجودها. لذلك، فأي كلمة تسمع للحكّام العرب لدى شعوبهم بعد اليوم؟، و اي موقف بعد اليوم له وزن؟ ل"جائحة الدول العربية" التي تصيب الشعوب العربية، بعد كلّ اجتماع تعقده، بأخطر الأمراض القاتلة، لغباوة وحمق وتفاهة قراراتها التي لا مكان لها حتّى في مزبلة التاريخ، ضرورة أنّها بالفاظ فضفاضة خاوية تدلّ على الشيء وضدّه، بما يعني، بين ألأسطر- بعد تفكيك الشفرات- أنّها لا تدعم ضمنيّا سوي العدو الجلّاد، ولا تناصر، بل تدين الضحيّة بتوظيف التورية، رغم أنّه شقيق من أبناء "جلدتها". يحدث هذا، وهي المسمّاة زيفا وتعمية بجامعة الدول العربية، فيما هي حقيقة وواقعا، تكاد تكون جامعة الدول "العبريّة" بحكم الوزن النسبي لأعضائها المطبّعين في المنطقة. هذا، علاوة على أنّ الجامعة/ الجامحة العربيّة / العبريّة،.هي الآن في طور الموت السريري. وهي في أفضل حالاتها مشلولة الحركة، واهنة وغير قادرة على جمع وتوحيد، الأنظمة العربيّة المتشظية وعديمة الوزن في ميزان القوى الدولية. ذلك أنّ هذه الدول متباينة المواقف، بين أقليّة قليلة، مؤيّدة، داعمة ومناصرة بقوة للقضية الفلسطينية، وأغلبيّة، إمّا مطبّعة مع الكيان الصهيوني المسخ، وبالتالي تقف في صفّه، سرّا وعلانيّة، أو متخاذلة، منافقة، لا بل متواطئة تتظاهر بالدعم في العلانية وتتواطأ سرّا مع العدو. ليس هذا فحسب، بل إنّ الجائحة العربية عاجزة، أيضا، حتى على جمع وتوحيد الشعوب العربية الغاضبة، الهادرة، التي هي حكما وحقيقة وواقعا على قلب رجل واحد، مع حق الشعب االفلسطيني الأبي، المناضل الميداني الحقّ و الوحيد في غزّة الشهيدة، نيابة عن كلّ الدول العربية، بما في ذلك السلطة الفلسطينية -الخانعة، المنبطحة لبني صهيون- في الضفة الغربية. لا بل ونيابة عن كل الحكومات العربية الكرتونية / الربوتية التي تتحرّك وتنقاد.عن بعد بالرموكنترول الأمريكي، كما الغربي ولو بدرجة أقلّ. وإلّا فماذا يعني أن بكون الموقف المصري من المجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولا تزال، ردّا على عمليّية طوفان الاقصى المجيدة وفائقة الدقّة، أقلّ من الحدّ الأدنى المطلوب من غير دول الطوق، مثل الجزائر وتونس التي كانتا كلتيهما إمّا متحفطة أومعترضة على بيان الجائحة الجامعة للدول العربية في الغرض. وهو أضعف الإيمان. لقد كان بيانا هزيلا يسوّي بين الضحيّة والجلّاد دون تمييز بين صاحب الأرض ومغتصبها، ودون اعتبار عدم التكافؤ في موازين القوى، ولا لتاريخ الصراع ولا لظلم الجغرافيا لأهالي غزّة المحاصرة من كلّ.جانب.بحيث تكاد تكون سجنا مترامي الأطراف مابين البحر و دولة الاحتلال. لقد تعمدّت عدم ذكر المواقف كما تفوّه بها أصحابها، لأنّي أقدّر أنّها لا تستحقّ الذكر من فرط خفوتها وضعفها الذي بلغ منتهاه. فضلا عن انحيازها الواضح للعدو الصهيوني الغاشم، المغتصب للأرض والعرض. هذا الموقف العربي الهزيل في مجمله، شجّع العدو في التمادي في سفك الدماء البريئة لأهالي غزّة بأكثرجرأة و ذراوة وعنف ووحشية، بما جعلهم يعيشون الجحيم تحت حمم القذائف الناريّة الأمركيّة الصنع. وهو ما لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، لا مع المغول وما فعله هولاكو في بغداد من تدمير وإبادة جماعيّة للسكان رغم فداحته ووحشيته، ولا مع الطاغية نيرون الذي أحرق روما، ولا مع غيرهم من الطغاة المعاصرين، من هتلر النازي، وموسوليني الفاشي، وستالين الرجل الحديدي قاتل الملايين إلى الصهيوني شارون وفضاعاته إلى ميلوزفيتش سفّاح كوسوفو إلى بوش الأبن "المبعوث الالهي" المجنون الذي غزا العراق... بعد المذابح اليوميّة المروّعة لبني صهيون، التي تقترف في حقّ المدنيين في غزّة الشهيدة، على مدار الساعة، المنقولة صورة وصوتا على المباشر، فانّ أقلّ ما يقال في الموقف العربي ذي العلاقة، أنّه كان موقف الجبناء المرتعيشين، الذين لا حول ولا قوّة لهم.

 "لقد هزلت حتى بدا من هزالها

كلاها وحتى سامها كل مفلس".

فلولا هزال الموقف العربي لما أقدم الرئيس الأمريكي"الديمقراطي" جو بايدن، على حضور مداولات المجلس الحربي لدولة الإحتلال. في سابقة هي الاخرى، لم يجرؤ على القيام بها أي رئيس أمريكي سواه، مهما كانت درجة تأييده للكيان المسخ للعدو. ثمّ يعطي، بصلف وعنجهية و تحدّ واضح واهانة ما بعدها اهانة للأمّة العربية الإسلامية، يعطي الضوء الاخضر لكيان بني صهيون لينهش اللحم الفلسطيني، لا في غزةّ فقط، بل وكذلك في الضفّة الغربيّة. وذلك لأجل غير مسمّى- متى شاء وحيث ما شاء- الى أن يشفي غليله من وقع الصدمة التي لحقته من خسارته المدويّة يوم 7 أكتوبر 2023. وكذا من إهانة جنوده أمام العالم. تلك الإهانة التي لن تنمحي من ذاكرته جيلا بعد جيل. ليس هذا فقط، فالرئيس الامريكي شجّعه الخنوع والإذعان العربي الرسمي على تخطّي الحواجز النفسبة للذهنيّة العربيّة في علاقة بقادتها، بما جعله لا يحترم الرئيس المصري في سياق أحد تصريحاته، حيث قال متحدثا عن السيسي رئيس أكبر دولة عربية "صاحبة أكبر انتصار على العدو سنة 1973 قبل أن تدخل القوى العضمى على الخطّ وتحوّله إلى ما يشبه الهزيمة. قال عنه "إنّه يستحقّ بعض الاحترام". فان كان ذلك كذلك فهل يبقى داع لاحترام "فخامة" الرؤساء و"جلالة" الملوك و فداة الأمراء؟!! لا بل وهل يبقى داع مهما تضاءل لاحترام أضعف هؤلاء. وهو محمود عبّاس، الرئيس المنزوع الصلاحيّات، رئيس السلطة الفلسطينية، الذي قال- قبل ان يتراجع بعد فوات الأوان- "المقاومة لا تمثّلنا". فعلا لقد هزلت. ولا أزيد عن ذلك فالضرب في الميب حرام. وقديما قال المتنبّي:

ذَلَّ مَن يَغبِطُ الذَليلَ بِعَيشٍ

رُبَّ عَيشٍ أَخَفُّ مِنهُ الحِمامُ

*

كُلُّ حِلمٍ أَتى بِغَيرِ اِقتِدارٍ

حُجَّةٌ لاجِئٌ إِلَيها اللِئامُ

*

مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ

ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ

***

المهندس فتحي الحبّوبي

قد لا أضيف جديدا إذا أكدت على أنه عادة ما تصاحب كل ثورة تقع في أي بلد اختلالات كثيرة تصيب الأداء الإداري الروتيني في عمل أجهزة الدولة وسير مؤسساتها الدستورية بمظاهر التقصير والتسيب،  كما تصيب مراكز اتخاذ القرار في الأوساط الاقتصادية والمؤسسات المنتجة للثروة بالتناقض والتضارب وغالبا ما يمتد أثر هذا إلى اهتزاز التماسك الاجتماعي الداخلي وإلى ضحالة الانتاج الثقافي وتسطيح النشاط الفكري، ويعجز الوعي المجتمعي عن متابعة وفهم ما يحدث ليقف متسائلا ما الذي يحدث بالضبط،ويمكن أن يستغرق هذا الوضع وقتا قصيرا، أو قد يدوم زمنا طويلا على حسب مستوى الثقافة السياسية السائدة وطبيعة المفاهيم الاجتماعية القائمة وحجم الوعي الوطني ومدى انتشاره،ومثل هذه الاختلالات ستكون إلى حد ما نتيجة طبيعية لحدث غير طبيعي، وتعد الصدمة الناشئة عن عامل المفاجأة بمثابة عنصر محدد لحجم الفوضى المؤقتة الناتجة،فالمفاجأة والسرعة في بسط الهيمنة لا تتيحان للنظام القائم هامشا كافيا لبلورة رد الفعل المضاد بينما العكس يمكن أن يسمح بذلك وبالقدر الذي يضمن الاحتواء الناجح ثم العودة بالوضع المضطرب بثقة متزايدة إلى سابق عهدها.

تشير سيناريوهات الأحداث إلى أن الثورات التي عرفتها بعض الدول العربية قد أسفرت عن نتيجتين :

ــ  الأولى، اشتداد قبضة القوة بين النظام الحاكم وأطراف المعارضة المطالبة بتغيير النظام السياسي والذي يتحول بشكل تدريجي وغير مفاجئ إلى صراع مسلح شامل ومدمر لكل مظاهر الحياة، لا خاسر فيه ولا منتصر، وبطول أمده تتعرض سيادة الدولة لخطر التدخل الخارجي سياسيا وعسكريا على خط الأزمة، ومنها تنبت بذور الفتنة العرقية والطائفية والعقائدية.. التي مهدت الطريق لاحقا لبروز دعوات التقسيم الترابي للوطن الواحد في إطار رسم معالم وضع إقليمي جديد،إنه سيناريو متوقع وتكرر في أكثر من بلد مما يؤكد على حقيقة طابعه المؤامراتي.

ــ الثانية، تأجج ثورة شعبية عارمة يضع اتساعها الفعاليات المؤثرة في العمل الوطني والحياة السياسية أمام انسداد حقيقي،ثم يعطل طابعها الشمولي العمل بالهيئات الدستورية، وتعجز قوات الأمن والجيش عن قمعها وعن احتواء انتشارها السلمي والمتسارع، لذلك تتعامل مصالح الأمن أولا بحكمة ورشادة مع اضطرابات الشارع مكتفية بحماية المرافق الأساسية ومنع محاولات التخريب، ثم تتجه إلى الحياد وصولا إلى حسم الأمر والانتصار لإرادة الشعب المعبر عنها من خلال ثورته التي تنجح في تحقيق مطالبها بتغيير النظام.

يبدو القاسم المشترك بين الحالتين في تقارب المطالب المتعلقة أساسا بتغيير النظام السياسي، وفي تلقائية الحدث  وعدم وجود زعامة حقيقية أو قيادة معلنة تتحكم في سير وتوجيه الأحداث، أما الفارق بينهما فيكمن في اختلاف الوعي بما يحيط الاضطرابات الشعبية من تحديات خطيرة تهدد واقع حياة الأمة ومستقبلها وفي تباين شعور الجانبين بالمسؤولية السياسية في الحفاظ على وحدة البلاد وسلامة أراضيها .

يتأكد تمام نجاح الثورة من خلال عدة مظاهر تتعلق أساسا بالطابع السيادي للدولة، وهي متى توفرت كان ذلك مؤشرا على انفراج الأوضاع والاتجاه نحو تطبيع الحياة العامة وعودة الاستقرار والشعور النسبي بالأمن والسلام، ومن أهم هذه المظاهر :

ــ النجاح العسكري،يمثل طبيعة الجانب الأمني في الموضوع، ويبدو من خلال:

* توسيع عمليات استعادة الأمن لتشمل جهود التغطية الأمنية معظم مناطق البلاد، وتنفيذ خطط الانتشار المدروس الذي يضمن سرعة التحرك بالفعالية المطلوبة للوصول إلى منطقة التوتر، وإظهار ما يؤكد  هيبة الدولة وتحكمها في الوضع .

* مواصلة استكمال البناء الهيكلي لإدارات ومصالح الجيش وضبط المسؤوليات،وهو مظهر تماسك المؤسسة العسكرية ومؤشر على درجة الوعي بحجم الواجبات الدستورية ودليل على استعداد الجيش وجاهزيته لبعث الثقة في نفوس المواطنين، ولتعزيز مشاعر الفخر والاعتزاز .

* إنشاء القيادات الجديدة للعمليات العسكرية،وهو مظهر من مظاهر التمكين للقوات المسلحة على الأرض، والمقصود إنشاء المزيد من الوحدات القتالية التي يخضع تسليحها لتقديرات جهود التحديث والتجديد واعتبارات المستوى التكنولوجي المأمول في التطبيقات العسكرية .

ــ النجاح الدبلوماسي، يعكس أهمية البعد الدولي للمسألة، ويبدو من خلال:

* عرض القضية في المحافل الدولية،هو جهد قد تتكفل به الدبلوماسية الرسمية أو الدبلوماسية البرلمانية لإظهار طبيعة الأحداث إن كانت مجرد شغب محدود لأغراض التنديد بقرارات محلية مرفوضة شعبيا أو انتفاضة احتجاجية على سياسات وزارية جائرة ترهن واقع ومستقبل قطاعات معينة  أو تمردا وعصيانا مدنيا ضد السلطة الحاكمة، أو إن كانت فعلا ثورة تغيير حقيقية .

* تكثيف النشاط الإعلامي للتعريف بالثورة،ذلك على فرض أن ما يجري هو ثورة كاملة الأركان تقتضي الضرورة تمتعها بالسند الدولي للاعتراف بها ودعم مطالبها وإكسابها الشرعية من خلال عمل إعلامي ناضج ومسؤول موجه بمختلف اللغات عبر كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية ومواقع التواصل الاجتماعي لتشكيل رأي عام مؤيد وتكوين جبهة دولية ضاغطة من أجل فرض احترام إرادة الشعب

* فضح السياسات التخريبية وإثارة الرأي العام ضدها، وهي نقلة نوعيه في المواجهة مع الخصوم تفترض أنهم معلومون بدقة بناء على جهد سياسي واستخباراتي كبير، وأن طبيعة سياساتهم التخريبية هي إجرامية بالأساس تستند إلى نوايا شديدة العداء تستهدف إضعاف الشعوب وقهر الأمم وتحطيم حضارات، وتتطلب هذه النقلة تعميق المواجهة بكشف طبيعة وأطراف التحالفات التي تستغل من أجل تحقيق أهدافها مجموعات الشر المسلحة.

إذا كان النجاح العسكري يعطي ضمانة حقيقية لتأمين ثورة التغيير من أي ارتدادات عكسية غير حميدة فإن ما يكسبه التقدير هو ما يبديه من حياد في الموقف وما يظهره من تشدد لا يلين بالحفاظ على المؤسسات والمرافق الحيوية للدولة وإعلان عزمه بمواصلة الالتزام بمهامه الدستورية بدوام حمايته للشعب، أما النجاح الدبلوماسي  فيتجسد في مهمة تأكيد استمرار الدولة على مكانتها الدولية كدولة محترمة ملتزمة بالعهود والمواثيق الدولية وبالاتفاقيات الموقعة،وكل ذلك من شأنه أن يكسب الدولة في ظل ثورتها الجديدة نفسا جديدا وروح متجددة للبقاء كدولة فاعلة تسهم في بناء الحضارة الإنسانية .

يبقى أثناء الأزمات السياسية أن حجم الجهد العسكري  ــ برغم بعض التحفظات ــ هو المحدد بشكل كبير لدرجة الاستقرار الداخلي في الكثير من الدول خاصة تلك التي لا تتمتع نخبها الثقافية بمستوى كبير من الثقافة السياسية ولا تتمتع برصيد تاريخي كبير من الممارسة الديمقراطية أو عديمة الخبرات والتجارب من العمل الحكومي في مواجهة التعددية الحزبية والنقابية والإعلامية حيث تثور الخلافات العميقة لأبسط الاختلافات، ومعها تتعاظم سيناريوهات المؤامرات الهدامة سريعا، ولكن بالحضور الأمني المتعدد الكفاءات والاختصاصات في يوميات ومفردات العمل الوطني سيتقلص كثيرا هامش التهديدات مهما كان نوعها ومصدرها، ولكنها إذا وقعت سيكون ورائها أطراف داخلية متخصصة في "صناعة الخوف " وسيكون أثرها أكثر ازعاجا وأشد تأثيرا حيث تتخفى وراء نشر الخوف وتسريب إشاعات،وخلق أجواء الشك  ووضع الشأن العام تحت الضغط  بدعوى وجود خطر على البلاد ومصلحة الوطن، إنها ثقافة الخوف التي تبثها ذات الأطراف ثم تزعم  أنها تنبري للتصدى له، ولكنها في الحقيقة أعطت بذلك للأمن حق التدخل عمدا في السياسة طالما أن الأمر قد امتد إلى تهديد الأمن الوطني فتكون بصدد تشكيل الظروف المتشنجة التي تهيئ بسهولة المبررات التي ستبدو حينها موضوعية لوقوع المواجهات العنيفة  التي تهدف في الحقيقة منذ البداية إلى تسويق القضية دوليا بعد تصوير الوضع الداخلي على أنه يتعلق بأزمة سياسية بين نظام الحكم وبين أقلية في حالة خطر،لذلك يمكن إذا استمرت الأزمة أن تحمل تطوراتها مؤشرات البداية على رحيل النظام القائم، وغالبا ما ستكون الظروف السياسية مهيأة في حقيقتها لاستحضار قيم احتضنتها المعارضة السياسية زمنا وستكون المناسبة إذا استمرت فرصة لنفض الغبار عن ما يكتنفه واقعهم من حقيقة تاريخية تعرضت زمنا للتهميش القصري والتشويه العمدي بغرض الإساءة وبهدف الإقصاء التاريخي .

في واقع حياة الأمم " قنابل موقوتة " هي جملة من القضايا الخلافية ذات بعد إيديولوجي تم صرف النظر عنها وتغييبها عن شريحة واسعة من الرأي العام أملا في نسيانها ولكنها تجد في عمق امتداداتها الشعبية عونا لبقاء جذوتها ملتهبة تنتظر الوقت المناسب للانفجار، إنه الظلم السياسي القاسي الذي يقود إلى المتاعب،والأقسى منه الظلم التاريخي الذي يقود إلى السقوط الحر في الدرس المر.

***

بقلم: صبحة بغورة

نتيناهو يميني متطرف تتحكم في سلوكه عقدتان: كرهه للعرب كشعب وكرهه للاسلام كعقيدة قائم على تعصب عدواني صهيوني وليس يهودي.

والعقدة الأخطر في نتيناهو أنه مصاب بـ (حول عقلي) يرى في اليهود أنهم افضل من العرب، ويرى في الدين اليهودي أنه افضل من الدين الأسلامي..يضخم ايجابيات اليهود ويغمض عينه عن سلبياتهم، ويضخم سلبيات العرب ويغمض عينه عن ايجابياتهم، ويرى ان مشاكل الشرق الأوسط سببها الدول العربية مع ان اسرائيل كدولة شريك فيها.

ونتيناهو مصاب بالنرجسية، يرى انه السياسي العبقري الوحيد في اسرائيل .وهو براغماتي..بمعنى انه لا يلتزم بمباديء او عقيدة او ايديولوجية او اخلاق، بل يعمل بما يخدم مصالحه الشخصية وبقاءه في السلطة.

ونتيناهو يمثل انموذج (الميكافيللي) في العصر الحديث..الذي يعرف كيف يوظف المكر والخداع بمهارة(وفهلوة) في السياسة، ويجسد (بشيطنة حداثوية!) ما اوصى به ميكافيلي بان يكون الحاكم :

غدّارا اذا وجد أن محافظته على العهد لا تعود عليه بالفائدة، وأن يكون دعيّا ومرائيا، وأن يجمع بين خداع الثعلب ومكر الذئب وضراوة الأسد، وأن لا يخجل في اختيار أي أسلوب مهما تدّنى لتحقيق أهدافه وطموحاته، وأن لا يتقيد بالمحاذير الأخلاقية التقليدية لتحقيق مبتغاه، وأن يتقن الكذب والمراوغة ليحقق مآربه بأية وسيلة ملتوية، وان يوظّف الدين لخدمة بقائه في السلطة لا لخدمة الفضيلة والاخلاق.

المفارقة.. ان معظم حكام العرب المعاصرين يشبهون نتيناهو في تجسيده لوصية ميكافيللي!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

آن الآوان للعرب والمسلمين ان يعلموا ان اسلامهم اليوم بتشريعاته الفقهية المتعددة وبمذاهبه المختلفة هو ليس اسلام محمد الصحيح، بل اسلام الفقهاء وما اضافوا عليه من تشريعات سلطوية، لذا على المسلمين ان يطالبوا بألغاء الحديث المنقول الذي جاء منتحلاً من فقهاء العباسيين على عهدي البويهيين والسلجوقيين، والتفسير الفقهي القديم الذي لم يواكب تطور اللغة العربية ومعاني الكلمات، واستبداله بتفسير علمي جديد، لكي يتوافق مع القاعدة العلمية التي تقول "الحجة بالدليل" والا ستبقى الامة خارج التاريخ.

ثلاثة مراكز دينية حطمت مستقبل الوطن العربي الحضاري وأرجعته الف سنة الى الوراء، لا بل حددت مستقبل تقدمه الأنساني، نتيجة تخلفها الفكري والحفاظ على مصالحها الذاتية، وأصرارها على عدم تفسير النص الديني تفسيرا يتماشى مع صيرورة التاريخ، واصرارها على القديم الذي أكل عليه الزمن وشرب، والمراكز: هي مؤسسة الازهر في مصر، والمرجعية الدينية في العراق، ومركز الزيتونة في تونس، لأصرارها على أعتماد مناهج التفسيرالقديم للنص المقدس دون تغيير في التطبيق،

في العراق تحكمهم مرجعية دينية صنمية ميتة من زمن لا تهش ولا تنش ونتحداهم ان عرضوها لنا في مقابلة تلفزيونية لتتكلم مع المجتمع ولو بكلمة واحدة ولاغير"لأنها ماتت من زمن بعيد" والتي تدعي ان الدولة ملكا لها ومواردها سائبة لا صاحب لها الا، هم، لذا سكتت عن اصدارمجلس النواب لقوانين باطلة نهبت اموال الدولة (قوانين رفحا المنتحلة، والمحاصصة الباطلة، واحتكار السلطة نموذجاً) وغيرها كثير، وفي الازهر أعتمدوا البخاري ومسلم وبقية المحدثين الوهم، الذين جاؤا بأحاديث سلطوية ما انزل الله بها من سلطان في تأييد مرجعيات الفقه المخترع منهم، كما في أحاديث بحار الأنوارالملفقة، وفي الزيتونة طبقوا اقوال السلف الوهمية وكتاباتهم ولاغير، لذا طالب السيد الحبيب بورقيبة بتغيير مناهج التدريس وحقوق المرأة، فنجح في الثاني وتوقف في الاول، ولا زال المنهج كما هو دون تغيير،

نعم، عند العرب والمسلمين هذا هو ما كان ولا زال فينا يعرقل حركة تطورالتاريخ والتغيير، منذ أكثر من 1400 سنة جاء الاسلام لينقذ الامة من تخلف القبيلة في الحقوق ويعيدها الى الوحدة "هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون"، لكنه فشل فشلا ذريعا في تطبيق الوحدة والحقوق، فلم ينتج أسلامنا لا حضارة ولا وحدة ولا حقوق سوى السيف والنطع لنستعبد الشعوب بالغزوات التي سميناها فتوح، ابتداءً بمقاومة من اراد الشورى فسميناهم مرتدين فحاربناهم بالسيف، واعتدينا حتى على نسائهم باعتبارها غنائم وهم من المسلمين "مالك بن نويرة التميمي وزوجته ليلى العامرية ".ومن هنا بدأت القصة المآساوية التي حولها المؤرخون الى شريعة فتوح،

وما هي بشريعة ولا فتوح، فقد اكمل الله الدين، واتم النعمة، بأختتام النبوة وان الانسانية قد بلغت سن الرشد بمرحلة تحمل الاعباء فليس لاحد كائن من كان تنصيب نفسه حاكما عليها الا بموافقة شورى المسلمين، وهذا لم يحصل ابداً.

وحين فشلنا اخترعنا لأنفسنا حضارة واهية سميناها الحضارة الاسلامية ونسينا نشر الدين بقوة السيف وفتوحات الغاصبين للمال والجنس الذي لايتفق والنص المقدس المكين "لكم دينكم ولي دين"، وأدخلناه في مناهج التدريس لنضفي على الطالب تخريفات مرجعيات الدين الباطلة من احتقار لحقوق المرأة والعادات والتقاليد في العبادات دون تأصيل والنص يقول "اناخلقناكم من نفسٍ واحدةٍ " اي لكم نفس الحقوق والواجبات دون تفريق.لكنهم جاؤونا بامنيات الجنة للمتقين الفاسدين والخوف من النار للقائلين بضرورة التطبيق، والولوغ في الجنس وما ملكت ايمانهم في الزنى دون، شروط التحصين، فكان شعارهم (المؤمن والكافر، المؤمن له كل الحقوق والكافر عبدُ بلا حقوق"، ولاندري من هم؟.

وكأن الحياة في نظرهم هي فقط انتظار لما بعدد الموت وحسابات المقصرين،لكنها لم تصمد امام الحقيقة و التاريخ،، فخلال الزمن الطويل، علينا ان نعي حركة نهضة الزمان، اين عقل الدين اذن؟. فكر الانسان هو الذي أنشأ العقل والعاطفة معا وحضارة سومروقوانين حمورابي والفراعنة وبردياتهم والصينيين وما تركوا من قوانين، ونحن لا زلنا الى اليوم نشهد الصراع المرير بين العاطفة والعقل بأستمرار دون تأصيل.مع كل هذا التطور ظل العقل العربي عاطفي النزعة لاهيا بالجنس والحلال والحرام، والشريعة والتشريع منهم وكل تخاريف رجال الدين الذين يرون انفسهم فوق الاخرين، حتى عدوا ان موارد الدولة ملك سائب لهم دون القوانين، والسلطة والحقوق لهم دون الاخرين.

الشعوب التي ركزت على العقل هي التي فازت وتقدمت، والشعوب التي تبنت العاطفة هي التي فشلت وتدهورت،لكنها نجحت في التغلب على العقل كما عند رجال الدين الذين حولوا الحقيقة الدينية الى أقاويل عاطفية لكسب السلطة والمال دون تفكير"دولة الدين الفاسدة في عراق العراقيين اليوم مثالاً"، فظلت التقاليد الدينية هي الامل في الصلاح مبنية على الظن والوهم ورصاصة المتعصبين، وحين ظلت العاطفة تنتصر على العقل عند المسلمين وتذللهاُ لصالحها،لم تنتج لنا سوى جمود المنطق والأقاويل، وهذا ما وصلنا اليه اليوم في اعتماد نظريات الدعاء وليلة الجمعة وتخاريف الشيخ المفيد وابن تيمية وغيرهم كثير، وتقديس الاضاريح والموتى وزيارات الاربعين وما يسمونهم بالصالحين. أما أحرار.

النهضة الفكرية لن يسمحوا لها ان تنشط وتحرر الاذهان من عقالها فبقي النص يفسر دون تأويل، ودون النظر في صيرورة التاريخ والنظر في شئون الكون على اساس من الفكر غير المقيد، والعقل المتطلع المتعطش الى المعرفة الكلية، وعلى اساس من البحث العلمي والتجربة التي هي اصل كل كشف صحيح، وحتى لو ان من يمارسون البحث العلمي قليلين، لكن الذين وصلوا اليه ابهروا عقول اهل هذا الزمان ونبهوا الى ما لم يكن في الحسبان، فالوصول الى الهدف يتحقق بخطوة، لا بتهريج المؤذنين ولا زالوا الى اليوم مصرين على تطبيق الخطأ بقوة السيف لا المنطق الفلسفي في التصحيح.

لفظة العلم تحتاج منا الى تحديد، لا، ان نسمي فقهاء التخريف الديني بالعلماء (فنادوها بمجمعات العلماء زيفا على التاريخ) كما نجد في كتاباتنا وكتبنا كلاما لا ينتهي عن العلم والعلماء حتى قالوا لنا: "العلماء هم ورثة الانبياء" علما ان علومهم التي ينادون بها علوما لا تقتصر الا على علوم الدين من قرآن وتفسير وحديث وفقه طبعوها في مجلدات مزركشة ووضعوها خلفهم للتباهي بها لا تقرأ، ظناً منهم ان الانصراف الى دراسة ما سوى ذلك انما هو مضيعة للوقت وصرف الانسان عن عبادة الله، وهم مخطئون.

لقد اثبتت الدراسات البحثية اليوم ان العلم الطبيعي هو قاعدة العلوم في دراسة مظاهر الكون وما فيه من ابتكارات تتماشى مع تطور التاريخ على الارض، وهو الذي يفتح لنا كل مظاهر الكون الجديد لكونه يقوم على حقائق ملموسة لا تخمين وتخريف يمكن ادراكها بالحواس والتجربة العلمية الفعلية.فكل معرفة لا تقوم على تجربة علمية فهي ليست علماً، فارتقاء العلوم تقوم على تحليل المواهب الذهنية والفوائد التي يجنيها الانسان من علمه على الارض، لان التجربة هي اصل كل علم مبتكر حديث.ومالم يتقدم التعليم ضمن علم الفلسفة ام المعرفة والعلوم، ويتخلص من خرافات مؤسسة الدين ويكون على راسه العلماء لا المخرفين الذين ينكرون حتى علم الفلسفة في التحديث، لن يكون هناك تقدم او تحرير للعقول الى افاق الابتكار والتجديد، وهنا نحن علينا ان ننقض افكار افلاطون التي تدعي الوصول الى حقائق الاشياعن طريق المنطق وحده، وننقض الفكر الديني الذي يدعي الايحاء الظني دون دليل.

لم تتغير الحالة العلمية المعتمدة على المنطق الارسطاليسي وأباء الكنيسة في اوربا الا بعد فصل الدين عن السياسة واستخدام منطق العلم لفرنسيس بيكون المعتمد على العلم الطبيعي، الذي اعتبره قاعدة العلوم التي صنف فيها العلوم تصنيفا قائما على تحليل المواهب الذهنية القائمة على التجربة، فتقدم التعليم ومهد الطريق "لديكارت وباسكال في القرن السابع عشر الميلادي " الذين انهوا اسطورة الفكر العلمي القديم القائم على تفسيرات الكنيسة في التطبيق.وبذلك خطوا الخطوة الاولى الى الامام في دراسة العلوم كالرياضيات والفيزياء وغيرهما فقامت عليهما معظم نظريات التقدم والتحديث، الذي سخروه لخدمة المال والسلطة والانسان عن طريق الربط بين العقل والتفكيرالذي خدم تقدم المجتمع، وبذلك نقل مركز الثقل في العلم من الخيال الكنسي الى الواقع التجريبي اي من النظري الى العملي، ونحن الى اليوم لازلنا الى الوراء در.

هنا ظهرت المطالبات بأن يكون الجزاء على المنجزالعلمي على قدر المواهب والجهد المبذول، لا قتل العلماء والباحثين (هشام الهاشمي مثالاً) كما حصل في فكر الاسلاميين ظنا منهم بانهم سوف يبتعدون عن النص الديني القديم فتخسر الفئة المتخلفة مراكزها في التثبيت، وكذلك اهتموا بالعلم والخبرة في العمل وادوات التطوير، وان تكون للانسان حرية التصرف وان يكون آمناعلى نفسه وماله وثمرة عمله فتحول التفكير الى الفكر الاقتصادي النافع للجميع، وليس على حتىميات التفكير القديم المبني على الحسب والنسب والحق الموروث الذي بقينا نحن العرب والمسلمين نعايشه الى اليوم.

حتى تحول المجتمع عندهم الى قوة اوقفت الظلم وردت السلطة عن هواها.وبذلك اصبح الفرد المجتمعي عندهم محترما ومترفعا عن الكذب والفساد والدنية فنمى الوعي الخلقي بعد ان حولوه الى مناهج التدريس فنشأ القانون الجديد القائم على عقيدة التقدم، من هنا الغي فكر العصر القديم وتحدد موقف الكنيسة من الاعتراض فتحول المجتمع الى التقدم الحقيقي في التطبيق.

والذي زاد في تقدمهم هو ظهورالنخبة القائدة الملتزمة في المعايير والمقتدرة في القيادة لحفظ حقوق الجماهير، وهذا ما افتقدناه نحن امة الاسلام في الوفاء للقانون والمعايير وللمخلصين لها عبر الزمن الطويل، فلم نصل الى مرحلة الطموح والاخلاص للوطن، بعد ان جعلنا الحياة تتمثل في يوم القيامة وطموحات السلطة ونهب اموالها ليترفعوا عن بقية المسلمين، ولا اعتراض عليهم من مرجعيات الدين، لا بل هي ساهمت في التخريب، فبقينا خارج التاريخ،فلكل طموح حدود، ولكل توسع مدى.فأين نحن منهما اليوم،

هكذا، ظلت امة العرب والاسلام لاهية بترهات افكار مرجعيات الدين، والخلافات بين رجال حكم الصدفة والقتال المستمر بينهم وكل منهم يريد اسقاط الاخر، وفي التطبيق يتراجع عن وعود القسم واليمين حينما يملك السلطة والمال كما نرى اليوم في كيفية التمسك بالسلطة والاستبدادفي الحكم بالعنف والقهرفي مجتمعنا العراقي الخائب في التطبيق، ومحنة الفلسطينيين اليوم جعلتهم حيارى لا يدرون ما يفعلون من واجبات الدين فأنظر الحاكمين اليوم لو بقوا الف سنة ماذا سيحدث لهم، و لن يسمحوا بالتغيير.

لقد حان الوقت للتخلي عن التعصب الديني والمذهبي والقومي الباطل، لذا يجب الاعتراف بان الحقيقة الدينية تتغير وتتطور وليست هي مطلقة ومنقوشة فوق حجر، وان التطور هو ثورة لها اساليبها التي ترتبط بتوفر القيادات المخلصة المستقلة والاهداف الواضحة والبناء الوطني السليم، ساعتها تتحقق معجزة التقدم في الوطن، فمن حكم العدل وصل، ومن خانه سقط،

ايها الحاكمون انقدوا انفسكم من هذا التصرف الخاطىء، فالنقد اساس التقدم، ونقد الدين وتوجهاتكم التي عفا عليها الزمن اساس كل نقد، ان أهم اسباب الفشل عندكم هو، عدم الاعتراف بالخطأ، او الاعتراف به دون تطبيق، الدنيا تغيرت فمن لا يتبصر يتخلف وينتهي الى ابد الابدين، كما انتهت امة العرب والاسلام اليوم وأصبحت خلف مذلة المتقدمين.

علينا اليوم ان ندق ناقوس الخطر، ونبتعد عن الملهيات والمغريات لنصحح ما يحتاج الى تصحيح، وتصفية ما يحتاج الى تصفية، فالزمن يجري دون تحديد.وجهة نظر نعرضها للحاكمين الذي الهتهم تجارتهم بالخطأ دون عقل مكين. أعترفوا بالحقيقة فالاعتراف بها هو ضمان النجاح للوطن والحاكمين؟.

مستعدون للحوار.

***

د.عبد الجبار العبيدي

استهداف المدنيين محظورا بموجب القانون الدولي، واستهداف المستشفيات المدنية محظورا أيضا وفق المادة 18 من قانون جنيف الرابعة لعام 1949، بل يتوجب على أطراف النزاع احترامها وحمايتها في جميع الأوقات، لكن هل تحترم إسرائيل القانون الدولي وحرمة المستشفيات والمنشآت المدنية؟.

للأسف ففي الساعة السابعة وتسع وخمسون دقيقة بتوقيت غزة .. السابع عشر من أكتوبر – تشرين الأول عام 2023 .. المكان مستشفيي المعمداني أو المستشفى الأهلي العربي أو سمه كما شئت.. لحظة حبس العالم أنفاسه لدقيقة ليستوعب ما جرى .. الساعة الثامنة بتوقيت غزة الكل فتح أعينه على مئات الضحايا، والسبب غارة إسرائيلية لم تترك جريحا أو مسعفا أو حتى طبيبا كانوا يريدون قمة في عمان علها تعيد للعالم بعض الصواب بعد كل هذا الجنون، فقررت إسرائيل إعادة الجميع للقاع .

بدوره، أكد رئيس مكتب الاعلام الحكومي في غزة سلامة معروف أن مجزرة المستشفى المعمداني التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي تعدّ مجزرة القرن الواحد والعشرين، وهي امتداد لجرائمه منذ نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948م، موضحا أنه حتى هذه اللحظة هناك انتشال لأشلاء من موقع مجزرة المستشفى المعمداني التي تعمّد الاحتلال استهدافها بشكل مباشر والمدنيين النازحين إليها منتهكاً كل الأعراف والقوانين الدولية وما يسمى أخلاق الحرب.

ووصف معروف أن ما جرى هي محرقة إسرائيلية في تعمد إسرائيل واضح لقتل المدنيين من الأطفال والنساء والأطقم الطبية والصحفية، لافتا إلى أن هذه الجريمة تثبت للعالم أن الاحتلال لن يتوقف عن القتل والدمار، ولا زالت شهيته مفتوحة لمزيد من المجازر، دون خشية من عقاب أو محاسبة أو لوم، بعدما لم يستطع العالم حتى فرض ممرا إنسانيا لإدخال الحاجيات الأساسية من دواء وغذاء ووقود إلى غزة لمواجهة النكبة الإنسانية والعدوان المتواصل.

طائرة جو بايدن التي كان خط سيرها واشنطن – عمان، جرى بمسارها بعض التغيير، وطائرة محمود عباس التي أقلعت إلى عمان استدارت وعادت إلى رام الله، وطائرة السيسي التي كان من المقرر لها أن تغادر القاهرة إلى عمان لم تقلع أصلا .

فما بين لحظة الإعلان عما كان يروج له إعلاميا أنها قمة رباعية ولحظة لإلغائها من الأربعة كافة جرت جريمة يندي لها جبين الإنسانية، فبعد أن مضت على حرب إسرائيل على قطاع غزة عشرة أيام، قرر الجيش الذي يطلق على نفسه اسم جيش الدفاع أن يوجه أكثر الضربات إيلاما، ليس لمن يقول أنه يقاتلهم أي المقاومة المسلحة، وإنما لمن يقتلهم طوال الحرب أي أهل غزة، واختار لجريمته هذه مكانا يصلح رسالة إسرائيل .

مستشفى وإن اختلفوا على تسميته كما ذكرنا، إلا أن هذا المستشفى لم يعد موجودا، لا هو ولا من فيه من جرحى ومصابين ومرضى وممرضين وأطباء، فالجميع توفي إلى رحمة الله، والجميع تحول إلى ذكرى، وكل هذا جرى في أقل من دقيقة، وهي المسافة التي يقاس بها عمر الغارة الإسرائيلية على هدفها، وسريعا بدأت تخرج الأرقام، أدناها 600، ووصلت إلى في مزاد المفقودين إلى أكثر من 1000، وجميعهم كما ذكرنا لا توجد لهم علاقة بمسلحين وليسوا قادرين أصلا على حمل السلاح، وما جرى بعد ذلك لم يكن كما كان قبله،فجاءت إلى الردود من الشارع العربي في الضفة .

المظاهرات عمت مدن العرب، ففي عمان حاصر الغاضبون سفارة تل أبيب الفارغة، وفي مدينة أخرى شمال الأردن خرج المتظاهرون مطالبين بفتح الحدود . أما في الضفة خرجت مظاهرات في القدس والخليل، وفي الكويت جرت وقفة هناك، وفي تونس خرج شلال من الغاضبين نحو الشوارع، والمغرب كذلك، وحتى موريتانيا وليبيا واليمن والعراق ولبنان، وكذلك الحال في مصر، والغضب لم يقتصر على العرب، ففي إسطنبول التركية وقف المتظاهرون لساعات، وفي ماليزيا وباكستان وإيران، وكذلك كندا إضافة إلى مدن أوروبية متفرقة، وهذا عن المواقف الشعبية .

أما المواقف الدولية فبغير الشجب والتنديد الذي لا يستحق الذكر أصلا، كان الحدث الأبرز عقد في جدة لوزراء الخارجية لمنظمة التعاون الإسلامي للتعبير عن استنكارهم الشديد ربما وربما لذر الرماد بالعيون . هذا بالإضافة إلى إلغاء قمة رباعية كانت ستجري في الأردن، وتضم كلا من العاهل الأردني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والفلسطيني، بالإضافة للرئيس الأمريكي جو بايدن، وفي أسباب إلغائها قيل الكثير، فالأمريكيون قالوا أن القمة ألغيت لمخاوف أمنية وبالتنسيق مع عمان . أما الرئيس الفلسطيني فقال أنه عاد ليشارك شعبه الحزن على المصاب، والسيسي خرج في اليوم التالي ليتلوا ما عُد تصريحاته تستحق التوقف عندها وإن بدت لا علاقة لها لما جرى في المستشفى المعمداني، لكنها ترتكز عليه، وهي قضية التهجير التي الآن أكثر وضوحا مما سبق، والسيسي بتصريحات هذه أستبق مؤتمر بايدن ونتنياهو بدقائق، وهذا مؤشر على أنه أراد إيصال رسائل لهما ردا على رسائل إسرائيل في قصف المستشفى .

ودعونا نشرح الأمر بطريقة أكثر وضوحا، فمنذ شنت تل أبيب حربها الأخيرة  هذه على غزة، وهي تضع نصب عينها هدفا واحدا لا ثاني له، وبالتأكيد ليس القضاء على المقاومة، وإنما هو تهجير الفلسطينيين من القطاع، وحددت لهم وجهتهم إلى مصر، ولكن الفلسطينيون قالوا لن نعيد النكبة من جديد، فأمعنت إسرائيل فيهم القتل والترهيب لإجبارهم على النزوح، وسقط أكثر من 2000 في صفوف الغزاويين واستمروا، فجاءت ضربة المستشفى لكي تضاعف لهم الأرقام بسرعة، ولتريهم أن إسرائيل ما زالت تمتلك من الوحشية المزيد، ففهم الجميع أن تل أبيب لا تراجع ولا استسلام عن خطة التهجير حتى لو ارتكبت من الفظائع ما ليس فقط يندي جبين الإنسانية برمتها في ضميرها وكرامتها .

لذا خرج السيسي للقول أن صحراء سيناء غير متاحة لاستقبال أحد، وإذا كانت إسرائيل تريد تهجير أحد، فصحراء النقب أكثر ملائمة، وقال ليست مصر التي تقبل تصفية القضية الفلسطينية، وهو موقف استبقته الأردن باجتماع ملكها قبل يوم من تصريحات السيسي مع قادة جيشه جين قال أن التهجير خط أحمر، فمعلوم خط نتنياهو التي وقف قبل أشهر بالأمم المتحدة يتحدث عنها وعن دولة يهودية على كامل حدود فلسطين، والعرب الآن لا يريدون تكرار نكبة ونكسة أفقدت الفلسطينيين أكثر من ثلثي مساحة دولته، وهذا الموقف ذاته كان عباس قاله في خطاب ليلي بعد حادثة المستشفى بأن الفلسطينيين لن يهجروا من جديد إذا هي مسألة تهجير، وعلى ما يبدو  أمريكا قد أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل لتنفيذها حتى لو كان ذلك على حساب ألاف الضحايا من الفلسطينيين، وعلى ذكر أمريكا رئيسها الذي انحرف مسار طائرته من عمان ليحط في تل أبيب في أول تعليق له على تدمير المستشفى الذي يعتبر تابعا لمؤسسة كنسية، قال إن الطرف الآخر قاصدا الفصائل الفلسطينية هم من ارتكبوا هذه الجريمة، متحديا بذلك الواقع والمنطق، ومشاركا الرواية الإسرائيلية التي سعت لتصديرها للعالم، فليس مهما لدى عجوز البيت الأبيض من مات وقتل، والمهم ألا تُسأل إسرائيل عن ذلك، وهذا هو الدور الأمريكي الآن بكامل غطرسته وبطشه ووجهه الحقيقي الذي كشفه دون أن يبالي بحقوق ووجهات نظر واحد، والعالم لا يملك ألا أن يسير خلف واشنطن أو يغمض عينيه لتصبح الكرة في ملعب الفلسطينيين والعرب، فإما أن يقبل بتصفية القضية أو يقبلوا بأفعال إسرائيل أو يكون لهم موقف، ولا يحك جلدك إلا ظفرك كما يقال، فحتى إيران التي بنت مشروعيتها في العالم العربي على عداء إسرائيل ودعم فلسطين لم تحرك ساكنا حتى الآن ومعها محورها بأكمله، ولم تصدر منها سوى الوعود والتهديدان، فما عسى العرب أن يفعلوا.. وللحديث بقية .

***

د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

..............................

المراجع

1- قناة ستيب: مستشفى المعمداني.. كل شيء بعد ذلك تغيّر..يوتيوب.

2- أجمد جمعة: مجزرة مستشفى المعمداني أبشعها.. مذابح بشعة ارتكبها جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين.. اليوم السابع.

"موت إنسان واحد هو مأساة كبرى، وموت الملايين مجرد إحصائيات"  ستالين

(ماذا تريدُ؟

سيادةً فوق الرَمَادِ؟

وأنت سَيَّدُ رُوحِنَا يا سَيِّد الكينونّةٍ المتحوِّلّهْ

فاذهب..

فليسَ لك المكانُ ولا العروش / المزبَلَهْ )  محمود درويش

من يكنس من؟ المقاومة أم الاحتلال؟  .. هذا السؤال المشاغب المأزوم يقلب الرأي العربي، ويقسمه إلى نصفين ، وقد ملأت أقاصيه الآفاق والتوقعات منذ غزوة القسام الفلسطينية الأخيرة، كما لو أنها مراهنة وجودية ستحسم انتهاء جولات السجن الكبير الذي تقبع فيه قرابة المليوني غزاوي فلسطيني، منذ سبعين عاما ونيف ؟.

لا حديث على الساحة الإعلامية ووسائط التواصل الاجتماعي اليوم، سوى عن حرب التحرير الفلسطينية، ومواجهة القرن بين حماس المقاومة مفردة، وإسرائيل، ومن ورائها الغرب كله، متوشحا بالعمة الأمريكية الكبرى ؟.

المحللون يقدمون نظريات الحروب، واستراتيجيات المواجهة، ومفاعيل التسليح والتخطيط والقابليات النفسية والتدريبية وسرعة الأداء ودقة الأهداف .. إلخ، ومعهم، من يلف لفهم من خبراء الميدان العسكري وتكنولوجيا التسلح ومنظرو علوم الفضاء والفيزياء والذكاء الاصطناعي ..

لا وجود للعقل البرهاني ومنطق التدافع والحسم المعرفي. هناك فقط، عوازل لقيطة من التفريغ الهوائي، الذي يثير النقع بين رؤوس الأشهاد وحلفاء الفتنة. يتنابزون بالتأويلات والإحالات وتغليب العواطف، مع كثير من نسف حقائق التاريخ وترويع النفس البشرية وضميرها المغيب ؟.

ولا يتمنع المتهارشون هاهنا، من استعمال كل أدوات التشنيع والانتقام وتزييف الأخبار، من أجل الوصول إلى مرادهم. وقد عاشت الشعوب الحرة في العديد من مواقع الاحتجاج والشجب المقام على مقصلة الهيمنة الصهيونية الغاشمة، حالات من الانفصام والخضوع الأعمى لماكينة التضليل تلك، نذكر منها:

 ما قامت به هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) من تضليل للجمهور بشأن المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في المملكة المتحدة، وذلك بعد أن وصف أحد مذيعيها المشاركين في المسيرات الداعمة لفلسطين بأنهم يدعمون حركة حماس.

 الممثلة الأميركية جيمي لي كيرتز، تكتب على حسابها الخاص عبر إنستغرام، بعد أن شاركت صورة لأطفال مروعين يترقبون سقوط صواريخ عليهم من السماء، أرفقتها بتعليق: "إرهاب من السماء" إلى جوار علم إسرائيل، تتراجع عن تعليقها بإزالة الصورة، بعدما نبّهها المتابعون إلى أن الجاني في الصورة هو دولة الاحتلال وأن الأطفال الذين يظهرون فيها هم أطفال غزة.

 هناك لجان إلكترونية تروج لمنشورات المشاهير في كندا والولايات المتحدة، الداعمة لإسرائيل بقوة، أغلبها مزيف بالكامل مثل الحديث عن قتل "حماس" 40 رضيعًا أو يعتمد على صورٍ تدين إسرائيل أصلًا، وهو ما تأكد فعلا حيث يوجد أكثر من 156,963 منشورًا يروّج للمعلومات المضللة المرتبطة بما يحصل في غزة، مع 3.9 مليار وصول محتمل لهذه المنشورات مع 98,946 حسابًا مشاركًا في حملة التضليل.

 هذا بالإضافة إلى حرب الإعلام الوسائطي، باستعمال جيش من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي من مختلف العواصم الغربية، والتي تشيع بمختلف أساليب الحقارة والعهارة التكنولوجية الجديدة، عن طريق الذكاء الاصطناعي، تأسيس براديغمات تصور المجازر الوحشية التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة ردًا على عملية طوفان الأقصى، ما هي إلا "مشاهد تمثيلية من محض الخيال"، وذلك في إطار الدعاية الإسرائيلية المستمرة.

هذا غيض من فيض فحسب. والأقسى في كل هذه الحسابات التي فضحتها الألاعيب الصفيقة وتطور أنساق تدمير غشها وإسفافها المبطن، هو الخروج الداعر المكشوف للفيف من المنتفعين والخراصين، من بنات العلمانية والفرانكوفونية، ومن يقبع في دهاليزهم وأسمالهم، ليعلنوا للعالم، دون حياء أو تردد، أنهم: "كلنا إسرائيليون"، وأن "المقاومة إرهاب"، و" أن القضية الفلسطينية قد اغتيلت بعد 7 أكتوبر"؟.

يرى المفّكر الأميركي ستيفن بيدل أن كلّ شيء في الحرب هو في"الكيف" أي كيف تستعمل ما لديك من وسائل، وبأيّة طريقة مُبتكرة لتحقيق الأهداف وخلق واقع استراتيجيّ جديد. وإذا كان القرن ال21 هو قرن نزع الغمامة أو السحابة  عن حقل المعركة لمعرفة أسرارها، وذلك بسبب التقدّم التكنولوجيّ، خاصة في المراقبة المستمرّة للعدو ولمسرح الحرب، فإن هذا التقدّم سيضرب حتماً عنصر المفاجأة.

هو الشيء نفسه، الذي يلزم المتصارعين في هذه الزمنية المرعبة، من الانتحال الأعمى للمعركة التي يكون فيها التطاحن مجالا "للتكييف"، ولابتكار الأفكار الصادمة، حتى لو كانت دماء المظلومين في الطرف المبادر هي الأجزى إيلاما وانسحاقا، .. والأقرب إلى استرداد المبادرة وحصد التفوق.

بيد أن الأسرار الكظيمة في هذه المعادلة الصعبة، لا تكاد ترى بالعين المجردة، ولا يلتقطها من يعتوره حجاب المناعة وقراءة تجارب الحضارات والحروب الثاوية.

وأغلب من يمشي في تينك السحابة، يعتقد أن القوة في ميدان الوغى، تصنعها حشود الكثرة وفلول الارتزاق، معززة بنظم تكنولوجية وصناعية عسكرية متطورة. غير أن ما تحتاجه كل هذه القوة والجبروت، أن تكون "القضية" عنوانا لحمل البندقية، وأصلا أصيلا في خريطة حربها وسيرورتها.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

الحديث السياسي مؤخرا عن الأمن في دول منطقة الشرق الأوسط تحديدا أصبح يتجاوز مجرد مسألة الأمن الوطني الذي يتعلق حسب المفهوم العسكري بقضايا الدفاع عن حدود الدولة أو الإستنفار لمقاومة تهديدات خارجية حاملة أهداف استعمارية أوتخفي وراءها نوايا توسعية بدعوى تعديل الحدود من خلال المطالبة بحقوق ترابية تاريخية، أو أن يتعلق الأمر بالانتصار لقضايا خاصة بكيانات تتمسك بحقها التاريخي في العيش داخل مناطق جغرافية محددة، كل ذلك أو بعضه تحول إلى قضية دفاع عن الوجود السياسي للدولة وعن أصالة شعبها الدالة على هويته وحضارته وثقافته المميزة مصدر إبداعه ورقيه الحضاري بكل ما تحمله هذه الأبعاد من دلالات وخصوصيات هي في حد ذاتها مقومات أساسية لكل أمة . إننا أمام مدخل آخر من مداخل فرض السيطرة الذي بات لا يهدد الأمن الوطني لدولة بعينها فحسب بقدر ما اتسع وأصبح يهدد بشكل جدي وخطير الأمن الإقليمي لمناطق تشمل دولا بكاملها خاصة إذا كانت تجمعها جملة من الخصائص المشتركة تميزها عن غيرها من الأمم مثل دول منطقة الشرق الأوسط، نحن أمام الحديث عن محاولات جديدة لفرض مظاهر مستحدثة من "الهيمنة الناعمة " التي بالرغم من تعدد مجالاتها وتنوع أساليبها إلا أنها تتقاسم هدفا واحدا وهو سلب إرادة الآخر سلبا تدريجيا وبكل طواعية منه للتمكن من احتوائه داخليا، الأمر أقرب إلى غزو غير معلن بمحاولات التقرب المغلفة بالمؤامرات المحبكة لإلغاء الشخصية من خلال المناورات المتعددة المجالات لتسويف مقومات هذه الشخصية تمهيدا لإضعاف قوى الأمة الداخلية الحية ومحاولة سلب سيادتها على مقدراتها لضمان ارتباطها المطلق عقائديا وثقافيا ومن ثمة تبعيتها تجاريا واقتصاديا، ثم ولائها سياسيا، ومن هنا تبرز أهمية التعرض لمفهوم الأمن الإقليمي من منطلق ارتباطه باعتبارات جوهرية في حياة الأمم وهي تحديد المصير والحق في الوجود.

يعتبر الغزو الثقافي من أبرز مظاهر الغزو غير المعلن وأخطرها الذي يسهل تمريره وإخفاء طبيعته المؤامراتية لأنه يستهدف من خلال أعمال أدبية تبدو خالصة ودراسات تاريخية في ظاهرها حيادية وتحليلات سياسية تدعي النزاهة المساس بالثالوثين المحيطين بحياة أي أمة، الثالوث الأول، مركزي وهو الذاكرة الجماعية، الرمز التاريخي،والوطن، بمعنى محاولة تسويف ماضي الأمة وطمس تراثها وأمجادها وتغييبه عن وعي النشء كمفتاح سحري لتقبل محاولات التشكيك لاحقا في صدق وإخلاص الشخصيات الوطنية وتشويه مواقفها التاريخية فتفقد هذه الشخصيات مفعول رمزيتها ويخفت تألقها الشعبي فلا تذكر حتى تنسى، ولا يبقى للوطن من ينتصر له بعدما يكون قد فقد المقومات الكفيلة بجعله البوتقة الجامعة لأبنائه تحت مظلة الهوية والأصالة، أما الثالوث الثاني فهو لامادي، وهمي، يتعلق غالبا بما جرى اعتبارها من المحرمات أو المحظورات وهي الدين،السياسة، والجنس، حيث الحديث عن هذه المسائل يجري من وراء الأقنعة وفي زوايا ضيقة ومعتمة، فبعدما تم احتكار الدين بين أيدي قلة متطرفة متأثرة بالتفكير المطلق وتدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وبعدما أصبحت استراتيجيتها الإيديولوجية الإعلامية تعج بالتضليل وتزييف الحقائق وبالعنف الرمزي وترفض من يخالفها وتقصي من يعارضها وتقوم بالتصفية الجسدية لكل من يقف ضد نشر أفكارها، فقد بقيت الممارسة السياسية الفعلية بيد قلة نافذة تتمسك بالعلمانية وتسيطر على مراكز اتخاذ القرار، تؤمن بالتفكير النسبي كسبيل لتحقيق التوازنات الضرورية لضمان بقائها في السلطة، ثم أبانت تطورات الأوضاع السياسية أن بقاء أحدهما أصبح رهين زوال الآخر، فنشب الصراع المسلح وعانت الشعوب من ويلات النزاع الدامي الذي وضعت تطوراته المتسارعة أمن واستقرار البلاد على المحك، وعرض انتشاره الخطير سيادة الدول للزوال، وبقدر ديمومة المواجهة بين الفريقين بقدر ما ارتسمت ملامح نموذج الدولة الفاشلة ذات الهشاشة السياسية والتدهور الاقتصادي، والتفكك الاجتماعي. والتردي الأخلاقي حيث تهتز القيم و المبادئ حتى يصبح الشك هو المسيطر في كل مجالات الحياة فتتعاظم فرص إضعاف الدولة وتزيد احتمالات تفككها وتتعدد سيناريوهات تقسيمها، إنها حالات واقعية نعيش مفرداتها في العديد من دولنا العربية ونتألم لها .

ونحاول من خلال الأفكار التالية أن نجتهد في تلمس معالم الطريق الذي يقودنا نحو تحقيق الأمن الإقليمي في دولنا النامية :

* لا سبيل للخروج من دوامة إضعاف سلطة قيادة الدول على شعوبها وحرمانها من استغلال مقدراتها سوى بجهد سياسي ــ أمني مشترك يترجم رؤية استراتيجية شاملة تضع مصلحة الشعوب هدفا أساسيا لها، ولا تثير المنافسة السلبية الساخنة بينها تلك المنافسة التي وإن لم تكن واضحة في ظاهر الأمر إلا أنها كانت لفترة غير قصيرة مجالا واسعا لترصد الأخطاء والعثرات والتشهير بها،ولطالما مثلت ثغرة في جدار دفاعاتنا لإشاعة الكره والبغضاء من أجل تحقيق هدف التفرقة.

* مسؤولية القيادات السياسية ثابتة ومؤكدة عن مستوى أداء أجهزة الدولة السياسية والدستورية والعسكرية وعن نتائج الجهود المبذولة من أجل إقامة دعائم العمل الوطني، وكل ضعف أو تراجع و تقصير سواء عن قصد أو بغير قصد هو في نهاية الأمر مسؤولية هذه القيادة وهي المسؤولة عن ما يترتب على فشلها من تبعات وهي التي يجب أن تتحمل نتائجه، ومجرد غض النظر عن هذا الاعتبار الهام يمكن أن يكون مدعاة غير مقبولة أن المسؤول عن الفشل يحسن صنعا.

* يؤدي الربط الوثيق بين تحقيق التنمية الاقتصادية بمفهوم التطوير الإداري والثقافي والاجتماعي، وبمفهوم الجودة الشاملة إلى تحقيق هدفي الانسجام العام لأنشطة الدولة، وانعكاس اثر جهودها بشكل مباشر وملموس على الحياة اليومية، ذلك أن من أثر هذا الربط الإجادة الكلية في توفير المتطلبات من خلال المشاركة والتمكين التي قد تضمن بدرجة كبيرة تحسين المواصفات الفنية للمنتجات وتخفيض التكلفة وزيادة الانتاجية، وهذا في حد ذاته من بواعث الفخر الوطني والاعتزاز الشعبي، وتعزيز روح الانتماء والولاء .

* قد تكون من أبرز الرواسب التي شكلتها المآسي الوطنية التي عرفتها المنطقة العربية خاصة ومازالت تحدث فعلها في بعض بلداننا العربية صعوبة عودة الوئام الوطني بين الفرقاء المتنازعين الذين ينتمون للبلد الواحد بعدما عانوا ويلات المواجهات المسلحة، أي وجود صعوبة في إعادة اللحمة الشعبية إلى سابق عهدها،إنها مسألة تتعلق بفتنة هددت بتفكك الوحدة الوطنية، وأصبحت عملية رأب صدعها العميق تتطلب توفر القدرة على تحمل عبء ومسؤولية بعث مشاعر الثقة وروح التسامح والاستعداد النفسي لفكرة المصالحة، ونبذ التحفظ المقيت المحبط لآمال أمة عندما تتطلع بكل الشغف للأمن والاستقرار، قد لا تكون الكلمات وحدها كافية لمثل هذا المسعى النبيل وإنما بالمزيد من العمل التضامني الوطني والتصور التشاركي الجاد .

من المعروف أنه لا حديث عن السياسة بعيدا عن الجغرافيا، وأن المنطقة العربية على وجه التحديد بخصائصها الثابتة و المتميزة من حيث التاريخ والموقع وعديد القواسم المشتركة يمكنها أن تتمتع بجاذبية سياسية عندما تمثل مجموعة متماسكة من دول مسالمة ذات قوة ردع تحمل رسالة أنها تعمل على موازنة القوى إقليميا ودوليا، ويمكنها أيضا أن تؤكد على لسان قياداتها السياسية والعسكرية أنها تتجاوز بنبل مقاصدها وسائل صناعة الخوف من تسريب الإشاعات، وتعمد خلق أجواء الشك والتوتر ووضع الشأن العام تحت الضغط، ونسج مؤامرات إثارة الفزاعة الأمنية، واختلاق الأزمات الاقتصادية، ونشر الفتنة الطائفية والنعرات العنصرية، وإحاطة المواطنين بالمشاكل الاجتماعية والتعقيدات الحياتية والبيروقراطية المعقدة، وأنها بهذا أرادت أن تقفز بإرادتها الحرة على مراحل الغيبوبة السياسية ومظاهر السبات الإعلامي.

إن أهمية الإدراك العميق بأن الثقافة السياسية والقوة العسكرية هما جناحا الأمة التي تحمي النفوس من التلوث ومن الرهاب الاجتماعي والترهيب السياسي إنما هما في حقيقة الأمر أيضا من أهم مقومات النجاح في تحقيق الأمن الوطني وهما من عوامل التميز الحضاري التي تتيح إمكانية حدوث الوقفة الحاسمة أمام التاريخ لتجديد العزم،حينها يمكن أن نلمس حكمة التطور السلمي عبر المراحل وفضائل الحوار والمشاورة.

هناك حاجة ملحة إلى اتباع نهج الواقعية السياسية في التعامل مع متغيرات الواقع الأمني وتقلبات ميزان القوة العسكرية سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي، ولعل من أهم ما يمكن أن تشمله هذه الدعوة دراسة وبحث الجدوى السياسية من السياسات العسكرية المطبقة إن كانت مثلا محدودة التأثير أو منعدمة الوجود، أو موجهة للمواقف، والوقوف على مقدار الأثر الذي تحدثه في كل حالة وعلى مدى مناسبته للظروف المحيطة المعاشة من حيث حجم مساهمتها في تحقيق المصالح أو حجم الأضرار التي تحدثها أو ستحدثها في حالة الاستمرار في تطبيقها .

***

صبحة بغورة

حضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بداية المنتدى الثالث لمبادرة الحزام والطريق الصينية (OBOR)، الذي عُقِدَ في الفترة من 17 إلى 18 أكتوبر 2023 في بكين، بدعوة من الزعيم الصيني شي جين بينغ خلال زيارته لموسكو في مارس 2023، وحضره أيضا  رئيسي كازاخستان وأوزبكستان قاسم جومارت توكاييف والزعيم الصربي شوكت ميرزيوييف، ومشاركة ألكسندر مشاركة فوتشيتش، ورئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، ورئيسي تشيلي وإندونيسيا غابرييل بوريتش وجوكو ويدودو، ورئيسي وزراء كمبوديا ولاوس هون مانيه، وسونيكساي سيفاندون، ورئيس وزراء باكستان أنور الحق كاكار، واعتبر المراقبون مشاركة الرئيس بوتين في المنتدى، الذي تعقده الصين كل عامين، فرصة جيدة للغاية لتبادل وجهات النظر حول جميع القضايا ذات الاهتمام.

وعشية اجتماعات بكين بين زعيمي روسيا والصين، لم تكن وسائل الإعلام الغربية خالية من الحذر بشأن المفاوضات الشخصية بين الرئيس بوتين والرئيس شي، وسلطت  شبكة "سي إن إن"، الضوء على سياق المحادثات الروسية الصينية رفيعة المستوى، والتي تجري على خلفية تصاعد خطوط الصدع الجيوسياسية في جميع أنحاء العالم - ليس فقط الصراع الأوكراني، ولكن أيضًا التصعيد في الشرق الأوسط بين " إسرائيل " وحركة حماس الفلسطينية، الأمر الذي يهدد بالتطور إلى حرب حقيقية، حيث انتقدت كل من بكين وموسكو تصرفات " إسرائيل "، ودعوا إلى وقف إطلاق النار، وهو أحدث مظهر للجهود التي تبذلها القوتان لتعزيز قيادتهما البديلة لقيادتها الولايات المتحدة في الدفاع عن حق "إسرائيل" في الانتقام.

وبالنسبة لروسيا، يأتي التعاون الثنائي مع الصين في المقام الأول من حيث الأهمية، وهو ما  أشار اليه  الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مباحثات مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في بكين، إلى أن حجم التجارة بين روسيا والصين سيتجاوز 200 مليار دولار حتى نهاية العام، لافتا في الوقت نفسه  إلى النجاحات الاقتصادية التي حققتها الصين، وقال إنه لا يوجد زعيم عالمي واحد يعرف بنسبة 100% كيف سيتم تحقيق ما يخطط له، لكن جمهورية الصين الشعبية تحقق ذلك بشكل جيد، في حين أكد شي أن حجم التجارة الثنائية سيصل إلى أرقام قياسية تاريخية هذا العام، مشيدا بالعلاقات السياسية بين روسيا والصين، وقال موجه حديثه لنظيره الروسي، انه  "يتم الحفاظ على التفاعل الاستراتيجي المكثف والفعال، فعلى مدى السنوات العشر الماضي عقدنا 42 اجتماعا وأقمنا علاقات عمل جيدة وصداقة شخصية قوية".

زيارة الرئيس بوتين الى بكين، جاءت لتأكيد الموقف الروسي الراسخ  وسعيها  مع الصين للتطور المستدام والرخاء الاجتماعي، وتمسّكهما بالتعاون المتكافئ وحق الدول في نهجها للتنمية، والتأكيد أيضا  ان مبادرة "حزام واحد، طريق واحد"، ستساعد في حل المشكلات الإقليمية والدولية المهمة والملحة، وأكد أن مبادرة "الحزام والطريق" الصينية تتوافق مع الأفكار الروسية لخلق فضاء أوراسيا الكبير عبر تحقيق عمليات التكامل المختلفة.

وأشار الرئيس الروسي الى  استمرار مشروع ممر "شمال جنوب" للسكك الحديدية وطرق السيارات في الشطر الأوروبي من روسيا بين بحر البلطيق وجنوب البلاد وصولا إلى إيران، وانه ستظهر في روسيا العديد من خطوط السكك الحديدية الواعدة، إلى جانب المشاريع الأوراسية التي ستنشئ إطارا لوجستيا موحدا للنقل، حيث يتم بناء سكة حديدية تربط جمهورية ياقوتيا والشرق الأقصى الروسي وجسور عبر نهري لينا وآمور وتحديث الطرق السريعة، ودعا الرئيس الروسي في كلمته في المنتدى  الدول المهتمة للمشاركة في تطوير طريق الشمال البحري الذي سيربط العالم، وقال أن فتح طرق التجارة واللوجستية الدولية والإقليمية يعكس بشكل موضوعي التغيرات العميقة التي تحدث في الاقتصاد العالمي، والدور الجديد الذي تلعبه دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

وكشف الرئيس الروسي  أن ملاحة السفن عبر الممر الشمالي ستكون ممكنة على مدار السنة منذ مطلع العام المقبل، ودعا بوتين الدول المهتمة للمشاركة في تطوير ممر الملاحة الشمالي، الذي يربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ، وقال: "فيما يتعلق بممر الملاحة الشمالي، فإن روسيا لا تقترح فقط الاستخدام الفعال لإمكانيات العبور هناك، بل ندعو الدول المهتمة للمشاركة المباشرة في تطوير هذا الممر"، في الوقت نفسه تعمل روسيا بخطى حثيثة على تطويره، حيث تواصل تصنيع عدد إضافي من كاسحات الجليد لمرافقة السفن التجارية، ورفد إلى أسطولها الأكبر عالميا من الكاسحات، وتخطط موسكو لاستخدام الممر لتصدير النفط والغاز، ومن المتوقع أن يصبح طريقا تجاريا رئيسيا بين أوروبا وآسيا، في حين أشار رئيس شركة "غازبروم" الروسية أليكسي ميللر، إلى  أن إمدادات الغاز عبر الأنابيب من روسيا إلى الصين ستصل قريبا إلى مستوى الإمدادات التي كانت موجهة إلى دول أوروبا الغربية .

كما أن المشاريع التي بدأتها بكين والتي تنطوي على مشاركة دول ثالثة تلعب أيضًا دورًا كبيرًا، في الوقت نفسه، لا تشارك روسيا حاليًا في مبادرة الحزام والطريق بشكل مباشر، وإذ يتم تنفيذ العمل في هذا المجال على أساس بيان مشترك للاتحاد الروسي والصين بشأن التعاون، لربط بناء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، الحزام الاقتصادي لطريق الحرير بتاريخ 8 مايو 2015، وهذا اتجاه مهم لموسكو، حيث أن الرئيس بوتين، منذ توقيع البيان، أعلن مراراً وتكراراً عن نيته تشكيل شراكة أوروآسيوية كبيرة، بما في ذلك شبكة من اتفاقيات التجارة والاستثمار الدولية، ومساحة نقل مشتركة، وشبكة موحدة من النقل والمواصلات والممرات الاقتصادية ومناطق التنمية.

وكما هو معروف، فان الرئيس الأمريكي جو بايدن،كان  قد التقى مع الآسيويين في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، في الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بصيغة C5+1 من أجل توسيع التعاون في مجالات الأمن والاقتصاد والطاقة،    وبشكل عام، طالب بايدن الجميع بمغادرة روسيا، وأعرب الآسيويون عن استعدادهم لتسريع خلق "مناخ أعمال أكثر ملاءمة" للتجارة مع ممثلي القطاع الخاص الأمريكي وزيادة الاستثمار، وتحقيقا لهذه الغاية، فإنهم على استعداد “للعمل على إقامة علاقات تجارية طبيعية بشكل مستمر”، علاوة على ذلك، "توسيع طرق التجارة البديلة" وإقامة روابط جديدة بين رجال الأعمال في الولايات المتحدة وآسيا الوسطى.

ولأن الصين تعرف كيف تحسب المال، وهي مستعدة  لإنفاقها بشكل كبير على الشركاء فقط في حالة واحدة - عندما يكون ذلك مربحًا لها، وما إذا كان من المفيد له تعزيز روسيا بشكل كبير في المواجهة مع الولايات المتحدة،فقد ذهب بوتين إلى قمة مبادرة الحزام والطريق لإبلاغ شركائه الصينيين بأنه أصدر تعليماته للحكومة الروسية بتقديم مقترحات لتشكيل ممر نقل وسط أوراسيا عبر منغوليا وغرب الصين بحلول 15 فبراير 2024.

ان زيارة  الرئيس فلاديمير بوتين الحالية للصين هي أول زيارة خارجية يقوم بها زعيم روسي لحليفه  الأكثر أهمية وتأثيرا، وهو الرئيس الصيني شي جين بينغ، منذ بدء غزو أوكرانيا في فبراير 2022، ومدى أهمية زيادة صادرات الغاز الروسية إلى الصين بالنسبة لروسيا تؤكده حقيقة أن رئيسي شركتين روسيتين عملاقتين في مجال الطاقة كانا في قوام الوفد الروسي إلى الصين مع بوتين، وهما  أليكسي ميلر من شركة الغاز الروسية غازبروم وإيغور سيتشين، الذي يمثل روسنفت، ويهدف خط أنابيب الغاز "قوة سيبيريا - 2" الذي تم الإعلان عنه كثيرًا إلى التعويض في قدرته عن "نورد ستريم - 2" الذي لا يعمل أبدًا، وستصل الطاقة المخططة إلى 50 مليار متر مكعب من الغاز سنويا،  وقد ناقش القادة الروس بالفعل مسار خط أنابيب الغاز هذا مع ممثلي الصين ومنغوليا منذ عدة أشهر.

ولم يعد سرا    إن الأولوية بالنسبة لموسكو في رحلة بوتين الحالية إلى بكين،  هي الاتفاق على بناء خط أنابيب غاز جديد "قوة سيبيريا - 2"، فعلى الرغم من الاختناقات المحتملة، فإن المشروع سيحصل على الضوء الأخضر، لأنه مفيد لكل من روسيا والصين، ومن المفترض أن يربط خط أنابيب الغاز "باور أوف سيبيريا 2" حقول الغاز الغنية في شبه جزيرة يامال في غرب سيبيريا مع آسيا، ولأن شي جين بينغ،  كما قال الرئيس الروسي في حديثه لوسائل الاعلام الصينية، لا يزال يضع المصالح الجيوسياسية في المقام الأول، وليس المصالح الاقتصادية البحتة، وفي الواقع،  وبهذه الطريقة سيعوض الكرملين خسارة المبيعات في السوق الأوروبية.

كما ان تشكيلة الوفد الروسي كان  فيها انحياز واضح لقطاعي المال والطاقة في الاقتصاد، وأن جدول الأعمال كان  مرتبطا بالتعاون الثنائي في البنى التحتية المالية، وآليات التسوية وتوسيع العلاقات في قطاع الطاقة، من وجهة نظر كل من التسليم المباشر والتداول، وانه تم التوصل إلى بعض الاتفاقيات، لكن لم يتم الإعلان عنها علناً، لأنه في الوقت الحالي سيكون من قصر النظر تقديم للعالم بشكل علني أي اتفاقيات تجارية جدية في مثل هذه المجالات الحساسة.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

دفاع الجيش العربي السوري عن بقاء الدولة السورية خلال أكثر من إثني عشر عاما في الحرب الكونية ضد سورية، وتجارب الشعوب الأخرى في نضالها للحفاظ على السيادة وحماية الوطن تثبت و في التاريخ ما يؤكد أن الأعداء سيذهبون إلى النفاق السياسي والإعلامي والكذب والدعاية التي لا أصل لها على أرض الواقع. إنّ للنفاق السياسي جذورا تاريخية  وصفحات مليئة بالأمثلة. ففي التاريخ القديم، حيث عرف العداء الدائم بين دولة روما ودولة قرطاج الفينيقية وقد جرت حروب وصدامات بين الدولتين وأشهرها حملة هاني بال على روما من خلال جبال جنوب أوروبا عام 218 قبل الميلاد، حيث انتصر هاني بال في معركته، وحاصر روما ذلك الحصار الشهير.أتهمت روما أعداءها في قرطاج بأنهم يقومون بوأد البنات بعد الولادة، وهذا ليس له أي علاقة بواقع العادات والتقاليد، بينما ذهبت أوروبا والغرب إلى  أتهام الجيش العربي السوري خلال دفاعه عن سيادة الوطن ووحدة ترابه /ووقوفه جدارا منيعا أمام تنظيمات داعش والنصرة وغيرها/ أتهموا هذا  الجيش باستعمال المواد الكيميائية وأعلنوا إتهاما مبنيا على أفلام قامت بفبركتها منظمة الخوذ البيضاء، التي تأسست برعاية وخبرة الإستخبارات البريطانية، ورعتها كلا الدولتين إسرائيل وتركيا.....

ألمانيا النازية في عدوانها على أراضي الإتحاد السوفييتي 1941 -1945   كانت تعلن ومن خلال مكاتبها الإعلامية بزاعة غوبلز أن ألمانيا صديقة لشعوب الإتحاد السوفييتي، وأنّ عدوها هو النظام الشيوعي الحاكم فقط، بينما كانت معسكرات النهاية والأسر مليئة بأبناء وبنات الإتحاد السوفييتي من روس وجورجيين وداغستانيين وتتر وأوزبيك وغيرهم إلى جانب أبناء فرنسا وغيرها من الشعوب الأوروبية. مقولة الغاية تبرر الواسطة مقولة جاءتنا من العالم الغربي. لا ننسى حملات الصليبيين على المشرق العربي 1095-1270 م التي كانت أسبابها المباشرة هي الترزق وإيجاد مصادر للعيش والثروة على حساب موارد الأخرين ودمائهم وأملاكهم.لذا بدأ رجال الكنيسة وكبار رجال الفلسفة والعلم بنشر أفكار حول إضطهاد مسيحيي المشرق العربي،  ونهب أرزاقهم والإعتداء على محاصيلهم ومواشيهم من قبل المسلمين في المشرق، إلى أن جُهزت الفرق والجيوش وتوجهت إلى أقاليم المشرق العربي وفي الطريق نحو الشرق تعرضت التجمعات اليهودية إلى الضرب والنهب والسلب قبل الوصول إلى المشرق. حدث ذلك كون العدو هو الإنسان إبن معتقد آخر وديانة أخرى.أقول ذلك كون المشرق العربي حينذاك كان أكثر تقدما، وأحسن حالا في قوته الإقتصادية والتقنية والعلمية.إن ما يتم التركيز عليه في النفاق المعاصر هو دع الكذبة تمشي، دعها تفعل فعلها، أما الإعتذار فلا يسمعه أو يعرفه أحد.  هكذا صرحت القوات الأمريكية – البريطانية  التي غزت العراق : أن الشعب العراقي هو شعب صديق للغرب، وأنّ الغرض من الغزو هو تخليص الشعب العراقي من حكم الطاغية صدام حسين!!! بينما منذ اللحظات الأولى لغياب الحكم المركزي في بغداد وعلى أعين الجنود الأمريكان نهبت المتاحف العراقية بموجوداتها التي لا مثيل لها، ونهبت مؤسسات الدولة، وعمت الفوضى مع إستثناء  وزارة النفط العراقية. القرار الأول الذي أصدره الحاكم العسكري بريمر كان حل الجيش العراقي وكل مؤسسة تابعة لهذا الجيش ترفع العلم العراقي، كل ذلك لإثبات المحبة تجاه الشعب العراقي.وفي ذات الوقت وضع الأمريكان خطة لإنهاء العلماء العراقيين جسديا.

كلنا نذكر حادثة سقوط طائرة بوينغ التابعة لشركة بان أميريكان عام 1988 المتوجهة نحو الغرب، سقوطها فوق ضيعة لوكربي،  وكيف استثمرت أمريكا وحلفاؤها في هذه الحادثة، ظهر الإتهام الموجه نحو نظام القذافي بعد عدة ساعات من سقوط الطائرة المنكوبة. بينما أسباب الحادث تكمن في خلاف داخلي بين عناصر من الإستخبارات الأمريكية يعملون  في المشرق العربي ، إذ أن جهة من هذه العناصر أرادت إنهاء عناصر جهة أخرى وتصفيتهم كي يحسم الأمر، وكان الحساب والخطة المعدة أن القنبلة المؤقتة يجب أن تنفجر بعد أن تقلع الطائرة وتصبح فوق المحيط، تأخر الطائرة على أرض المطار جعل الخطة فاشلة وانفجرت الطائرة قبل تجاوزها اليابسة، وسبب النزاع بين عناصر الإستخبارات الأمريكية هو أمر في تجارة المخدرات.

 نعود إلى سورية، تقوم أمريكا والغرب اليوم بإثارة موضوع المخدرات وبأن مصدرها سورية، في نفس الوقت تقوم أمريكا ويقوم الغرب جهارا نهارا بدعم الفرق والتنظيمات الخارجة عن القانون، التي ليست تحت سيطرة الدولة: من بقايا داعش، وبقايا النصرة... وغيرها من التنظيمات المتواجدة في منطقة التنف، ومناطق محاذية لسيطرة قسد، ومنطقة إدلب، ونحن نعرف كيف أن هذه المناطق تعتبرها أمريكا مناطق صديقة لقواعدها على الأراضي السورية، مصادر التمويل لدى بقايا التنظيمات الإرهابية في هذه المناطق لا تعتمد على المساعدات الواردة  من بعض الدول بما فيها أمريكا فقط، بل أيضا من إنتاج المخدرات. لو كان الغرب مجتمعا وأمريكا حريصين على منع تجارة المخدرات لكان من واجبهم التوقف عن دعم جهات خارجة عن القانون وعن سلطة الدولة المركزية وهذا الف باء العمل الأمني.

 في السابع من أكتوبر، بعد فشل إتفاقيات أوسلو وتحولها إلى تاريخ منسي، وبعد سخرية الحكومات الإسرائلية المتعاقبة من المبادرة العربية عام 2002  الصادرة عن قمة بيروت، وبعد عقود من التنكيل بالشعب الفلسطيني، ونهب الأراضي، واعتقال من هم في سن ما قبل سن المدرسة من الأطفال، مع إعتقال النساء والشيوخ وزجهم في السجون الإسرائيلية دون قرار من أي جهة لها صلة بالعدل، بعد كل أنواع القهر الممارس من قوى العدوان الصهيوني الدائم على الشعب الفلسطيني، وبعد النسيان  المقصود لقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة  في قضية شعب فلسطين من قبل أمريكا والغرب .. بعد كل هذا قامت قوى حماس والجهاد الإسلامي يوم السابع من أكتوبر بالهجوم على فرقة غزة في الجيش الإسرائيلي وحققت  هذه القوى  نجاحا باهرا في تحطيم قوة إسرائيلية مدججة بالعتاد والسلاح وأحدث الأدوات الإلكترونية ومحمية بالجدران العازلة والكاميرات وأجهزة الإنذار.

بغرض التغطية على هذه الهزيمة والفشل الكبير تقوم جهات إسرائيلية وجهة أمريكية  متحالفة مع الصهاينة تقومان بفبركة فيلم مليء بالصور البشعة عن قتل الأطفال والإعتداء على النساء والقاصرات والقصر ويصدّق العالم كله هذا الفيلم المفبرك مع العلم أنه لم يتم ذكر أي إسم، أو أي عنوان بيت، أو عنوان  شقة، أو رقم بيت، أوحارة، أو منزل، أو إسم  شارع، أو إسم أم مع طفلها. تلك هي صناعة الخبر الكاذب على مبدأ دع الكذبة تفعل فعلها، دعها تمر وتؤثر في وجدان وعقول الناس!! أما الإعتذار فلن يسمعه أحد. الحدث الأخير الذي يدمي القلوب هو قصف المشفى الأهلي الفلسطيني /بقنابل مدمرة أمريكية الصنع/، وقد ذهب ضحية هذا التفجير مئات الضحايا، إنه  فعل بربري  جديد يثبت جوهر الحركة  الصهيونية الهمجي الأسود.... الرحمة لأرواح شهداء فلسطين.    

***

بقلم الدكتور إسماعيل مكارم

أدانت الولايات المتحدة، اليوم، الهجوم الذي نفذته حركة "حماس" الفلسطينية ضد إسرائيل، والذي شمل إطلاق آلاف الصواريخ وتسلل عدد من عناصر المقاومة التابعة للحركة، تجاه المناطق الجنوبية لإسرائيل.

 ولكن في نظر الأمريكان الجيش الإسرائيلي يمتلك حوالى ٣٢٠٠ دبابه من أقوى وأحدث الدبابات في العالم، ويمتلك حوالي ١٩٦٠ طائرة من أقوى وأحدث الطائرات في العالم، ويمتلك اكثر من عشرة آلاف عربه مدرعه هي الأقوى والأحدث في العالم، ويمتلك عدد كبير من مدافع الميدان متعددة الأعيرة ذاتيه الحركة الأقوى والأحدث في العالم وكذلك عدد من منصات الصواريخ هي الأقوى والأحدث في العالم، ويضم أكثر من مليون ونصف مليون مقاتل يمكن حشدهم في خلال ثمانية وأربعين ساعه بنظام تعبئة من أقوى الأنظمة بالعالم.

 كذلك الجيش الإسرائيلي يمتلك ترسانة رهيبة من أسلحه الردع تتضمن أكثر من ٣٠٠ قنبلة نووية بجانب ترسانة من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وبذلك فالجيش الإسرائيلي هو أقوى الجيوش في منطقه الشرق الأوسط بأكملها، وهى حقيقه مؤكدة.

 والسؤال في نظر الأمريكان: هل الجيش الإسرائيلي بكل هذه الامكانيات الجبارة بحاجة لأن تحشد أمريكا جيشها وترسله إلى إسرائيل ليشارك الجيش الإسرائيلي التصدي لحماس كما يزعمون؟

 إن العقل والمنطق في نظر الأمريكان أن الحشد العسكري الأمريكي لدعم اسرائيل ليس موجها لحماس، لكنه موجه لأطراف أخرى تتوقع أمريكا أن تطور الأحداث يمكن أن يجعلها تدخل الحرب ومصر من هذه الأطراف وطبعا روسيا وإيران أيضا من تلك الأطراف.

 السؤال الثاني في نظر الأمريكان: هل تصوير عناصر حماس والحرس الثوري الإيراني التي شاركت في العملية بهذه الصورة التي أظهرتهم وكأنهم جيش حقيقي يقف ندًا للجيش الإسرائيلي، بل يتفوق عليه، لدرجه أن تلك العناصر هاجمت الدبابات الإسرائيلية وأخرجت جنود الجيش الإسرائيلي منها بملابسهم العسكري وسحلتهم على الأرض، في صورة للعالم بأكمله أن تلك العناصر أقوى من الجيش الإسرائيل، وهو ما صدر صورة كاذبه للعالم أن تلك المعركة تدور بين جيشين متعادلين في القوة، بل إن جيش حماس ومقاتلي الحرس الثوري الإيراني أقوى من الجيش الإسرائيلي

  فهل تلك الصورة في مصلحة فلسطين وقضية فلسطين؟

 في نظر الأمريكان بالتأكيد لا، فتلك الصورة الكاذبة ستجعل العالم يتقبل أي رد فعل للجيش الإسرائيلي فهو رد فعل جيش على جيش أقوى منه أو مساوى له في القوة، وبذلك فقدت فلسطين عنصر تعاطف الرأي العام.

 السؤال الأخطر في نظر الأمريكان: هل سينتج عن عملية طوفان الاقصى المزعومة تغيير في الوضع الاستراتيجي القائم قبلها؟، وهل سيتم تحرير فلسطين؟، وهل سيتم إقامة دوله فلسطينية حرة ذات سيادة؟، وهل ستجبر اسرائيل على العودة للتفاوض حول أقامه دوله فلسطينية حرة مستقله ذات سيادة؟، وهل سيتم رفع الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة؟، وهل ستقوم اسرائيل بفك المستوطنات الإسرائيلية ونقلها خارج غزة والضفة الغربية؟، وهل ستتوقف إسرائيل عن اقتحام الاقصى؟، وهل ستعيد إسرائيل السماح بتشغيل مطار وميناء غزة؟، هل ستفرج إسرائيل عن الأسرى الفلسطينيين بالسجون الإسرائيلية مع تعهد بعدم إلقاء القبض عليهم مرة أخرى وعدم إلقاء القبض على غيرهم؟

 إن العقل والمنطق وتطورات الاحداث في نظر الأمريكان إلى الآن أن شيئا من ذلك لن يحدث.. بالعكس أصيبت القضية الفلسطينية بأضرار كثيرة، بل بكوارث سيدفع ثمنها أبناء غزة (من المدنيين) وربما لبنان وسوريا بأرواحهم ودماءهم وستشتعل النيران وتهدد المنطقة بأكملها.

 كذلك فإن عمليه طوفان الاقصى في ضوء نظرية الأمريكية، كان الاتفاق أن يكون هناك حجم خسائر لإسرائيل أكبر من أى تمثيليه سابقة وأن يكون هناك قتلى ومصابين وأسرى، لأن إسرائيل كانت تعانى مشاكل داخليه تهدد بانهيار إسرائيل، وكانت هناك فتنه مشتعلة بين أغلبيه الشعب الإسرائيلي وحكومته.

 فكان المطلوب في نظر الأمريكان عمليه لتحقيق أربعه أهداف:

الهدف الأول: تثير خوف الاسرائيليين فينسوا خلافهم مع حكومتهم ويتوحدوا معها مرة أخرى لمنع انهيار اسرائيل.

الهدف الثاني: أن تكسب اسرائيل تعاطف العالم. فيتقبل رد فعلها العنيف باعتباره دفاع عن النفس وليس عدوان جيش قوى على شعب اعزل وهى حقيقة الموقف.

الهدف الثالث: محاوله لفرض صفقه القرن التي رفضتها مصر وتصدت لها حيث سيكون رد الفعل الإسرائيلي عنيف جدا بحيث يحول غزة إلى جحيم ويضع أبناءها في الاختيار بين الرحيل إلى مصر بحثا عن الأمن والحياه أو البقاء والانتحار في غزة.

الهدف الرابع: تصدير مشكله أبناء غزة إلى مصر بصورة قويه تصنع مشكلة كبيرة لمصر تعرقل وتربك نهضتها، بحيث تعجز عن استكمال بناء عناصر قوتها، ويمكن استغلال تلك المشكلة لصنع فتنه لاجئين داخلية بتنظيم تعاون بين لاجئين من السودان، وسوريا، وأفريقيا، وغزة، لصنع كيان غريب داخل مصر يسعى لتفجير مصر من داخلها.

 وبذلك يكون الهدف قد تم فرض صفقة القرن على مصر، وتصدير المشكلة إليها، فبمجرد دخول الملايين من أبناء غزة إلى مصر، سيتقدم الجيش الإسرائيلي إلى خط الحدود ويغلقها ويمنع عودتهم، وتوضع مصر فى الاختيار: إما قبول دخول أبناء فلسطين الهاربين من الموت والباحثين عن الحياه والأمن، أو التصدي لهم، ومحاوله منعهم، فينطلق الإعلام الصهيوني والعربي، ليهاجم مصر وقيادتها، ويتهمهم بالخيانة، ويتحرك المصريين ضد دولتهم باسم الدين والوطنية

 وهنا يمكن أن تتحرك أمريكا وتطالب مصر بواسطه أوروبا بفتح حدودها طبقا للقانون الدولي، وستكون حملة قوية جداً تضع الدولة المصرية فى مواجهة العالم العربي والقانون الدولي والعالم ونسبة من الشعب المصري.

 وطبقا لهذا المخطط سيختلف رد الفعل الإسرائيلى هذه المرة، فلن تكتفى إسرائيل بقصف غزة، بل سيتم اجتياح برى لغزة بمبرر البحث عن الأسرى الإسرائيليين وإطلاق سراحهم وتدمير البنية التحتية للمقاومة (الإنفاق، ومخازن الأسلحة، ومخازن الذخيرة، وورش تصنيع الأسلحة والذخيرة)، وهو مبرر سيتقبله العالم أمام الصورة التي روجها الإعلام الصهيوني للخسائر الإسرائيلية والتي أقنعت العالم أن إسرائيل ضحيه لدرجة أن دول كثيرة عبرت عن احترامها لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وأصدرت بيانات رسميه بذلك.

 ولها فإن عمليه إسرائيلية بهذا الحجم تستلزم مشاركة أمريكية كامله لضمان ألا تتدخل الدول العربية عسكرياً ضد إسرائيل وضمان عدم لجوء مصر للخيار العسكرى لمنع هروب أبناء غزة إلى مصر، ولهذا تم التخطيط أن يكون بين الأسرى الإسرائيليين أمريكيين يحملون الجنسية الأمريكية ليكون هناك مبرر لتدخل أمريكي مباشر بزعم إنقاذ الأمريكيين وحمايتهم.

 وهكذا حصلت إسرائيل على ضوء أخضر من العالم للانتقام بقوة وعنف، وأعطوها المبرر لتدمير غزة ولبنان، وما تبقى من سوريا، وهكذا، أصبحت المنطقة ميدان تصفيه حسابات لأطراف خارجية، وهى كارثه فالعرب سيدفعون ثمن تحقيق أهداف لا علاقه لهم بها، وسيكونون ضحايا حرب لا علاقه لهم بها.

 أتصور أن إسرائيل في ضوء نظرية المؤامرة ستوجه ضربه قويه لغزة، وربما توجه ضربه إلى لبنان، في محاوله لرفع الروح المعنوية لجيشها وشعبها، وكذلك لقطع ذراع إيران الممثله فى حزب الله والذى تهدد به إيران اسرائيل.

 وأتصور أن روسيا تتمنى ذلك وكذلك إيران لتوريط اسرائيل وأمريكا فى حرب تستنزفهم... الموقف للأسف يخرج عن سيطرة الجميع، ويمكن أن يشعل المنطقة بأكملها.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

الرثاء نواقيس وجع والنعي انكسارات عمر، وبغديدا على جمر التبرير تتصدع أفئدة روحها بموت جماعي ساري الحصاد، كان الله في عون من تبقى منهم بفقدان أعداد كبيرة من كل عائلة، ما حدا بي وجع الفقد أن أكتب بلوعة تأسٍ وقهر عن مأتم فاجعة وليست حفلة عرس في قضاء الحمدانية، وإثر ما نقل من أخبار على مواقع الويب، فما حدث من حرق جماعي مرعب في حفل زفاف العريسين (حنين وريفان) وهم في ريعان شبابهم وأوج سعادتهم، وأول الخطى لحياتهم الزوجية، تصفعهم صدمة الموت، تثكل حتى حدادهم بمواقف لا تُنسى عند ذاكرتهم الغضة، وغيرهم من المدعوين والمشاركين في كرنفال العرس من أهل وأقارب واصدقاء، وأحبة جاءوا للتهنئة فكان أتعس يوم في حياتهم أذ كان زفاف جماعي إلى الموت احتراقا واختناقا بفرح عائلي بسيط غير متكلف، بل في قاعة بهيكلة غير نظامية ولا مزودة باية حماية طوارئ أضافة إلى تشييد البناء في وسط أعمدة الضغط العالي.. ماذا يقول المسؤول في مؤسسات الترخيص والدوائر المعنية !!، ومَن الملام ؟؟، فما تمنوا أكثر من فرحة جماعية كاي مناسبة فرح تعودنا عليها من ضيافة الأعراس ولكن ما حصل الأسوء..!!.

نعم سنفتري على أنفسنا لو نسكت وهل ممكن أن ننسى وتمر كسابقات المآتم، فمتى ما دفنت الضمائر واستبيحت المتاجرة بارواح بريئة حل الدمار والموت وها نحن فيه، أنتجمل حين نقول ما حصل من كتاب القدر؟؟، كلا وغير ممكن، فما نسمعه ممن عايش الفاجعة وتفاصيلها وما نشاهده من خلال ما نشر من الصور والفيديوهات يُثير الريبة والشكوك، ونعتقد تخطيطا مبرمجا بفعل فاعل، وكذلك سير الحدث جريمة مدبرة بإحكام مسلط، فمن الاشتعال السريع والإنهيار الأسرع للمبنى عملية هادفة بترصد طيفي، لإنعاش وتيرة التشتت والرجوع لنقطة الضعف والتفرقة الطائفية..

كذلك سرقة هارد الكاميرا والهروب به أول الدلائل، فلا بد أن يبقى من خيوط الجريمة لو ظل خيط رفيع سنمسك به كدليل قاطع لجريمة منظمة الإصرار والترصد والله ينصر الحق للمظلوم، فالضحايا ممن تلقى العلاج وتشافى أو تحت العناية المركزة لشدة الجروح والحروق والصدمات النفسية، فالعذر لمن ؟، ولمن نقدم تعازينا؟ وما فائدة الأعذار حين نفقد فلذات الروح .. صبايا بعمر الورود.. وختيارة الوقار، ومن يتقبل الأعذار، فكيف ان تعتذر الأقدار من أسراب ملائكة ابتهلت بدعاء دموع أو تراتيل اختناق تتصدى لصدمة مفتعلة، لاستيعاب الممكن والمستحيل، فبأي نشيج روح نعزي قوافل الموت، لا جدوى من صلافة السؤال والجواب على محك التزييف واضح..

يستنزفني صراخ الحقيقة أستذكر ما حل بأطلس تراب رافدينا، وجغرافية خارطة مهدنا ومثوانا، فليس بزمن بعيد لكي تلتئم الجروح وننسى، فترياق الشفاء جرعات مريرة المعاناة ونحن نسعى دوما لترميم الشروخ، ونفتخر بتنوع أطياف العراق وعروبة انتماء عريق وأن تعددت العقائد، فذلك ما يزيدنا قوة أضمومة من باقة ثقافات ممتدة بجذر واحد هو تراب عُجِنَ بماء دجلة والفرات، فلن يوهن شكيمتنا محتل غريب، ولا يفرقنا حدث مريب، والتجارب على محك تأريخ لن يستر ما فضح من نفوس بغيضة تُكيد التناحر..

 فهل كتب علينا أن لا نعيش مواسم الأفراح ولا تتذوق شفاهنا رحيق البسمات والضحكات خوفا من أن يمسنا سوء حتف..؟ كلا.. فمن المؤكد أن شعب العراق لا يهاب الموت وأن كان الموت نبوءة وجود، ولكن في أرض الرافدين الأنسان يسير بكفن روحه أينما توجهت خطواته، وبالمنطق الوجودي أذ لا أحد مخلد، ولكن اغتصاب وسلب الأرواح عنوة وبلا رحمة بمذابح غير قانونية جديرة بدراسة خلل النظام وسهولة خروقاته، أو تعمد لاستثمار طرق وأسباب الموت للبقاء في سلطة بلبلة تشغل العقول عن المطالبة باحتياجات معيشية كثيرة للشعب وغيره..

فالموت في محطات كل حياتنا موسوم على عاتق الذمم، منه السابق لأوانه أو موت لاحق لحتفه، فما عهدناه من الوطن إلا الإهمال وعدم الأمان حيث نسير وأرواحنا على كفوف اللحظات، نتوقع الموت في الشارع .. المستشفيات .. الأسواق .. البيوت .. المدارس وأي تجمع، ولكن المؤسف آخر تقنيات الإجرام في الإحتفالات الشخصية كما في مجزرة الحمدانية، فبعد موت ضمير الإنسانية نتوقع الأدهى في التلذذ بالقتل وأساليبه المتهتكة، فلا مبرر للمثل القائل (تعددت الأسباب والموت واحد) بل نقول (تعدد الموت والسبب واحد)، فليكن شعار وطن لأننا تحصيل حاصل قرابين ونذور جاري الذبح، أذ لا قيمة للإنسان فيه، هذا ما فرزته قيم مافيات الموت فمن أجل من ولماذا؟؟

 أنه جشع المضاربة باللإنسانية الحثيثة والملموسة لجمع الأموال الحرام من عدد رؤوس الموتى، وكأن كتب على الشعوب العربية عامة والعراق خاصة إقامة حد الموت على الجميع بدون استثناء إلا من اغترف من كؤوس السلطة فساد اللامسؤولية واللا انتماء للوطن فهم في منع منيع، فالموت سلاح ساري المفعول مستحدث التعديل ..سهل التطبيق، ففي وطني الحزين الذي أثكلته الجراح و ذرف الأرواح بمطر الموت، القاتل يتأبط أنياب الموت ويتجول على هواه بلا قلب كوحش كاسر، فأي عقيدة تبيح حق سلب الأرواح، إلى متى نزيف العذاب لشعب يتلوى من الحرمان.. المرض .. العوز بأشكاله ومعاناة الفقير لا تنتهي من حكم جائر لأكثر جورا، وفوضى سلطة بلا احترام لحرية الإنسان، والأكثر فداحة تنامي الجهل والإنحرافات وتقليد أعمى للغرب وتفكك الأسر، فلنعزي أنفسنا بضياع حلول السلام.

***

إنعام كمونة

..........................

*العروسان حنين رياض وريفان أيشو

لندع كلام السياسة جانباً لدقائق ولنستمع لما تقوله علوم التأريخ والآثار والإناسة عن أكذوبة إسرائيل البائدة والأكذوبة الأخرى القائمة اليوم: حين نقول إن "إسرائيل" كيان مؤقت ومفتعل وخرافي فنحن لا نكذب أو نبالغ ولا نكرر خطاباً "خشبياً عتيقا" كما يقول دعاة التطبيع، بل نجمع ونتفحص وننشر ما كتبه باحثون متخصصون بعضهم إسرائيليون وغربيون بعضهم صهاينة وبعضهم لا، هاكم هذه الخلاصات التي قد لا يصدقها ضحايا الإعلام المعادي السائد وعمليات غسيل الأدمغة:

* هذه الدولة التي يسمونها "إسرائيل" ليس لها حدود رسمية معلنة حتى اليوم.

* علم هذه الدولة الرسمي بخطيه الأزرقين يؤكد خرافة الوعد التوراتي بأن أرض إسرائيل ستمتد بين الفرات والنيل، بمعنى أنها تريد ضم نصف العراق الغربي ونصف مصر الشرقي وما بينهما الأردن وشمال الجزيرة العربية.

* ليس لهذه الدولة دستور طبيعي وحقيقي بل مجموعة مما يسمونه القوانين الأساسية اعتبرت دستورا. "نتج ذلك عن عدم قدرة المجموعات المختلفة في المجتمع الإسرائيلي على الاتفاق على هدف الدولة وهويتها ورؤيتها على المدى الطويل/ الموسوعة".

* لم تحدد القوانين الأساسية الإسرائيلية نوع الدولة، فهي "دولة" فقط، فلا هي جمهورية ولا هي ملكية ولا هي إمارة!

* وهي دولة قائمة على العدوان والتوسع والعنصرية بموجب قانون صدر من برلمانها "الكنيست" هو قانون الدولة القومية لليهود، يُعرِّف هذا القانون "إسرائيل" كدولة قومية للشعب اليهودي. أقرَّ من قبل الكنيست بالأغلبية في 19 يوليو 2018.

* وحين نقول إنها دولة خرافية أيديولوجية فهي فعلا خرافية لأنها قامت على أساس من مزيج قومي صهيوني وديني توراتي و"وعد إلهي" لا يُلزم أحدا غير المؤمنين بالتوراة، مثلما لا تلزم دولة داعش إلا أعضاء هذا التنظيم فقط.

* هذه الدولة التي يسمونها إسرائيل الصهيونية لا علاقة لها بمملكة إسرائيل المنقرضة إلا لجهة الترويج والبروباغندا والتدليس. كيف ذلك؟

* إسرائيل القديمة البائدة تقع أراضيها كلها اليوم في الضفة الغربية الفلسطينية. ولم تكن عاصمتها أورشليم القدس بل السامرة (السامرة هي المدينة الوحيدة التي بناها الإسرائيليون القدماء المنقرضون في فلسطين القديمة وتقع أطلالها الآن في الضفة الغربية قرب مدينة نابلس).

* و(أورشليم) ليست كلمة عبرية، ولم تكن مدينة يهودية كما يكرر البلهاء من تلامذة دونالد ترامب، بل هي مدينة بناها اليبوسيون الوثنيون وهم قبيلة كنعانية، و"أورشليم" كلمة كنعانية مؤلفة من مقطعين "أور" وتعني " مدينة" ومثلها أور السومرية في جنوب العراق، وشاليم أو سالم وبعض الباحثين يقول إنها تعني "السلام" ويرى آخرون أنه اسم الإله "سالم أو شالم (مشتق من الجذر السامي "سلم") ومن هؤلاء عالم الآثار التوراتي والفقيه اللغوي المؤيد للصهيونية ويليام ألبرايت الذي يرى أن الإله "سالم" كان إلهاً للغروب والغسق في حين كانت شقيقته سَحَر إلهةً للشروق والسَحَر".

* إن إسرائيل القديمة البائدة لم تكن دولة يهودية توحيدية بل وثنية تعددية (تؤمن بتعدد الإلهة) ولا تزيد مساحتها على ربع مساحة فلسطين، وقد لعنت التوراةُ هذه الدويلة وملوكها وخاصة من سلالة عُمري وقد سجل الباحث الآثاري الإسرائيلي فنكلشتاين في كتابه "التوراة مكشوفة على حقيقتها" وقائع الصراع والخلافات بين دويلة يهوذا التوراتية ودويلة إسرائيل الوثنية. ومما ورد بخصوص الملك عمري المؤسس الحقيقي لإسرائيل البائدة قول التوراة (ولم يعمل عمري الشيء المستقيم في عيني الرب. وعبد الأصنام التي عبدها يربعام. وعمل من الشر ما لم يعمله أي ملك آخر من قبله من ملوك إسرائيل (1 مل 16: 26؛ مي 6: 16). وقد توفي ودفن في السامرة حوالي 874 ق.م. وخلفه ابنه آخاب (1 مل 16: 28)".

* أما أورشليم القديمة قبل الميلاد فقد كانت بلدة أو قرية زراعية كنعانية صغيرة كما قلنا، ولم تصبح عاصمة إمبراطورية يهودية كما زعمت التوراة، وقد تسلل إليها العبرانيون وسيطروا عليها وأنشأوا دويلة يهوذا صغيرة إلى جانب العديد من دويلات المدن الكنعانية.

* دويلة "يهوذا - اليهودية" أصغر مساحة من إسرائيل البائدة، وهي عبارة عن حزام من القرى حول مدينة أورشليم القدس، والدويلتان المنقرضتان "إسرائيل" و" يهوذا" لا تتجاوز مساحتهما ثلث مساحة فلسطين.

* إن دولة إسرائيل الصهيونية القائمة اليوم تقع كلها على أراضي فلسطين التأريخية التي لم يسكنها بنو إسرائيل المنقرضون!

* وأخيرا ما رأيكم بأن اسم "إسرائيل" نفسه - وهو لقب النبي التوراتي يعقوب - ليس لقباً عبرياً بل هو اسم كنعاني مؤلف من مقطعين "إسرا" واختلفوا في معناها بين صرع الرب حسب سفر التكوين وأسر الرب وجندي الرب...إلخ، والثاني "إيل"، وإيل هو الإله جزيري "سامي" يقابل إله اليهود يهوه ويهوى؟ يهوه «الرب» هو الاسم الرئيسي في العهد القديم، ويتجنب اليهود عموما استخدام اسم الرب واستبدلوا به أسماء أدوناي أو إلوهيم عند قراءة الكتاب المقدس. فمن أين جاء اسم الإله الوثني إيل؟

أما كلمة إلوهيم والتي هي صيغة جمع جزيرية قديمة لكلمة (إله) فتعني أيضا رب اليهود، فهل رب اليهود متعدد؟ تفهم إلوهيم عادة على أنها تشير لإله إسرائيل الواحد، وتصرف الكلمة كجمع في أحيان أخرى لتشير لآلهة متعددة. والحقيقة هي أن كلمة إلوهيم جمع إله تعكس بقايا الوعي الديني الوثني التعددي لدى اليهود في فترة ما قبل التوحيد.

* مصادر عديدة للأسطر القليلة أعلاه: إنَّ هذه المعطيات والحقائق لم يكتبها باحثون عرب ومسلمون بل باحثون إسرائيليون ويهود توراتيون وغير إسرائيليين وسأذكر بعضهم مع عناوين كتبهم وخصوصا المترجمة إلى العربية في نسخ رقمية مجانية مترجمة إلى العربية على الانترنيت:

- إسرائيل فنكلشتاين في كتابه "التوراة مكشوفة على حقيقتها".

- شلومو ساند في كتابه "اختراع الشعب اليهودي" وكتابه "اختراع أرض إسرائيل".

- إيلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي لفلسطين"، وكتابه "عشر خرافات عن إسرائيل".

* ومن غير اليهود سأكتفي بذكر أسماء العلماء التالية:

- توماس طومسون في كتابه التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي" وكتابه "أسفار العهد القديم في التاريخ - اختلاق التاريخ القديم".

- مارغريت شتاينر في كتابها "القدس في العصر الحديدي".

- كارين آرمسترونغ في كتابها " القدس مدينة واحدة عقائد ثلاث".

- كيث وايتلام في كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة".

***

علاء اللامي

..........................

* توجد نسخ رقمية مجانية من هذه الكتب على الانترنيت وهي مترجمة إلى العربية.

في جولة حول العالم حدث السابع من أكتوبر 2023 كان ثغرة الدفرسوار الغزاوية. الثغرة الأولى كانت عام 1973 التي طوَّقت "إسرائيل" بها الجيوش المصرية، لكن النُسخة الفلسطينية في القرن الحادي والعشرين، تمكنت من تطويق الجيوش الدبلوماسيَّة في الغرب والمشرق العربي الحامِلَة للحِراب التطبيعية، وإعادة ملء خزان الوعي العربي بوقود القضية الفلسطينية.

أيضاً، اثبت 7 أكتوبر لجميع الأنظمة العربية والنفطية منها تحديداً، أن التطبيع مع الكيان الصهيوني، برميل من النفط الخام الدبلوماسي، لا قيمة له ما دامت مصافي التكرير الشعبي رافضة له وغير قادِرة على صناعةِ مشتقاتٍ منه تصلح للاستهلاك السياسي. قول أي شيء آخر يشبهُ تعليق الملكة الإيرانية السابقة فرح بهلوي "أنت شاعر"، عندما أردتُ إجراء حوارٍ معها يخصُّ الشرق الأوسط وكيفية تحسين العلاقات بين بلدينا بشكلٍ حقيقي.

تكرير 7 أكتوبر في المصفى التاريخي

المملكة الأردنية الهاشمية كانت وما زالت رغم كُل خزَّانات دبلوماسيتها المصنوعة في الغرب، أكثر دول المشرق العربي فهماً لحقيقة إنَّ المنطقة ليست صالحة لـ "الطبخات الدبلوماسية السريعة". الملك عبد الله الثاني كان قد عبَّر عن ذلك في كلمةٍ له في بروكسل. كلمات الثاني استطاعت التزحلق برشاقة في أُذُنِ بروكسل ونالت تصفيقاً. والد الملك الأردني، الملك حسين رحِمهُ الله، كان قد قدَّم "مينيو" مستقبلي بالأطباق السياسية التي سيأكلُها الشرق الأوسط، ما دام المطبخ الغربي مليء بالمكوِّنات الإسرائيلية "السريعة". أعلن الملك الأب بعد حادث مخيم الكرامة الفلسطيني في 21 مارس 1968"سيأتي يوم نصبح فيه كُلُّنا فدائيين".

تدمير العراق أمام تحالفٍ من ثلاثٍ وثلاثين دولة في تسعينيات القرن الماضي، أدَّى إلى حصارٍ دبلوماسي خانق للقضية الفلسطينية، واطلق أولمبياد التطبيع العلني الذي صعد قطار مباحثات مدريد في 1993، وأعطى كأس أوسلو للسُلطة الفلسطينية وأخذ فلسطين.

الحصار والأولمبياد وكأس أوسلو سبباً رُعباً للمثقف العربي. سابت مفاصِلهُ القوميَّة فذهب إلى النار الدينيَّة وهو مُغطَّى بزيت أوسلو ليضمن شِفاءً تاماً من روماتيزم القوميَّة. الفلسطيني عادل سمارة أشار إلى ثمن استخدام الزيت والنار " تكفير القوميَّة". أمّا الأنظمة العربيَّة فقد باتت مُضطَّرَة إلى استخدام مُبيَّضات اللغة والمواقف السياسية لتخليصِ جلدِها من كُلِّ لطخةٍ قوميَّة. هكذا اضطرت حركة التحرُّر الفاعِلة والوحيدة في المشرق.. المقاومة الفلسطينية أن تجمع بين الدين والقوميَّة العربيَّة. هنري لورانس قال عن ذلك "المُفارقة أصبحت المقاومة الفلسطينيّة آخر حركة شعبية كُبرى من حركات القوميّة العربيّة". الروس وكمثالٍ لطيف آخر وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، قرروا عدم التضحية بشيء من هذا الإرث. أقنعهم الرئيس بوتين باستخدام ما يشبه مذراة ثُلاثية "نحنُ شيوعيون وقياصرة وأرثوذوكس".

النسخة المصريَّة من أكتوبر 1973، دفعت "إسرائيل" إلى طلب المساعدة الأمريكية والتهديد باستخدام الأصابع النووية يوم الـ 12 عشر من أكتوبر. هذا النداء المُشبَّع بالإشعاع الذَّري دفع واشنطن بحسب لورانس إلى أن يسرِعوا "باستعداداتهم بإقامة الجسر الجوي الذي بدأ يوم 14 أكتوبر". أمّا النُسخة الفلسطينية من أكتوبر فهي وإن حصلت في اليوم السابع لا السادس، إلَّا إنَّها دفعت "بيبي" الذي يمتلِكُ "رُبع شارِبٍ" من الشَّعر المخفي في رأسِ حِسابات الغرب، إلى طلب المُساعدة الأمريكية ومنذُ اليوم الأول، لتبدأ حاملات الطائرات والمُدمِّرات الأمريكية بعبور الأطلسي صوب الأبيض المتوسط بعد يومين، التاسع والعاشر من أكتوبر تحديداً.

المُفارقة التاريخيَّة الأُخرى الموجودة في أكتوبر الفلسطينية والتي لا تحتاج إلى لُعبة كمالٍ إنشائي أو مجازي، إنَّها اعادتنا وجهاً لوجه مع بن غوريون وتدعونا للسَّير معه بالقرب من باريس يوم الـ 22 من أكتوبر كذلك عام 1956. بن غوريون عرض خطَّة للغرب حينها، تصلحُ للعُشريات القادمة من العقود كان مفادُها وباختصار " القضاء على الأردن وتقسيم أراضيه، تقسيم لبنان بين إسرائيل وفرنسا وضم سوريا إلى الأخيرة، تدويل قناة السويس ونقل مضيق تيران إلى السيطرة الإسرائيلية". هكذا نستطيع أن نفهم لماذا لبِسَ الملك عبد الله الثاني بدلةً عسكرية وهو يتحدث عن فلسطين، ولماذا قام مع ولي عهده، بعد عودة رئيس وزراء الكيان "بيبي" إلى المشهد السياسي، بالمشاركة في تدريبٍ للقوّات الخاصَّة.

تفسير ما يحاول "بيبي" فعله من دعوة الفلسطينيين في غزة إلى تركِ أرضهم، وما يفعله جيش الاحتلال في الضفة الغربية، يحملُ جذوراً باريسيَّة، وإعادة لمحاولات بن غوريون سنة 1949 بتوزيع الفلسطينيين بين الدول العربية.

بايدن حيوان سياسي وقادة الكيان حيوانات بشرية

الرئيس بايدن كان أصغر سياسي دَلَف للكونغرس في سبعينيات القرن الماضي، ليصبح بعدها سيناتور ولاية ديلاور "المُعمِّر". أشهرُ السقطات اللغوية عنه قبل حدث أكتوبر الفلسطيني، كان وصفهُ للرئيس أوباما الذي أصبح نائباً له " إنَّهُ إنسان نظيف". أوباما ذكر ذلك في مُذكَّراته المُثيرة للجدل مُعلِّقاً "كان غريباً ما قاله". كان ذلك بتقديري نوعاً من الشتيمة السياسية وشعوراً تحتانياً من أوباما، بأنَّ بايدن يحاولُ تبييض رئاسته من الجلد الأفريقي الأمريكي، ودلالة كبيرة على أن البيت البيضاوي لا يحتمِلُ ألواناً أُخرى وإلى نهاية العقد الثالث من هذا القرن على أقلِّ تقدير؛ بل إنَّي استطيع وبنسبةٍ لا بأس فيها من الجزم الذهاب إلى أن حتَّى السياسات الداعمة لـ المْثليَّة في رئاسة بايدن نوع من الحِفاظ على بياض البيت الأبيض. وعليه فإنَّ كُل السَّقَطات اللغوية للرئيس بايدن في موضوع فلسطين واستخدامه لـ البروباغاندا الإسرائيلية "قطع المقاومة الفلسطينية لرؤوس الأطفال" نوع من قُدراته الفائقة كـ "حيوان سياسي" على البقاء، وضمان عودة الناخب الأمريكي اليهودي الملتزم إلى قواعد حزبه الديموقراطي.

القادة الإسرائيليون بدورهم، المدنيون منهم والعسكريون، دائماً ما استخدموا لغة سياسيَّة صافيَّة في التعبير عن الفلسطينيين. لهذا فإن وصف القائدين العسكريين البارزين في جيش الاحتلال يوآف غالانت وهيرتسي هاليفي للفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية" و"حيوانات" ليس غريباً فالقادة الإسرائيليون عموماً ينتمون إلى فصيلة الحيوانات البشرية، بحسب قراءة هانز. جي. مورغنثاو " الإنسان الذي لا يعدو أن يكون إنساناً سياسياً ليس إلا، هو أقرب إلى الحيوان من أي شيء آخر، إذ إنه يكون مفتقراً إلى الكوابح الخلقية".

الأوروبيون بدورهم وكما كشف أكتوبر الفلسطيني، هم يتأرجحون بين بايدن وغالانت وهاليفي. الفرنسيون مثلاً وبحسب تعبير أحد عقولها السياسيَّة تييري دي مونبريال علَّل سبب الانتصار الانتخابي لـ بوريس يلتسن ضد جنادي زيوجانوف سنة 1996 " لأنه كلب سياسي حاذق". أيضاً فإنَّ قاعدة مونبريال العامَّة عن القادة الأوربيين بأنَّهم " مستقلون نوعاً ما أكثر من الأمريكيين عن اتجاهات الرأي العام في مجال السياسة الخارجية"، فشلت وكانت الحقيقة المعروضة في سوق الإعلام الأوروبي بحسب تقديري " دعم إسرائيل ضروري لتغطية فشل الاتحاد الأوروبي وإخفاء ذيلنا الأمريكي".

العرب وأكتوبر الفلسطيني

تنتمي فلسطين المحتلَّة إلى العالم الثالث وبحسب مونبريال فإنَّ هذا العالم "ليس عالماً منظماً يهدف لغزو كوكب الأرض. فهو لا يطالب بأيديولوجية ذات بعد عالمي. إنه ليس سوى عالم يئن ويقاوم كيفما يستطيع، تجاه المآسي التي تصيبه، لذلك لا يجب البحث بعيداً عن السبب الحقيقي".

هذه الجملة تجريدية رغم أبعادها الكونيَّة وقُدراتِها السوبر توضيحيَّة، لكنها تؤكِّد إنَّ حضور فلسطين حتّى بيننا نحنُ العرب يكادُ يكون تجريدياً، ويكاد بعدهُ العملي الوحيد واليتيم مُتعلِّقاً بإيجادِ شرعيَّة للأنظمة العربيَّة، غير الراغبة في استبدالِها بالسياسة الرشيدة مع شعوبها. المثقف العربي المفزوع الذي طلب النجدة الدينية بعد أن استقلت الأنظمة العربيَّة قطار أوسلو ، عاد وبالتخادم الرخيص مع السُلطة العربية، مُبشِّراً بما يستطيع السلام مع الكيان أن يفعله من مُعجِزات، ولينتهي مصيرهُ وبحسب تعبير آلفين توفلر "جامع معلومات" عن أفضل السُّبل لاختراق المشرق، بَدَلَ أن يكون محاوِراً إنسانياً. كان يأكلُ فكرة غربيَّة ويُلقي بفهمه التاريخي كخُردة. المُفارقة إنَّ الطائفية وفلسفة الأقليات كانت اللحظة الأبرز لقُربِه من الشارع العربي ولو عن طريق الهويات الفرعيَّة. العراق أبرز الأمثِلة الحديثة.

السؤال المهم هنا هو "ماهي فلسطين – القدس؟". هذا السؤال حاولت الإجابة عنه في مقالٍ سابق "نيوزيلندا/ دولار القومية البيضاء يطارد يورو اللاجئين الأوروبي". الآن ربّما استطيعُ تكثيفه بالقول "هي جسر العرب الحضاري مع العالم. الكعبة بدون القدس لن تعدو سوى رمز دينٍ لا يحتاجهُ العالم إذ إن لديه المسيحيَّة واليهوديَّة. الدين الإسلامي كان مصهر حضارات ومُصدِّر حضارة. هذا الدين فهمتهُ الروح العالميَّة في فلسطين.. مصهر الأديان. ظهرت فيها طبيعة هيكله الروحي المشترك مع الأديان الأُخرى. بدون حصَّتِنا من القُدس لن يكون الإسلام ثالث الأديان التوحيدية بل ديناً محليَّاً مثل ديانة المغول. الفلسطينيون هم حوَّاريو محمد وأبلغُ من يستطيع بيان جمالِنا الروحي والأخلاقي. بدون الفلسطينيين وبدون دولةٍ فلسطينية سوف تنقرِضُ الدول العربية".

الرئيس أردوغان.. هذا العملاقُ الأتاتوركي، كان حاذِقاً جدّاً عندما أراد أن يصنع من جامع آيا صوفياً "قُدساً" تركيَّة، في محاولاته السابقة لإعادة النفوذ الذي بات مُتعارفاً وصفهُ بـ "العثمانيَّة الجديدة". مصطفى كمال أتاتورك كان بدوره أردوغانياً ومُحمَّدياً استراتيجياً، عندما استعار وبتصرُّف حديث الرسول العربي عن معنى العربيَّة في تعريف التركيَّة "كُل من تحدَّث التركية وعاش في تركيا وقال أنا تركي فهو تركي"! أمّا المفتي أمين الحسيني ورغم حظِّه السيء مع الأنظمة العربية، قدَّم بدوره نُسخة صحية عن القوميَّة العربية مفادُها "توحيد السياسات الخارجية والدفاعية".

الحركات الدينيَّة في المشرق العربي، والمتواجدة في مناطق أُخرى من العالم، عليها أن تفهم فيما يخصُّ فلسطين والأنظمة العربيَّة، بأنها إن وصلت إلى سدَّة الحُكم فستكون نُسخة أسوأ من الحاليَّة لأنها بلا تاريخ حُكم حقيقي، وعلى الأنظمة العربيَّة أن تفهم بأنَّ هذه الحركات جهاز استشعار ممتاز لرؤية نتائج الظلم وعدم العدالة في توزيع الثروة وإهانة كرامة الإنسان العربي، لذا أجِدُ بأن التعامل مع هذه الحركات وغيرها من التيارات السياسية العَلمانية كأجنحة للأنظمة العربيَّة، والسماح لها بممارسة سُلطة حقيقية والتجربة المغربيَّة نقطة انطلاق جيَّدة، وإذا لم يعجبهم هذا المثال العربي فعليهم بالنموذج الصيني، وإذا لم يستسيغوه لملوحتِه الشيوعيَّة فعليهم اتباع أسلوب الحوارات، المُتجذِّر في سياسة مسقط مع نُخبِها وقواعِدِها الاجتماعيَّة وذلك أضعفُ الإيمان للبدء.

***

مسار عبد المحسن راضي

كاتب، صحافي - وباحث عراقي

هستيريا الحلف الطاغوتي الربوي العالمي انفجرت بكل وقاحة واستفزاز وإهانة ضد المنظومات الرسمية العربية العاجزة والتي لم تستطيع حتى ان تصنع بيان اعلامي هزيل ناهيك عن التدخل العسكري او الدعم الأمني والاستخباراتي للفلسطينيين.

وكشفت هذه الهيستيريا الطاغوتية ان الأنظمة الرسمية العربية "عاجزة" "مشلولة" ليس في يدها أي شي وليس لهم القدرة لصناعة أي "فعل" او القيام بأي "امر".

وهذه الوقاحة الطاغوتية والاستفزاز الاستكباري أيضا امتدت ضد المنظومات الرسمية الإسلامية في تصريحات مهينة لتلك المنظومات الرسمية الحاكمة، قبل ان تكون تلك التصريحات استفزازية لشعوبنا العربية والإسلامية.

ونحن إذا نحيي ونقدر مواقف الشعوب الغربية المساندة لقضايانا العادلة ونرفع لهم قبعات التحية والاحترام علينا ان نشير الى مسألة مهمة اظهرتها هيستيريا "تصريحات" الحلف الطاغوتي الربوي العالمي وهي:

ان الشعوب الغربية لم تجد لها مكان لتعبر فيه عن آرائها الا مظاهرات الشوارع الغير مرخصة حيث تم منعهم وتهديدهم بواسطة منظوماتهم الطاغوتية الحاكمة ولم تسمح لهم من ان يقولوا عكس تصريحات المسئولين ؟! وان يعبروا عن أي شي مختلف، او ان يخرجون إعلاميا في أي رأي ناقد ومعارض ؟!  وحرموهم "اقصد شعوبهم المحكومة منهم" من "حرية التعبير" ورفضوا "حرية الرأي" لهم، وهذه نقطة مهمة يجب تسجيلها للتاريخ وعلينا ان "لا" ننسى وان "لا" نتجاوز تلك المسألة التي تضرب في صميم اليات النظام الإداري والاقتصادي والاجتماعي والأمني الليبرالي "الحاكم" في الدول الغربية لأنه يوضح عن الحقيقة الديكتاتورية التي تدير المشهد هناك من خلال "واجهة ديمقراطية" ضد الديمقراطية ؟!

عندما يقول رئيس الولايات المتحدة الامريكية بايدن: ان لم تكون هناك "إسرائيل" فأننا سنخلق "دولة إسرائيل" !؟ فهذه وقاحة وعندما تأتي وزيرة خارجية المانيا وتقول: "نحن كلنا يهود !؟" وعندما يأتي شخص نفس وزير خارجية أمريكا "بلينكن" ويصرح: ب " انه جاء ك "يهودي" وليس ك "وزير خارجية!؟" وهؤلاء غير ان تصريحاتهم مستفزة وأيضا في نفس الوقت تصريحات "غبية" وتمثل ترهات وخزعبلات كلامية لأنهم بكل بساطة من المفروض انهم يمثلون "دول" وليس ان يمثلون "دين" !؟.

ان هكذا استفزاز ووقاحة وقلة ادب وغباء معرفي من هذه الدول الغربية وتصريحات مسئوليها الرسميين، رفضتها مجاميع كبيرة وواسعة من شعوبهم "المحاصرة "و الذين كما ذكرنا عبروا عن ذلك من خلال خروجهم بالألاف الى الشوارع والساحات، وعلينا ان نلاحظ كذلك حصار اخر تم ممارسته على الشعوب الغربية وأيضا العربية والإسلامية من خلال اغلاق نوافذ التعبير والرأي الموجودة في وسائل التواصل الاجتماعي بكل ما يختص ويتعلق في القضية الفلسطينية في العموم وعملية "طوفان القدس" في الخصوص، وعلينا ان نلاحظ ان نفس هذه المنظومات الغربية الحاكمة لم تمنع الى الان ومنذ سنوات أي حسابات للتواصل الاجتماعي او مواقع انترنت اخبارية او فضائيات تلفزيونية تابعة لتنظيم داعش وغيرها من تنظيمات إجرامية تكفيرية وظيفية؟ وهذا تساؤل؟ لمن يريد ان يفكر بعقله؟

لذلك نقول مجددا: ان استمرار استفزازات التصريحات الغربية امر غير مقبول ناهيك على المغالطات المعلوماتية وكذلك محاولات استغباء أي عقل بشري واي منطق.

ان من الواضح من حجم التظاهرات الشعبية المؤيدة للحالة الفلسطينية في العالم الغربي ان هناك انفصال بين المنظومات الغربية الحاكمة وبين شعوبهم وأيضا عن انفصال واضح بين وسائل الاعلام والدعاية المرتبطة مع المنظومات الحاكمة الغربية وبين "الناس" ومواطنين تلك البلدان، مما يعيد الى الاذهان مسألة "حقيقة" "قدرة" "الالية الديمقراطية الليبرالية" على تمثيل عامة الناس ونقل تناقضاتهم ورغباتهم وما يريدون الى مواقع القرار والسلطة والحكم، وأعاد الى الاذهان مسألة ان "الحاكمية" الحقيقية في الواقع الغربي هي لأصحاب رؤوس الأموال ومن يملك خطوط القرار في العائلات والمنظومات الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل شبكة تحكم وسيطرة تدفع ب "شخصيات" تمثل "واجهات" متغيرة في كل مدة زمنية وأخرى، يتم القصف الإعلامي عليها وتحميلها أي سلبيات او تفريغ عليها حالات الغضب او سوء الإدارة او الفشل، وبعدها يتم استبدال تلك الشخصيات مع شخصيات أخرى بديلة ؟! ولكن تبقي المنظومة الحاكمة من عائلات اجتماعية وشبكات مصلحية وشركات مالية وأصحاب حافظات نقدية عقارية مليارية لا تدفع الضرائب ؟! وشركات عابرة للحدود وملاك مؤسسات الدعاية هم: " المنظومة الحاكمة الثابتة المسيطرة".

اما الواجهات ك "شخصيات رؤساء الوزراء والموظفين الكبار .... الخ فهؤلاء يتم تبديلهم حسب الحاجة ضمن حالة أستحمارية استغبائية لشعوبهم، تحت مسمى "الديمقراطية"، التي فقدت مضمونها وتعريفها الحركي مقابل واقعها وحقيقتها بأنها انعكاس لما تريده "منظومات السيطرة والتحكم" في الغرب.

فحتى اليات الانتخاب والتصويت هي محسوبة ومرتبة سلفا ضمن مخرجات الدوائر الانتخابية وحجمها وتوزيعها لأعادة انتاج نفس الواجهات المتغيرة الذين يتم الدفع بهم بين فترة وأخرى ويتم شيطنتهم في فتراتهم النهائية لاستبدالهم ب "واجهات أخرى".

فهذه ديكتاتورية غير معلنة في شكل شيطاني خبيث وضمن حالة أستحمارية إذا صح التعبير، كشفتها عملية طوفان القدس.

علينا التأكيد من هذا كله: ان الفلسطينيين من أي تنظيم او جهة او حتى ك "افراد" لهم الحق...كل الحق في الاستقلال والحرية والحياة على بلدهم وارضهم وليس لأي شخص من أي جهة او دولة ان يمنعهم من ان يحاربون المحتلين لوطنهم وان يعملوا على طرد الغزاة الاجانب.

وللفلسطينيين ان يشتغلون ضمن الوسائل الحربية والأمنية والاستخباراتية والسيبرانية والاقتصادية والإعلامية...الخ على اخراج الأجانب من وطنهم وأيضا على تدمير قاعدة "الأجانب" الصهيونية العسكرية الأمنية الاستخباراتية التي تم فبركتها وتصنيعها على ارضهم المحتلة من الحركة الصهيونية العالمية المدعومة من الحلف الطاغوتي الربوي العالمي وهؤلاء كلهم "أجانب" وليسوا "عرب" ولا علاقة لهم او صلة او ارتباط مع مناطقنا و"لا" أراضينا وهم "غرباء" وعليهم ان يرحلوا بعيدا الى بلدانهم الاصلية.

ان الفلسطينيين ليس لديهم أي شيء ليخسروه في هكذا صراع الا ان يتحرروا، وهذا سيتحقق ضمن حركة كفاحهم المتواصلة ضد الغزاة الأجانب القادمين من الخارج، ولهم كل الشرعية القانونية ان يدافعوا عن وجودهم الانساني وعن "استقلال" بلدهم المحتل.

ان من كان يقول ان القوة العسكرية الصهيونية غير قابلة للهزيمة والسقوط اثبتت المقاومة الفلسطينية ان كل ذلك هو "وهم" تم كسره وتحطيمه وتم تدمير شوكة الصهاينة العسكرية والأمنية والاستخباراتية وليس فقط ذلك الامر فقط هو "الوحيد" قد تم محوه من الذهنية العربية الفلسطينية.

بل تم الكشف عن "غباء" كل الضوضاء الدعائية من كل هذه الدعم الأجنبي من الحلف الطاغوتي الربوي العالمي ومن دول نفس الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وفرنسا والمانيا وإيطاليا وغيرهم من الغرباء.

ان كل هذا تم اسقاطه وتدميره في عملية طوفان القدس، لذلك عندما ذكرنا ان ما بعد تلك العملية ليس كما كان قبلها، وان المرحلة المستقبلية على ارض دولة فلسطين المحتلة صهيونيا مع الدعم الأجنبي المساند لها، ليس له افق ليستمر في الوجود وليبقي متواجدا، وانهم سيرحلون كما رحل الصليبيون من قبلهم وكما ذهب المغول.

***

د. عادل رضا

كاتب كويتي في الشئوون العربية والاسلامية

بغضّ النظر عن أرقام ضحايا الهولوكست اليهودي أثناء الحرب العالمية الثانية على يد النازييّن وتشكيك آخرين بها، فأنّ الهولوكوست حقيقة ثابتة لا يمكن نكرانها كجريمة كبرى وإن كان ضحاياه بضع عشرات أو بضع مئات حتّى. ولم يقتصر الهولوكوست في ألمانيا النازية أو البلدان التي وقعت تحت الأحتلال الألماني على اليهود فقط، بل طالت كذلك الغجر الذين قتل منهم وفق بعض المؤرخين ما بين 220 – 500 الف انسان، ففي الثالث من آب/ أغسطس 1944 على سبيل المثال تمّ أقتياد ثلاثة آلاف غجري بينهم عدد كبير من الأطفال الى غرف الغاز في معتقل اوشفيتز بيركيناو وتصفيتهم. كما تم قتل ما يقارب الثلاثة ملايين بولندي غير يهودي، بأعتبارهم أي البولنديين وهم من الشعوب السلافية من الأعراق الدنيا مقارنة بالشعوب المتفوقة عرقيا كالجرمان.

الهولوكوست كلمة يونانية من مقطعين (hólos) وتعني الكل و(kaustós) وتعني محروق، وتكتب ككلمة واحدة (holókaustos)، وهي (Der Holocaust) بالألمانية، أمّا في اللغة العبرية فتعرف بأسم (شوأه) وتلفظ بالحروف العبرية (هشوآء ) وتعني الكارثة. وبالمحصلّة فهي شكل من أشكال الإبادة الجماعية. وتعريف الإبادة الجماعية مثلما جاء في معجم المعاني الجامع هو (محاولة القضاء على شعب أو طائفة) و(قتل منظَّم لجماعة عِرقيَّة لشعبٍ ما).

الإبادة الجماعية مصطلح سياسي ظهر في العام 1944 على يد محام يهودي بولندي يدعى (رافائيل ليمكين) تحت مسمى (genocide)، وهي جمع بين كلمة يونانية (geno) وتعني سلالة أو عرق أو قبيلة وأخرى لاتينية (cide) وتعني القتل. وعلى الرغم من أنّ المصطلح جاء لوصف الإبادة الجماعية لليهود في العهد النازي، الا أن التاريخ الحديث يشير الى حدوث إبادة جماعية في العصر الحديث قبل هذا التاريخ نظمّها الأتراك المسلمين بحق الأرمن المسيحيين الذين قتل منهم في السنوات (1915 – 1916) ما يقارب الـ 650.000 أنسان، وفي أحصائيات أخرى ما يقارب من 1.2 مليون أنسان، لأسباب دينية. ما دمنا نتحدث عن الإبادة الجماعية في العصر الحديث، فعلينا ذكر عمليات الإبادة بحق قبيلة التوتسي على يد قبيلة الهوتو في رواندا والتي ذهب ضحيتها 800.000 أنسان خلال 100 يوم فقط في العام 1994، وما جرى في العراق خلال عمليات الأنفال التي ذهب ضحيتها ما يقارب الـ 180.000 أنسان كوردي وتدمير خمسة آلاف قرية في كوردستان العراق، وعمليات إبادة ما يقارب الثلاثة عشر الف كوردي فيلي وتهجير مئات الآلاف منهم على يد البعثيين الفاشيين لأسباب قومية عنصرية، وإبادة الأيزيديين على يد تنظيم داعش الأرهابي لأسباب دينية.

تاريخيا تعتبر إبادة الهنود الحمر احدى أكبر عمليات الإبادة الجماعية بحق شعب في التاريخ، إذ لم يتبقى الا القليل منهم بعد أن قُتلوا بشكل ممنهج من قبل الغزاة الأوربيين والأمريكان لاحقا. فبعض المتخصصين يشيرون في بعض الدراسات الى وجود ما يقارب الخمسة عشر مليون هندي أحمر في امريكا الشمالية، الذين ما أن وضع الأوربيين أقدامهم فيها، حتى وصلت أعدادهم بعد المجازر الوحشية والمجاعات والأوبئة التي عانوا منها الى أقلّ من 250.000 أنسان في نهاية القرن التاسع عشر. الإبادة الجماعية هذه كانت مقصودة لأفراغ الأرض منهم، وبهذا الصدد يقول كلاوس كونور، الأستاذ بجامعة برينستون، من أنّ الإنجليز "هم أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسة للأبادات الجماعية، فهدفهم في العالم الجديد كأستراليا ونيوزيلاندا وكثير من المناطق التي يجتاحونها هو إفراغ الأرض من أهلها وتملّكها ووضع اليد على ثرواتها".

الهولوكوست، الجينوسايد، الإبادة الجماعية أو أي مصطلح قد يأتي لاحقا، لا يخرج عن دائرة محاولة القضاء على شعب ما جزئيا إن لم يكن كلّيا، بدوافع عنصرية أو دينية أو طائفيّة، ولم يخلو التاريخ البشري لليوم من حروب أدّت وستؤدي الى أبادات جماعية مستقبلا. فالتمييز القومي والديني، وتقسيم البشر الى درجات طبقا للعرق وتفوّقه والدين وأحقيّته والمذهب وصحتّه والثقافة والأختلاف معها، وبشكل عام أعتبار مجموعة بشرية أقلّ شأنا من أخرى تمتلك السلطة ووسائل العنف، تؤدي الى تصادم بين هذه المجموعات ما يؤدي الى حرب والتي تمّهد الطريق الى الإبادة الجماعية.

لقد تعرّض اليهود لمضايقات وحتّى أضطهاد وقتل كأقلّية دينية في مراحل تأريخية مختلفة تمتد لقرون، فأفراغ الجزيرة العربية منهم وأستئصالهم بعد معارك دامية على سبيل المثال، شكل من أشكال الإبادة الجماعية، وعلى الرغم من محاولة ربط تلك الإبادة بعوامل سياسية وقتها كعدم ألتزام اليهود بالتحالفات التي أبرمها المسلمون مع مختلف القبائل، الا أنها تبقى سياسة تطهير ديني وإبادة جماعية. أمّا في أوربا فلم تظهر معاداة السامية وهو مصطلح حديث أطلقه صحفي الماني يدعى فيلهلم مار عام 1879 في وصفه لكراهية ومعاداة اليهود أثناء الحكم النازي لألمانيا، بل يعود لفترات سبقت النازية بقرون. فقد عاملت محاكم التفتيش في القرون الوسطى بأوربا اليهود معاملة قاسية جدا، فأجبار اليهود على وضع شارة صفراء على ملابسهم في المانيا النازية على سبيل المثال موروثة من القرون الوسطى لتمييزهم عن المسيحيين في اوربا وأحتقارهم، وليست تمييزا نازيّا لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية.

قبل صدور وعد بلفور بأقامة وطن قومي لليهود في فلسطين العام 1917، كان عدد اليهود الأوربيين الذي وصلوا فلسطين قد وصل الى 100.000 مهاجر تقريبا، وهذا ما دفع الأوربيين الى الأعتقاد بأمكانية التعايش بين الطرفين من جهة، وأفراغ أوربا من اليهود من جهة ثانية وهذا كان الأهم من جانبهم، لكن الحقيقة كانت غير ذلك كليّا. ففي أواخر آب/ أغسطس 1929 أنتفض الفلسطينيون الرافضين للهجرة اليهودية المكثّفة، بما سميّ بـ "هبّة البراق" والذي ذهب ضحيتها المئات من الطرفين. وبعد بضع سنوات ويأس الفلسطينيين من تغيير بريطانيا سياساتها ومواقفها الداعمة لليهود بأقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وتمسّكهم بالوعد الذي قطعه وزير خارجيتها بلفور، أندلعت ثورة أستمرت سنوات 1936 – 1939، والتي تفجّرت بداية في حيفا سنة 1935 إثر أغتيال الشيخ عزّالدين القسام، وتلاها الأضراب العام في نيسان/ أبريل 1936 .

لقد بدأ الهولوكوست اليهودي بشكل منظّم ومخطط له، بعد أن حشر النازيّون مئات الآلاف من المدنيين اليهود ومن مختلف الأعمار، في مجمّعات سكانيّة "غيتوات" منتخبة بعناية وعلى مساحات جغرافيّة ضيّقة. وكان كل ما يجري في هذه المجمّعات يراقب بشكل دقيق من قبل الأجهزة المخابراتية النازيّة، وحتى الماء والطعام كان يخضع للتقنين من قبل النازيين.

على الرغم من حشر اليهود في الغيتوات، الّا أنّهم أستخدموا حقّهم في النضال والكفاح المسلّح ليتحرروا من الهيمنة النازية العنصرية التي لم تكن تعاملهم كبشر. وبعد أنتشار أخبار عن ترحيل اليهود من الحي اليهودي في بوار صوفيا الى معسكر للإبادة بتريبلينكا في نيسان/ أبريل 1943، أندلعت أنتفاضة مسلّحة في ذلك الغيتو، ودمّر النازيّون الغيتو وقتلوا أعداداً كبيرة من المنتفضين وغير المنتفضين، وعلى الرغم من القسوة البالغة للنازيين وميزان القوى الذي كان بجانبهم، الا أن الأنتفاضة وهي حق وشكل من أشكال النضال، أنتقلت الى غيتوات يهودية غيرها كـ (فيلنا) و(بيالستوك) وغيرهما، والتي ووجهت بنفس العنف والدمار. فهل كان اليهود وهم ينتفضون ضد النازيين ويُقتلون، أرهابيين..!؟

يعتبر قطّاع غزّة من أكبر الغيتوات في العالم، فعلى مساحة 365 كم مربع يعيش أكثر من مليوني أنسان تحت حصار أسرائيلي برّا وبحرا وجوّا، وهو أشبه بحصار النازيين للغيتوات اليهودية أثناء الحرب العالمية الثانية.

الشيء الوحيد الذي لم يفعله نازيّو أسرائيل ورثة عصابات الهاغاناه والإرغون هو أجبار الفلسطينيين في الغيتو على لبس شارة تميّزهم، والسبب هو عدم السماح لهم بالخروج من الغيتو الا بتصريح من الجيش الأسرائيلي وليس أمر آخر. وتشّن القوات الأسرائيلية بين الحين والآخر هجمات دمويّة على غيتو غزّة، وتدمّر المباني والمدارس والمستشفيات على رؤوس الفلسطينيين، في مشاهد من القسوة تذكّرنا بالقسوة النازيّة خلال الحرب العالمية الثانية.

بغضّ النظر عن أتفاقنا أو أختلافنا مع حماس أو غيرها من المنظمات الفلسطينية بل وحتى السلطة الفلسطينية، فأننا يجب أن نتفق على حق الفلسطينيين بالمقاومة، كما قاوم اليهود النازيين. أنّ ما جرى ويجري في غزّة ليس وليد اليوم، بل وليد تراكمات من القهر والأذلال والتهميش والأستفزاز المستمر من قبل الجيش والمستوطنين، الذي يعيشون في مستوطنات أقيمت أصلا على أراض صادرتها قوات الأحتلال الأسرائيلي. لقد رفضت أسرائيل لليوم تطبيق جميع الأتفاقات المبرمة مع الفلسطينيين، سواء تلك التي كانت برعاية الأمم المتحدة، أو برعاية الولايات المتحدة بالتعاون مع بعض الدول العربية.

لقد دانت دول العالم أجمع تقريبا الهولوكوست اليهودي، ولا زال الهولوكوست والفضائع التي حصلت أثناء الحكم النازي، هدفا لصانعي السياسة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لخلق بيئة مدافعة عن أسرائيل. وبهذا الخصوص أقيم التحالف الدولي لحفظ ذكرى الهولوكوست IHRA في العاصمة السويدية ستوكهولم والمعروف بأسم "أعلان ستوكهولم 2000"، لأجراء أبحاث ودراسات حوله من قبل أهم المعاهد العالمية المتخصصة وبدعم دولي، لغرض عدم تكرار الأمر ثانية مستقبلا. وبهذا الصدد تقول كاترين ماير السكرتيرة التنفيذية لـ IHRA، "لقد حدث ذلك مرة، وكان يجب ألا يحدث، ولكنه حدث فعلا، يجب الا يحدث مرّة أخرى ولكن هذا ممكن ومحتمل وهذا ما يجعل تدريس الهولوكوست مهمة أساسية"، وهناك كتيب من أربع وستون صفحة تحت عنوان "نصائح حول تدريس ودراسة الهولوكوست" يتناول طريقة التدريس وأساليبه والغرض منه . وتؤكّد كاترين ماير في مقدمة الكتيب قائلة "أنّ معاهد ومؤسسات شتى في جميع الدول الأعضاء في التحالف بما فيها منظماتنا الدولية الشريكة، تعمل بلا كلل لتدريس الطلاب وتدريب المدرسين والمربيين وبفضل هذه المؤسسات أصبح في الدول الأعضاء وسواها تشكيلة من المراجع التعليمية العالية الجودة، وبفضل مندوبينا يسرني أن أقدم نيابة عن التحالف هذه النصائح لتعليم ودراسة الهولوكوست تكملة لهذه المراجع. ومن دواعي سروري أيضا صدور هذا الكتيب بمشاركة اليونسكو على أمل دعم المنظمات الأخرى لما تبذله من جهد لتعميمه ونشره، علما بأن هذه النصائح تمثل مكسبا لجميع خبرائنا والذين أشكرهم فردا فردا لما يقدمونه من خبرة وتفكير"!!!

أن تقوم الولايات المتحدة وبريطانيا والغرب بأكمله، بأقامة تحالف من أجل أجراء أبحاث ودراسات حول الهولوكوست الفلسطيني أمر لن يحدث مطلقا، لأزدواجية المعايير ليس في تعاملهم مع الفلسطينيين فقط، بل وفي تعاملهم مع جميع القضايا التي تهدد مصالحهم وهيمنتهم ونهبهم لدول وشعوب العالم.

على الدول العربية والأسلامية، أن تعترف بالهولوكوست اليهودي والا تشكك بحدوثه. لكنهم في نفس الوقت أمام مهمة تشكيل لجان متخصصة لدراسة الهولوكوست الفلسطيني من قبل متخصصين، ودعوة دول تتعاطف مع قضية الشعب الفلسطيني العادلة للمساهمة في المهمة. كما وعلى الدول العربية والأسلامية أستخدام نفوذها وأصدقائها للضغط على اليونسكو لدعم مثل هكذا مشروع وعلى غرار دعمها للمشروع الآنف الذكر، أي أعلان من أجل حفظ الهولوكوست الفلسطيني في ذاكرة الأجيال. وعلى الدول العربية والأسلامية أعتماد مادة تحت عنوان الهولوكوست الفلسطيني في المناهج الدراسية، معزّز بالصور والأفلام ليكون الطلبة على دراية كاملة بممارسات أسرائيل النازيّة تجاه الفلسطينيين.

سياسيا ولأستتباب الأمن والسلام والتقدم في منطقة الشرق الأوسط، فأن حل أقامة الدولتين وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، هو الحل الوحيد لأنهاء معاناة الفلسطينيين وأرساء سلام عادل وشامل بين دول المنطقة وشعوبها ومنها الشعب الأسرائيلي نفسه.

"تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض. إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين. ويا الهي، ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض! هذه واحدة من الإبادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون كذلك.. إن جلّادنا المقدّس واحد".

(مايكل هولي إيجل، من نشطاء الهنود الحمر)

***

زكي رضا - الدنمارك

لا يا بنجلون .. 7 أكتوبر ليس تاريخ اغتيال القضية الفلسطينية؟

فاجأني المقال الأخير للكاتب المغربي الطاهر بنجلون المقيم في فرنسا، والمنشور في العدد الجديد من "لوبوان" الفرنسية، تحت عنوان (7 أكتوبر تاريخ اغتيال القضية الفلسطينية).

المقال يوضح بالملموس، انجراف الحائز على جائزة الغونكور الفرنسية، مع ماكينة الإعلام الغربي الحربي الموجه، ووقوعه في كمينه الخسيس، بعد سلسلة من الترويجات المسيئة للمقاومة الفلسطينية، بدءا بقتل المدنيين الإسرائيليين، وقطع رؤوس أطفالهم ونسائهم، وترويع السياح من مختلف جنسيات العالم، وانتهاء بتشويه الدين الإسلامي، واعتباره نافذة لتفريخ الإرهاب والقتل وسفك الدماء.

وكان الرئيس الأمريكي جو بادين قد تراجع عن تصريحاته السابقة حول ادعاءات بتنفيذ حماس لعمليات بقطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين، خلال اجتماعه مع الطائفة اليهودية في البيت الأبيض. قبل أن ينقل  صحيفة واشنطن بوست عن متحدث باسم البيت الأبيض قوله إنه "لا الرئيس بايدن ولا أي مسؤول أميركي رأى أي صور أو تأكد من صحة تقارير بشأن ذلك بشكل مستقل".

وشنت صحف مقربة من الجيش الإسرائيلة، من بينها "إسرائيل اليوم"، حملة ل"دعشنة المقاومة الإسلامية حماس، زاعمة أن "السلطات الإسرائيلية تعتقد أن الإرهابيين، الذين قتلوا عددا من سكان الكيبوتس، خططوا لرفع علم داعش، ولكن قوات مكافحة الإرهاب قضت عليهم قبل أن يتمكنوا من تنفيذ خطتهم"، مستطردة أنه "اكتشف علم تنظيم داعش الإرهابي على جثث الإرهابيين في كيبوتس (صوفا) في أعقاب الهجوم عليها".

وأوردت الصحيفة نفسها عن قائد لواء "غزة 99" العقيد باراك حيرام - في وقت سابق أمس- أن هناك "فظائع شهدتها إحدى الكيبوتسات، وخلال عمليات البحث فيها وجدنا أشخاصا مقيدين أطلق النار عليهم وأطفالا جرحى، ورضعا في عربات الأطفال.. لم يكن هناك رحمة".

الكاتب الفرنكوفوني الطاهر بنجلون، حزين جدا للهجوم الذي نفذته حماس يوم السابع من أكتوبر الجاري، لدرجة أنه "شعر بالرعب" من هذه الهجمات التي أصابت الإنسانية جمعاء بالصدمة والاستنكار. بل إنه عبر عن فتنته النفسية العصيبة، مؤولا ذلك إلى ما يشبه الضياع الروحي والقيمي، قائلا: “أنا في وحدتي، في حزني وخزي كإنسان، في اشمئزازي من هذه الإنسانية التي أرفض الانتماء إليها، أقول لا، هذا قتال لا يحترم قضيتهم. لا، لهذا التصفيق في بعض العواصم العربية. لا، لهذا الانتصار الدموي للأبرياء. لا، لعمى أولئك الذين يحركون خيوط المأساة، حيث، عاجلاً أم آجلاً، سيكون السكان الفلسطينيون هم الذين سيدفعون هذه الفاتورة الباهظة"؟.

لا أنتقد إحساس الكاتب بما هو حقيق بالواقع، بل أعاتبه لما هو أعلى من ذلك وأكثر، كونه، وهو الروائي الرائي الملتقط لكل تفاصيل الحياة ودهاليزها، والمتربص بشخوص وأمكنة المجتمعات الحضارية، الشغوف برسم معالم القيم والأحوال والمتغيرات، لا يستطيع أن يفصل بين التضليل والكذب وتشويه التاريخ وشيطنة الأفعال الإنسانية، وبين التبين والحقيقة والنظام القيمي العام؟.

صاحب أجمل الروايات وأعمقها حسا ورؤية واستشرافا للجمال والحرية والمساواة والعدل، (من يقرأ “تلك العتمة الباهرة”، و “موحي الأحمق، موحي العاقل” و”صلاة الغائب” و”طفل الرمال” و”ليلة القدر"،.. وغيرها، سيجد هذه الضالة المنشودة)، لم يكتب لحسه السادس ونزعته الإشراقية الصافية أن تبحث عن حتوف وإضلال ما ينتويه قراصنة التعتيم والتشهير والإمعان في الغش. وسرعان ما سرت أحاجي الإعلام الغربي، والفرنسي على وجه الخصوص، في دم نصوصه وأفكاره وقناعاته، مرتوية من أجيج الهتك والإغارة وتقوية الزيف وتلبيس منطق المسافهة.

وما يثير العجب فعلا، أن يكون زعيم حركة العمل البجيكية راؤول هيديبو، الذي نشرت "لوبوان" رأيه في ذات العدد، أقل توترا وزيغا وعدوانية، بل إنه تحدث بمرارة عن تكريس مفهومية الاحتلال وخنق قطاع غزة، معتبرا أن ما يصدر عن حركاته الداخلية هي "ردود أفعال"، ومستنتجا أن "لا حل سوى التحرير".”

إن العودة إلى رثائية بنجلون على نفس النهج، تكسر جانبا مهما من ثقافة التزكية والمؤامرة، حتى لو كانت غير منظورة بجميع مستويات التلقي، فتغيير الرأي والانقلاب عليه، لمجرد انخراط عاطفي في البروبجندا، دون تلمس الطريق إلى تأثيث الأخلاق والضمير، كما عبر عكسا في باقي مقاله، حيث قال : “الرعب إنساني، أعني أن الحيوانات لم تكن لتفعل ما فعلته حماس. ووصف وزير في حكومة نتنياهو (وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت) سكان غزة بأنهم (حيوانات). لا، هناك رجال بلا ضمير، بلا أخلاق، بلا إنسانية ارتكبوا المجازر"، يعيد تأويل سؤال النخب المهاجرة ودورها الواعي بحضارة الغرب وصراعاته الخفية وأيديولوجياته المتحاقنة تجاه العالم العربي والإسلامي، ويتلمس صرحا غامضا من التحوير والانسلاخ والتعمية، لا يتمكن كان من كان، من إخفائه أو توريته، مهما طال الزمن.

 إن القضية الفلسطينية، لا يمكنها أن تموت، ولا يمكن استردادها عبر هذا الاحتقان والتربص، لمجرد أن مصيرها مرهون بعميلة حماس الأخيرة التي تؤرخ ليوم السابع من أكتوبر الجاري.

القضية الفلسطينية يا سيد بنجلون، لن تموت أو تغتال تحت أي ظرف أو سبب، لأنها ليست قضية حماس فقط، ولا قضية أيديولوجيتها أو قناعاتها، بل القضية الفلسطينية أس وركيزة الضمير العالمي والإنساني، وخميرة أمة عانت الويلات قرنا من الزمان، أبيدت فيها أجيال، وقطعت فيها أرحام، وأحرقت فيها مدن وقرى وآثار وأمصار وحقول وغلال ...

ومهما يكن، وإن بدا لك الأبيض أسود والماء الزلال بالمكدور، والناهق بالمفترس، فكثير مما قرأت أو عصرته نواة عينيك، هو تلبيس إبليس، ونفخ جرائمي معتم، سرعان ما تذوب مخارفه، وتصفى ذؤابته، فلا "حماس عدو لشعبها الفلسطيني، ولن تكون قاسية دون أن يطالها الحس السياسي، الذي يستحيل أن يكون طرفا في لعبة من صنعوا لك هذه المصيدة، وألقوا بك في غياهيبها؟".

***

د مصطفى غلمان

الوضع فى فلسطين المحتلة يزداد اشتعالاً يوماً بعد يوم.. الجميع يري أن الحدث العظيم الذى بدأ يوم السبت الموافق السابع من أكتوبر هو حدث متفرد ومختلف، وأن ما سيتلوه من توابع وردود أفعال لا يشبه ما كان يحدث فى الماضى..

فبعد ما حققته فصائل المقاومة الفلسطينية من مكاسب على الأرض، وما تعرض له الجيش الإسرائيلي من هزيمة نفسية ضخمة، وما تتعرض له المستوطنات من تهديدات كبري، وما تلا تلك الضربة من توسيع رقعة المعركة فى عسقلان وسديروت وحدود لبنان وسوريا، الوضع ينبئ بمزيد من التصعيد ويؤكد أن المعركة ستطول وأن كرة النار تتضخم، وقد يستمر الصراع فى تأجج مستمر عدة أسابيع أو شهور قبل التفكير فى الجلوس على مائدة المفاوضات.. هذا ما تشير إليه بوصلة الأحداث التى تزداد حدة كل يوم بل قل كل ساعة..

سعار إسرائيلي غاشم

ما خسرته إسرائيل فى الأسبوع الأول من المعركة فاق التوقعات.. وأول تلك الخسائر وأكبرها انكشاف سوءة إسرائيل وسقوط أسطورة الجيش الذى لا يُقهر، والذى تبين أن أقل هبة ريح تدمر أشرعته ودعائم بنيانه الواهى..اليوم الأول فقط سقط فيه قتلى وصل عددهم إلى أكثر من1200 شخص، منهم قادة فى الشرطة والجيش تراوحت رتبهم بين الرائد والعقيد، بخلاف الأسرى من العسكريين والمستوطنين اليهود وعددهم بالمئات، كل هذا حدث بألف مقاتل فقط! ثم جاءت ضربة عسقلان التى تم رشقها بسيل من الصواريخ تسبب فى مضاعفة خسائر الجيش الإسرائيلي..

أمريكا وأوروبا انبروا يهاجمون ما فعلته المقاومة الفلسطينية ودعوا إسرائيل إلى رد حاسم قوى، فما كان من الأخيرة إلا أنها توجهت بكل ثقلها صوب المدنيين فى غزة..وبكل الحقد الكامن فى نفوس هؤلاء الموتورين لم يتورعوا أن يستخدموا كل القوة الغاشمة لدك البيوت والمساجد على رؤوس الساجدين والعباد والضعفاء من النساء والأطفال والكهول..لدرجة أنهم قاموا بمحو مناطق بأكملها بصواريخ ثقيلة وقنابل فوسفورية محرمة دولياً..وبدلاً من أن نرى موقفاً دولياً مندداً بالهجوم الإسرائيلي الغاشم وإفراطها فى استخدام العنف ضد المدنيين العزل فى غزة، وجدنا أمريكا والغرب يحضُّون على مزيد من التدمير بل ويمدون إسرائيل بمزيد من أسلحة التدمير الشامل!

دموع التماسيح

المشهد الأمريكى أظهر فى وضوح وجلاء معيارها المزدوج وطريقتها فى قلب الحقائق والكيل بمكيالين..

بايدن سارع بتأييد الموقف الإسرائيلي رغم أنها بدأت بالعدوان منذ شهور مضت، ولم يكتفى بمجرد التأييد بل تحركت بوارجه الحربية وحاملات الطائرات صوب شرق المتوسط ومعها دعاوى بتوسيع رقعة المعركة والرد بمزيد من العنف والتدمير..فى نفس الوقت الذى خرج فيه مسئولون أمريكيون يذرفون الدموع على الهواء مباشرةً تأسياً على القتلى من الإسرائيليين، وجذباً للتعاطف العالمى ضد أصحاب الأرض..

فرنسا وبريطانيا وألمانيا ساروا فى نفس الركاب الداعم لإسرائيل، وربما لجأوا لتحريك قوات عسكرية تزاحم الأسطول الأمريكى فى شرق المتوسط وتؤجج الأوضاع أكثر..كل هذا من شأنه أن يحول دفة المعركة نحو مزيد من التصعيد وفتح جبهات جديدة للقتال..

الآن وقد تحركت القوات الأمريكية وعلى رأسها وزير الدفاع ووزير الخارجية نحو إسرائيل، فهل سنشهد انضمام أطراف جديدة للحرب الدائرة هناك؟!

سيناريوهات الصراع

سارعت إسرائيل بحصار غزة وقصفها بالصواريخ فيما زعموا أنه يجرى فى إطار بروتوكول هانيبال الذى يقضى بقتل الأسرى الإسرائيليين مع آسريهم معاً؛ من أجل إسقاط ورقة الضغط الكبري التى امتلكتها فصائل المقاومة أمام الإسرئيليين حال التفاوض..

فى نفس الوقت بدأ الضغط الإسرائيلي والأمريكى للقيام بعمليات تهجير وإجلاء جماعى لسكان غزة، بينما اعترضت مصر والسلطة الفلسطينية على مثل هذا الإجراء اللاإنسانى..وعلى الطرف الآخر شهد غلاف غزة الذى بدأت فيه الأحداث إخلاءً واسعاً من مستوطنيه..كل تلك الإجراءات وغيرها من شواهد التصعيد تؤكد أن إسرائيل اتخذت بالفعل قرار الحرب لا قرار التفاوض..

القدس تحولت لثكنة عسكرية، وغزة محاصرة بقوات الجيش الإسرائيلي استعدادا لاجتياح بري محتمل، وقوات الاحتياط تم استدعائها وإن كانت هناك حالة سخط عامة ومحاولات هروب من الخدمة العسكرية تشي بارتباك وتخبط..ولعل أشد ما قوَّى شوكة الجيش المحتل ما تلقاه من دعم أمريكى فوري تمثل فى حاملتى طائرات مدججة بالعتاد والسلاح والذخيرة على شواطئ فلسطين المحتلة..

أمريكا لا تريد تهديد الفصائل الفلسطينية بقدر ما تريد تحجيم تدخل الأطراف العربية حول فلسطين وبالأخص حزب الله اللبنانى ومن ورائه إيران..وفى هذا الإطار قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف مطارات دمشق وحلب قصفاً تحذيرياً لتحييد الحدود مع الجيران العرب.

روسيا رابضة فى الكواليس تراقب وتدعم الجانب الفلسطينى من بعيد، ثم أنها تستغل انشغال أمريكا وحلف الناتو بدعم إسرائيل عسكرياً، لتحقق مكاسب سريعة على أرض أوكرانيا..

كل هذا يشير إلى أن الباب مفتوح على مصراعيه لعدة خيارات تبدأ من فتح جبهات قتال متعددة إلى المعركة البرية المحدودة إلى حرب شاملة موسعة طويلة الأمد.. بل وقد وصلت بعض التقديرات إلى حد توقع حرب شرق أوسطية متعددة الأطراف..

حرب الإعلام

أحدث وأهم ما اتخذته إسرائيل من إجراءات هو حربها العالمية ضد الإعلام لتحويله إلى إعلام صوت واحد يخدم مصالحها دون غيرها.. لدرجة أن نرى دعاوى لتجريم أى دعم تجاه المقاومة الفلسطينية بدءاً من تجريم رفع العلم الفلسطينى وحتى حجب المواقع لمنع تداول المعلومات حول خسائر الجيش الإسرائيلي ومكاسب المقاومة الفلسطينية!!

ثمة جرائم حرب تُرتكب الآن فى حق المراسلين الصحفيين والإعلاميين المتواجدين فى ميادين الصراع، وهناك تعتيم إعلامى واسع النطاق خاصةً فيما يتعلق بأعداد القتلى والأسرى والمصابين فى الجيش الإسرائيلي خاصةً العسكريين منهم..

من المعروف أن اليهود يسيطرون على منابر الإعلام فى الغرب، وأن الآلة الإعلامية الصهيونية ذات نفوذ قوى وامتداد كبير يمكنها من تحقيق نجاح سريع فى مضمار الحرب الإعلامية..إلا أن كل تلك الجهود والمحاولات لم تستطع أن تمنع تسريب بيانات كثيرة بخصوص حقيقة ما يجرى هناك..

غزة تتعرض اليوم إلى حصار شديد خصوصاً فى وسائل الاتصال بعد قطع الإنترنت عنها فيما تم قطعه من خدمات أساسية شملت الكهرباء والوقود والمياه والغذاء والدواء، لدرجة أن أغلب مستشفيات قطاع غزة باتت خارج الخدمة، فى الوقت الذى انغلقت فيه المعابر ورفضت فيه المستشفيات الإسرائيلية استقبال الجرحى والمصابين من المدنيين الفلسطينيين..

جمعة طوفان الأقصى

دعت فصائل المقاومة الفلسطينية سائر العرب لدعم موقفها ضد إسرائيل وحلفائها فى الغرب..

إنها جمعة الأقصى أو جمعة النفير العام كما أسمتها المقاومة.. إنها فرصة كبري لجمع كل الدعم الممكن من أجل حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية التى طال أمدها دون وجود بصيص أمل حقيقي لعودة الفلسطينيين وحل الدولتين ووقف الاعتداءات الإسرائيلية ووقف بناء المستوطنات، ولمنع مخططات هدم المسجد الأقصى..

كل الشواهد تؤكد أن الحرب هذه المرة مختلفة، وأن نتائجها لابد أن تكون على مستوى أحداثها المستعرة، وبرغم الآلام والأحزان والشهداء الذين سقطوا فى طريق المقاومة والدفاع عن المقدسات فإن حصاد الحرب لن يكون أبداً فى صالح إسرائيل.. وإن كانت فلسطين تتألم وتدمى فإن إسرائيل تذوق اليوم من نفس الكأس ولسوف تجنى خسراناً وانهزاماً مؤكداً أمام أصحاب الأرض مهما طال أمد الصراع.. فلابد أن يندحر الباطل وينتصر الحق.

***

عبد السلام فاروق

مرّت ثلاثةُ عقودٍ من الزمن العربي المثقل والمرتبك عموديًّا وأفقيًّا على احتفال توقيع اتفاق "إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي" المعروف بـ"اتفاقية أوسلو"(ايلول/ سبتمبر 1993) لتشهد منظّمة التحرير الفلسطينية تحوّلًا أو انعطافة تاريخيّة في مشهد سياسي تتحكم فيه موازين قوى أكبر من طاقة أو قدرة قوى المنظمة، أو المهيمنين عليها، على مواجهتها، مما وضع المنظمة والقضية الفلسطينية أمام تحديات وإرباكات أضعفت الحلم الفلسطيني، المكاسب أو التوقعات وعقّدت النتائج والنهايات وأُبعدت الأهداف المطلوبة من أي حراك أو كفاح وطني عام أو خاص، أو وضعتها في أزمات متتالية ليست في صالحها وتطوير نضالها واستحقاق تاريخها السياسي والقانوني، كما قدمت أسئلة متوالدة ومتوالية في حاجة إلى إجابات واضحة ومراجعة مسؤولة وموضوعية عنها.

استطاع كيان الاحتلال الإسرائيلي من استغلال الاتفاقية لصالحه ومارس دوره المعروف في الخداع والتضليل وتهميش جوهر القضية الوطنية الفلسطينية، مواصلًا تحقيق مشروعه الاحتلالي الاستيطاني واضطهاد الشعب الفلسطيني وتهجيره وإخراجه من أرض وطنه وفتح المجال واسعًا أمام إقرار وجوده والخضوع لبرامجه ونهجه في العدوان، وفرض أمر واقع بالتعاون والتنسيق مع الدول الرأسمالية الداعمة له وغيرها من المتخادمة معه ومع رعاته ومشروع وخطط إقامته ووجوده.

حصلت بعض المكتسبات من الاتفاقية، بدهيًّا، أو حسب تقدير المندفعين لها، ولكنها توقفت عند صفحتها الأولى وتراجعت بعدها من خلال ما استثمره الكيان الصهيوني من تنازل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن 77%‎ من أرض فلسطين، والوقوع في طامة كبرى، قانونيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا أيضًا، كون هذا التنازل تفريطًا بحقٍّ مشروعٍ من جهة، وتنازلًا دون توافقٍ وطني من جهةٍ أخرى، وتجاوزًا تاريخيًّا لثابتٍ وطني من جهةٍ ثالثة والقبول بالاختراق الصهيو - غربي لتفتيت القضية الفلسطينية ولقيادات صعدت إلى الواجهة السياسية في ظروفٍ لم تعد سريّة أو مخفيّة من جهةٍ رابعة والقبول في تحول البرنامج الوطني من "التحرير" إلى "تسوية وسلطة سياسية" تلغي دور المنظمة وبرنامج التحرر الوطني الذي تأسست عليه، عمليًّا، من جهة أساسية؛ الأمر الذي يعني أن توابعه وتداعياته أخطر من عدمه، أو أنّه أمر مدروس لما يليه ويحصل بعده، وهو ما تم بغفلة أو بوعي، وما جرى يفضح جوهر الاتفاقية وأهدافها.

لم تتعظ قيادة منظمة التحرير من دروس الاتفاقات العربية مع الكيان فضلًا عن دروسها وحركة التحرر الوطني ولم تؤمن وضعها أمام الاتفاقية ورعاتها ولم تتقدم إليها بوحدة وطنية شعبية وإصرارًا على استمرار النضال بكل الأساليب من أجل إكمال التحرر الوطني والالتزام ببرنامجه المتوافق عليه، وعدم التخلي عنه أو عن حقوق الشعب المشروعة في الحرية والاستقلال وتقرير المصير؛ الأمرُ الذي أضعف القضية والمنظمة وقزّمهما دون آفاق واضحة لحلول ممكنة ونهايات لمصلحة الشعب الفلسطيني والوطن العربي، وكان من بين أبرز التحولات أو الانعطافة،  تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى البحث عن تسوية سياسية وقيام سلطة لفظية على جزء من شعبها، في جزء من أرضه، وفي الواقع سلطة اسمية على شعبها فقط، وليس على أرضه وموارده، وفعليًّا "سلطة" تحت سلطة الاحتلال، وشروطها السياسية والاقتصادية والأمنية والإدارية، وإبعاد المنظمة إطارًا سياسيًّا بمشروع وطني، وتهميشها سياسيًّا وشعبيًّا، والبحث عن مسار تسوية سياسية، واختزال الأرض والوطن واللاجئين وقرارات الأمم المتحدة ببنود الاتفاقية التي رسمتها العقلية الصهيونية المتنفذة في إنجاز الاتفاقية وما تلاها.

ولعلّ من تداعيات الاتفاق المباشرة، بعد كل ما جرى، الانقسام الواسع في الرأي والرؤية الفلسطينية ورفض قوى وفصائل سياسية للاتفاقية وإعلان معارضتها لها واستفراد الكيان بمن وقّع معه الاتفاق واعتبار الانقسام وسيلةً للكيان في تمزيق الصف الفلسطيني وتدمير المشروع الوطني الجامع والإرادة الشعبيّة له من جهة، وتعميق الانقسام والاختلاف على الثوابت الوطنية والبرنامج التحرري والإجماع الشعبي من جهةٍ أخرى، والتخلّي عمليًّا عن المرجعيات القانونية، سواءً ما صدر من الأمم المتحدة أو القرارات الدولية الملزمة للكيان الإسرائيلي، وطبيعة الالتزام بها وتطبيقها وعدم التهرب منها، كما هي طريقته في التسويف والتشويه والتهميش والتملص من كل ما هو قانوني وملزم لسلطة احتلال، واستغلت سلطة الاحتلال كل ذلك في التحكم بدور السلطة الفلسطينية وتحويلها إلى ما يخدم مصالح الاحتلال أكثر من مصالح الشعب الفلسطيني، لا سيما في إدارة الحياة اليومية والتواصل الاجتماعي الجغرافي وحماية الشعب من العسف والقمع والاعتقالات. ومارس الكيان عمليًّا ليس تقسيم الفلسطينيين سياسيًّا وحسب، بل وجغرافيًّا، عبر الانقسام الحاصل حاليًّا بين المحافظات الشماليّة (الضفة الغربيّة)، والجنوبيّة (قطاع غزة)، فضلًا عن تنصّل الاحتلال الإسرائيلي من الحقوق الفلسطينيّة كافةً وتهميشها على أرض الواقع والمسار التاريخي.

في الأساس نجحت اتفاقية أوسلو في تهميش منظمة التحرير الفلسطينية أو إخراجها من مكانتها ودورها وعزلتها رسميًّا وأبعدتها شعبيًّا عبر الضغوط السياسيّة أو الاختراقات التنفيذية، بدءًا من التوقيع على الاتفاقية دون أخذ رأي الشعب واستشارته، ما رسم فجوة بين قيادتها والشعب الفلسطيني، لا سيّما باعترافها بالكيان الإسرائيلي وحقه بالوجود بلا تبادل رسمي وعلني أو ما يقابله قانونيًّا، ما قلّل من مكانتها وفقدان الثقة في تلبية البرنامج الوطني الفلسطيني بأركانه في عودة اللاجئين والدولة المستقلة وعاصمتها القدس ومقاومة الاحتلال بكلّ أشكال الكفاح وتقرير المصير، في الوقت الذي مرر الكيان هدفه وسياسته العدوانية في عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقه في الوجود، كما اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية به، فقد اعترف الكيان بالمنظمة فقط "ممثّلًا "حتى ليس "ممثلًا شرعيًّا ووحيدًا" للشعب الفلسطيني، وهذا يفسر بأن المنظمة لم تعد كما هي أو كما تأسست عليه، وقد تهمشت إلى درجة رفعها إلى رفوف السلطة واستحضارها حين اللزوم، باسم السلطة وفريق أوسلو وليس الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.

ومن خلال ذلك أو عبره وهدف الكيان ورعاته من اتفاقية أوسلو هو اعتبارها مدخلًا "لشرعنة" الكيان الإسرائيلي رسميًّا وقانونيًّا دوليًّا، وتقديمه باسم الاعتراف الفلسطيني إلى الدول والحكومات العربية والأجنبية إلى إقامة علاقاتٍ رسميّةٍ علنيةٍ معه، واستدعى هذا تشويه مواقف الفصائل الفلسطينية المعارضة للاتفاقية، والتخلي عن برنامج التحرر الوطني الفلسطيني بأهدافه وخطواته ومستقبله، وصولًا إلى إضعاف القضية الفلسطينية وعزلها عن بيئتها العربية والإسلامية وقوى التحرر الوطني العالمية، وضمن إطار الخطط الصهيونية في إنهاء الحقوق الوطنية وحرف بوصلة الصراع ضد الكيان إلى الصراعات الإقليمية والدينية الطائفية في المنطقة والمحيط بها، وتجريد قوى المقاومة الوطنية والكفاح التحرري من الحاضنة الشعبية والتضامن الدولي ومحاصرتها بقرارات دولية وإجراءات داخلية وخارجية تضعف من امتدادها الشعبي وحقوقها الوطنية وسرديتها التاريخية، وتقدم للكيان فرص التحول إلى كيان "طبيعي" في المنطقة والاعتراف بوجوده، عربيًّا وإسلاميًّا، رسميًّا وعلنًا، والتخلي عمليًّا عن شعار مركزية القضية الفلسطينية للأمة والنضال التحرري العربي، دون التفات إلى معاناة الشعب الفلسطيني على أرضه وحقوقه الوطنية الفلسطينية المشروعة.

من هنا يظهر الخطر الصهيوني في خططه ومشاريعه الواسعة، بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو خصوصًا، ليس على تهميش القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير والدعم العربي والإسلامي والدولي وحسب، إنما في خطره الأوسع على المنطقة أيضًا، انطلاقًا من ارتباطاته ورهاناته التي تأسّس عليها في المشاريع الإمبرياليّة للهيمنة على المنطقة ونهب خيراتها وتفتيت قواها الوطنية وتهديدها بالتقسيم والتجزئة وفرض التخادم والاعتراف وهدر الثروات وإنهاك الشعوب بالصراعات الداخلية والحروب والانقسامات التي لا تخدم مصالحها الوطنية وأهداف التحرر الوطني التي تناضل من أجلها.

كتب الكثير عن الاتفاقية ومن كل الأطراف، سواء تلك التي تورطت فيها أو التي عارضتها، أو التي قرأتها باستقلالية، ويكاد الجميع متفقًا على أن اتفاقية أوسلو كارثة حلّت بالقضية الفلسطينية، لم تجلب للفلسطينيين سوى الويلات، وأصبحت مؤشّرًا على فشل قيادة منظمة التحرير في أدائها السياسي والمؤسسي، والانحراف عن الأهداف التي تأسست على أساسها المنظمة، مما يتطلب الآن من الجميع مراجعة وتقييمًا نقديًّا، بعد كل هذه الفترة الزمنية، والتوقف المعلن من الالتزام بهذه الاتفاقية وما تولد منها، مع طرح خيارات واقعية للحلول المنشودة، تبدأ من إعادة الاعتبار للحقوق الفلسطينية المشروعة ومركزية القضية الفلسطينية وحضنها العربي والإسلامي وقوى التحرر العالمية، ولعل ما أعلنته قوى أيدت الاتفاقية بداية وعادت الآن معارضة استمرار آلياتها، حيث رأت، حسب تصريح قيادات لها "حالة الانحدار التدريجي لإبقاء العملية السياسية مستمرة، ويتواصل معها الاستيطان والاحتلال، وهو ما أفضى لآليات خاطئة في التنفيذ"، مشيرة إلى أنّ اتفاق أوسلو لم يعد قائمًا من الناحية الواقعية والعملية، وهو ما يفرض ضرورة التحلل منه بالعمل على إيجاد بدائل واقعية ومنطقية تُخرج الحالة الفلسطينية السياسية من المشهد القائم بعيدًا عن التنازع على السلطة.

وبالتأكيد يصبح العمل على إنهاء الانقسام الفلسطيني، والعودة إلى آليات العمل الوطني ببرنامج التحرر الوطني ومهماته المعروفة في مشاركة كل القوى والفصائل الفلسطينية والتنسيق والتضامن مع الحاضنة الشعبية وقوى التحرر الوطني العربية والإسلامية والعالمية أمرًا ملزمًا وأساسيًّا؛ إذ لم يكن الصراع في إطار فلسطيني – إسرائيلي، فقط، بل هو صراع عربي- صهيوني، تمثل القضية الفلسطينية محوره الرئيسي، وتتحمل الشعوب العربية والإسلامية أيضًا مسؤولية الدفاع عن قضاياها المهددة من الأخطار الإسرائيلية والإمبريالية الموجهة ضدها، من خلال هذا الصراع وما يلتحق به من خطط ومشاريع استعمارية، فكانت اتفاقية أوسلو، في إطارها وبنودها وعملية التوقيع عليها والاحتفال بها والسجن داخل أسوارها ضربة غير منتظرة وسببًا لنكبة أخرى أو معبرًا لها، أسهمت في تأخير قضايا التحرر الوطني، فلسطينيًّا وعربيًّا في الأساس؛ إذ من المعلوم أن الكيان الإسرائيلي والحركة الصهيونية والغرب الاستعماري، هذا التحالف  العدواني، يشكّل تهديدًا دائمًا للحريّة والاستقلال الوطني لكلّ الشعوب، بما فيها العربية والإسلامية، وعقبة في طريق نضالها إلى التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والوحدة الوطنية والقومية، ويُعدّ تحدّيًا مباشرًا لكلّ حركة تحرّر وطني، ولمنع هذا التحالف من إنجاز خططه ومشاريعه يتطلب تحشيد كل القوى الوطنية بكل فصائلها وطاقاتها والتصدي الكفاحي له، من خلال استكمال مهمات التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي الديمقراطي ووحدة الساحات والمواقف الأساسية، ليكون مقدّمةً لانتصار الشعوب وفي مقدمها الشعب الفلسطيني، وأن يكون فصيلًا رئيسيًّا من فصائل حركة التحرر الوطني والتقدم والديمقراطية في المنطقة والعالم.

***

كاظم الموسوي

احتمال امتداد الصراع العسكري من داخل فلسطين الى مناطق أخرى هو امر وارد ونقل هكذا قتال قد يتم استغلاله لكي يتم افتعال معركة مع سوريا ولبنان امتدادا للجمهورية الإسلامية الايرانية وهذا الامر خطير لأنه سيكون ك "كرة الثلج" ضمن مرحلة حساسة في العالم تشترك فيها روسيا والصين ودول البريكس ك "اقطاب دولية جديدة"

ان جمهورية روسيا الاتحادية لديها حالة فريدة في علاقتها الدولية لأنها ضمن حلف مع الجمهورية العربية السورية وفي نفس الوقت لديها "علاقات" مع الكيان الصهيوني نتيجة لتواجد أكثر من مليونين من اليهود الروس داخل فلسطين وأيضا وجود تأييد للكيان الصهيوني داخل بعض مؤسسات الدولة الروسية، والتي أيضا يتواجد فيها عدد كبير اخر من المؤيدين للقضايا العربية، ولكن في المجمل علينا ان نعرف ان الجمهورية الروسية لديها أيضا حرب عسكرية تخوضها وصراع دولي شامل تعيشه في الموقع الاوكراني.

ان المصلحة الروسية القومية هي الحاكمة في الموضوع بكل الأحوال، ولكن ضمن الحرب الاجرامية التي يقوم بها الصهاينة ضد المدنيين في فلسطين المحتلة انتقاما لأذلاهم و هزيمتهم الاستراتيجية في عملية طوفان القدس، هناك مسألة "السيناريوهات المفتوحة" و توقع الغير المتوقع، وخاصة ان هناك مشاكل صهيونية "داخلية" عميقة و صراعات  قد تؤدي الى حرب برية و تهجير للفلسطينيين خارج قطاع غزة، ليس لأهداف عسكرية  بل هي لنقل المشكل الداخلي الصهيوني بما يتعلق بتهديدات ادخال رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو السجن بعد فقدان حصانته، و هو ما يتوقعه اغلب المراقبين.

اذن ماذا سيحدث للقوى الإقليمية المجاورة لفلسطين؟ ماذا سيكون ردات فعلهم؟ ماذا ستقوم به الجمهورية الإسلامية الايرانية إذا تم استهدافها عسكريا؟ هذه كلها سيناريوهات مطروحة؟ والأخطر أيضا هو السؤال الكبير الذي يقول " هل سيستغل الكيان الصهيوني كل ما يجري لتدمير المسجد الأقصى تطبيقا لخزعبلاتهم الدينية اليهودية بشأن، بناء الهيكل وتهويد مدينة القدس؟ ماذا ستكون ردود الفعل للعرب وباقي الدول الإسلامية؟

رغم الضوضاء الدعائية في الغرب ضد الفلسطينيين و تزوير حقيقة ما يجري إعلاميا هناك ولكن أتصور ان هناك نية غربية في تهدئة الأمور عسكريا في فلسطين المحتلة لأن "الغرب" يتحرك وهو يغرق في المستنقع الاوكراني مع كل ما ترتب عليه من مشاكل عسكرية وصعوبات اقتصادية على مجمل الواقع الغربي الحكومي و الشعبي، ولكن واضح ان هناك داخل الكيان الصهيوني أكثر من خط داخلي يريد ان ينفذ اجندات شخصية او حزبية او دينية خاصة بكل خط من هذه الخطوط المتواجدة داخل مركز القرار في الكيان، تريد استغلال هذه الضوضاء الإعلامية في الغرب لتنفيذ اجندات كل خط من هذه الخطوط الصهيونية الداخلية.

للأسف الشديد ان العرب متفرقين ولا يعيشون وحدة او تضامن شامل وتنسيق عسكري أمنى استخباراتي اقتصادي يصنع منهم "قطبا" دوليا كبيرا صاحب مشروع قومي خاص في مصالحهم، لذلك لن يهتم العالم في العرب "متفرقين"، وخاصة ان الحرب في غزة تأتي في ظروف مرحلة انتقالية يزداد فيها قوة التعدد القطبي الدولي وتراجع عالم القطب الواحد.

***

د. عادل رضا

كاتب كويتي في الشئوون العربية والاسلامية

نعم.. بين الواقع والحقيقة جدلية.. بين ما يعتقدون الذين يسمون انفسهم بالقادة.. وبين الحقيقة المغايرة لاعتقادهم جدلية.. ما حصل بين حماس والدولة العبرية غيرَ وجه التاريخ.. لكنها جدلية.. فلم تعد الدولة العبرية كما كانت ابداً.. فقد أنثلمت هيبتها النفسية.. ومن ينكسر لن يعود ابدا الى سابق عهده، كما انثلمت دولة المسلمين بعد احتلال المغول لها ولن تعد.. دولة.. نعم أنها جدلية.. لأن الدولتين لم يعترفا بالحقيقة والخطأ.. فهل سيقرأون الذين يسمون انفسهم بالقادة ما حصل ليعودوا الى رشدهم بعد غفلة الزمن الطويل؟؟ اربعة مصطلحات ذكرها النص المقدس نهاية اصحابها الخذلان ان لم يلتزموا بالقيم الربانية .. الخيانة، والاعتداء، والظلم، والفساد.. كلها اذا توفرت في كيان معين نهايته نهاية كل الساقطين.. لذا بعد سقوط بغداد على يد المغول عام 656 للهجرة لم تقم دولة للمسلمين.

لم تعد الكتابة في الدين والاخلاق والقيم في مجتمعات التخلف الديني المقيت نافعة للتغيير، والتي اوصلت الناس الى لا اخلاقية الحياة في الدين. بل، لا بد من الالتفات الى الاسباب والمسببات التي غيرت المجتمعات واوصلتها الى حتمية الفوضى والانتهاء.. فكان فهم الدين ومؤسساته خطئاً بعد ان تغير رجاله الناكرين للقيم الاخلاقية الى منافقين.. وتكالبهم على المنافع الخاصة باسم الدين وتركهم الوصايا العشر، حتى تبدلت سايكولوجية المجتمعات الدينية المتزمتة الى العدم.. بعد ان غيرت سلطة الفساد المناهج الدراسية الفلسفية القويمة وحولتها الى تخريف.. هذا ما يجب الالتفات اليه لامكانية انقاذ المجتمع واجياله الصاعدة من سماسرة السلطة ورجال الدين ومرجعياته الصنمية اليوم.. والتي مثلت نفسها بسلطة الشعب باطلاً.. فلا حل الا بالمقاومة والتصميم على التغيير لصالح الشعب والوطن وبالفكر الراجح والمنهج الدراسي الصحيح.. في التنفيذ.. فكانت ثورة تشرين الخالدة في عراق العراقيين.. بداية التصحيح.. والتي لا زالت نارها تحت الرماد تنتظر التغيير.

موضوع شائك ومعقد ومهم.. فالاقدام على كشف حقائقه يحتاج الى النظر الجدي في التفسير القديم للنص المقدس الذي خلف الامة وادى بها الى الانهيار الكبير حين اصبحت معتقدات الخُرافة هي التقديس - زيارات الأضرحة والدعاء واربعينيات التخريف -.. وبعد ان اصبحت قياداتها بيد اللا أخلاقيين.. كأننا لا زالنا نعيش في القديم منذ يوم كانت اللغة العربية تعبر عن التفكير القائم على ادراك المشخص وليس قاعدة اللغة وتطورها المستمر، ولم تكن التسميات الحسية فيها قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات فكتبوا لنا التفسير الخاطىء حتى اصبح لدينا قانون مقدس لا يُخترق، فصيرورة التاريخ تستدعي تهميش القديم ساعتها، سنقلب الطاولة على الفقهاء والمفسرين، لا بل سيقلب رأي القارىء على المفسرين وما خلفوه من اقاويل الخرافة في الدين.. وهذا هو المهم.. بعد الاستناد الى المنهج التاريخي العلمي في الدراسات اللغوية سنصل الى تفسير يتوائم مع نظريات التحديث، لكن هذا التوجه الخطير يحتاج الى البرهان بالدليل وليست آقاويل.. هنا يتوقف الرأي على فلاسفة العلم الحديث.

ترافقه شجاعة وتضحية منقطعة النظير من القائمين على التفسير الجديد.. لنشره في صحف تقبل الرأي والرأي الاخر بقوة التنظير، وتقبل الحق دون خوف من تهديد او قتل او وعيد.. في مجتمع اصبح فيه القديم المقدس مطبوع في الافكار لا يقبل التغيير.. وحكم سلطوي يحتكم الى منطق القوة دون مناقشة الفكر الحديث للحفاظ على مكتسباته الباطلة دون الأمة، كي يبقى مفهوم الدين القديم وسيلة لسيطرتهم على السلطة والمال دون الاخرين.. كما هم عندنا حكام الوطن اليوم.. لكنهم مخطئون..

ان اثبات المنهج العلمي في التفسير، سيمهد الطريق الى الكثير من تغيير تفسير المفسرين الذي استند على الرأي لا على فلسفة اللغة في التحقيق..

ان التوجه الى القراءة المعاصرة للنص، وفقا للأرضية الفلسفية والمعرفية الحديثة، ستجعلنا نتوجه الى عرض وجهات نظر مختلفة الى الوجود والمعرفة والتشريع والاخلاق كلها مستندة الى النص المقدس، وليس الى التفسير القديم المتضارب اليوم - نملك 200 تفسير للقرآن لا ندري ما الصحيح-.. باعتبار ان الصيرورة التاريخية (نظرية التطور) تكمن فيها حقيقة التوحيد على اعتباران: " القرآن صالح لكل زمانٍ ومكان". من هنا فان حرية التعبير عن الرأي، وحرية الاختيار، هما أساس الحياة الانسانية في الاسلام.. وليست ما تدعيه باطلاً مرجعيات الدين.

نعود لنقول هل يجوز لنا ان نضع في المنهج المدرسي الايات القرآنية التي تتضارب مع الدساتير المدنية في حقوق الانسان كما في المادة الثانية من الدستور العراقي التي تقول: "لا يجوز سن قانون يتعارض مع الشريعة"، ولا ندري اية شريعة يقصدون شريعة الشيعة أم شريعة السُنة ام شرائع الأخرين. - ذاك زمان مضى-، من سيسمح لنا ذلك في التغيير من اصحاب سلطة الحقوق الباطلة.. امر في غاية الخطورة علينا ان نجتاحه وان كلفنا القلم والروح.. ليس مشكلة وانما المشكلة على الاصرار في التنفيذ لنصل الى تخريج فقهي وعلمي يتوافق مع الأثنين.. معا.. نعود فنقول: ان في التأسيس القرآني للمجتمع كما نعتقد لا كما يعتقدون غايتنا في التغيير..

لا يمكن لمن يريد ان يحكم حكما اسلاميا خالصا ان يعيد انتاج ومواصفات الحقبة النبوية وما تلاها بكامل مواصفاتها كما في داعش والقاعدة ومعتقدات ولاية الفقيه، لان الزمن يلعب دورا في عملية التغيير.. كما لا يمكن التخلص من تلك الحقبة برؤية جديدة تختلف كل الاختلاف عن السابق. لكون ان التجاهل لمفهوم المتغير الاجتماعي يضع المجتمع في حركة تضادية او جدلية لامكانية انتاج فترة جديدة المواصفات، وهنا تدخل صعوبة التغيير، لذا لابد من دراسة الظواهر في انقى اشكالها لاستخراج عملية التواصل الاجتماعي المطلوب.. اي لاعودة للماضي (العودة عبر الزمن مستحيلة).. ولا لسحق الماضي بكليته.. لذا لابد من خضوعنا لمبدأ القانون الذي يحكم الظاهرة الذي يفرض نفسه في ميلاد كل مجتمع جديد.. ان الإصرار من قبل السلطة المستندة على مؤسسة الدين المتخلفة على تطبيق الحكم الاسلامي المتزمت كما هو اليوم بعيدا عن القانون او بنظرية التفويض الآلهي، اصبح محكوما علية بالموت بالضرورة.

من هنا تكمن أهمية التجديد..

فالتجديد بحاجة الى صفوة قائدة جديدة واعية ومتقدمة لتقود وتوجه وتبتكر وتبني وتنظر الى الامام وتحسب حساب الحاضر والمستقبل لتحول المجتمع الى المسيرة الحضارية من اهل العلم ومؤسساته، لان القيادة السياسية وحدها -وان كانت مخلصة – لا تعطي اصحابها ميزة مادية او معنوية على غيرهم من افراد المجتمع، لأنها في واقع الامر اشد تمسكاً بحقيقة امتياز الفئة القائدة على غيرها.. هنا تقف الصفوة بصمودها وايمانها بالوطن وحقوق الشعب سدا منيعا ضد تصرفات السلطة لتميزها ببعد نظر يجعلها ترى على الافق البعيد ما لم تراه السلطة الحاكمة، لذا لابد من تقف مكانها وتتقهقر عن مطالبها الخاصة.. لان من لا يتقدم يتأخر.. ومن لا يصحو يموت.. كحركة الكون كله القائمة على الحركة العامة الى الامام.

هنا يجب ان يشخص دور المؤسسة الدينية التي تقف بتزمتها الفكري حجر عثرة في تقدم الاوطان.. والا ما معنى المرجع الاعلى هو الذي يقرر وقرارته 100% غير صائبة لجهلهه بحركة التاريخ ومتغيراتها.. لذا لم تتقدم الدول الاوربية والامريكية الا حينما فصلت الدين عن السياسة وأحلت محله القانون. فالصفوة القائدة هي الطموح للتقدم وليست مؤسسة الدين المنغلقة على نفسها بتاويلاتها البائدة المتخلفة التي ترجع التقدم الى ما سلف. وصدق المفكر لفيلسوف ارنولد توينبي حينما قال: "لا تزال الدولة بخير مادامت صفوتها بخير".

نعم من هنا تكمن أهمية التجديد لمشروع جدي على مستوى الرؤية التاريخية.. وجدية النظر في العمل الفكري والعلمي التطبيقي معاً.. ساعتها سيكون مشروع الدولة قابلا للفعل في ظروف العصر واوضاع الدولة بشكل خاص. نعم هنا بدخول مرحلة التعقل والتفكر وابعاد الوهم المرجعي الديني عن الرؤوس يواجه المجتمع التجربة ويخوض المعركة، وحين يشتد عضده يكون قد بلغ سن الرشد للتغيير.. والعقل والتصرف الموزون به يعرف بفعاله لمواجهة تفاعلات الواقعات عبر مسيرة الزمن حتى الوصول للنهاية والاستقرار.

وبدون هذا التوجه العلمي الصحيح سيبقى المجتمع يراوح في مكانه دون تقدم.. كما نحن في بلادنا المغتصبة من مؤسسة الدين اليوم.

نحن بحاجة اليوم الى ثورة علمية تزيح كل الكتب الصفراء المنضدة خلفهم وهي اس البلاء على الناس والمجتمع ورميها في النهر لخلق افكار جديدة وفق منهج علمي جديد يدخل المدرسة ولا عودة لمؤسسة الدين الصنمية التي نهبت اموال الدولة بحجة الخمس وهي ضريبة فرضت على عهد الرسول (ص) وقد انتهت بوفاته..

 ضرائب فات زمانها ولم نلمس منها غير الفرقة وتضخم مؤسسة الدين ومؤسساتها وقصورها وبذخها في لندن وباريس وايران والتي تخرج لنا كل سنة من مدارسها العاطلة فكريا الاف من المترهلين وتبني لنا المئات من المزارات الكاذبة التي تحلب بها جيوب المواطنين وتنقلنا الى الدعاء والرادود الكريه المبهم الكلمات لخلق جيوش المتخلفين والمذلة في ترجي السابقين.. لتجعل المواطن يعتمد على الادعية البائسة دون تحريك القدرة الفكرية فيه. من هنا يمتصون ثروة الوطن بلا عمل وقتل تطلعاتهم الفكرية.. ناهيك عن فكرة نشر الجهالة والاتكالية في نفوس المواطنين لنشر الجهل بينهم.. حتى اصبحت الجوامع والمزارات اكثر من المدارس بكثير.. وهنا الطامة الكبرى التي تواجه الوطن والمواطنين..

فاين الكُتاب والمثقفين الذي ملأوا الدنيا ضجيجاً بكتاباتهم البائرة دون تحقيق.. والتي هم يبررون ما يكتبون لانهم الاقدر على التبرير، والاسرع في الخيانة الوطنية لانهم القدر على التوصيف.

كفاية نحن نحترم شجاعة من يقول الحقيقة او بعضها.. قولوا الحقيقة قبل فوات الآوان.. ايها المدلسون.. فلم يعد التدليس نظرية تعريف.

***

د. عبد الجبار العبيدي

زيارة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الى روسيا، تكمن أهميتها الكبيرة، ليس في الوقت الذي جاءت فيه فحسب، بل في تشكيلة أعضاء الوفدين المشاركين في المباحثات، فقد أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين محادثات في موسكو مع ضيفه العراقي، الذي قام بزيارته هي الأولى من نوعها منذ تسلمه منصبه، واستمرت يومين،، وهذا يؤكد أهمية المباحثات التي اجراها الجانبان، واهمية القضايا المشتركة التي تمت مناقشتها، وقد عقد خلالها سلسلة لقاءات مع كبار المسؤولين الروس، و حضر خلالها أيضا منتدى الطاقة الذي افتتح في موسكو بحضور الرئيس الروسي أيضا .

فقد رافق السوداني خلال الزيارة، نواب رئيس الوزراء، وزير الخارجية فؤاد حسين، ووزير النفط حيان عبد الغني، وحيدر حنون - رئيس هيئة النزاهة الاتحادية، وعدد من المسئولين في وزارة الدفاع والكهرباء، بالإضافة الى مستشارين من عدد من الوزارات، في حين مثل الجانب الروسي، وزير الخارجية سيرغي لافروف، ووزير المالية أنطون سيلوانوف، وشولغينوف نيكولاي غريغوريفيتش - وزير الطاقة في الاتحاد الروسي، الرئيس المشارك للجزء الروسي من اللجنة الحكومية الدولية للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والتقني بين الاتحاد الروسي وجمهورية العراق، شوغايف ديمتري إيفجينيفيتش - مدير الخدمة الفيدرالية للتعاون العسكري الفني في الاتحاد الروسي، وميخيف ألكسندر ألكساندروفيتش - المدير العام لشركة JSC Rosoboronexport، وفاغيت يوسفوفيتش ألكبيروف – مساهم في شركة PJSC Lukoil، وسيتشين إيغور إيفانوفيتش - الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس إدارة شركة PJSC NK Rosneft، واختتمت فقط بالتوقيع على مذكرة تفاهم بين هيئة النزاهة العراقية ومكتب المدعي العام الروسي في مجال منع الفساد والوقاية منه، وتبادل المعلومات عن أموال الفساد المهربة، وأماكن إقامة المتهمين والمدانين .

روسيا استقبلت وباهتمام كبير السوداني، ووصفت زيارته " بالرائعة "، فقد زار روسيا ضيوفًا أجانب من هذه الرتبة مؤخرًا بشكل غير متكرر، لكن زيارة السوداني جاءت أيضاً خلال الحرب بين "إسرائيل" وقطاع غزة، وعليه، أصبحت المفاوضات الروسية العراقية أيضاً فرصة للتعبير عن موقف البلدين من الأحداث الجارية، كما إن اللقاء الأول بين بوتين والسوداني، جرى على خلفية الوضع الصعب في العراق وما حوله، وهذا لا يمكن إلا أن يؤثر على العلاقات الاقتصادية بين البلدين .

الرئيس الروسي في كلمته الترحيبية في الكريملين، أشار الى ارتفاع حجم التداول التجاري بنسبة 43% العام الماضي، لكنه انخفض هذا العام، وبالتالي وكما قال بوتين مخاطبا ضيفه "هناك شيء للحديث عنه، وبهذا المعنى فإن زيارتك تأتي في الوقت المناسب للغاية"، وفي الوقت نفسه، أشار الجانبان إلى أهمية التعاون بين البلدين، لا سيما في سوق النفط، سواء على أساس ثنائي أو ضمن أوبك+، واعتبر بوتين الطاقة مجالا رئيسيا للتفاعل بين روسيا والعراق، وشارك الزعيمان في أسبوع الطاقة الروسي، وهو حدث يشارك فيه خبراء في مجال الطاقة العالمية، لكن، بالطبع، الجزء الأكثر صدى في تصريحات بوتين والسوداني كان تقييمهما للصراع الحالي بين إسرائيل وحماس.

اللقاء كان فرصة كبيرة للتعرف على وجهات نظر الجانبين في العديد من القضايا المهمة التي تحدث في العالم، سواء عن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، او الحرب " الظالمة " التي تشنها " إسرائيل " على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، واتهم الرئيس الروسي الولايات المتحدة ان ذلك هو نتيجة فشلها في سيستها في الشرق الأوسط، وأن " الكثيرون ممن يتفق معه في هذا الرأي "، لأن واشنطن حاولت احتكار التسوية، لكنها للأسف لم تهتم بإيجاد حلول وسط مقبولة لدى الطرفين، وشدد بوتين على “ضرورة تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة”، وإلى ذلك، دعا بوتين والسوداني طرفي الصراع إلى خفض الأضرار التي لحقت بالمدنيين إلى الصفر، وعن الازمة الأوكرانية، فقد أوضح السوداني بان العراق اليوم بحكومته ونظامه السياسي ينشد الاستقرار في كل مكان بما فيها الأزمة مع أوكرانيا، وقال "العراق عانى من الحروب والحصار، ولاقى ويلات من هذه الاحداث، لذلك نحن مع الموقف الداعم لإيجاد لغة الحوار، وإيجاد الحلول السلمية هذه النزاعات "، في المقابل اعرب الرئيس الروسي عن تفهمه للموقف العراقي بهذا الخصوص.

رئيس الوزراء العراقي بدوره، عبر عن رأيه من داخل الكريملين (الحصن المنيع) وأكد إن هذه نتيجة طبيعية لتصرفات "إسرائيل" التي استمرت في انتهاك حقوق الفلسطينيين، وتحدث ضد الحصار المفروض على قطاع غزة ودعا إلى حل سلمي لجميع الصراعات، بما في ذلك الصراع الإسرائيلي الفلسطيني،واعتبر السوداني ما يجري بانه نتيجة طبيعية بسبب امعان الاحتلال الإسرائيلي في ارتكاب الجرائم والانتهاكات المستمرة طيلة سنوات، ووسط صمت دولي، وعجز عن تنفيذ الالتزامات والقرارات ما يسمى بالشرعية الدولية، وقال " نحن أمام انتفاضة للشعب الفلسطيني لنيل حقوقه ووقف هذه الانتهاكات " .

ويؤكد المراقبون ان المفاوضات في موسكو أظهرت مرة أخرى مع رئيس الوزراء العراقي، أن الموقف تجاه روسيا لم يعد الآن سلبيًا كما كان من قبل، وهذا ما تثبته أيضًا الزيارة الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رئيس دولة عضو في الناتو، ولم يكن من الممكن تحقيق عزل روسيا، وان العراق، و بعد وصول السوداني إلى السلطة، وكما قال الكاتب حمزة مصطفى، ظهر مصطلح جديد في سياسة العراق الخارجية، وهو «الدبلوماسية المثمرة»، وتتلخص هذه الإستراتيجية في أنه لا ينبغي للمرء أن يركز حصرياً على اتجاه واحد في السياسة الخارجية، وخاصة في مجال الأسلحة والطاقة والاستثمار حيث تستثمر فيه 19 مليار دولار، لذلك فإن السوداني، جعل من زيارته الى موسكو، رسالة واضحة تفهم القيادة الأمريكية التي ترفض حتى الان استقباله في البيت الأبيض، بأن بغداد تحاول الحفاظ على نفس مستوى الاتصالات مع موسكو كما كانت في عهد الاتحاد السوفييتي، ومثل هذا الأمر بالتأكيد لن يرضي الأمريكان .

ويرى الروس انه في الآونة الأخيرة، وفي إطار إعادة التوجه العالمي لبلدان الجنوب، بدأ "الأصدقاء" التقليديون للولايات المتحدة، مثل المملكة العربية السعودية أو العراق، بالتفكير في إيجاد شركاء آخرين "، لذلك لا يستبعدون أن تكون زيارة محمد السوداني لروسيا مدفوعة ليس فقط بأسباب اقتصادية، بل أيضا بالرغبة في إجراء إعادة التوجه السياسي، ومع الأخذ في الاعتبار العقوبات الغربية ضد روسيا، فإن زيارة رئيس الوزراء العراقي لموسكو هي في حد ذاتها بيان سياسي للغرب، وفي المقام الأول الولايات المتحدة، يجيب على ما يقولون عنه دائمًا، إن روسيا وجدت نفسها في عزلة سياسية، لذا فإن مثل هذه الزيارات غير المنسقة لها تأثير سيء على الأسطورة التي تقدمها وسائل الإعلام والسياسيون الغربيون.

وفي الواقع إن العراق مهم جدا بالنسبة لروسيا، فمن وجهة نظر جيوسياسية، فهو يقع بين سوريا وإيران، وهي أحد حلفاء روسيا الرئيسيين في الشرق الأوسط، وبالنسبة لروسيا، العراق مهم بالطبع فيما يتعلق بالتعاون في مجال تطوير جبهة طاقة موحدة أقوى في مواجهة العقوبات، وكذلك الحديث يدور عن إمكانية مشاركة الشركات الروسية في المشاريع النفطية العراقية الجديدة .

ولم يكن النفط والطاقة وحده مات مناقشته، فإن الحديث بينهما شمل وبأسهاب، معالجة قضايا تسديد المبالغ المستحقة للشركات الروسية العاملة في العراق، وإيجاد الصيغة المناسبة لحل هذه المعضلة، وقد حضر لهذا الشأن وزير المالية الروسي انطوان سيلوانوف، وان الجانب المهم في المباحثات أيضا، وإمكانية مناقشة موضوع اشراك الشركات الروسية في موضوع تشييد محطات الطاقة الكهربائية، والذي تعارضه واشنطن وبشكل كبير، خصوصا وان للشركات الروسية تجربة كبيرة في تشييد محطات الطاقة الكهربائية الموجودة في العراق، بالإضافة الى متابعة الاتفاقات التسليحية بين العراق وروسيا .

وفي منتدى الطاقة الذي افتتح في العاصمة موسكو، أكد رئيس الوزراء محمد السوداني، انفتاح بلاده على المستثمرين، واستعدادها لتقديم فرص كبيرة لهم، وأشاد بشدة بفعالية أوبك+ التي “تسيطر على المخاطر السياسية في أسواق الطاقة وتثبت التوازن”. العرض والطلب"، بالإضافة إلى ذلك، أوضح السوداني مشكلة تخلف صناعة الغاز في العراق، واشتكى من أنه “لم يستثمر العراق في قطاع الغاز منذ فترة طويلة، ونتيجة لذلك، فإنهم مضطرون إلى استيراد “الوقود الأزرق”.

وبالطبع تم التركيز على النفط والغاز على جدول أعمال زيارة رئيس الوزراء العراقي، ويمكن ملاحظته أيضًا من أعضاء الوفود للبلدين واثنين من "جنرالات النفط الروس "، هما إيغور سيتشين( رئيس روس نفط ) وفاغيت ألكبيروف (رئيس لوك أويل)، والذين كانا حاضرين في الاجتماع الرسمي"، الأمر الذي يؤكد، أن التعاون الروسي العراقي في قطاع الطاقة ذو طبيعة مبدئية واستراتيجية .

ويعد العراق أحد أهم الدول في الشرق الأوسط، وان روسيا الآن بحاجة إلى بناء علاقات في نظام عالمي جديد"، إن روسيا ودول منطقة الشرق الأوسط هي التي تحدد بالفعل وستحدد مشهد الطاقة العالمي خلال العقد المقبل، لذلك المحافظة على مستوى عالٍ والبقاء على اتصال دائم مع السلطات في المملكة العربية السعودية وقطر والامارات، والآن جاء دور العراق، يعد امر مهم .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

واثر ذلك على الحدود بين العراق والكويت

البند السادس يعطي الحرية للدول التي بينها خلافات ان تحل هذه الخلافات بالطرق السلمية، وهو خلاف البند السابع، حيث البند السابع الخلافات بين الدول تحل من خلال مجلس الامن الذي يضع شروط وقواعد ويفرض عقوبات وهذه الشروط والقواعد والعقوبات تفرض وبالقوة على الدولة المعتدية وإن رفضت تطبيقها تستخدم القوة العسكرية من قبل مجلس الامن فتصبح هذه الدولة ملزمة بتنفيذ هذه الشروط والعقوبات ومرغمة على ذلك وبالقوة، ونحن نفذنا هذه الشروط واهمها تعويض الكويت بمقدار 52 مليار دولار كنا ندفع في كل سنة 5٪ من واردات النفط لتسديد هذا المبلغ وانتهينا من تسديد كامل التعويضات في شباط 2022 وبشكل طبيعي بعد تنفيذ هذه الشروط انتقلنا الى البند السادس وهذا يعطينا الحرية للتفاوض السلمي مع الكويت من دون شرط استخدام القوة، إن قرار مجلس الامن رقم 833 يصب لمصلحة العراق في تقسيم خور عبد الله مناصفةً بين الساحل العراقي والساحل الكويتي، ولكن الكويت ارادت اكثر من النصف فراكمت كميات من الاحجار والتربة لإنشاء جزر صناعية لكي تحصل على ثلاثة ارباع خور عبد الله خلاف قرار الامم المتحدة ، واستناداً الى ذلك دفعت الكويت رشاوي عالية لترسيم الحدود البحرية لأنها تعلم انها لا تستطيع ان تفرض بالقوة ترسيم الحدود خلاف القرار 833 إلا إذا وافقت الحكومة العراقية ومجلس النواب العراقي على ذلك، الحمد لله ان التيار الصدري عندما كان في مجلس النواب لم يصادق على قرار ترسيم الحدود عام 2013 ولذلك لم يتحقق شرط الثلثين والحمد لله اصدر مجلس القضاء الاعلى قراره ببطلان قرار مجلس النواب وبذلك سقط الاتفاق العراقي الكويتي الذي باع فيه اغلب القوى والاحزاب السياسية حصة العراق من خور عبد الله للكويت، والآن اهم شيء ان لا تتولى الحكومة العراقية او مجلس النواب إجراء اي اتفاق او معاهدة مع الكويت لإمكانية تأثير الكويت على المفاوضين ولكن افضل شيء لتحقيق مصلحة العراق هو عرض الامر على محكمتين دوليتين الاولى محكمة العدل الدولية في لاهاي لرسم خط الحدود بين العراق والكويت استناداً الى قرار 833 لمجلس الامن والثانية المحكمة الدولية لقانون البحار في هامبورغ حيث تضع الخطوط بشأن الحدود الاقليمية لقاع البحر وملكية ما تحت قاع البحر من آبار نفط وغاز وموارد اخرى والحقوق البحرية للعراق والكويت لمناطق صيد الاسماك والبيئة البحرية..

***

محمد توفيق علاوي

12 أكتوبر 2023

بين هجانة التنظير، واستدراج المقادير ومكر التاريخ

 لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78 - 79

 ربما يعرف التاريخ، من موقع العبر، ما يصنع، ولكن الشعوب، بيقين، لا يعرفون ما يصنعون فيكتور هيغو

 لا تضحك، لا تبكي، ولكن حاول أن تفهم سبينوزا

من المسلم به في أنثروببولوجيا التاريخ، أن الأحكام في القضايا الكبرى للأمم، ينفذها التاريخ من خلال حكامه وأجيال شعوبهم - إن خيرا أوشرا - وهدف التاريخ حينها، تقويم إعوجاج الساسة وإنحراف الشعوب، فيعمل التاريخ عندها على تربية هؤلاء وأولئك - بالتعاقب -، بالإستدراج تارة، وبالمكر تارة أخرى ليعود بالأمور إلى جادة الإعتدال !

ومن هذا المنظور، فإن الحكم على حدث تاريخي لأمة، لا يتشكل إلا من اللحظة التي تستطيع فيها - هذه الأمة - أن تحكم على نفسها، شريطة إن يكون قادتها صالحين، أما إذا كان القادة فاسدين، فلن تحصل هذه الأمة على هذا الامتياز الرفيع إلا في وقت متأخر جدًا عند ما يتلقى هؤلاء الفاسدون (حكاما وشعوبا) حكم التاريخ القهار، مع سخرية المقادير بهم جميعا.

ومن منظور هذه الحيثية أقول: لن يستقيم للأنظمة العربية المطبعة مع إسرائيل، حديث المعتقدين الجازمين في قضية التطبيع الذي تدورحوله منذ البداية ضروب الشك والريب والظنون، ما لم يفصل خبراء هذه الأنظمة في المفهوم: لغة - عقيدة - إيديولوجية. ومبدئا - قوميا انتماء طنيا. !

وحتى إن حاول منظرو التطبيع السفسطة والمضاربة في الموضوع، بالثرثرة والإختزال والترقيع. فإن الناظرإلى ما يسمى ب التطبيع (العربي - الإسرائيلي) - نظرة المتفحص المُتَّئِد: ابتناء واعتقادا، ثم اعتبارا واستشكالا، فتقويما وانتقاداَ. فلا محالة أنه واجد فيه من جهة نظرأولي، أن الغالب على شبيه الفكرهذا - الذي ليس بالفكر خليق ولا بالتنظير جدير - إنه للهجانة تابع، وللمسخ مُقلِّدْ، وللسفاهة مُوَلِّدْ ومُرَدِّدْ.

ومن جهة نظرثانية، فالمدقق الحصيف لن يجد لهذا المسخ أصولا: (إيديولوجية - فلسفية) أو (عقدية - روحية) أو (فكرية - ثقافية) واضحة المعالم، ولن يعثرفيه على تقاليد سياسية ممنهجة راسخة ـسوى الهذاءة والعدم، اللذان كُسيا لا هوتا مؤدلجا، و نظرية سياسية هجينة. بل أضحى لدى المطبعين العرب، أسلوب حياة وثقافة ومنهج تفكير، تترجمه البعثات الدراسية لدول عربية منذ أزيد من سنوات عديدة، كان يتم إرسالها كبعثات للدراسة والمدارسة والمشاورة في تل أبيب، في مجالات التربية والتعليم والقضاء والتدريبات (الجيو - عسكرية)، ودراسة التاريخ العبري، وتاريخ المنطقة - بالمنظورالتلمودي الصهيوني - بقصد دمج تدريس التاريخ المزيف اليهودي في مقررات التدريس في دول عربستان المُطبٍّعة.

كما أن مفهوم التطبيع (العربي - الإسرائيلي) لا يصمد أمام صرامة التعريفات الواردة في المعاجم المتخصصة في علوم المصطلحات السياسية، وفي دوائرالمعارف الدولية الكبرى - مثل لاروس الفرنسية.

إذ لا نجدلهذا المفهوم العربي الجديد دليلا واضحا: لغويا (سياسيا - ديبلوماسيا) -، ممايجعل هذا المفهوم، مجرد تحصيل حاصل لأشتات فكرلقيط، جُمع من كل المتفرقات المشوشة المبثوثة في التنظيرالصهيوني، وفي إستسرارات التلمودية، Esoterisme، وفي بذاءات الماسونية وفي غنوصيات التورانية المزيفة.

1 - فالتطبيع في اللغة: استعادة الوضع وفقا للقواعد المعتادة. (وفي حالة التطبيع العربي، فمن المعروف من هم الأسياد الذين يضعون القواعد المعتادة ومن هم العبيد الذين يرضخون لأوامر الأسياد. )

2 - وفي السياسة: هو العودة إلى حالة النظام السابق، واحترام القانون بعد ثورة أو تمرد أوفترة مضطربة. أو قطيعة (سياسية) .

بمعنى، أن أنظمة عربستان المطبعة، ظلت تعتبر نفسها - منذ سايكس - بيكو - في وضعية ترقب وإنتظار، وفي حالة معلقة STAND BY، تنتظر العودة إلى النظام القائم الذي قرره من خلقوا الكيان الصهيوني

3 - وفي الدبلوماسية: يعتبر تطبيع العلاقات بين بلدين بمثابة العودة إلى الوضع المعتاد - الذي كان سائدا قبل القطيعة - بعد حرب أو أزمة سياسية

4 - وفي علم الاجتماع: هو عملية اجتماعية يتم من خلالها النظرإلى أن أفكار وأفعال التطبيع مع الأخر على أنها طبيعية. ويتم اعتبارها أمرا مفروغا منه أو طبيعية في الحياة الإجتماعية.

بمعنى، أن هناك نوعين من التطبيع: تطبيع اختياري، يتم بين نظامين متكافئين ومتساويين في الندية والسيادة والكفاءة. وتطبيع قسري يفرضه المحتلون على الدول المحتلة أي بين الدول الأقوى والدول الأضعف التابعة كأذيال وأذناب.

مما يعني على أرض الواقع السياسي لدول عربستان، أنها أنظمة تابعة وفاقدة للسيادة، بل وللشرعية. بل هي منسلخة عن قيمها التاريخية: الدينية والقومية والوطنية، قبلت - عن طواعية – الإندماج في النموذج العبري المزيف، وزج شعوبها في هرطقات تلموديته ك أصل تقييسي وقيمي، يتم عبرها تنمية عملية التقييس التأديبي، لتطال كل شيء في الحياة. وهو ما خطط له ناتانياهو منذ أكثر من عشرين سنة، بمحاولة إكراه الفلسطينيين، والدفع بالأنظمة العربية المشبوهة، إلى الرضوخ للسلوكيات العنصرية المقيتة اليومية الإسرائيلية كأمر واقع statu quo، و كالنموذج الأمثل .

علاقة التقييس التأديبي الصهيوني، ب التقييس التأديبي العربي:

إن ما يسمى ب التقييس التأديبي بالتطبيع الصهيوني - بكل وجوهه - يطرح النموذج أولًا، كقاعدة راسخة توجيهية، للفصل النهائي بما هو طبيعي، وغير طبيعي وهوما يسمى ب ب التطبيع التأديبي . بحيث أن الطبيعي هو ما تراه الصهيونية والغير الطبيعي هو ما يراه المعارضون لها.

وأمام استحالة تطبيق هذ التطبيع التـأديبي - على الشعب الفلسطيني منذ الإحتلال - أي منذ 48، فقد أملاه ناتانياهو على أنظمة عربستان - رغم إستحالته – التنظيرية: (الإيديولوجية، والدينية العقدية والفلسفية) - مما يدل على الغباء المفرط للمطبعين العرب - وهذا جانب تفصيلي -

وفضلا عن هذا وذاك، ففي نهاية المطاف، فما يسمى بالتطبيع العربي، ما هوسوى إضفاء الطابع الرسمي والشرعية للخيانات العربية، منذ قبول الساسة العرب لمؤامرة سايكس - بيكو، وما تم الإعلان عنه رسميا أمام العلن عقب حرب رمضان عام 73.

وبالتالي، فكل إجراءات التطبيع (العربي - الإسرائلي) السابقة والحالية واللاحقة - هي خيانة بالإصطلاح – وخروج عن الملة والدين، ونبذ للأعراف الإنسانية النبيلة، وهي نتاج تاريخ خيانات أنظمة عربية لا تنتهي منذ بدايات القرن الماضي الذي بدأت بمراسلات (الحسين - ماكماهون) 1915 - 1916: كقاعدة بيانات للوثائق الرئيسية في القضية الفلسطينية والصراع (العربي ـ الإسرائيلي) –التي زودتنا بالنصوص الكاملة للاتفاقيات والمعاهدات والرسائل والوثائق الرئيسية المأخوذة من مصادرها الأصلية للدراسة الموضوعية الأكاديمية لمرحل التطبيع منذ نشأته - رسميا - على يد الشريف حسين بن على، ونجليه اللذان اعتليا عرشي العرق وبلاد الشام، وعلاقة هذين بتمجيد الصهينة على أنها صنو للعمومة العربية للأنظمة الأوليغارشية العربية (ذات الأصول القرشية الأعرابية المكتسية بالقشرة الإسلاموية والجوهر جاهلي) . كما أكد ذلك الملك فيصل - نجل الشريف حسين - لحاييم ويزمان : رئيس منظمة الصهيونية العالمية وأول رئيس لإسرائيل.

 التطبيع تكريس للخيانات العربية مند عام 1936

خيانة حكام الأوليغارشية العربية ليست بالجديدة، بل هي تاريخ لا ينتهي، منذ الثورة المزيفة العربية الكبرى عام 1916، كتعبير عن طموح الشريف الحسين بن علي ليصبح خليفة للعرب وللمسلمين، بعد الوعود التي قدمتها له الحكومة البريطانية، حينما اختارته وشجعته ليكون حاكما على المناطق العربية التي كانت تحت سلطة العثمانيين (ثم تم الرمي بطلبه في سلة القمامة من طرف الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون - من الحزب الديوقراطي زمنها) وكسب العاهل الهاشمي من الغنيمة بالإياب. إلى أن جاءت لحظة حقيقة خيانة الحكام العرب في عام 1948، فجوزي جميع الخونة العرب جزاء سنمار (وكذا سيجازى المطبعون الحاليون والخونة المحتملون القادمون) حيث أن الجيوش العربية وحكوماتها ظلت تتحكم فيها القوى الاستعمارية، ولم تقم بأي استعداد جدي لدخول الحرب ضد اليهود الصهاينة، مما دفع الشهيد عبد القادر الحسيني إلى الصراخ في وجه أحد المسؤولين العرب وزمنها، قائلا: أنتم خائنون، وسيكتب التاريخ أنكم أضعتم فلسطين،

لا جديد تحت الشمس في بلدان عربستان المطبعة:

تسعى دول عربستان المطبعة - صاغرة - للإسرائيلي وللأمريكي - محو اسم فلسطين من خارطة الشرق الأوسط الجديد (كمفهوم أمريكي صدر على لسان، كوندوليزا رايس، وزيرة خارجية الولايات المتحدة عند الهجمة الإسرائيلية على لبنان في عام 2006) بهدف الزج بفلسطينيي الداخل داخل الأسرة الكاملة والصهينة المطلقة، أو التهويد القسري، والرمي بالمتمردين والعاصين عن الدمج والتهجين بالتسكع والتيه في بقاع الأرض.

إتفاقية كامب ديفيد، أس الأسس في التطبيع العربي الحالي:

خيانة حكام عربستان لن تنتهي، منذ بعيد اتفاقيات كامب ديفيد الموقعة في 17 سبتمبر 1978 بين الدولة المصرية ودولة الكيان العبري. وفي 26 مارس 1979، تم إتمام معاهدة سلام بين هاتين الدولتين. وبعد ستة عشر عاماً، حذت المملكة الأردنية حذو مصر في26 أكتوبر 1994.

التطبيعات المتلاحقة التي لن تنتهي: خضوع دول عربستان المطبعة للتوحيد القياسي للصهينة :

هذه هي التطبيعات بكل أنواعها وأشكالها، من خلال التوحيد القياسي هي الخنوع للمعايير الإسرائيلية الصهيونية أو الخضوع الكلي للصهينة . فمنذ كامب دايفيد، تم إثراء قائمة الدول العربية الموحدة بأعضاء جدد: الإمارات العربية المتحدة، البحرين، السودان، والمغرب. والنظام السعودي في الطريق يقينا - بموجب عوامل كثيرة كجانب تفصيلي -

التطبيع العربي: إضفاء الطابع الرسمي للخيانة العربية

تجدر الإشارة إلى أنه، باستثناء مصر جمال الناصر، كانت للدول المذكورة علاقات تطبيعية غير رسمية مع الكيان الصهيوني. وبالتالي فإن المصطلح المناسب لوصف هذا التطبيع هو إضفاء الطابع الرسمي للخيانة العربية

بعض الأحداث التاريخية المسوغة لتوسيع رقعة التطبيع (العربي - الإسرائيلي):

من المهم التذكير بإيجاز بالأحداث التاريخية التي فتحت الطريق أمام الكيان الصهيوني للتوسع الصهيوني الجغرافي الرمزي من خارج حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة وأهمها:

1 -  انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة في أواسط الثمانينات.

2 -   تضخم أنا ممالك الخليج، مع تنامي دور الحركات السياسية الإسلامية، ذات المنشإ الأنجلوسكسوني، والتي لعبت دورًا أساسيًا في أفغانستان أبان الاحتلال السوفياتي، مع تعملق شنارها في الربيع العربي.

3 - حرب عراق صدام حسين ضد إيران كحرب لا يمكن تفسيرها إلا بجنون عظمة صدام بمباركة القوى الغربية وممالك الخليج.

4 - حربا الخليج الأولى والثانية والاحتلال السياسي والعسكري الأنجلو أمريكي للعراق.

5 - العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006

6 - الربيع العربي: أدي إلى تحجيم القدرات العسكرية للأنظمة العربية لأكبر دول المنطقة المهددة لأمن إسرائيل مثل مصر، وتدمير ليبيا وترويع سوريا المعاديتان للصهيونية وللغرب، على يد الدول الإستعمارية مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة تحت إشراف الأطلسي المقدس .

الربيع العربي، جعل دول عربستان أكثرهشاشة وضعفا؛ حيث أنه طمأن الأوليغارشيات العربية وضمن حماية عروش حكامها، فتحولت تلك الأنظمة إلى مجرد كيانات سمجة حليفة للكيان الصهيوني، مصابة بعقد الإنفصامية والمازوشية، تتلذ بسادية التآلف (الإسرائيلي - الأمريكي) وتصبو - مثل مومسات الشوراع الحمراء - لنيل ود البلطجي الإسرائيلي الحمش الذي سيحميها من إنتفاضات شعوبها–إن انتفضت - وضد الأعداء الخارجيين الوهميين مثل الشيعة الإيرانيين -

7 - اتفاقاية أوسلو التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 مع إسرائيل، وتم نسيانها منذ ذلك الحين، وهي أيضاً عامل مهم في تحرير الأعراف السياسية للطبقات العربية الحاكمة. باستثناء لبنان وسوريا واليمن والجزائر

8 - الهجمة (السعودية - الإماراتية - الأمريكية) على اليمن عام 2015

9 - بسبب غباء الأوليغارشيات العربية المطبعة، فإن الأجيال الفلسطينية الحالية والصاعدة تجاوزت الحل الإنتكاسي لسنوات التسعينات، المسمى ب: بحل الدولتين التي نادي بها الملك الهاشمي عبد الله لتي أطلقها من بيروت،

أما اليوم، فما يسمى ب، بحل الدولتين قد أصبح في خبر كان، فقد تجاوزته الأحداث، وترفضه كلية الأجيال الفلسطينية الصاعدة. وهو حل لصالح الكيان العبري، وإستمرار دار لقمان على حالها مثل السابق: غزة - كأكبر سجن على الأرض - تضل محاصرة ومجوعة ومعزولة عن العالم، وتضل مقاومتها تصنف إرهابية، مع إستمرارا لإنتهاكات اليومية الصهيونية بتدنيس المقدسات الإسلامية والمسيحية والإعتداء على العزل من النساء والأطفال والعجزة، بمباركة ما يسمى زورا ب: المجتمع الدولي – المتحضر المنافق والجبان -

10 - في كل هذه الأحداث، لم تتحمل الجامعة العربية مسؤوليتها. بل على العكس من ذلك، كان غالبية أعضائها من الخونة، وفي أحسن الحالات، كان البعض منهم من المساعدين للاعتداءات الصهيونية والغربية تحت راية الأطلسي.

وأخيرا وليس آخرا، ففي خضم هذه الصراعات الهائلة في المنطقة، وبين خبط الكيان العبري، وخلط التطبيع العربي، لم يتبق للفلسطينيين سوى الصبر والمقاومة و الأمل. ولم يبق ما سيخسرون.

الشعب الفلسطيني، المنكوب، لم يرغب أبدًا في الاعتقاد بأن العدالة والحقيقة لا يمكن أن تضيع إلى الأبد. فهو يصبو إلى الأمل القريب وإلى المستقبل السعيد الأكيد.

لقد ترسخت في ذهن الشعب الفلسطيني، منذ أمد بعيد، أنه سيأتي وقت تُعاد فيه الأشياء إلى مكانها، وتُعاد الأمور إلى نصابها، ويحقق التاريخ عبرته ويعلم دروسه، وينجز الله وعده. وهذا الاعتقاد عميقًا ويقينيا في النفوس الفلسطينية الأبية.

كل مولود فلسطيني يولد على فطرة النخوة والنبالة، وكل واحد منهم يحمل في جيناته بذرة التمرد والمقاومة.

جميع الفلسطينيين من كل الأطياف والأعمار نفد صبرهم من النير الذي ظلوا يعانون منه منذ خُلق الكيان العبري، وكلهم غاضبون من القيود الجديدة التي تتوهمها الأنظمة العربية المطبعة، ومن كل أخاديع الغرب المتنور الكاذب. ومن الأصفاد الصهيونية التي ما فتئت تزداد كل يوم عُدة وعددًا ووحشية وهمجية، جعلت الفلسطينيين يرفضون كل الحلول الوهمية المروجة للسلام الوهمي، ورفض أنصاف الحلول المخادعة إقليميا عربيا. أو دوليا غربيا، وكذا رفض كل أنواع التسويات الترقيعية من طرف أي كان. لقد جعل الفلسطينيون - في أزمنة التطبيع والخيانة العربية وفي تكالب الضباع الغربية -، من طرد الإحتلال كلية هدفًا يجب تحقيقه. فلا حل تقاسم الأرض مع المحتل، أو قبول وساطات سماسرة الشرق والغرب عاد يفيد.

وذلك لأن العنف الإسرائيلي قد يضغط على الدوافع التحريرية الطبيعة للفلسطينيين، لكنه لن يستطيع كبحها أو إزالتها. والمزيد من الضغط عليها من طرف الإحتلال أومن أي طرف خارجي، لن يؤدي إلا إلى جميع القوى اللازمة للانفجار. وإن غداً لناظره قريب.

***

الطيب بيتي

كل شيء حدث فجأة وخلافاً لمنطق الأشياء في عالم يسوده الظلم والرياء وتعدد المكاييل.. حيث يعلو صوت الضحية على غطرسة الجاني القاتل الذي مُرِّغ كبرياؤه في الأرض على رؤوس الأشهاد، فيما ثبت بأن جيشه واستخباراته العمياء مجرد عتاد وتقنيات متقدمة وإرادة ضعيفة ورؤية قصيرة المدى رغم استعانتها بالبوارج الأمريكية التي حملت على متنها قوات من المارينز إلى جانب فرقة متخصصة في تحرير الرهائن؛ لرفع المعنويات الإسرائيلية المنهارة، بعد عملية فلسطينية تقصم الظهر.

إنّها غزة المحاصرة منذ عقود والقابضة على الجمر والعصية على الاختراق رغم ما تتعرض له من عدوان دموي غاشم وأكاذيب تضليلية. فالشمس لا تغطى بغربال.

ومن بين الركام ستخرج المقاومة- كما عودتنا- أشد عنفواناً وكأنها طائر الفينيق الكنعاني الأسطوري.

إنّ عملية طوفان الأقصى بحد ذاتها تُعْتَبَرُ معجزة أخذت تتدحرج كما خَطَّطَ لها قادتُها انطلاقاً من غزة؛ لتقفَ عند عتبات خمس جبهات مترابطة، وهي:

الضفة الغربية التي استجابت طائعة لنداء وحدة الساحات في سياق انتفاضة متنامية وبنادق يقف خلفها أبطال عرين الأسود بإجماع فلسطيني.

أيضاً جنوب لبنان حيث حزب الله صاحب الوعد الصادق الذي أخذ يشاغل الاحتلال الإسرائيلي شمال فلسطين المحتلة في دخولٍ حذرٍ ومدروسٍ لميدان المعركة. مع العلم أن القصف المُتًبًادَلْ والمُشَاِغْلْ لجيشِ الاحتلال ما لبث محاطاً بالخطوط الحُمْر، نظراً لِتَرَاوِحَ مدياتُهُ ضمن منطقةٍ محدودةٍ لا تتجاوز إصبعَ الجليل والقرى اللبنانية المتاخمة للحدود، في سياق الخلاف على مزارع شبعا اللبنانية المحتلة.. حيث نجم عن ذلك قتلى من الطرفين.. كان آخرها إصابة دبابة إسرائيلية، مقابل بلدة مارون الراس، بصاروخ موجه أدّى إلى احتراقها.

ثم تأتي الجبهة السورية المهيأة للانفتاح، حيث أفاد جيش الاحتلال بأن ثلاثة صواريخ أُطْلِقَتْ مساء السبت الماضي من سوريا باتجاه "إسرائيل".

وأخيراً الاحتمال الأبعد بدخول إيران على خط المواجهة والذي يُوَاَجُه بردع معنوي من قبل أمريكا التي أرسلت حاملة الطائرات جيريلارد فورد لهذه الغاية بغية منع أي استغلال ممكن للأحداث.

وفق ما جاء في كلمة جو بايدن الأخيرة التي أيّد فيها حق "إسرائيل" بالدفاع عن نفسها وحرمه على الفلسطينيين، ما أعطى الضوء الأخضر لجرائم الاحتلال، والتزاماً من واشنطن بحماية الكيان الإسرائيلي الذي لا يقوى على العيش بدون الدعم الأمريكي، أيضاً لغايات انتخابية بغية حصول بايدن على دعم اللوبي اليهودي في بلاد العم سام.

فقد بدأت القصة بإطلاق كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) صباح السبت 7 أكتوبر 2023 عملية عسكرية واسعة ضد "إسرائيل" براً وبحراً وجواً، حملت اسم "طوفان الأقصى"، وذلك رداً على الاعتداءات المستمرة التي تشنها قوات الاحتلال على الفلسطينيين في الأقصى الأسير ومدن الضفة الغربية المحتلة.

وسددت العملية ضربتها الموجعة المباغتة إلى العمق الإسرائيلي تاركة اثراً لا يمسح من الذاكرة الإسرائيلية والعقل الصهيوني المصاب برهاب المستقبل والوجود، دون أن تكترث بمواقف دول العالم المجيرة -دون جماهيرها- للاحتلال الإسرائيلي ضمن اتفاقيات استسلام واهية كان آخرها الاتفاقية الإبراهيمية الفاشلة.

واعتبر الخبراء العسكريون في العالم هذه العملية بأنها نموذجية وسيتم تدريسها في الأكاديميات العسكرية المرموقة في العالم، كونها جاءت ملهمة من حيث: دقة التخطيط.. وتوخي السرية التامة أثناء تنفيذها مع تغييب أجهزة الرصد والمراقبة الإسرائيلية عبر الأقمار الاصطناعية أو أنظمة إنذار الجدار العازل الممتد عبر الحدود مع القطاع، والمزروع تحت الأرض بعمق يزيد عن 30 متراً.. والذي أُحْدِثَتْ فيه عدةُ فتحاتٍ تم عبور أكثر من ألف مقاتل نخبوي حمساوي من خلالها، دون رصدها من قبل أكثر أنظمة الاستخبارات تطوراً في العالم والتي تضم كلاً من المخابرات العامة (الموساد)، والمخابرات العسكرية (آمان) وجهاز مخابرات الأمن العام الداخلية (الشين بيت).. بوجود جيش مترهل تم اصطياد عناصره بسهولة، إما من خلال مواجهات مباشرة أو في ثكناتهم.

تمت العملية بعد قصف غلاف غزة بخمسة آلاف صاروخ أصاب معظمها الأهداف بدقة دون تصديها من قبل القبة الحديدية.

أما عن حصاد العملية وفق يديعوت أحرونوت: فإن عدد القتلى وصل إلى ألف إسرائيلي ما بين مدني وعسكري من أعلى الرتب.

وبالنسبة للجرحى فيفوق عددهم ال 2200 جريح، وعدد "المختطفين" الأسرى وصل إلى أكثر من 150.

فيما استمرت المعارك التكتيكية بين قوات المقاومة مع جيش الاحتلال في عدة مواقع بمستوطنات إسرائيلية ظلت خارج سيطرة الاحتلال لعدة ايام.

وهناك توقعات من وجود شبكة من الخلايا النائمة لحماس متصلة بمتعاونين مع المقاومة من فلسطينيي الداخل، أنيط بهم -كما يتوقع- دعم رجال المقاومة لوجستياً توطئة للقيام بعمليات خلف قوات العدو فيما لو حاولت اقتحام قطاع غزة.. وهو ما يتحسب له الإسرائيليون.

الرد الإسرائيلي كان متوقعاً وجاء بدون إنذار للمواطنين الذين تهدمت البيوت فوق رؤوسهم وتم إزالة احياء بكاملها وقد طُلِبَ من أكثر من 2200 مواطن فلسطيني ممن فقدوا بيوتهم، التوجهَ نحو الحدود مع سيناء.

فجاء رد المقاومة بالمثل من خلال الطلب من سكان أكبر مدينة في الغلاف، سيدروت، الخروج منها، ففاضت شوارع المستعمرة بالفارين من جحيم ما وعدت به المقاومة.

ونجم عن القصف الإسرائيلي الهمجي وفق وزارة الصحة في غزة حتى مساء الأمس الثلاثاء،830 شهيداً و 4250 جريحاً .

ولعل من أهم أهداف عملية طوفان الأقصى:

- الرد على ما كان يخطط له الأمريكيون إزاء توقيع الاتفاقية الإبراهيمية بين الرياض وتل أبيب برعاية واشنطن.

- القيام بأسر أكبر عدد ممكن من الإسرائيليين للقيام بصفقة تبادل أسرى بغية تصفير السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين.

- الرد على اعتداءات رعاع المستوطنين على الفلسطينيين في الضفة الغربية والمسجد الأقصى تحت حماية جيش الاحتلال الإسرائيلي.

أما بالنسبة للسيناريوهات المحتملة لمآلات الحرب وفق تقديرات الخبراء العسكريين عبر الفضائيات:

أولاً:- احتلال قطاع غزة على أرض محروقة وتصفية حركات المقاومة أو تقسيم غزة وتحويلها إلى ثلاث مناطق غير مترابطة.

وهذا مستحيل في ظل وجود مدينة أنفاق متكاملة الخدمات تحت الأرض قد تتحول إلى أفخاخ لمواجهة الاحتلال في حرب شوارع مفتوحة.

وهي مهمة ستكون عسيرة أنيطت بجيش الاحتلال المترهل، إلى جانب ضعف العقيدة القتالية لدى جنوده، أضف إلى ذلك افتقاد الجيش إلى إرادة القتال التي ستختبر في مواجهات مباشرة مع المقاومة التي يتمتع أفرادها بإرادة قتالية لا تلين، وقضية يؤمنون بها، ومصير مرتبط بغزة المحاصرة دون خيارات بديلة، حتى لو تم استدعاء 300 ألف جندي احتياط غير مدرب في أكبر عملية من نوعها على الإطلاق.

ثانياً:- احتلال غزة والقضاء على المقاومة وخاصة حماس، ثم ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء بعد تحويل غزة إلى أرض محروقة بتكثيف الغارات ضمن مخطط "توطين الفلسطينيين في سيناء" والمرفوض على صعيديّ مصرَ والقياداتِ الفلسطينية على اختلافها.

ثالثاً:- الرهان على المفاوضات بين وسطاء الطرفين إذا وضعت الظروف الاحتلال أمام هذا الخيار.

وهذا قد يفسر زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن المرتقبة إلى كل من الأردن ومصر و"إسرائيل" في جانب منها، وقد تكون للضغط على حماس لكي ترضخ لشروط الاحتلال الإسرائيلي الذي تلقى صفعة لا تنسى قد يكون من شأنها أن تدرس في الأكاديميات العسكرية.

وفي ميزان الربح والخسارة فأن عملية طوفان الأقصى وحَّدَتْ الإسرائيليين من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية إسرائيلية لإدارة الحرب المعلنة، اتفق في سياقها نتنياهو مع وزير الدفاع السابق وزعيم "المعسكر الوطني" بيني جانتس.

إلا أن العملية التي استرعت من الإسرائيليين استدعاء الاحتياط وهم من الموارد البشرية العاملة في كافة القطاعات فقد كبدت "إسرائيل" خسائر طائلة سوف تزداد كلما طال أمد الحرب.

فإن وجود الاحتياط في الجبهة سيعطل الاقتصاد الإسرائيلي الذي تكبد حتى الآن خسائر غير محتملة، إلى جانب هبوط قيمة الشيكل والبورصة، وقيام البنك المركزي الأسرائيلي بضخ 30 مليار شيكل لإنقاذه من الانهيار، ناهيك عن أغلاق ميناء عسقلان ومنشآت تابعة له، وإيقاف انتاج الغاز في حقل تمار، ثم وقف بعض رحلات الطيران الكندية والأمريكية إلى مطار اللد، أضف إلى ذلك نقص حاد بالأغذية والأيدي العاملة وخسائر تجاوزت ال 30 مليون دولار نجمت عن الأضرار الناجمة عن انفجار صواريخ القسام بالمباني والمنشآت.

في المحصلة فإن الحقيقة لا تغطى بغربال، وعملية طوفان الأقصى التي دمغت الاحتلال الإسرائيلي وجيشه المهزوم بالعار، ستنتقل إلى المرحلة الثانية من خلال حرب شوارع التي تتوق إليها المقاومة وقد جهزت كل إمكانياتها لخوضها.

ففي حرب الإرادات دائماً ينتصر صاحب الحق، ولكم في الثورة الجزائرية العبر.

***

بقلم: بكر السباتين

11 أكتوبر 2023

كان لـ«الذَّكاء الاصطناعيّ» القدح المعلى في منتدى الإعلام العربي بدبي(26- 27 سبتمبر 2023)، به تكون المدن ذَكية، كلّ شيء يتحرك باللَّمس، المطارات لا تعرف الطّوابير، والطَّائرات والسّيارات تسير وتقف ذاتياً، أدخل في الفنون: التَّمثيل والرَّسم والنَّحت. مما أثار أسئلة في المنتدى، عبرت عن قلق الإنسان، حتى البعض نسى أنّ الرّوبوتات صناعة الذّكاء الطّبيعيّ، فإذا شاع «الاصطناعيّ» يُقابله «الطّبيعيّ».

حاول الإنسان قديماً محاكاة الطّبيعيّة، فجرت محاولات للطيران تقليداً للطيور(محاولتا الجوهريّ صاحب الصِّحاح وعباس التّكارني)، وفكرَ أصحاب العقول برؤية الأشياء عبر الأجسام الصّلبة، بأنَّ اللهَ يخلق شعاعاً يخترق الحيطان، ومَن قال: «لَوْ أَشَاءُ لَصَنَعْتُ رَحًى تَطْحَنُ بِالرِّيحِ»(البلاذُري، أنساب الأشراف)، نُسبت لصانع الرُّحِيِّ في صدر الإسلام، وها هي الرَّياح توُلد الطّاقة، وإن نسيت فلا أنسى تمثيل المعتزلة(القرن العاشر الميلادي) «التُّفاحة» في سقوط الأجسام(النّيسابوريّ، مسائل الخلاف بين البصريين والبغداديين)، فسميتها «تفاحة المعتزلة». إنَّها خيالات ذكية تحولت إلى وقائع. هل يتمكن العقل الاصطناعي التّخيل والإبداع دون الإنسان، صاحب الفِكر والرَّوية؟!

وهل يمكن أنّ يوصف الرّوبوت بالعبقريّ؟ وقد أحال القدماء كلّ خارقة إلى الجن، فحددوا لهذا الذّكاء مكاناً، وهو وادي عَبْقر، نسبوا فن عمران المدن، وجزيل فن الشّعر إلى سكانه الجن. فقال النّابغة الذّبيانيّ(قبل الإسلام): «إلَا سُليمانَ إذ قالَ الإلهُ لهُ/ قُمْ في البَريَّة فأحدُدها عنِ الفنَدِ/ وخيّسِ الجنّ إنِّي قدْ أَذنتُ لهم/ يبنونَ تدْمُرَ بالصُّفّاحِ والعمدِ»(المرزوقيّ، شرح ديوان الحَماسة).

فقديماً عُبر عن الانبهار بالعمران والفنون بخوارق الجن، مع أنَّ المعتزلة، وهم الأقرب للاعتراف بالعقل، وما يفيضه مِن ذكاء طبيعيّ، جاء في تفكيرهم المنطقيّ: «من بركة المعتزلة أنّ صبيانهم لا يخافون الجن» (التَّنوخيّ، نشوار المحاضرة)، وذلك عندما حاول اللُّصوص استغلال ما أشيع عن «الجن» لتغطية لصوصيتهم، فكشفهم المنطق المعتزلي العلميّ. تعبيراً عن الانبهار بحدة الذّكاء اخترع «عبقر» عربياً، وليس ليَّ إطلاع عما إذا كانت بقية الأمم جعلت لحذاقة العقل مصدراً خرافياً، أو جماعةً خارقةً كالجن. قيل: عَبْقَر جبل (معجم البلدان)، وقرية (لسان العرب)، ومنطقة «ثيابها في غاية الحُسُن»، واسم لامرأةٍ (القاموس المحيط)، واسم أرض (ما أتفق لفظه وأفترق مسماه). لكنّ القدماء جميعاً، مع اختلافهم، اتفقوا على أنّ عَبقرَ منزلٌ للجن، ومصدرٌ للحذاقة والعبقريَّة!

هذا، واختلف في البلاد التي تضم المكان الأسطوري، بالتأكيد إنَّ مكاناً يوصف بمصدرٍ للعبقرية تحاول كل البلدان الادعاء به. لكن، ما هو معروف أن جنس الجن لا بلاد له. هذا، ومازال العامة يصفون الحاذق بالجني أو الشَّيطان، لا بالعبقري! حاول ياقوت الحموي (ت: 626هج) التقريب بين الأسطورة والواقع عن عَبْقَر، فقال: «ولعلَّ هذا بلد كان قديماً وخُرب. كان يُنسب إليه الوشي (البُسط الملونة)، ولما لم يعرفوه نسبوه إلى الجن»(معجم البلدان). ظل عَبْقَر وهماً جغرافياً، يقطنه شياطين الشّعراء المطبوعين، ويُنسب إليه كل حاذقٍ في مجاله.

ومثلما يُفسر عَبْقَر لغة «السّحاب تلألأ»، يُترجم العبقري: تلألأ ذكاءً. تقدم العقل، ولا يحتاج إلى «جغرافيا الوهم»، كي تبرر بدائعه بما وراء العقل نفسه، فعُبر عنه بالذّكاء الاصطناعيّ، انسجاماً مع قفزات التّكنولوجيا، بعد أنْ أخذت قصة «عَبقر» دهراً مِن تاريخنا وحيزاً مِن تفكيرنا، يوم كان الفرد مؤسسةً، أما اليوم فالعبقريّة غدت مراكز ومؤسسات، تزحف عليها «الرّوبوتات»، التي احتلت مكانة «الجن»، والمدينة الذَّكيَّة دور وادي عَبْقر، فمِن تركته لقب «العَبقريّ»، ولولا شعاعه الباقي ما صار الرّوبوت عبقريَّاً، لكن ليس المقصود: «ليت السّماءَ الأرضُ ليت مدارها/ للعبقريّ به مكان شهابِ/ يوما له ويُقال ذاك شعاعه/ لا محضُ أخبارٍ ومحضُ كتابِ»(الجواهري، الرُصافي 1959)، فالعبقريّة للإنسان لا صنيعته «الرّوبوت».

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

فصل من كتاب اضطرابات الشرق الأوسط من ساحة التحرير إلى داعش*

بقلم: روبرت ورث

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

مع انحسار آمال ميدان التحرير، أفسحت رؤى الوحدة التي ألهمتها الطريق أمام مرحلة مرعبة. الأشخاص الذين وثقوا ببعضهم البعض لعقود من الزمن رأوا الآن الحواجز تتصاعد بينهم. أصبح العالم فجأة مليئا بالتهديدات لكل ما ه ومقدس: للدولة، للعشيرة، لله. كانت هذه المعارك مصيرية لا يمكن المساومة عليها. كان عليك أن تنحاز إلى أحد الجانبين، وإذا كان صديقك خارج الحاجز، فليكن. تختلف الحواجز من مكان إلى آخر. لكن تحت هذا الاختلاف السطحي، كان هناك نمط شائع يمكن التعرف عليه. في كل بلد، بدا أن تفكك سلطة الدولة يفكك مجموعة من الافتراضات ذات الصلة، كما ل وأن كل هذه الخيوط كانت جزءا من نسيج عثماني أكبر لم يعد من الممكن إعادة نسجه.

كيف حدث ذلك؟ كيف تتحول الكلمة غير المعلنة بين الجيران إلى مادة لحرب أهلية؟ سألت ذات مرة هذا السؤال لمعلمة مدرسة سورية. كانت امرأة في الخمسين من عمرها، ذات وجه طويل ونظارات ذات إطار سلكي مما أعطاها مظهرا فظا خشنا. كان معها ابنها، وه ورجل وسيم لطيف في الثلاثين من عمره يدير منظمة غير حكومية تقدم المساعدة الطبية والمدرسية للسوريين في منطقة الحرب. كنا نشرب الشاي في مقهى فندق على جانب الطريق في جنوب تركيا، حيث كانوا يعيشون في المنفى. "يجب أن تفهم، نحن لم نكن كذلك ." قالت وهي تنظر إلي بإلحاح. كان معظم أصدقائي من العلويين. كان زملائي في العمل من العلويين. جيراننا علويون. لم نفكر حتى في هذا. نحن سنيون، نعم، لكن في بعض الأحيان لم نكن نعرف حتى ما إذا كان هذا الشخص أ وذاك علويا. لم يكن ذلك مهما ".

لقد سمعت نفس الخطاب العاطفي من سوريين آخرين، وأعتقد أنها كانت تعني ذلك. لكن أذهلتني الطريقة التي تغيرت فيها نبرة المعلمة عندما سألتها عن شابة علوية كانت قريبة جدا من عائلتها قبل مغادرتهم سوريا. توقفت قبل الرد. قالت، غير مرتاحة بعض الشيء، أن الشابة كانت "فتاة لطيفة". ثم أضافت: "لكن العلويين ليس لديهم دين. هم طائفة خائنة. لقد تعاونوا مع الصليبيين، وخلال الاحتلال الفرنسي وقفوا إلى جانب الفرنسيين ". وافق ابنها الجالس بجانبها قائلا إن الشعب السوري قد خدع بهم . قال "أما بالنسبة لنا، فسوف نعلم أطفالنا الطبيعة الحقيقية لهؤلاء الناس". "لن يكونوا مثلنا، غير مدركين للطبيعة الحقيقية للعلويين."

كان الأمر مزعجا، هذا التحول المبهج من صوت إلى آخر، من تأكيد الوحدة إلى الافتراء الغاضب. كان من المغري شم رائحة النفاق واتهامهم بإخفاء مشاعرهم الطائفية طوال الوقت. لكني أعتقد أن ذلك سيكون غير عادل. لم يكونوا يكذبون بشأن علاقاتهم القديمة مع أتباع الديانات الأخرى. كانوا يستجيبون لشيء جديد: تغيرت السلطة، وكان النظام القديم يهتز، ولم يعد بإمكانهم التوفيق بين الماضي والحاضر. كانت كلماتهم محاولة للوصول عبر هذا الملاذ، للحصول على الطمأنينة التي جاءت مع الهوية القديمة. حدث شيء مشابه قبل عقد من الزمان في العراق، عندما كشف الغز والأمريكي الافتراض الضمني السني بالتفوق. قال لي سياسي سني في بغداد عندما سألته عن الأحزاب السياسية الشيعية الجديدة التي كانت تدير البلاد فجأة: "يجب أن تفهم، هؤلاء الناس كانوا أصحاب متاجر". يمكنك سماع النغمة نفسها: يجب أن يعرف الناس مكانتهم. كانت الافتراضات في سوريا مختلفة جدا، وفي بعض النواحي أكثر سمية، حيث شعر كل من السنة والعلويين بأنواع معينة من الاستحقاق. لكن انتفاضة عام 2011 أثارت نفس النوع من الفوضى العاطفية.

حدث هذا الانهيار في كل مكان في سوريا، وليس فقط في الأحياء التي تعرضت للقصف والتي أصبحت معالم للحرب: حمص وحلب وضواحي دمشق. كانت نافذتي عبارة عن مدينة متوسطة الحجم تسمى جبلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. كان في بعض النواحي مكانا نموذجيا لرؤية الطريقة التي تشعبت بها انتفاضة 2011 في حياة السوريين العاديين. على عكس المدن الكبرى، حيث ركزت وسائل الإعلام تغطيتها، كانت جبلة بعيدة عن الأضواء في قلب النظام في الشمال الغربي، وظلت سلمية طوال الشهر الأول من الاحتجاجات. كان لدى شعبها مزيد من الوقت للملاحظة، وفي بعض الأحيان لمقاومة الرواية الطائفية التي كانت تجتاح سوريا. تتميز جبلة ببعد خيالي، مع ميناء باهت يعود تاريخه إلى العصر الفينيقي، ومقاهي على جرف تطل على البحر الأبيض المتوسط، ومدرج روماني، وسكان يعكسون بشكل جيد مزيجا من الطوائف الدينية في سوريا. مركز المدينة في الغالب من السنة، وتحيط به التلال المليئة بالقرى العلوية والمسيحية.

من أوائل الأشخاص الذين قابلتهم هناك امرأة شابة تدعى علياء علي. كانت ابنة ضابط متقاعد من الجيش السوري، وكانت تبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما عندما بدأت الانتفاضة، وهي من أشد المؤيدين لنظام الأسد. كان لديها وجه عريض وجميل، مع حواجب محبوكة تنقل مزيجا من الفظاظة والتصميم. كانت ذكية للغاية ومدركة تماما، بفضل عام قضته في إنجلترا، لوجهة نظر الغرب القاسية تجاه رئيسها. على عكس العديد من الموالين، كانت على استعداد للاعتراف بوحشية حكومتها، وفي بعض الأحيان بدت محرجة من الدولة البوليسية السورية. قالت لي عندما التقينا لأول مرة: "هناك الكثير الذي يجب تغييره هنا، وأنا أعلم ذلك". "لكن الحقيقة هي أن الحراك تحول إلى طائفي في وقت أقرب بكثير مما يعتقده الناس." عندما سألتها كيف حدث ذلك، بدأت تخبرني عن فقدان أقرب صديقة لها، مع امرأة سنية اسمها نورا كنفاني. تعرفت لاحقا على نورا، وتطابقت روايتهما عن الصداقة. في اللحظات الأولى لكل منهما أخبرتاني عن شيء حدث في عام 2010، قبل عام من بدء التمرد.

كان ذلك في صباح يوم ربيعي، وكانت المرأتان ترقدان بجانب بعضهما البعض على سرير علياء، كما كانت تفعل في كثير من الأحيان. جاءت نورا بأخبار غريبة ومزعجة. لقد تلقت عرضا للزواج، وأرادت والدتها، وهي طبيبة يقظة وذات وجه مستدير وذات أفكار محافظة، أن تقبله. كانت بالفعل في الرابعة والعشرين من عمرها، وهي أكبر من أن تظل بلا زوج. فشلت علاقة سابقة مع رجل مسن محافظ، أستاذها الجامعي السابق. أخبرت نورا صديقتها أن الخاطب الجديد كان أكثر تحفظا من السابق. قال إنه يريدها أن تتوقف عن الذهاب إلى السينما وأن تقلع عن ارتداء الفساتين القصيرة. قال إنه لن يتسامح مع وجود أصدقاء علويين لها. ما زال صدى كلماته يتردد في ذهنها: "كيف يمكنك أن تكوني صديقة لهؤلاء الأشخاص وأنت تعرفين ماذا فعلوا بنا؟"

صدم السؤال نورا. لم تكن تعرف ما الذي فعله "هؤلاء الناس". لم تأت كلمة حماة إلا بقصص غامضة عن شيء مظلم لا يوصف حدث في تلك المدينة خلال الثمانينيات قبل ولادتها. ظلت عائلتها بعيدة عن السياسة. كانوا عشيرة كبيرة ومحترمة من الأطباء والمعلمين، وقوما صلبين من الطبقة الوسطى ذات الجذور الحضرية وليس لديهم اهتمام كبير بالدين. كانوا يعرفون ما يعرفه الجميع: أن المسلمين السنة يشكلون غالبية سكان سوريا، وربما 70 في المائة، وأن بعض السنة المتدينين يعتبرون العلويين زنادقة ويستاؤون من حكمهم. كان هناك بعض الاستكبار الاجتماعي أيضا: فقد رأت العائلات السنية القديمة أن عائلة الرئيس الأسد - والعلويين عموما - هم من الوافدين الفظّين من الجبال. لكن مناقشة أي من هذا كان من المحرمات في سوريا. لقد سمعت عنها بشكل غير مباشر فقط، مثل اليوم الذي قالت فيه والدة نورا باستخفاف أن "الناس من الساحل" - كان هذا رمزا للعلويين - أرسلوا أطفالهم إلى روسيا للدراسة، بينما أرسلهم "أناس آخرون" (أي السنة) إلى لندن. علياء كانت مستاءة من ذلك وقالت إن ذلك غير صحيح. كانت هي نفسها تدرس اللغة الإنجليزية وتخطط للذهاب إلى بريطانيا. لم يظهر مرة أخرى. ولكن الآن دفعت تعليقات الخاطب المحافظ الموضوع إلى العلن. ضحكت نورا مستلقية على السرير معا في ذلك الصباح، بينما كانت علياء تروي الأساطير الغريبة التي نشرها الناس عن العلويين في سوريا: أن لديهم ذيولا، وأنهم يمارسون العربدة السرية. كان كل شيء بهذا الغباء.

أصبحت نورا وعلياء صديقتين في المدرسة الثانوية ولم ينفصلا منذ ذلك الحين. يبد وأنهما تكملان بعضهما البعض، مثل زوج متطابق من الملائكة الصالحة والأشرار على ألواح متقابلة من سقف كنيسة من عصر النهضة. كانت علياء ذات شعر داكن وشبه عنيفة المظهر، ونورا شاحبة وشقراء، وجهها على شكل قلب ونظرة ناعمة في عينيها. كان منزل علياء على بعد كتلتين سكنيتين وشعرت نورا وكأنها في منزلها تماما، خلعت غطاء رأسها وتركت شعرها مكشوفا بغض النظر عمن كان في المنزل. ما زلن يسرن إلى الجامعة وأذرعتهن عارية، وأخبرت نورا علياء أنها ستسمي طفلها الأول على اسمها. كانت تحسد علياء على ثقتها بنفسها وتعتمد عليها في اتخاذ القرارات. استمتعت علياء، صاحبة الإرادة القوية، الأكبر في عائلتها، برعب نورا وعاطفتها. لم يكن هناك سؤال في الحقيقة، لكن بعد مناقشة الاقتراح لمدة ساعة أ ونح وذلك، لا تزال الاثنان مستلقيتان على سرير علياء، قالت نورا فجأة: "لا يمكنني العيش مع رجل يعتقد أن العلويين لا يجوز التعامل معهم". الزواج يجب أن ينتظر.

بعد تسعة أشهر، في منتصف كانون الثاني 2011، تردد صدى تلك المحادثة في ذهن نورا. كان ذلك بعد الثورة مباشرة في تونس، وفجأة سألها جميع الجيران نفس السؤال. هل ستفعلون ذلك؟ هل ستقومون باحتجاجات هنا؟ كانت فكرتها الأولى تدور حول كلمة "أنت". ماذا كان يعني هذا؟ أنت المعارضة السياسية؟ أنتم أهل السنة؟ أنت العدو؟ لم تكن نورا متأكدة من كيفية الإجابة. كانت متحمسة للصور التي شاهدتها على قناة الجزيرة، خاصة بعد مشاهدة تجمعات ميدان التحرير. كان عماتها وأبناء عمومتها يقفزون صعودا وهبوطا عندما سقط مبارك، لم يتمكنوا من الحصول على ما يكفي. لكن الجيران - وهم الكنفانيون يعيشون في حي يغلب عليه العلويون - بدوا قلقين وخائفين مما قد يحدث. اقتبس أحدهم خطاب القذافي المجنون عن مطاردة المتظاهرين "بيتا بيتا". قال لإحدى عمات نورا: "بشار سيفعل نفس الشيء معك". وأخبرها آخر أنه سمع العمة تقول إنها دعمت الثورات، وقال لها نصف ممازحا أنه سيطلق النار عليها. كان الوضع مقلقا. كان هؤلاء الأشخاص لديهم مفاتيح شقتهم، وقد ساعدوا في تربية نورا وأبناء عمومتها منذ أن كانوا أطفالا.

ثم، في منتصف شهر آذار، بعد اندلاع التمرد في سوريا مباشرة، حدث شيء أخافهم جميعا. كانت نورا جالسة في شرفة خالتها مها مع والدتها وبعض أبناء عمومتها، تتنفس هواء الربيع وأصوات وروائح ليلة الخميس: كباب ودخان التبغ والضحك. وعلى الطريق بجانب منزلهم، بدأ صف من السيارات بالتجمع، بالعشرات، ورجال بالداخل يضحكون ويطلقون الزمر ويلوحون بالأعلام من نوافذهم المفتوحة. بدا الأمر أشبه بمظاهرة احتجاجية. لكن لم يمض وقت طويل حتى تفجر الواقع. بعض السيارات كانت من سيارات الدفع الرباعي عليها نوافذ معتمة وصور الرئيسين بشار وحافظ الأسد. لقد نزلوا من الجبل، قلب العلويين. هؤلاء كانوا جنود نظام الأسد، وقد جاؤوا ليؤكدوا أنفسهم ويظهروا أسنانهم. بدأوا يرددون الشعارات التي لطالما سمعتها في تجمعات النظام: "يعيش الرئيس!" و"الله وسوريا وبشار!" راقبتهم عائلة كنفاني لبضع دقائق، وشعروا بعدم الارتياح حيالهم. لقد رأوا هذا مئات المرات من قبل. لكن مع تصاعد الاحتجاجات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بدا الأمر مختلفا. قناة الجزيرة منحتهم الثقة. وقف أحد أبناء عمومة نورا، وه ورجل مندفع يبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما، يُدعى طارق، دون سابق إنذار ونزل إلى الشارع وقال بصوت عال: "مهلاً! إنه ليس "يعيش الرئيس". يجب أن تقولوا "الله وسوريا والحرية". وه وشعار المتمردين. على الفور، صمت الشبان الموجودون في السيارات. توقفت الأبواق. قامت إحدى عمات نورا الأخريات واسمها إيما وقبضت على ذراع طارق وطلبت منه الجلوس بحزم. ولفترة طويلة، وجدت العائلة نفسها في دائرة الضوء الافتراضية، حيث حدق بهم العشرات من الشبان العلويين المعادين. لم يقل أحد على الشرفة أي شيء. أخيرا بدأت السيارات في التحرك. وحدثته أيما بصوت خافت وبخوف شديد: "أنت لا تعرف هؤلاء الناس. إنهم وحشيون. ما نقوم به قد يكلفنا أرواحنا وشرف بناتنا ".

حدث هذا قبل سماع أول هتاف احتجاجي في جبلة. لكن بالفعل، كان هناك صوت آخر في الهواء، وه وتناقض مظلم لأغنية نافخ البوق Pied Piper للثورة والوحدة العربية التي كانت الجزيرة تعزفها لمدة ثلاثة أشهر. قبل أسبوع من المواجهة المسائية على الشرفة في جبلة، أرسلت المملكة العربية السعودية دباباتها عبر الجسر المكون من ثمانية حارات إلى مملكة البحرين الدمية، مما وضع حدا للانتفاضة هناك. تم تدمير ساحة اللؤلؤة، وتحرير البحرين، وإعادة رصفها. لم يكن أحد بحاجة إلى ترجمة ما يحدث: كانت القوة السنية العظيمة في المنطقة تعلن أنها لن تتسامح مع احتجاج يقوده الشيعة. كادت تسمع طقطقة دروع يتم إعادة ترتيبها في دول المنطقة، من المشرق إلى المغرب. لسنوات، كانت الفظائع اليومية للحرب الأهلية الطائفية في العراق حكاية تحذيرية مثالية للديكتاتوريين. كل ما كان عليهم فعله ه والتوجه نح وبغداد وسيتلاشى الحديث عن الديمقراطية ويصمت. نجحت الأمور حتى عام 2011. والآن، إيران والمملكة العربية السعودية، قطبا الإسلام الشيعي والسني، كانا يدوران حول بعضهما البعض مرة أخرى، مثل كلبتين بولدوجتين عظيمتين. كان على المتظاهرين السوريين الغناء بصوت عال لإغراق ذلك النباح.

***

في هذا الوقت تقريبا، في أواخر آذار 2011، دخل جنرال سوري رفيع المستوى يُدعى مناف طلاس إلى القصر الرئاسي في دمشق لعقد لقاء فردي مع الرئيس بشار الأسد. تعانق الرجلان على الطريقة السورية، ممسكين بالمرفقين، وثلاث قبلات سريعة على الخدين، قبل الجلوس. قاما بإقتران غريب. كان الرئيس طويل القامة يحني الرأس بزاوية ويرتدي بدلته الأنيقة، مع يقظة تشبه الطيور ورقبة ورأس ممدودتين مما جعله يبد وكما ل وأنه رسمه إل جريكو. كان طلاس أقصر وأكثر استدارة، بشعر أشعث ومظهر جميل للمراهقين. يبد وأن قميصه نصف المفتوح يؤكد سمعة اللاعب المستهتر التي كان يتمتع بها لسنوات. كانا يتشاركان في رابطة سلالة: طلاس الوالد كان اليد اليمنى لوالد الرئيس بشار حافظ الأسد. لكنهما لم يكونا قريبين. كان طلاس الابن صديقا مقربا لأخ بشار الأكبر، باسل، الوريث الظاهر. توفي باسل في حادث سيارة عام 1994، وتضاءل نفوذ طلاس منذ ذلك الحين.

كان عمر الانتفاضة السورية أسبوعا وقت اجتماعهما. لقد بدأت جنوبا في مدينة درعا، حيث قام المراهقون برسم رسالة إلى الرئيس الأسد على الحائط: حان دورك، أيها الطبيب - في إشارة لا لبس فيها إلى مصير بن علي ومبارك والقذافي. كان رسام والكاريكاتير العرب يشيرون إلى نفس النقطة منذ أسابيع، مع صور للرئيس بشار متوتر يقف في طابور للإقالة. لم يعتقد النظام السوري أن الأمر مضحك. وأمر مدير الأمن الإقليمي، وه وابن عم بشار يدعى عاطف نجيب، باعتقال الشباب وتعذيبهم. قيل لآبائهم، وفقا للأسطورة، انسوا أطفالكم. عودوا إلى المنزل وأنجبوا المزيد من الأطفال، وإذا كنتم لا تعرفون كيفية إنجابهم، فسنعلمكم ذلك. كانت تلك الشرارة. انطلقت الاحتجاجات في درعا وانتشرت بسرعة في دمشق وبانياس والحسكة ودير الزور. لقد استجابت الدولة البوليسية السورية كما فعلت جميع الدول البوليسية عندما تعرضت للتهديد: بالرصاص. نمت المظاهرات بشكل أكبر. بدت سوريا وكأنها تحذ وحذ وتونس ومصر وكل الآخرين. لكن الجميع كان يعلم أن الرئيس بشار الأسد كان يترأس نظاما أكثر وحشية ولن يسقط بسهولة.

بعد دقائق قليلة من الحديث طرح بشار سؤاله بصراحة كبيرة: "ماذا ستفعل؟" كان طلاس مستعدا للسؤال وأعد إجابته مسبقا. أخبر طلاس الرئيس أن الوقت لم يفت بعد لتهدئة الأمور، لكن الأمر سيتخذ إجراءات قوية. قال طلاس: اذهب إلى درعا بنفسك. أقل عاطف نجيب وأكثر من ذلك ضعه في السجن. هذا سيرسل رسالة. القوة ليست هي السبيل للفوز. تطوع طلاس للعب دور من خلال الاجتماع مع المجالس المحلية في عدة مدن وتحديد المظالم الملموسة التي يمكن معالجتها: الشرطة والفساد ونقص المياه والكهرباء. هذا من شأنه أن يبعد الناس عن الشوارع. بعد التحدث لمدة خمس عشرة دقيقة، توقف طلاس مؤقتا. بدا الرئيس بشار مهتما. شجع طلاس على البدء على الفور. لكن الرئيس كان سيئ السمعة لأنه جعل كل ضيف يعتقد أنه تم أخذ نصيحته على محمل الجد. عندما صافح طلاس يد الرئيس وقال وداعا، متتبعا خطواته للخروج من القصر، كان آخرون في طريقهم للدخول، مع تأثير أكبر بكثير ونصائح مختلفة للغاية. قبل نهاية عام 2011، كان جيش الأسد يستخدم الدبابات والطائرات المقاتلة لقصف أحياء بأكملها وتحويلها إلى أنقاض. كانت ميليشياته العلوية، الشبيحة، تقتل المدنيين السنة في منازلهم وتترك شعارات طائفية مكتوبة على الأبواب. إن القلائل من العلويين الذين تجرأوا على دعم المعارضة في الأماكن العامة سيعانون من العزلة والعار والتعذيب إذا استمروا. كان الأسد سيطلق سراح الجهاديين السنة بشكل جماعي من سجونه، على أمل تحويل المعارضة إلى جبهة إرهابية كان يسميها منذ البداية. كان سيفعل كل ما في وسعه لتحويل الانتفاضة الديمقراطية إلى شيء أكثر شراسة بكثير، وه وشيء قد يتراجع عنه العالم الخارجي بدلا من احتضانه.

***

أخبرتني علياء أنها واجهت صديقتها لأول مرة أثناء قيادتهما لإحدى رحلاتهما على طول الساحل في منتصف أذار 2011. كانت نورا تقود السيارة. "ماذا تقصدين أنك ضد النظام؟ ألا تعتقدين أن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك؟ " قالت علياء. "بالطبع هناك الكثير من الأخطاء هنا. لكن هيا، أنت تقضين معظم وقتك في التفكير في الأحذية والملابس. منذ متى قررت أن تصبحي ناشطة سياسية؟ " أبقت نورا عينيها على الطريق وتمسكت بموقفها. لقد ناقشتا الثورات في تونس ومصر عدة مرات، لكن هذه كانت المرة الأولى التي تتخذ فيها نورا موقفا ضد الرئيس بشار الأسد.

قالت نورا: "حسنا، أعلم أنني لست مثقفة في السياسة، لكنني لا أريد بشار أن يكون رئيسي. إنها بهذه السهولة. أريد أن يحصل ابني على فرصة ليكون رئيسا. هل يمكنك أن تحلمي بأن ابنك سيكون رئيسا في يوم من الأيام؟ " لم تقل علياء شيئا. شعرت نورا بوخز الذنب وتساءلت عما إذا كانت قد ذهبت بعيدا. ليس لأن علياء تمانع، بل لأنها سوف تغضب الجيران بالتأكيد من هذا النوع من الكلام؛ كان هذا الكلام خطا أحمر، وكانتا تصلان إلى منزلها الآن، والنافذة مفتوحة. فتحت علياء الباب، ثم انحنت لتقبيل صديقتها على خدها. وقالت: "أراك غدا"، وكأن شيئا لم يتغير.

كانت نورا قد فاتتها المظاهرة الأولى في جبلة، مما جعلها أكثر استعدادا للتحدث. كان ذلك في 25 أذار، وفي ذلك الصباح أضاءت الرسالة على آلاف الهواتف المحمولة بينما تجمع الناس لأداء صلاة الجمعة: اجتمعوا خارج "مسجد أب وبكر". بدأ الناس في الظهور في حوالي الساعة الواحدة، العشرات في البداية، ثم المئات، وأخيرا الآلاف. وصلت الثورة إلى جبلة أخيرا. وهتفوا "الله وسوريا والحرية"، ثم ساروا عبر المدرج الروماني القديم إلى المجمع الحكومي في وسط المدينة. كانت هناك مجموعة صغيرة من ضباط الشرطة يراقبون، وربما تواجد الكثير من الآخرين في ثياب مدنية، لكنهم وقفوا جانبا وحدقوا بتصرفات الناس. كان معظم أفراد عشيرة كنفاني هناك، بما في ذلك عمة نورا مها وشباب العائلة وأطفالها. لم تكن نورا كذلك. كانت والدتها زهرة قلقة مما قد يحدث ولم ترغب في المخاطرة بوظيفتها كطبيبة نسائية في مركز الفيض الطبي. عندما سمعت نورا عن المسيرة بعد ذلك من أبناء عمومتها، وكلهم متوهجون ومفعمون بالحيوية، شعرت بالغيرة. لقد قررت الانضمام في المرة القادمة. بدأت في صنع لافتات الاحتجاج في المنزل باللغتين العربية والإنجليزية. بعد أسبوع، انضمت إلى أبناء عمومتها وتحدثت في الميكروفون على خشبة المسرح، متجاهلة تحذيرات والدتها. قالت لنفسها إن الثورات تأتي مرة واحدة فقط في حياتك.

خلال تلك الأيام الأولى، شاركت علياء ونورا في تصورهما بأن بدأ العالم ينقسم، مثل المتحدثين بنفس اللغة الذين تقطعت بهم السبل فجأة في جزر مختلفة. سمعت علياء نفس هتافات الاحتجاج مثل صديقتها، لكنها وجدتها تهدد. جلب أقاربها وأصدقاؤها الواحد تل والأخر قصصا عن المتظاهرين الذين ألمحوا إلى نوايا دموية وأجندات طائفية. تعرض أحمد، وه وزميل علوي كانت قد ذهب إلى المدرسة معها، للضرب في أول احتجاج من قبل حشد من رجال سنة غاضبين. كانت ذراعه مكسورة، وكان من الممكن أن يكون الأمر أسوأ ل ولم يهرع بعض الأصدقاء السنة في حشد الاحتجاج وحمايته، ثم نقلوه لاحقا إلى المستشفى. في تلك الليلة، عاد نفس الأصدقاء إلى منزله للاطمئنان عليه. قال لي أحمد بعد عامين: "قالوا شيئا صادما جدا لي". "قالوا لي،" من الآن فصاعدا يجب أن نكون معك كلما ذهبت إلى حي سني ". لم يكن لدينا هذا النوع من اللغة في جبلة من قبل." شعرت علياء وأقاربها بالقلق أيضا من أن الاحتجاجات تأتي دائما من المساجد، وأن جميع المتظاهرين - أ وجميعهم تقريبا - كانوا من السنة. لماذا؟ في غضون أسبوعين، تسللت تلميحات اللغة الطائفية إلى شعارات الاحتجاج. كان أحدها "لا نريد إيران، لا نريد حزب الله، نريد من يتقي الله". كانت هذه لغة محملة في سوريا: صافرة كلب للسنة للوقوف ضد أعدائهم الشيعة، بمن فيهم العلويين.

في أوائل نيسان، كانت علياء تقود سيارتها على طريق بالقرب من الساحل، على بعد عشرين ميل من المنزل، عندما سمعت دوي انفجارات وإطلاق نار استمرت عدة دقائق. أصيب السائقون بالذعر. لا أحد يعرف من أين أتت. فقط بعد عودتها إلى منزلها في جبلة، علمت أن تسعة جنود سوريين قد تعرضوا لكمين وقتلوا في مكان قريب ( مدخل مدينة بانياس على الطريق الدولي). وتبين أن ثلاثة منهم من جبلة. سرعان ما نشرت وسائل الإعلام المعارضة قصة انتشرت في القنوات الإخبارية الأوروبية والأمريكية: القتلى كانوا منشقين محتملين قُتلوا على يد رؤسائهم في الجيش السوري. تتلاءم القصة بدقة مع قصة انهيار النظام والانشقاق التي كانت تتعزز باستمرار على قناة الجزيرة، الناطقة بلسان التمرد. لكن لم يظهر أي دليل على القصة على الإطلاق. وأظهر مقطع فيدي والتقطه أحد الهواة في مكان الحادث أن القتلة كانوا مسلحين من المتمردين في منطقة بانياس على الطريق الدولي بين طرطوس وجبلة. بالنسبة لعلياء وصديقاتها، فإن الأمر يتناسب مع نمط مختلف: المحتجون وحلفاؤهم كانوا ينشرون الأكاذيب والتضليل، ويرفضون الاعتراف بالعنف الذي يظهرونه تجاه الغير.

كررت علياء هذه القصص لنورا لكنها رفضت تصديقها. قالت نورا إن الاحتجاجات كانت سلمية ولم تكن هناك لغة طائفية. كانت الحكومة هي التي تنشر هذه الشائعات. وقالت إن الحكومة، التي ارتفع صوتها بشكل غير معهود إلى الغضب، كانت تقتل الأبرياء في جميع أنحاء سوريا. سألت علياء ما الذي جعلها متأكدة. الكل يعرف أن الجزيرة كانت منحازة، فلماذا يفعل الرئيس الأسد مثل هذا الشيء؟ وأصرت على أنه "ليس من المنطقي" أن تقتل الحكومة شعبها. شعرت نورا أن ذلك كان منطقيا. كانت عمتها مها تخبرها بأحداث حماة عام 1982، عندما جلب النظام دباباته وسحق التمرد الإسلامي هناك، مما أسفر عن مقتل حوالي عشرين ألف شخص. قالت مها إن الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير وقالت لها: "لقد دفعنا الثمن في المرة السابقة، ولن ندفعه مرة أخرى". لطالما كانت مها أكثر عماتها تصادما، وكانت تنظر إلى الموضوع بوجهها الرجولي والنظرة الجريئة. الآن استمعت إليها نورا بشعور من الرهبة وحتى بقليل من التوبيخ الذاتي، وكأنها قضت حياتها لا تعلم عن حقيقة كانت في متناول يدها.

لكن مع علياء شعرت بأنها لا تستطيع أن تطرح كل هذا. سيكون أكثر مما ينبغي. لذا تراجعت، وعادت إلى شخصيتها العجوز الوديعة. قالت: "ربما سمعنا أشياء مختلفة". وتوقف الأمر هنا.

صمدت جبلة لفترة طويلة ضد اندلاع العنف في أماكن أخرى في سوريا لمدة شهر كامل بعد الاحتجاج الأول في أواخر آذار . سمحت الشرطة للمظاهرات بالاستمرار. شكلت مجموعة من المواطنين البارزين لجنة لمقاومة الشائعات الطائفية التي استمرت في الانتشار (عادة ما تضمنت رجالا يقودون سيارات الجيب ويطلقون النار على الأحياء). بدا أن النظام يختبر الوضع، ويبذل جهودًا لقمع الاحتجاجات دون عنف.

دعا كبار ضباط النظام مرتين أعضاء من عشيرة كنفاني الموسعة لإجراء مناقشات. يبد وأنهم كانوا يعتمدون على دعم الكنفانيين، ربما لأن العائلة لديها الكثير من الأصدقاء العلويين. في المرة الأولى، تم الاتصال من خلال صديق للعائلة مهندس علوي بارز. عرض استضافة الاجتماع في منزله في جبلة، حيث سيكون الكنفانيون أكثر راحة. لطالما كان لقاء مسؤولي النظام أمرا مخيفا في سوريا، خاصة في المباني الحكومية، حيث غرفة التعذيب الموجودة في الطابق السفلي ليست بعيدة أبدا. هذه المرة وصل زوج العمة مها واثنان من أبنائها إلى منزل صديقهم، وكان ينتظرهم في غرفة المعيشة رجل يرتدي بدلة باهظة الثمن. تعرفوا عليه على الفور: كان المهندس علاء إبراهيم، رجل أعمال ثري للغاية وله علاقات وثيقة مع النظام. صافحهم وأجرى محادثة قصيرة مهذبة. ثم سأل عن الحركة الاحتجاجية ومطالبها ولماذا اختاروا الانضمام إليها. وقال مهيار، الابن الأكبر لمها، إنه ليس لديه اعتراض على بقاء الرئيس بشار الأسد في منصب الرئاسة، لكنه يريد أن يرى الإصلاحات. تجاذبوا أطراف الحديث لمدة خمسة عشر أ وعشرين دقيقة. ثم قام شقيق مهيار الأصغر طارق - وه ونفس الشخص الذي وقف قبل أسبوع أ ونح وذلك فقط وصاح على أنصار النظام في السيارات – وألقى قنبلة قائلا: "يا سيد إبراهيم، "أنت مفكر ومتعلم ومحترم للغاية - فلماذا لا يمكنك أن تكون رئيسا لنا، على سبيل المثال؟ لماذا يجب أن يكون بشار؟ "

على الفور، تصلب جسد إبراهيم. تغيرت نبرة الاجتماع وحذرهم من أن استهداف الرئيس خط أحمر. قال إن سوريا ليست مصر أ وليبيا أ وتونس، وإذا فشلوا في فهم ذلك سيندمون. نهض الرجال. بعد مصافحات وابتسامات ودية، غادروا المنزل.

حدث الاجتماع الثاني، بعد أيام قليلة، وكان أقل متعة. هذه المرة تلقت العائلة اتصالا من الأمن السياسي، مركز أعصاب نظام الأسد في جبلة. طالب الصوت في الهاتف رجال الأسرة بالحضور إلى المقر. كانت هذه طقوسا متكررة في دولة الأسد البوليسية، لكنها مع ذلك مرعبة: تم القبض على الكثير من الأشخاص وسجنهم لأشهر بأدنى الذرائع. عندما وصلوا، تم إحضار زوج مها والأبناء إلى مكتب مسؤول يدعى سامر سويدان وه ومكتب قليل الأثاث. جلسوا. "ماذا تريدون؟" قال سويدان. لديكم بيت، لديكم وظيفة، براتب أربعين ألف ليرة سورية في الشهر [حوالي 850 دولارا]. ألا يكفيكم ذلك؟ " أجاب مهيار أولا. قال: "الأمر لا يتعلق بالجوع والفقر". نريد الكرامة، نريد القانون والمؤسسات المدنية. نريد أن نشعر بأننا شركاء حقيقيون ". استمر النقاش لفترة. ثم كسر طارق القواعد مرة أخرى. كان يشاهد قناة الجزيرة، وشعر أن الثورة لا بد أن تنتصر. أراد أن يكون بطلا. قال: "لا أريد بشار رئيسا". "لماذا لا نصوت؟ لماذا لا نقرر من ه والرئيس؟ "

ساد الصمت ونظر إليه سويدان ببرود. قال "فكر مليا". "يمكنني أن ألقي بك في السجن الآن." رفض طارق أن يتعرض للترهيب. قال: "حسنا، ألقني في السجن". "على الأقل سيكون لدي كتبي، يمكنني الدراسة هناك. ولكن إذا كنت متفرغا، فسوف أذهب إلى الشارع وأسمح بصوتي أن يُسمع مثل أي شخص آخر ". حبس والد طارق وشقيقه أنفاسهما. لكن الضابط سمح لهم جميعا بالعودة إلى منازلهم. لم يكن النظام مستعدا للعب الكرة القاسية في جبلة. ليس بعد.

بحلول منتصف نيسان 2011، كان المتظاهرون لا يزالون في شوارع جبلة. أشعلت المعاملة الوحشية للمحتجين في المدن السورية الكبرى - التي تُبث كل يوم على قناة الجزيرة - غضبهم، وزادت مطالبهم وجعلتها أكثر جرأة. وهم يهتفون الآن: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وه والشعار الذي أسقط مبارك، والأخطر من ذلك، "في الأرض، سنضع بشار تحت الأرض". في 24 نيسان، بعد ساعات من لقاء أخير بين محافظ اللاذقية ومجموعة من المتظاهرين، نفد صبر النظام أخيرا على جبلة.

كانت والدة نورا، زهرة، في طريق عودتها إلى منزلها بعد ظهر ذلك اليوم من اللاذقية، وهي مدينة أكبر على بعد ساعة من جبلة، عندما رأت شيئا ما يندفع في مرآة الرؤية الخلفية: سيارة جيب عسكرية تقود بسرعة كبيرة، مع رجال يرتدون ملابس مموهة يمسكون بالبنادق الآلية. توقفت مرعوبة وانتظرت قليلا. مرت قافلة كاملة من الجنود. تم إيقاف سيارات مدنية أخرى على الطريق بجانبها. نزل بعض السائقين من سياراتهم وكانوا يحدقون في القافلة بدهشة. لا أحد يعرف ما الذي يجري. عادت زهرة إلى الشارع، ووصلت جبلة بعد نصف ساعة، ووجدت جنودا يغلقون المدخل الرئيسي للبلدة. كان ذلك عندما اتصل بها أحد الأصدقاء ليخبرها أن سبعة عشر شخصا قُتلوا بالرصاص أثناء مظاهرة. قال الصديق إنها كانت مثل الحرب، كان هناك جنود في كل مكان.

حتى ذلك اليوم، رفضت زهرة، وحدها من بين شقيقاتها، الانضمام إلى الاحتجاجات. قالت إنها تكره السياسة. مثل أي شخص آخر، شاهدت لقطات تلفزيونية للمتظاهرين القتلى في درعا ووجدت نفسها تتساءل: من أعطاهم الحق في إنهاء حياة الناس، وكأنهم يقتلون الطيور؟ لكن الفكرة تراجعت، كما كانت في كثير من الأحيان في الأيام الخوالي. كانت قلقة من أن الاحتجاجات في الشوارع كانت بطريقة خاطئة. إلى جانب ذلك، كانت تحب وظيفتها في المستشفى ولا تريد المخاطرة بفقدانها.

عندما عادت زهرة أخيرا إلى المنزل بعد ظهر ذلك اليوم، كانت يداها ترتعشان. ذهبت إلى المطبخ وغسلت التفاح الذي اشترته من اللاذقية، ثم وضعته في وعاء على الطاولة. تجول أحد أبناء الجيران، وه وشاب حل والوجه يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما، يُدعى حسن عيد، وأخذ تفاحة وبدأ في تناولها. نظرت إليه. كان حسن علوي. لقد عرفته طوال حياتها، واعتبرته جزءا من العائلة تقريبا. لكن الآن، كما قالت لنفسها، ربما يقوم والد هذا الصبي أ وعمه أ وأخيه بإطلاق النار على المتظاهرين في هذه اللحظة بالذات. ربما كان يقتل أخواتها. بعد خمس دقائق، أرسل والدا حسن ابن عمه لإعادته إلى المنزل. تساءلت زهرة عما إذا كان سيعود يوما ما. رنّ الهاتف، وعندما أجابت عليه تحدث أحد معارفها، صوته لاهثا ومليئا بالعاطفة: دكتورة زهرة، أنا أحتاجك، شخص ما ينزف هنا، في البلدة القديمة، من فضلك تعالي وساعدينا. أغلق الخط، وفي الصمت الذي أعقب ذلك، تساءلت عما يجب أن تفعله. كان من المستحيل تقريبا الوصول إلى البلدة القديمة بسبب نقاط التفتيش. من المؤكد أن معالجة المتظاهرين الجرحى ستُعتبر جريمة. لكنها كانت طبيبة. ترددت لبرهة ثم قررت: سأذهب. حملت حقيبتها واستدارت نح والباب. ثم رن جرس الهاتف مرة أخرى، وتحدث نفس الصوت، وكان أكثر هدوءا هذه المرة. لا بأس، لا بأس، مات الرجل.

تغير موقف زهرة بعد ذلك. تغيرت المدينة نفسها. صارت هناك حواجز الآن، والمظاهرات تجري ليلا فقط، في شوارع البلدة القديمة الضيقة.

بعد أن استجمعت الشجاعة للعودة إلى العمل، كانت زهرة تتحدث يومًا ما مع زميل لها، وه ورجل عرفته منذ سنوات. كان علويا، لكنه كان يوضح لها دائما، على انفراد، أنه يكره الرئيس بشار. كان قد أخبر زهرة قبل عام أ وعامين أن حلمه ه وأن يصوت ابنه في انتخابات حرة في سوريا. لم تكن زهرة لتطرح هذا النوع من الموضوعات من قبل - لم يكن هذا على طريقتها - لكنها الآن تشعر أن الوقت قد حان. ذكّرته بما قاله عن الرئيس بشار قبل الثورة. نظر إلى زهرة ونظر حولها، كما ل وكان يتأكد من عدم سماع أحد. قال: "انظري يا زهرة، لا يمكنني الحديث عن هذا الآن". مشى بعيدا، ومنذ ذلك الحين، تجنبها.

توقفت عائلة كنفاني في الغالب عن المشاركة في أي احتجاجات بعد القمع. لكن لا يهم. كانت هناك علامة سوداء على أسمائهم الآن، ويعاملهم الناس بشكل مختلف. توقفت إحدى أقدم أصدقاء زهرة، وهي امرأة علوية تُدعى ميساء، كانت قد التحقت معها بكلية الطب، عن الاتصال بها. اتصل بها صديق مشترك وأوضح لها: "طلبت مني ميساء أن أقول إنها آسفة، لكنها تخشى التحدث معك". بكت زهرة بعد ذلك. لكن بعد شهر، تغير شيئ ما فيها، ربما بسبب كل الاعتقالات والقتل التي تحدث كل يوم. صديقة علوية قديمة أخرى، وهي طبيبة نسائية زميلة تُدعى رفيدة عملت في مستشفى في المملكة العربية السعودية، وتدعى زهرة تعيش في الرياض. عندما أخبرتها زهرة أنها غير متأكدة من قدرتها على البقاء في سوريا، بدأت صديقتها بالبكاء. "زهرة، هل من الممكن أن أعود إلى جبلة وأجد أنك لست هناك، ولا يمكننا الذهاب للتنزه على البحر؟" قالت رفيدة "زهراء بالنسبة لي جبلة هي أنت ". شعرت زهرة بأنها مضطرة للسيطرة على عواطفها هذه المرة. أخبرت صديقتها بصرامة أن الوقت قد حان لها لمواجهة حقيقة قسوة النظام السوري.

قضت نورا وعلياء وقتا أقل معا، رغم أنهما لم تكونا كذلك في حضور الفصول الدراسية في الجامعة في وقت مبكر بسبب الأزمة. في الصيف ذهبتا في جولة بالسيارة وفي غضون دقائق صرحت نورا: علياء، الجنود يقتلون المتظاهرين في حمص. إنها مثل مذبحة ". ردت علياء بطريقتها المعتادة: لماذا يفعلون ذلك؟ ربما يجب عليك التحقق من ذلك ". ردت نورا، "لأن الناس يريدون الحرية، لهذا السبب. " كانوا يمرون في حي علوي، وأبلغهما جندي تحذيرا ودودا وتحديدا علياء. قال مشيرا إلى نورا: "كوني حذرة"، لأن عائلتها كانت معروفة. حدث الشيء نفسه في الاتجاه المعاكس عندما كانت ا في المناطق السنية. تابعتا السير، وبعد دقيقة، قالت نورا: "إذا هاجمك أهل السنة، فسأحميك. وأنا أعلم أنك ستفعلين الشيء نفسه من أجلي ". لم تقولا شيئا للحظة، ثم نظرتا إلى بعضهما البعض. انفجرت كلتا المرأتين بالضحك. ما زالت الفكرة تبد وغريبة وغير مفهومة.

وتحول مئات الأشخاص الذين قتلوا في قمع النظام إلى آلاف. توقفت علياء وعائلتها منذ فترة طويلة عن الثقة في أي شيء يسمعونه على القنوات الفضائية أ وعلى البي بي سي. وبدلا من ذلك استمعوا إلى الأخبار السورية أ والقنوات اللبنانية المتحالفة مع النظام. هناك عناوين مختلفة: شيوخ السنة كانوا يدعون إلى حرب دينية، والمملكة العربية السعودية تروج لها. رأت علياء الإشارات بنفسها واستاءت من الإعلام الغربي لفشله في التقاط الصورة . انتشرت خرافات غريبة، تردد صداها في المنتديات الدينية على الإنترنت وسخرت من نتائجها: إذا ضربت الطناجر بعد منتصف الليل خلال شهر رمضان المبارك، فسيختفي العلويون. ذات ليلة في شهر تموز، أيقظ الأسرة صوت رنين عالي. نهض والد علياء من السرير وترنح إلى الشرفة. في مبنى مقابل له، كان رجل يضرب على الطناجر المعدنية. "اسكت!" صرخ والدها. "لن نختفي." في وقت لاحق، وجدوا علامة X خارج باب أحد جيرانهم، شقيق مسؤول رفيع في النظام. هل استُهدف بالاغتيال؟

شقيق علياء الأصغر عبد الحميد، ملاكم هاو، تعرض لصدمة بعد ذلك بوقت قصير. كان في مصر في ذلك الوقت، يحضر دورة تدريبية بحرية ويعيش مع خمسة أصدقاء سوريين في منزل مستأجر في الإسكندرية. ذات ليلة، طرق شاب بلكنة عراقية الباب وسأل بتردد ما إذا كان السوريون يعيشون هناك. قال عبد الحميد نعم، وخرج العراقي. في وقت متأخر من تلك الليلة، حاولت مجموعة من الرجال كسر الباب، مرددين الشتائم على العلويين والرئيس بشار. وطردهم عبد الحميد وأصدقاؤه. ولكن بعد أيام قليلة، ظهر منشور على فيسبوك يذكر عنوان المنزل. وأضافت أن "هؤلاء الرجال سوريون تمولهم إيران وحزب الله لنشر التشيع في مصر ويجب قتلهم". تخلى عبد الحميد واثنان من أصدقائه عن دراستهم وعادوا إلى الوطن.

في أب، اتخذت زهرة أخيرا قرار مغادرة البلاد، على الأقل لفترة من الوقت. تم استدعاؤها للتحدث إلى الأمن السياسي مرتين، في استجواب مخيف. رفضت علاج المتظاهرين المصابين، لكنها شعرت أن النظام يقترب منها. اشترت تذكرة سفر إلى القاهرة، وجاءت نورا معها إلى المطار. انتظرتا ساعات على طابور، وبعد ذلك، بينما كانت على وشك تخليص الجمارك، سار اثنان من المخابرات. قالا إننا نحتاج أن نطرح عليك بعض الأسئلة. وأخذوها بعيدا.

استقلت نورا سيارة أجرة إلى المنزل متسائلة كم من الوقت ستستغرق حتى ترى والدتها مرة أخرى. عندما وصلت السيارة إلى الباب الأمامي، رأت الزوجين العلويين اللذين يعيشان في الطابق الأول من بنايتها، وهما الزوجان اللذان كان ابنهما أحد حراس الرئيس بشار الخاصين. لم تكن قد فكرت في الأمر كثيرا من قبل، ولكن الآن، كل القلق والخوف من الأشهر القليلة الماضية يتعمق داخلها. قالت لنفسها إن النظام مؤلف من أناس مثل هؤلاء، جيراننا، يعيشون بجوارنا تماما، معتقدين أن بشار ه والله ويدعم كل ما يفعله. كانت خارج السيارة الآن. نظرت مباشرة إلى الزوجين ثم بصقت على الأرض عن عمد. كان أشجع شيء فعلته على الإطلاق. لم يقل الزوجان شيئا. مرت بهم إلى المنزل. في تلك الليلة، اتصل العديد من أصدقاء والدتها لطمأنتها، وأخبروها أن تبقى هادئة، وأن النظام لن يؤذي والدتها. اتصلت نورا بزوجين من الأصدقاء العلويين لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم فعل أي شيء. بدوا خائفين من التحدث إليها على الإطلاق. قال أحدهم، أنا آسف، إذا طرحت أسئلة حول والدتك، فستكون هذه علامة سوداء بالنسبة لي، فهمت، أنا آسف. بدا العلويون أحيانا أكثر خوفا من النظام من أي شخص آخر. ربما لأنهم يعرفون ذلك بشكل أفضل. خلال الأيام القليلة التالية، بدا حتى أفراد عائلة نورا أنهم ينسحبون، كما ل وأن العلامة السوداء لأمها قد أصابتها أيضا. لقد كانت أكثر الأوقات وحدة في حياتها. بعد أسبوع، اتصلت والدتها لأول مرة. قالت انها بخير. استخدمت رمزا اتفقت عليه هي ونورا مسبقا، تشيران إليها باسم فرح. قالت والدتها: "قولي لفرح أن تذهب وتبقى عند ابن عمها". شعرت بالسخافة. لا أحد يخدع المخابرات بهذه الطريقة. لكنها ذهبت. كما تم اعتقال عمتيها مها ووسام خلال رحلة إلى حلب. كان كل أفراد الأسرة موضع شك. أمضت الأسبوعين التاليين تعيش في منزل ابنة عمها، ونادرا ما تخرج للخارج. أخيرا، في منتصف أيلول، تلقت مكالمة من والدتها تفيد بإطلاق سراحها. شعرت بسعادة غامرة وعادت إلى المنزل لتنتظرها هناك.

كانت جالسة في غرفة نومها، بعد حلول الظلام، عندما سمعت صوت انفجار صاخب جدا وقريب جدا. ركضت نح والنافذة ونظرت إلى أسفل: اشتعلت النيران في سيارة. بدت أكثر صعوبة وأدركت أنها سيارة والدتها. تصاعدت ألسنة اللهب، وبدأ دخان أسود كثيف يتدفق نح والمنزل. يمكنها شمها. انطلقت رصاصة ثم أخرى. ركضت إلى عمق المنزل وهي تصرخ. اعتقدت أنهم سيأتون لأجلي، لاعتقالي، لقتلي. بحثت عن هاتفها واتصلت بأمها. أجابت زهرة وبكت نورا وصرخت قائلة لها أن تأتي بسرعة. كانت زهرة في منزل شقيقها غير البعيد. طلبت من نورا أن تهدأ، فقد يكون الأمر مصادفة. انتظريني.

احترقت السيارة. هذا كل شيء. لم يأتي أحد لقتلهم. لكن حتى زهرة شعرت بالثقة في أن هذه كانت رسالة، رغم أنها لم تكن متأكدة من أنها من النظام. كان حيهم في الغالب من العلويين، ولا بد من وجود كثير من الناس هناك مستاؤون للغاية لوجود طبيبة سنية بارزة تعتني بالمتظاهرين الجرحى الذين يعيشون بينهم، على حد قولها. شعرت أنها لا تستطيع الوثوق بأي شخص بعد الآن. استغرقت نورا أياما لتتعافى. حتى بعد ذلك، كانت أعصابها سيئة للغاية لدرجة أن زهرة بدأت في إعطائها مهدئا خفيفا كل يوم.

غادرت علياء في أب إلى إنجلترا، حيث كانت تحضر درجة الماجستير في تدريس اللغة الإنجليزية في جامعة وارويك. لم تتحدث هي ونورا لمدة شهرين تقريبا. ذات ليلة من شهر تشرين الأول، كانت علياء شبه نائمة عندما سمعت أزيزا على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بها: كانت نورا تتصل بمحادثة فيديو. كانت الساعة الرابعة صباحا، لكنهما أمضتا ساعة في الحديث والضحك، وكأن شيئا لم يتغير. ظهرت السياسة لفترة وجيزة، لكنهما تخلتا عنها وتحدثتا بدلا من ذلك عن عائلاتهما، وعن إنجلترا، وعن الأصدقاء المشتركين. عندما انتهت المكالمة، انفجرت علياء بالبكاء. شعرت كما ل وأن صداقتهما ستبقى على الرغم من كل شيء. لكن نورا، في ظلمة غرفة نومها قبل الفجر، وجدت نفسها تفكر في شيء قالته علياء: أحد أصدقائهم المشتركين، زميل سابق في الفصل يُدعى حسام كان قد أيد الثورة، لم يكن صديقا لعلياء على فيسبوك. الآن بدأت نورا تشعر بالذنب بطريقة ما. كان هناك الكثير من الناس في السجن، وقتل الكثيرون، وهنا كانت تتحدث مع علياء، التي كانت مع النظام.

في كانون أول، حضرت نورا مظاهرة أخيرة. أرسلت الجامعة العربية وفدا من المراقبين إلى سوريا وأصبح المتظاهرون أكثر جرأة معتقدين أنهم آمنون طالما كان الزوار في جبلة. انضمت نورا إلى مسيرة نهارية مع مجموعة من الأشخاص أحضروا أقراصا مدمجة توثق انتهاكات النظام لفريق جامعة الدول العربية. لكن الشرطة هاجمت المتظاهرين وضربتهم بالهراوات وأطلقت النار في الهواء. ركضت نورا بتهور مع مجموعة من الأصدقاء، مذعورة، مع تناثر الرصاص فوق رؤوسهم. بعد فترة وجيزة، تلقت والدتها اتصالا من الأمن السياسي يطلب منها الحضور لإجراء محادثة أخرى. هذه المرة، حالفها الحظ. اتصل المكتب وقال إن الاجتماع تأخر لمدة أسبوع.

اتخذت الأسرة قرارها على الفور. في غضون أيام، جمعت نورا ووالدتها وعمتيها في سيارة، وحقائبهم مكتظة.

في الأساس لقد أخذوا الضروريات فقط، مع العلم أن الرحلة ستكون صعبة. لكنهم كانوا يعلمون أنهم قد رحلوا لفترة طويلة. في اللاذقية قاموا برحلة شمالا إلى البلد الحدودي. ثم ساروا لمدة ثماني ساعات على درب بارد موحل بمساعدة المهربين في حمل الحقائب. كان عليهم أن يجتازوا نهرا بالقرب من الحدود، ويمشون واحدا تل والآخر على شجرة ساقطة. أمطرت معظم الرحلة، وفي بعض الأحيان كانت مها تفكر في منزلها القديم وتريد أن تستدير وتعود. لكن بمجرد وصولهم إلى تركيا، كان ابنها طارق ينتظرهم هناك. كان قد استأجر بالفعل شقة في أنطاكيا، أقرب مدينة. تجمعت العائلات الثلاث فيه، وأمتعتهم متناثرة على الأرض وكأنهم في المنفى.

عندما علمت علياء أن نورا وعائلتها قد غادروا سوريا، نظرت إلى صفحة صديقتها القديمة على الفيسبوك واكتشفت أن نورا قد ألغت صداقتها. ولكن مع استمرارها في الاطلاع على صفحة نورا كل يوم تقريبا، لاحظت تحولا بطيئا. كانت منشورات نورا العامة مناهضة للأسد بشدة، وفي النهاية بدأت في تضمين المزيد والمزيد من اللغة الدينية، وبعض الافتراءات الطائفية ضد العلويين. في وقت لاحق من ذلك العام، تزوجت نورا من رجل سني من جبلة تظهر صفحته على فيسبوك اللافتة السوداء التي تستخدمها القاعدة. كمال الأخ الأصغر لنورا، الذي حملته علياء وأطعمته البسكويت عندما كان صبيا، كان لديه صفحته الخاصة على الفيسبوك أيضا، مع صورة له وه ويمسك ببندقية كلاشينكوف. في أوائل عام 2013، بعد ولادة طفلها الأول مباشرة، نشرت نورا مقطعا طويلا يشيد بصدام حسين، متبوعا بجملة: "كم عدد" الإعجابات " سنحصل لمن هزم الشيعة وغيرهم من الوثنيين؟"

طوال عام 2012، كان التمرد السوري يتدهور في نفس الوقت ويكتسب حياة جديدة مروعة، مثل جثة أعيد إحيائها. كانت الموجة الأولى من الثوار، شباب وشابات المدن الذين تحدثوا عن الديمقراطية، يفرون إلى بيروت أ ولندن أ ودبي. تم استبدالهم بجحافل من الشباب المتعصبين الذين تسللوا عبر الحدود بالحرب المقدسة والاستشهاد في أذهانهم. بالنسبة للعالم الخارجي، أصبح الصراع عبارة عن فسيفساء دموية من الصور ومقاطع الفيدي والتي تم التقاطها على كاميرات الهواتف المحمولة باليد لجثة صبي يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما، مقطوعة أعضاؤه التناسلية، وجسده مغطى بالحروق ورجل يُدفن حياً، بينما يأمره كوماندوس سوري أن يقول إن بشار ه والله. (رفض الرجل ودفن) وجثث نساء وأطفال في قرية متمردة، بلا حياة، في أكوام. وصورة مقاتل من الثوار يأكل قلب جندي من النظام السوري. تناثرت هذه الصور مثل الزجاج المكسور عبر الإنترنت، وعلقت على ملصقات، ورفعت عاليا بترديد الحشود، وتحولت حفنة من هذه الصور إلى مطالب في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.

اتضح أن حفنة من هذه الصور كانت وهمية، أ وبالأحرى فظائع قديمة من لبنان أ وفلسطين، أ وحتى من حوادث السيارات، وحوادث الطائرات، ومسرح الجريمة. لا أحد يستطيع أن يقول على وجه اليقين من أين نشأت هذه الصور المزيفة أ وكيف انتشرت، لكن اكتشافها جاء كإغاثة تقريبا: كان كلا الجانبين حريصا على أسباب تبرئتهما من جرائمهما. قالت لي علياء: "لهذا لا نصدق أي شيء يقولونه عن النظام أ والشبيحة". "كل هذا مزيف." وهكذا استمرت الحرب، عاصفة من الرعب يمكن لأي شخص تجاهلها كما ل وكان يغير القناة على جهاز التحكم عن بعد في التلفزيون.

السؤال الذي لم يستطع أحد الإجابة عليه ه وكيف حدث ذلك بهذه السرعة. طبعا نشر رجال الرئيس بشار اشاعات طائفية. لقد هددوا شعبهم بالبقاء في الطابور، حتى أنهم أطلقوا سراح الجهاديين المتشددين من سجون النظام، كل ذلك بهدف فتح الجروح القديمة. لكن تلك الجروح كانت حقيقية، وكانت قريبة من السطح. في أقل من عام، تحولت حملة القمع التي شنها النظام إلى ما بدا أنه كراهية دينية تعود إلى جيل الألفية.

***

في تشرين الثاني 1862م، فتح مبشر أمريكي يدعى هنري هاريس جيسوب باب منزله في بيروت ووجد نفسه في مواجهة شخص غريب. كتب جيسوب لاحقا أن الرجل الذي أمامه كان "قصير القامة، وجبهته منخفضة، وذقن بارزة، وشفاه زنجية، ووجه أحمر، ومثير للاشمئزاز تماما كما التقيت به في الشرق". كان الزائر من العلويين، وكان يسمي نفسه سليمان من أضنة.

اعتاد جيسوب على تحية الغرباء. كان واحدا من مجموعة صغيرة من المبشرين البروتستانت الذين يعيشون في سوريا الكبرى والذين كان يُنظر إليهم في الغالب على أنهم غرباء طيبون. علموا العرب عن الكتاب المقدس ووفروا ملجأ للأشخاص الفارين من النزاعات العرقية والطائفية. كان جيسوب، في الثلاثين من عمره، طويلا وسيما بشكل صارخ، بعينين ثاقبتين، وجبهة عالية، ولحية طويلة منتشرة، في روعة أبوية، حول ياقة بيضاء صلبة. لقد كان في لبنان منذ ست سنوات فقط، لكنه تحدث اللغة العربية جيدا لدرجة أنه كان يعظ بها. أخرج سليمان خطابا، فتحه جيسوب وقرأه. وقال إن سليمان كان رجلا ذا قدر كبير من التعلم واعتنق المسيحية من "المذهب النصيري الصوفي"، وهي كلمة أخرى للديانة العلوية. كاتب الرسالة، وه وعالم معروف يعيش في دمشق، كان قد ساعد في تحرير سليمان من الخدمة العسكرية على أساس أنه مسيحي الآن، وهي إحدى الجماعات التي استثناها العثمانيون من الخدمة العسكرية.

كان هذا اكتشافا نادرا لجيسوب. كان العلويون ودينهم في ذلك الوقت لغزا شبه كامل للغرباء، وكانوا موضوع إشاعات جامحة ومخيفة. اتضح أن سليمان لم يكن علويا فحسب، بل كان أيضا من الماخوس، وهم النخبة القليلة في ذلك المجتمع الذين يجب أن ينخرطوا في معتقدات الدين السرية. دعاه جيسوب وطلب منه الجلوس. بدأوا يتحدثون على الفور، وانتشرت المحادثة على مدار عدة ساعات في الأيام التالية. بدأت بداية سليمان في سن السابعة عشرة، عندما سلمه أحد الشيوخ العلويين كأسا من النبيذ ووضع صندلا على رأسه. ردد الرجل: "قل،" بسر فضلك، يا عمي وسيدي، أنت تاج رأسي، أنا تلميذك، ودع حذائك على رأسي ". بعد سلسلة من الطقوس الأخرى التي امتدت على مدى تسعة أشهر، طلب منه شيخ أن يتل ونذرا بالسرية: "هل تقبل قطع رأسك ويديك وقدميك، وعدم الكشف عن هذا اللغز المهيب؟" أقسم سليمان. تم تجنيده في المعتقدات الصوفية للعلويين التي يبلغ عمرها ألف عام، بما في ذلك التناسخ وتأليه علي، ابن عم النبي محمد وصهره.

كان العلويون يكرمون السيد المسيح ومحمدا، وكذلك أفلاطون وسقراط وأرسطو. لقد استخدموا كلمات مرور غريبة للتعرف على بعضهم البعض، وكانوا يمارسون تقليد أعضاء الديانات الأخرى، على الرغم من أنهم شتموا بشكل خاص المسلمين والمسيحيين على أنهم هراطقة بائسين، مقدّر لهم أن يولدوا من جديد كقرود وخنازير. بناء على دعوة جيسوب، كتب سليمان كل ما يعرفه عن العقيدة العلوية في شكل كتاب على مدار أسابيع قليلة. طبعها جيسوب، وكان أول - ولوقت طويل المصدر الوحيد - للأجانب عن الدين.

تحدث سليمان أيضا عن بؤس الحياة بين العلويين. لقد كانوا من سكان الجبال، وكانوا لا يثقون كثيرا في الغرباء. كانوا قد انسحبوا قبل ذلك بقرون إلى التلال هربا من مسلمي السهل السوري، الذين شتموهم بالزنادقة، وقاموا أحيانا بغارات قاتلة. أعلن اللاهوتي ابن تيمية في أوائل القرن الثالث عشر أن العلويين "أكثر كفرا من اليهود والمسيحيين، بل أكثر كفرا من العديد من المشركين"، وحث المسلمين الطيبين على ذبحهم وسلبهم. تم التذرع بهذه الكلمات بانتظام. انتقم العلويون بكراهيتهم الشديدة. لكن حتى داخل مجتمعهم، كان العلويون قبليين للغاية وعرضة للعداء لدرجة أن القتل والسرقة كانا من ثوابت الحياة. في بعض الأحيان، كان المجتمع على وشك الانقراض. وصف أحد رجال الدين الإنجليز الذين عاشوا بينهم لعدة سنوات في منتصف القرن التاسع عشر عالما من العنف غير العادي والمجاعة المستمرة، حيث "حالة المجتمع هي جحيم مثالي على الأرض". إن العلويين المتهمين بارتكاب أعمال قطع الطرق، عندما قبض عليهم المسلمون، يعاملون معاملة خاصة: تم تعليقهم على المسامير وتركهم على مفارق الطرق كتحذير.

أثارت قصة سليمان تعاطفا كبيرا من الأمريكي الملتحي. كان سليمان قد شكك في حقيقة العقيدة العلوية بعد وقوفه خارج منزل رجل يحتضر، ولاحظ أنه لا يوجد كوكب ينزل إلى جسد الميت، ولا نجم يعل ومن باب المنزل. كما بدت المعتقدات العلوية الأخرى لا أساس لها من الصحة. وقد اشمئز سليمان من اعتناق الإسلام. لكنه وجد بعد شهر فقط من قراءة القرآن ثلاثمائة كذبة "وسبعون كذبة عظيمة" فيها. وقرر أن يصبح مسيحيا أرثوذكسيا يونانيا. بعد شهر عسل قصير، وجد أنه لا يستطيع تحمل عبادة الأيقونات المقدسة أ وفكرة أكل الله على شكل رقاقة. بعد ذلك أصبح يهوديا وعلم نفسه أن يقرأ العبرية جيدا حتى يفهم التلمود. هناك، أيضا، وجد الكثير من الهراء. ثم اكتشف مسلكا بروتستانتيا يهاجم البابا وقرر أنه وجد الطريق الصحيح أخيرا. في ذلك الوقت ألقته السلطات التركية في السجن وضمته إلى الجيش. لم يهرب إلا بعد أن سار على بعد ستمائة ميل إلى دمشق. وهناك اكتشفه عالم مسيحي كان يعمل قنصلا أمريكيا وكتب الرسالة التي أتت به إلى بيروت. .

كان جيسوب سعيدا لأن هذا الرجل الموسوعي الغريب ذ والوجه القزم قد وجد أخرًا المسيح الحقيقي. وأمن له غرفة للإيجار في بيروت. كان سليمان غريبا بشكل مذهل مع رجل الدين من ولاية بنسلفانيا وأصدقائه: كان بإمكانه تلاوة فصول كاملة من القرآن من ذاكرته، جنبا إلى جنب مع الكثير من الكتاب المقدس العبري. كان لديه ما يقرب من إمدادات لا نهاية لها من التعاليم الصوفية العلوية. لكن تجوال سليمان لم ينته بعد. بدأ يتجول في المنطقة، يبشر بالبروتستانتية بحماسة رهيبة، وذات يوم وصل إلى عتبة جيسوب مرة أخرى، هذه المرة تفوح منه رائحة الخمور. عندما أخبره جيسوب أنه لا يمكنه السماح له بدخول المنزل إذا شرب مرة أخرى، طلب سليمان قلما وورقة. كتب: "أنا سليمان من أضنة، أتعهد بموجب هذا لنفسي بألا أشرب قطرة من الخمور مرة أخرى، وإذا فعلت ذلك، فسيتم استباحة دمي، وأنا بموجب ذلك أصرح للقس جيسوب بقطع رأسي واحتساء دمي." عبس جيسوب من "اللغة القوية إلى حد ما" لكنه كان سعيدا بهذا التعهد. ومع ذلك، لم يدم طويلا. عاد سليمان إلى عاداته في الشرب وندد بحرية بكل الأديان التي تخلى عنها. تزوج ابنة كاهن يوناني وعاد في النهاية إلى أضنة. التقى به شيوخ العلويين. لقد تأملوا الأمر، وفكروا في قتل سليمان بعد نشر الكتاب . لكنهم فكروا للحظة أن قتله سيؤخذ كدليل على أن كل ما كتبه كان صحيحا. مرت سنوات على نشره. كان سليمان قد انقطع الاتصال بصديقه الأمريكي، الذي كان يعيش على بعد مئات الأميال في بيروت. حتى ذلك الحين، كان الشيوخ باردين وبطيئين في انتقامهم. دعوا سليمان إلى وليمة في القرية، متظاهرين أنهم يعاملونه كضيف شرف، ابن الإيمان الذي اكتسب شهرة. كان يمتطي حصانا، ويقوده شباب علوي غنوا وأطلقوا بنادقهم تكريما له. وبينما كان حصانه ينسج رقصته بين أكوام السماد التي كانت تحيط بالقرية، أمسك الرجال فجأة بساقيه وألقوه في حفرة كانوا قد أعدوها مسبقا. وراحوا ينثرون الروث عليه متجاهلين صراخه حتى دفن حيا. بعد سنوات، عندما كان جيسوب يمر عبر أضنة في عام 1888م، أخبره مدرس محلي أن شيوخ العلويين قطعوا لسان سليمان بعد قتله وحفظوه في جرة. قال المعلم إنهم كانوا يخرجونه في المناسبات الخاصة، وشتموه ودفعوه إلى الجحيم لخيانته.

في غضون ذلك، استمر العلويون في العيش في فقر مدقع في ملاذاتهم الجبلية، على هامش الاقتصاد الإقطاعي في سوريا. أُجبر الكثيرون على بيع بناتهم في الخدمة بعقود خادمات لعائلات دمشق الثرية، حيث قيل إنهم يعاملون كعبيد جنسيين. استمرت الكراهية المتبادلة بين الجبل والمدينة حتى بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية ووصول الفرنسيين في نهاية الحرب العالمية الأولى. لفترة وجيزة، أدار الفرنسيون المناطق النائية الجبلية العلوية كدولة خاصة بهم، وتحرر العلويون أخيرا من الخوف من جيرانهم المسلمين في السهول أدناه. وبحلول منتصف الثلاثينيات، تعرض الفرنسيون لضغوط للاعتراف بالمطالب السورية بدولة موحدة ومستقلة. كان بإمكان العلويين رؤية ما سيأتي. في عام 1936، أرسل ستة من أعيان العلويين التماسا يطلبون فيه من الفرنسيين عدم دمج جيبهم الشمالي مع بقية سوريا. وكتبوا: "إن روح الكراهية والتعصب المتأصلة في قلوب المسلمين العرب ضد كل ما ه وغير مسلم يغذيها الدين الإسلامي على الدوام".

"ليس هناك أمل في أن يتغير هذا الوضع على الإطلاق. لذلك، فإن إلغاء الانتداب سيعرض الأقليات في سوريا لمخاطر الموت والإبادة، بغض النظر عن حقيقة أن هذا الإلغاء سيقضي على حرية الفكر والمعتقد ".

وكان سليمان الأسد، جد الرئيس بشار الأسد، أحد الموقعين على العريضة. عندما تخلى الفرنسيون عنهم، اندفع العلويون لاحتضان القضية الوطنية السورية. تمت إعادة كتابة التاريخ، وبدأ الملهمون العلويون في إعلان أنفسهم مسلمين. اعتنق الضابط العلوي الشاب حافظ الأسد العروبة كدين جديد. لقد تعهد بتدمير إسرائيل، وفعل كل ما في وسعه لإخفاء جذوره الهرطقية، خاصة بعد أن وصل إلى الرئاسة في عام 1971. مجموعات الأقليات الأخرى في سوريا - المسيحيون والدروز والإسماعيليون وغيرهم - فعلت الشيء نفسه، المسارعة للتستر في غطاء العروبة وحزب البعث، عربته السياسية المحلية. لكن الأسد كان بحاجة إلى أكثر من مجرد غطاء سياسي. كان لابد من تنظيف وصمة الاختلاف العلوي بشكل صريح. خرجت الكلمة: الرجل القوي الجديد يريد الفتاوى. فتح العديد من رجال الدين الشيعة الملتزمين، المتحمسين للرعاية السورية، أذرعهم وأعلنوا أن العلويين أعضاء أرثوذكسيون في الطيعة الشيعية.

كان الأسد ممتنا، لكنه كان ذكيا جدا لدرجة أنه لم يخطئ في اعتبار هذه الباقات حفل زفاف. وضع بهدوء أقاربه العلويين في قلب الدولة البوليسية الآخذة في الاتساع، مثل السكاكين تحت الطاولة. كان يعلم أنه يمكن الاعتماد عليهم وعلى خوفهم عندما جاءت الأزمة.

***

تذكرتُ عريضة عام 1936 التي وقعها سليمان الأسد عندما دخلت لأول مرة غرفة معيشة عائلة علياء علي ورأيت صورة بالأبيض والأسود على الجدار: جدها، مرتديا ياقة وربطة عنق متيبسين. "لقد درس في فرنسا في ثلاثينيات القرن الماضي"، قالت علياء بشكل لامع. ثم أضافت بسرعة، كما ل وأن أحدهم أشار إلى خطأ بسيط، "وبعد ذلك قاتل الفرنسيين في النضال من أجل الاستقلال - على ما أعتقد ". عليك أن تكون حريصا على عدم التعثر في تاريخك إذا كنت علويا.

كان ذلك في نيسان 2013. بعد عامين من القتال، اندلعت الحرب السورية إلى الخارج واجتذبت تقريبا كل بلد في المنطقة والعديد من الدول خارجها. كان لدى حزب الله جنود ومدربون على الأرض، وكذلك فعلت إيران. كان هناك الآلاف من المتمردين يقاتلون باسم الجهاد من أكثر من اثني عشر دولة، بتمويل من أجهزة المخابرات والميليشيات والمتشددين من كل نوع. على الجانب الآخر، كان المتطوعون الشيعة من العراق ولبنان وحتى اليمن يصطفون للقتال من أجل الرئيس بشار. كان الجهاد لا يقاوم بالنسبة للشباب المحبطين الذين كانوا يتغذون على الدين طوال فترة تعليمهم. قابلت سعوديا في الرياض في وقت لاحق من ذلك العام ذهب إلى سوريا ثماني مرات. كان مدير مستشفى، محترم يبلغ من العمر ثلاثة وأربعين عاما ولم يشعر بالخجل في الاعتراف بأنه كان يستمتع بفرصة قتل بعض الشيعة. في بعض الأحيان كان يذهب لقضاء عطلة نهاية أسبوع طويلة. معظم هؤلاء الناس لا يمكن أن يكونوا أقل اهتماما بسوريا نفسها. كانوا هناك من أجل صراع الفناء، المعركة الكبرى بين الإسلام الحقيقي وأعدائه هي التي من شأنها أن تحطم البدعة إلى الأبد وتمهد الطريق لملكوت الله أ وهكذا ظنوا أنفسهم.

ولكن كانت هناك دائما طريقة أخرى للنظر إليها، واحدة كان الجميع عندها على الأقل نصف مدرك: أن هذه المعركة العظيمة بين السنة والشيعة كانت في الحقيقة مجرد صراع ساخر على السلطة بين أكبر منتجي النفط في المنطقة، المملكة العربية السعودية وإيران، اللذان غذيا شعاراتهما الطائفية بالطريقة التي قد تغذي بها الأمفيتامينات لملاكم متعب. كان هناك شيء واحد مؤكد: المخططات الإيرانية والسعودية بشأن سوريا، مثل تغيير التروس، دارت عجلات أكبر في عواصم بعيدة. قامت روسيا بتمويل الرئيس الأسد مع التركيز على مسلميها في القوقاز. استخدمت الصين حق النقض ضد أي جهود لتفويض القوة في الأمم المتحدة. مولت قطر الجهاديين والجهود الأمريكية لتقويضهم. حتى باراك أوباما أصبح محاربا بالوكالة، بتردد عميق. بعد مقاومة لمدة عام، وقع أمرا سريا لوكالة المخابرات المركزية لتسليح وتدريب المتمردين السوريين "الذين تم فحصهم" قبل وصولي إلى دمشق مباشرة.

في نيسان 2013. كانت هذه هي المرة الأولى التي التقيت فيها علياء وعائلتها، وسمعت قصتها عن الثورة في جبلة.

بالنسبة لي، كانت عودة مضطربة إلى بلد بالكاد تعرفت عليه. لقد زرت سوريا عدة مرات في السنوات التي سبقت الثورة. لقد أحببتها بالطريقة التي تحب بها ساحة خردة قديمة مهجورة، مليئة بالآثار الصدئة التي لم يتم تقييمها والتي لم يكتشفها أي شخص آخر. كانت قاتمة ومثيرة للاكتئاب، بأسواقها القديمة المنهارة وهندستها المعمارية المتحللة للانتداب الفرنسي، وأنفاقها التي تعود إلى العصور الوسطى والقضبان الصامتة الداكنة، ومدنها الميتة المليئة بالحجارة المتهدمة والصهاريج الفارغة المكسوة بالحزاز. لقد كونت صداقات مع مخرجي أفلام ونشطاء أكراد ولاجئين فلسطينيين، وكنا نهمس خفية عن النظام في القضبان، وننظر إلى رجال المخابرات الذين يرتدون سترات جلدية ويتظاهرون بعدم المشاهدة.

الآن بعد أن ذهبت سوريا. كان نصف البلاد وراء خطوط المتمردين، في منطقة بيع وشراء الرهائن الغربيين وقطع رؤوسهم. فر معظم أصدقائي السوريين وعاشوا في أوروبا أ وبيروت أ ودبي. بعضهم مات أ ومخطوف الله وحده يعلم أين.

بدأت رحلتي في دمشق ووجدت صديقا قديما ليلة الخميس في أب ورمانة، طوني، يعيش في أحد أحياء دمشق. كان في بار في الطابق السفلي، وه ووكر مظلم لشباب سوريين يرقصون ويشربون ويتبادلون الأحاديث. دفعت عبر غابة الجثث حتى وصلت إلى الحانة ووجدت خالد الذي عانقني دبا متعرقا واشترى لي بيرة. إنه روائي وبوهيمي، رجل ضخم ذ وضحكة صاخبة ورأس ضخم من تجعيد الشعر الرمادي الفولاذي. لقد كان معارضا منذ أن عرفته، وكان من المتظاهرين المتحمسين في عام 2011. كان عمره عامين قد جعله يتقدم في السن بشكل واضح. تحدثنا عن أصدقاء مشتركين، كلهم ذهبوا الآن. قال خالد: "لا يمكنني التخلي عن الثورة". لن أغادر دمشق. وضع ذراعه حول امرأة شابة وقدمها على أنها ريتا. قالت ريتا: "خالد ه والمتفائل الوحيد المتبقي في سوريا". عندما غادر خالد لتحية شخص آخر، سألت ريتا - كان علينا الصراخ على زخم موسيقى البوب العربية - عن حالة المعارضة السلمية. أشعر بالخجل من قول ذلك، لكن المعارضة فعلت ذلك.

قالت "فقدت معناها". الآن ه وقتل فقط، لا شيء سوى القتل. الجهاديون يتحدثون عن الخلافة والمسيحيون خائفون حقا ". كان هناك وقفة. "لقد انتظرت طوال حياتي لهذه الثورة، لكن الآن أعتقد أنه ربما لم يكن ينبغي أن تحدث. على الأقل ليس بهذه الطريقة ".

ل وكانت المعارضة قد فقدت معناها، كذلك النظام. اختفت الأقنعة القديمة. فالدولة التي عرّفت نفسها على أنها "القلب النابض للعروبة" طُردت رسميا من الجامعة العربية، واحتقروا زعيمها واعتبروه مجرما.

في شارع جانبي هادئ في واحد من أغنى أحياء دمشق، دعاني محام بارز له صلات بعائلة الأسد للانضمام إليه وأصدقائه في مكتب مترف مليء بالكتب. كانت هناك أرائك جلدية ناعمة وشوكولاتة أوروبية على طاولة القهوة. أظهرت شاشة فيدي ومن ستة عشر إطارا كل اقتراب للمنزل. كان أحد المدعوين ه والأب جبرائيل داود، وه وكاهن وسيم ممدد على كرسي بذراعين في ثوبه الأسود. طُرح موضوع الأقليات في سوريا، وسجّل وجه الأب داود انزعاجه. قال "الأقليات - إنه اسم مستعار". يجب أن تكون نوعية الناس وليس الكمية. يعطيك فكرة أن الأقليات صغيرة وضعيفة. لكننا الشعب الأصلي لهذا البلد ". أما المتظاهرون مطالبهم بالحرية فابتسم الأب داود وقال: "لا يريدون الحرية، يريدون الحوريات". الحرية هي الكلمة العربية لـ "الحرية"، والحوريات هي جمع "حور العين"، العذارى ذوات العيون السوداء التي وُعد بها الانتحاريون في الآخرة. ضحك الأب داود على نكاته الصغيرة، ثم أصبح أكثر جدية. قال عن المعارضة: "إنهم برابرة، برابرة حقيقيون". قد يكون لديهم الجنسية السورية، لكن ليس العقلية. نحن فخورون بعلمانيتنا. لا يمكننا العيش مع هؤلاء البرابرة ". عندما أثرت موضوع القومية العربية جفل الأب داود. قال "نحن فينيقيون ولسنا عربا". "لا نريد أن نكون عربا".

أخذ بعض أنصار النظام الآخرين هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك. ألمح شاب علوي، نجل ضابط رفيع المستوى، إلى أن الوقت قد حان للعلويين للتوقف عن التظاهر بأنهم مسلمون. قال، عندما التقيته في مقهى بدمشق، "عندما بدأت الطائفة العلوية، قبل ألف عام، كانت تمردا على الوضع الراهن". كانت الديكتاتورية في ذلك الوقت هي الإسلام، لذا اتخذ التمرد ضده شكلا دينيا بطبيعة الحال. الإسلام كذبة، إنه مجرد وسيلة لكسب القوة والسيطرة على الحشود. هذا ما يجب أن نتمرد عليه ". عندما سألته - في غياب عروبة الإسلام - ما الذي يمكن أن يلهم الشباب السوري أ ويجمعهم، تردد. قال: "حزب البعث لم يعد موجوداً". "إنهم ديناصورات. يمكن إعادة بناء القومية العربية، ربما، على أساس اقتصادي ... " "أتذكر أنني قلت، عندما بدأت الاحتجاجات الأولى في تونس والقاهرة في عام 2011، إذا حدث هذا هنا في سوريا، فلن ينتهي أبدا. لحظات الإبادة لا تزال حاضرة في أذهان الناس ". افترضت أنه كان يشير إلى حماة، حيث قُتل الكثير من السنة على يد قوات النظام التي يقودها العلويون. لكن بعد لحظة من التفكير أدركت أنني ربما كنت مخطئا: لقد تحدث في وقت سابق عن العلويين كمتمردين وضحايا. كان كل شخص في هذا الصراع مصمما على تصوير شعبه على أنه داود والجانب الآخر على أنه جالوت.

من بعض النواحي، كانت الحياة في دمشق طبيعية بشكل مذهل. كان هناك فاكهة طازجة في أكشاك السوق وحشود المتسوقين في البلدة القديمة؛ دخان التبغ الحل وبنكهة التفاح ينجرف من المقاهي. لكن نقاط التفتيش كانت في كل مكان، ولم يكن بإمكاني السير عشر ياردات دون أن يطلب مني فرد يرتدي ملابس مدنية من قوات الدفاع الوطني الجديدة بطاقة هويتي. خلف ضجيج الشوارع المريح، كان من الممكن سماع دقات المدفعية الباهتة، مثل الرعد المتقطع. لم يعلق عليه أحد من قبل، وفي ضوء شمس الربيع كان من الصعب تخيل أن الناس كانوا يقاتلون ويموتون على بعد أميال قليلة فقط.

لم أشاهد الحرب إلا بعد أن سلكت الطريق السريع شمال دمشق. على جانبينا كانت المنازل محطمة إلى أنقاض أ ومحترقة بحيث يتعذر التعرف عليها، والملصقات التي تحمل وجوه الأسد وعشيرته ممزقة إلى أشلاء. أثناء مرورنا بالسيارة عبر ضاحية حرستا، حيث كانت بعض أسوأ المعارك المحتدمة، وتصاعد عمود ضخم من الدخان الأسود من مجموعة من المنازل على بعد بضع مئات من الياردات. نظر سائقي بقلق إلى الأمام والخلف. تجاوز عداد السرعة تسعين ميلا في الساعة، وتساءلت كيف ستصمد سيارة هيونداي البالية. قال "هذه منطقة خطيرة للغاية". "يجب أن نذهب بسرعة." ما وراء الضواحي، يتقاطع الطريق السريع مع مدينة حمص التي مزقتها الحرب ويتجه غربا نح وقلب العلويين الجبلي على طول البحر الأبيض المتوسط. كان هذا ه والطريق الذي كان سيتبعه بشار وأنصاره، إذا تخلوا لأعدائهم عن العاصمة وحاولوا إقامة دولة رديئة في أرض أجدادهم. المناظر الطبيعية على طول الطريق السريع تزداد خضرة كلما اتجهت شمالا، وتتلاشى علامات الحرب ببطء. ترتفع الجبال الرائعة المغطاة بالثلوج إلى الغرب، وبعد ذلك تظهر السطح الأزرق المتلألئة للبحر. التلال مغطاة بأشجار الزيتون والفاكهة، ورائحة الأوكالبتوس تختلط مع نسيم البحر.

هناك التقيت علياء علي لأول مرة ووجدت نفسي أحدق في صورة جدها. كان منزل عائلة علي في جبلة يتمتع بمظهر دافئ لمنزل على الشاطئ، مع صدف على الجدران ودهان أزرق يتقشر على شكل بقع ناتجة من هواء البحر الرطب وصورة واحدة لحسن نصر الله معلقة على الجدار وأخرى للرئيس بشار الأسد. كانت على الرفوف بعض الروايات باللغة الإنجليزية، بما في ذلك روايات دوستويفسكي الجريمة والعقاب. كانت الدفاتر عبارة عن كتل مستطيلة من المعدن، والتي تبين أنها قطع من قذائف المدفعية الإسرائيلية، وهي تذكار من سنوات والدها كرقيب في الجيش السوري في لبنان. وبينما كنا نتناول غداء من السمك والدجاج المقلي، ألقى والدها محاضرة صغيرة عن شرور التأثير السعودي. وقال إن بذور الإرهاب قد زرعت في السبعينيات وهي تزهر الآن. كان هذا ثابتا خلال الفترة التي أمضيتها في سوريا التي يسيطر عليها النظام، كما ل وأن الجميع قد تلقوا تذكيرا بسيطا ببطاقة الفهرس بما سيقول للصحفي الأمريكي: نحن نواجه الإرهاب الممول من السعودية، مثلك تماما.

لم يلتزم الجميع بالنص الطائفي للنظام. بعد الغداء، وقفت على الشرفة وسط هواء الربيع الدافئ، سألت علياء ما رأيها في العلويين الذين انضموا إلى المعارضة، مثل الروائية سمر يزبك، وهي من أبناء جبلة. كبر حذرها من ذكر اسم يزبك. قالت علياء: "التقيتها ذات مرة". "أخبرتني أن لدي مستقبل مشرق أمامي. لكني لا أريد مستقبلا مثل مستقبلها. أعتقد أن العلويين الذين ينضمون إلى المعارضة لا يدركون أنهم يستخدمون كأدوات أ ويعتقدون أن بإمكانهم تحويل هذه الحرب الجهادية إلى ثورة ديمقراطية. لكنهم لن ينجحوا أبدا ".

سمر يزبك كانت أيضا في سوريا خلال الأشهر الأولى للثورة. في يومياتها عن الأشهر الأربعة الأولى من الثورة - التي نُشرت لاحقًا باللغة الإنجليزية تحت امرأة على خط النار - تصف الحملة الغاضبة التي شنت ضدها بعد أن دعمت التمرد علنا. أُجبرت عائلتها على التنصل منها، ووزعت منشورات في جبلة تندد بها. في مرحلة ما، وصفت مواجهة مرعبة مع جهاز الأمن. بعد اقتيادها من منزلها في دمشق إلى مركز استخبارات، وجدت نفسها مع ضابط عابس يبصق عليها ويطرحها على الأرض ويهددها بالقتل. ثم اقتادها الحراس معصوبة العينين إلى الطابق السفلي إلى إحدى غرف التعذيب في الطابق السفلي للنظام، حيث أُجبرت على النظر إلى المتظاهرين نصف القتلى وهم يتدلون من السقف. أخبرها الضابط أن "الإسلاميين السلفيين" يخدعونها وأنه يجب عليها أن تعود إلى الحظيرة أ وتموت. قال لها: "نحن أناس شرفاء". "نحن لا نؤذي أبناء جلدتنا. نحن لسنا مثلكم أيها الخونة. أنت وصمة عار سوداء على العلويين ". عندما تحدثت إلى يزبك، التي تعيش الآن في باريس، أخبرتني أنها تعتقد أن المجتمع العلوي كان الضحية الأولى لعشيرة الأسد، وأنهم استخدموهم "كدروع بشرية" لإبقاء النظام في السلطة. وقالت: "إنهم يعتقدون أن خطاب النظام، بأنهم سيذبحون إذا سقط الأسد". "إنهم خائفون للغاية ومربكون للغاية."

يشير بعض العلويين داخل سوريا بهدوء إلى نفس النقطة، رغم أنها بعيدة وأكثر خطورة عليهم القيام بذلك. غالبا ما بدت علياء نفسها على وشك الاعتراف بأن الكثير مما قالته يزبك صحيح. لقد قرأت على نطاق واسع واستوعبت وجهة النظر الغربية التي لا ترحم لنظام الأسد. ذات مرة، أشارت إليه على أنه "ديكتاتور". كان الأمر كما ل وكانت تريدني أن أعرف أن عقلها لم يكن أسيرا للتسمية الطائفية التي نشأت عليها. لكن هذه الدوافع تلتها دائما بادرة من الغضب تجاه أوروبا والولايات المتحدة: كانت هاتان الحكومتان تحددان شعبها على أنه عدو. قد تحدق في صندوق ولاءاتها، لكنها لم تستطع الهروب منه. في بعض الأحيان، كانت علياء وأقرانها يذكرونني بسليمان من أضنة: يكافحون من أجل الهروب من الماضي، لكنهم غير قادرين على التحدث بصوت عال لئلا يدمرهم شعبهم.

في معظم الأوقات، الأقليات في سوريا - ليس فقط العلويين ولكن أيضا المسيحيين والدروز والمرشديين - لا تميز مثل هذا التمييز. كل ما يعرفونه ه وأنه يتم تعقبهم وقتلهم من قبل عد ويشبه العد والذي قتل أسلافهم. بحلول عام 2013، أدى ارتفاع عدد القتلى بين جنود النظام إلى جعل الجنازات شبه يومية في شمال غرب سوريا. رأيت ما لا يقل عن نصف دزينة من المعالم الجديدة للحرب في البلدات الجبلية بالقرب من اللاذقية، غالبا مع مئات من أسماء الجنود محفورة عليها. تغطي المنشورات الورقية والملصقات الملونة الجدران في اللاذقية وطرطوس، وكلها تظهر أسماء ووجوه رجال (وبعض النساء) قتلوا أثناء القتال من أجل الرئيس بشار.

بعد فترة وجيزة من لقائها، اصطحبتني علياء وشقيقها عبد الحميد إلى منزل أجداد عائلتها، في قرية دريكيش الجبلية. يتسلق الطريق من الساحل على طول منعطف حاد إلى منظر طبيعي رائع من التلال والبساتين ذات المدرجات الخصبة التي تستدعي إلى الأذهان مدن التلال في توسكانا أ وأومبريا. بعد عشرين دقيقة بالسيارة، وصلنا إلى المنزل، حيث كان عم علياء، عامر علي، يقف في انتظارنا، رجل قوي المظهر يبلغ من العمر خمسين عاما ووجهه متصلب وشعره أشيب قصير. قادنا في الطابق العلوي إلى غرفة كبيرة ذات سقف مرتفع حيث يتناثر ضوء الشمس عبر جدارين مفتوحين. وانتظر العشرات في الداخل، بعضهم يرتدي زيا رسميا، واحتسي الشاي والقهوة. كان عامر قد جمعهم ليروي قصصهم عن أقاربهم أ وأزواجهم الذين فقدوا في الحرب. جلست واستمعت إليهم، واحدا تل والآخر . كانوا من الطبقة العاملة: جنود وعمال بناء ورجال شرطة يرتدون ملابس بسيطة بالية. كلهم علويون، على حد علمي. ربما كان بعضهم من الشبيحة، على الرغم من أن أيا منهم لم يكن ليستخدم هذا المصطلح. أحدهم، وه وعامل بناء في منتصف العمر يدعى أديب سليمان، أخرج هاتفه الخلوي وأظهر لي الرسالة التي تلقاها بعد أن اختطف المتمردون ابنه يامن: "لقد نفذنا إرادة الله وقتلنا ابنك. إذا كنت لا تزال تقاتل مع بشار، فسوف نأتي إلى منازلكم ونقطعكم إلى أشلاء. لا تقاتلونا أبدا ". لم ينقل أي من الأشخاص الذين قابلتهم في تلك الغرفة أي غطرسة من النوع الذي اعتدت رؤيته في دمشق. أوضحوا جميعا أنهم شعروا بأن عائلاتهم ومنازلهم وطريقة حياتهم كلها في خطر رهيب. التقيت برجل يبلغ من العمر عشرين عاما أصيب برصاصتين في رأسه وفقد بعضا من ذاكرته ونصف سمعه. أخبرني أنه سيعود إلى الجبهة بمجرد أن تلتئم جراحه. حدق فيّ والده وقال: "سأفتخر بأن ابني شهيدا. أنا في الخمسينيات من عمري، لكنني على استعداد للتضحية بحياتي أيضا. لقد اعتقدوا أننا سنكون ضعفاء في هذه الأزمة، لكننا أقوياء ".

بعد الغداء، أراني عم علياء أرجاء المنزل. على الجدار كان سيف الإمام علي، رمزا مهما للعلويين، مع آيات مدح للإمام علي محفورة على النصل. كانت هناك أدوات زراعية قديمة، وعصا لصيد الثعابين، وسكاكين للصيد، وقربينة عمرها قرن من الزمان – ه ونوع من التاريخ البصري للشعب العلوي. كانت هناك قوارير فينيقية قديمة، وشجرة عائلة في المطبخ، بأسماء ترجع إلى قرون خلت. قادني عامر علي إلى السطح، حيث حدّقنا في البلدة التي تعيش فيها عائلته منذ مئات السنين. كانت التلال جميلة في ضوء شمس الظهيرة الذهبية. يمكنك أن ترى نبعا قديما يعلوه قوس حجري، ومسجدا بناه أحد أسلافه قبل 240 عاما. وقفت علياء بجانبي على الشرفة، وهي تنظر إلى المدينة بتعبير مفعم بالفخر. سألتها كيف شعرت بمعرفة أن مجموعات حقوق الإنسان الغربية قد وثقت الفظائع المتكررة للنظام السوري - ربما من قبل أشخاص مثل أولئك الذين تحدثنا معهم للتو. كان هذا قبل هجمات واسعة النطاق بالأسلحة الكيماوية على المدنيين السوريين والتي من شأنها أن تدفع الولايات المتحدة إلى حافة التدخل العسكري في سوريا في خريف عام 2013. وكان ذلك قبل أن يصنع نظام الأسد "البراميل المتفجرة"، تم إسقاط المتفجرات بشكل عشوائي على المناطق المدنية، كلمة مألوفة. لكن سلسلة الرعب كانت طويلة بالفعل.

نظرت علياء إلى الأسفل. قالت "نعم، كانت هناك فظائع". "لا يمكنك إنكار حدوث فظائع. لكن عليك أن تسأل نفسك: ماذا سيحدث إذا سقط الرئيس بشار؟ لهذا السبب أعتقد أن النصر ه والخيار الوحيد. إذا سقط الرئيس بشار تسقط سوريا. وبعد ذلك، سنكون جميعا هنا في النقاب، أ وسنموت ". قبل أن نتسلق مرة أخرى، أراني عم علياء حاملا ثلاثي القوائم أبيضا صدئ اللون، مثبت في منتصف السطح، تحت شرفة عالية. قال وه وينظر إلى سماء المساء الصافية: "إنها قاعدة للتلسكوبات، للنظر إلى النجوم". ثم نظر إلى أسفل الجبل باتجاه حيث تفسح التلال الطريق أمام السهل السوري الواسع. "ولكن يمكننا استخدامها بتركيب بندقية قنص والدفاع عن أنفسنا هنا."

كانت نورا كنفاني وعائلتها تعيش في عالم موازٍ بشكل غريب من الحزن والحصار، على بعد ساعتين بالسيارة إلى الشمال، خلف بلد التل الأخضر المورق على الحدود التركية. أظهروا لي صورا لأصدقاء وأقارب متوفين ومختفين، وجلدهم العاري مليء بالكدمات والكدمات والحروق ولغة التعذيب. شاهدت شرائط فيدي ومروعة لجنود النظام والقوات شبه العسكرية وهم يطلقون النار على مراسم العزاء في القرى السنية. شعرت نورا أيضا أن العالم قد تخلى عنها وعن شعبها: الأمريكيون والأوروبيون والعرب - كلهم غير مؤمنين بقضيتهم. كانت تعمل في جمعية خيرية ممولة من الولايات المتحدة، وكانت والدتها زهرة تعمل في مستشفى قريب. كانت العمة مها تدير مدرسة للأطفال اللاجئين السوريين في مخيم بالقرب من الحدود. كانوا أفضل بكثير من معظم اللاجئين السوريين. كان لديهم ما يكفي من المال لاستئجار شقق لائقة بسبب وظائفهم. لكنهم كانوا غير سعداء أبدا في المنفى، ولم يكن أي منهم راضيا عما حدث.

اعتقدوا أنهم سيرون جبلة مرة أخرى. لقد عادوا إلى التقوى. أخبرتني نورا، التي كانت ترتدي حجابا بسيطا على شعرها دائما، أنها تفكر في ارتداء النقاب الكامل. عندما اقتربت منها لأول مرة، رفضت التحدث معي لأن زوجها، الذي كانت صفحته على فيسبوك مليئة بالرموز الجهادية والشعارات الحربية، لم يوافق على حديثها مع رجال أجانب. في النهاية، رضخ تحت ضغط أصهاره. كانت نورا وأقاربها غاضبين من أن الغرب كان أكثر تركيزا على جرائم الجماعات الجهادية المتمردة من تلك التي ارتكبها الرئيس بشار الأسد. أخبرتني نورا: "ليس من المعقول تصديق أن قوة عظمى لا تستطيع فعل أي شيء". "الناس مصدومون من صمت العالم." وذهبت عمتها مها إلى أبعد من ذلك قائلة إنها تشتبه في أن الولايات المتحدة متحالفة مع الرئيس بشار، وكل ذلك كان جزءا من حرب ضد الإسلام نفسه.

 ومع انحسار صداقتهما التي كانت رائعة في الماضي، بدأت نورا وعلياء في إعادة النظر في الصداقة في ضوء وعي جديد في زمن الحرب. سلط كل منهما الضوء على التعليقات والحكايات الضالة التي بدت في ذلك الوقت غير ضارة ولكنها اتخذت الآن معنى جديدا شريرا. قالت نورا وهي جالسة في مقهى تركي ذات ليلة ما أدهشني: "أعتقد أن علياء وعائلتها أصبحوا شيعة". عندما سألتها ما الذي تعنيه، قالت إن علياء كانت تخبرها كثيرا عن حج والديها إلى النجف وكربلاء، مدينتي العتبات الشيعية في العراق. وأن علياء كان تتل وفي كثير من الأحيان اقتباسات من القرآن عن علي. قالت نورا إنها الآن تتذكر سماع شائعات بأن أسرة علياء كانت فقيرة، ثم فجأة أصبحت غنية. أصبح هذا الآن منطقيا بالنسبة لها: قيل إن الإيرانيين يدفعون للناس الأموال ليصبحوا شيعة. عندما فكرت نورا في الأمر، بدأت تشعر أن علياء كانت تقترح بمهارة على نورا أن تصبح شيعية أيضا. قالت نورا: "لم تكن واضحة للغاية بشأن ذلك، لكن الآن أعتقد أنها ربما كانت ستصبح أكثر وضوحا إذا أصبحت شيعية بالفعل".

لم يكن أي من هذا صحيحا. كان والدا علياء قد زارا النجف وكربلاء، مثل العديد من العلويين، لكنني لم أجد أي دليل على أنهم فكروا في التحول إلى الشيعة. لكن الحقائق لم تكن هي هذه النقطة. كان الأمر كما ل وأن الحرب ألقت بظلالها تدريجيا على نورا

أكثر الذكريات حميمية، وإعادة تشكيلها في قصة جعلت علياء أكثر من مجرد دمية في مسرحية أخلاقية طائفية. يقف خلف صديقتها ظل إيران، عد وأهل السنة.

من جانبها، كانت علياء أيضا تمشط ذكرياتها عن الصداقة ووجدت كل أنواع العلامات الخفية ولكن اللعينة. تذكرت أن والدة نورا قالت شيئا إيجابيا عن أسامة بن لادن. تذكرت أن نورا كادت أن تتزوج الأستاذ العجوز من الرستن، وه والسلفي المتشدد والوهابي. تذكرت أن نورا قالت شيئا عن "استعادة الأمة"، الأمة الإسلامية. ذات مرة، قالت لها نورا: "أنت لا تفهمين، لأنك لا تملكين معرفة عميقة بالدين". الأكثر إدانة من كل ذلك كانت الروابط مع المملكة العربية السعودية: إحدى عمات نورا تزوجت من سعودي. وكان شقيق نورا المراهق، كمال، قد التقى بصائغ سعودي كان يعلمه عن تجارة المجوهرات. أخبرتني علياء: "كان الأمر غريبا في ذلك الوقت، لكنني الآن أفهم السبب". كان صديقها وهابيا وسلفيا متشددا طوال الوقت. كان هذا أيضا خيالا، لكنه كان خيالا احتاجته، تماما كما كانت نورا في حاجة لها. تنتمي صداقتهما إلى عالم لم يعد منطقيا. لقد أعادوا تعريف بعضهم البعض، شيئا فشيئا، كأعداء.

***

.................

المصدر:

* فصل من كتاب اضطرابات الشرق الأوسط من ساحة التحرير إلى داعش.

A rage for Order , The Middle East Turmoil from Tahrir Square to ISIS , Robert F Worth , Farrar , Straus and Giroux, NewYork, 18 West 18th Street, New York 10011 Copyright © 2016 by Robert F. Worth All rights reserved First edition, 2016.

أطلقت "حماس" فجر السبت الموفق السابع من أكتوبر 2023 في الساعة السادسة والنصف صباحا، عملية "طوفان الأقصى" العسكرية ضد إسرائيل ردا على اعتداءات القوات والمستوطنين الإسرائيليين المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني وممتلكاته ومقدساته ولاسيما المسجد الأقصى في القدس الشرقية.

وقد استمر التصعيد بين حركة حماس الفلسطينية والقوات الإسرائيلية بعد إطلاق حماس فجر السبت عملية "طوفان الأقصى"، وقد وردت تل أبيب بإطلاق عملية "السيوف الحديدية" متوعدة حماس بدفع ثمن هجومها، وخلفت الأعمال المسلحة حتى الآن حوالي ألف قتيل من الجانبين، بينما تستمر مساع دولية لوقف التصعيد. وحذر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو من "حرب طويلة وصعبة"، في حين صرح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية "نحن على موعد مع النصر العظيم.

نعم إسرائيل تختنق .. تحترق .. تحتضر .. ما بين انتصار مصرنا الحبيبة في عام 1973، وطوفان الأقصى في عام 2023، يبقى أكتوبر كابوسا للإسرائيليين.. يوما سيخلده التاريخ إلى الأبد .. إن السابع أكتوبر 2023، حيث أدخل الفرحة في قلوب ملايين العرب المسلمين وأذل الإسرائيليين، وذلك بعد أعلنت كتائب المقاومة بدء العملية العسكرية طوفان الأقصى من غزة واستهدفت مواقع ومطارات وتحصينات عسكرية لإسرائيل، وكشفت إذاعة إسرائيل أن المقاومة الفلسطينية أسرت عشرات الإسرائيليين، والجديد هذه المرة هو القوة والجرأة الاستثنائية في عدة مشاهد موثقة بالصور ومقاطع للفيديو مذلة حقا للإسرائيليين، وأساليب في المواجهة لم يعتد العالم رؤيتها من الفلسطينيين.

ولذلك فقد تباينت واختلفت ردود الأفعال حيال عملية "طوفان الأقصى" على وسائل التواصل الاجتماعي، وتصدر هاشتاغ طوفان الأقصى وغزة تنتفض وسائل التواصل الاجتماعي قابله في الجهة الأخرى هاشتاغ مغامرة غزة ومغامرة حماس.

وردا على ذلك أعلنت إسرائيل المذعورة لأول مرة منذ 1973 أنها في حالة حرب، وما أشبه الليل بالبارحة، فهل تتذكرون " جولدا مائير" عجوز إسرائيل المتعجرفة، تبدو مصدومة جدا، وتكاد تموت حسرة وهي تراقب عودة الأسرى في حرب السادس من أكتوبر، وهم يرتدون البيجامات الكستور التي فرضها عليها الرئيس المصري " محمد أنور السادات" في موقف مهين للجيش المصري الذي لا يقهر، وما لبث الإسرائيليون أن ينسوا هذا الموقف حتى ظهر الجنرال" نمرود ألوني" – قائد لواء بجيش إسرائيل، ولكن هذه المرة لم يظهر في صورته المعتادة، بل ظهر بملابسه الداخلية، وهو يتم أسره وجره في الشارع في موقف لا يصدق .

وعلى شاكلة هذه المشهد هناك مشاهد أخرى استثنائية أذلت الإسرائيليين، رأينها خلال عملية طوفان الأقصى الباسلة منذ فجر السبت الماضي في السابع من أكتوبر 2023، وقد العالم كله قد تفاجأ بهذه المشاهد التي لم يرها من قبل، إذ أسفرت عنم صدمة هائلة داخل أروقة تل أبيب وكبدتها خسائر فادحة على كل المستويات، تلك المشاهد تعد عرضا حيا للقدرات والبراعة الفلسطينية وتذكر العالم بأن الصمود والإرادة يمكن أن تحقق النصر رغم كل التحديات .

لقد اعتمدت كتائب المقاومة على تدريب المقاتلين الذين نفذوا العملية المباغتة داخل الأراضي المحتلة باستخدام المظلات، تلك العملية أسفرت عن مقتل جنود إسرائيليين وأسر آخرين، فقد أظهرت بعض اللقطات مقاتلا من المقاومة وهو يدخل المناطق المحتلة باستخدام المظلة، ما أصار الصدمة في قلب الإسرائيليين، كما تم الكشف عن تجهيز عددا من مقاتلي المقاومة في سرب "صقر" ، وهو واحد من الوحدات العسكرية التي شاركت في عملية طوفان الأقضى .

ويعد ظهور وحدة سرب " صقر" في هذه العملية هو الظهور الأول لها، حيث إن هذه اللقطات غير المسبوقة في تاريخ المواجهات بين إسرائيل والفلسطينيين تُظهر الإتقان والجرأة الفائقة للمقاومة الفلسطينية.

والمشهد الثاني لا يقل إدهاشا حيث وثقت لقطات متداولة عملية الاجتياح الجريء التي نفذها المقاتلون الفلسطينيون في مستوطنات غلاف غزة حيث بلغ عددهم نحو ألف مقاتل فلسطيني اقتربوا من مستوطنات إسرائيلية مجاورة للقطاع بطريقة غير مسبوقة، ثم فجروا السياج الفاصل بين غزة والأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل في منطقة " خان يونس" .

هذا الاقتحام الجريء سمح للمقاومين الفلسطينيين بالدخول بسهولة إلى أراضيهم المحتلة حيث استخدموا دراجات نارية وسيارات في هذه العملية البطولية، بالإضافة إلى ذلك نجح المقاتلون في اقتحام العديد من المنازل داخل المستوطنات الإسرائيلية واحتجاز رهائن داخلها، وهو مشهد لم يشهده القطاع من قبل ما أظهر قوة وجرأة المقاومة الفلسطينية في هذه العملية التاريخية.

أما المشهد الثالث فقد أثار دهشة العالم بحق حيث قام عناصر من المقاومة الفلسطينية عشرات الإسرائيليين من المستوطنات الإسرائيلية نحو قطاع" غزة"، وبثت كتائب المقاومة قطع فيديو يظهر أسر مقاتليها ثلاثة رجال يرتدون ملابس مدنية قالت إنهم إسرائيليون، وظهر في مطلع فيديو العبارة التالية :" مشاهد أسر كتائب المقاومة عددا من جنود العدو ضمن معركة طوفان الأقصى ".

ويبدو من اللافت في خلفية الفيديو باللغة العبرية أن اللقطات أُخذت في الجانب الإسرائيلي، كما انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بلقطات تظهر فيها جثث جنود بملابسهم العسكرية، إضافة إلى جثث أشخاصا وركاب على الطريق السريع، كما ظهر مقاتلوا كتائب المقاومة وهم يسيطرون على دبابة إسرائيلية ويخرجون منها أحد الجنود الإسرائيليين قبل أن يتم اقتياده إلى قطاع غزة، وظهر عدد من جنود اسرائيل وهم محاطون بمقاتلي المقاومة الذين نفذوا بنجاح عملية " طوفان الأقصى" .

ولاشك في أن المقاومة في غزة أبهرت العالم وتل أبيب باستخدامها لطائرات المسيرة حيث رأينا قصف طائرات المقاومة لدبابة إسرائيلية شرق قطاع غزة، وكان هذا المشهد مشابها التي نشاهدها في الحروب الحديثة مثل الحرب الروسية – الأوكرانية، وكذلك أظهرت لقطات مختلفة استخدام طائرة مسيرة أخرى من قبل المقاومة لاستهداف رشاش آلي يطلق النيران بشكل آلي نحو القطاع .

وردا على هذا الوضع أعلن الجيش الإسرائيلي بدء عملية السيوف الحديدية في قطاع غزة حيث أعلن في بيانه أن طائراته بدأت بشن غارات في عدة مناطق بالقطاع على عدة أهداف، وقد أظهرت المواجهات الدائرة في قطاع غزة والأراضي المحتلة تطورا نوعيا في القدرات العسكرية والصاروخية لفصائل المقاومة الفلسطينية، وبالأخص بعد الفشل الذي كانت تسببه القبة الحديدية التي صنعها الاحتلال لإسقاط صواريخ المقاومة .

ولذلك فقد نجحت المقاومة الفلسطينية في إطلاق آلاف الصواريخ في يوم طوفان الأقصى تجاه مدينة تل أبيب، ونجحت غالبتها في الوصول إلى أهدافها والتسبب في قتلي وإصابات وتدمير مبان، ومن أبرز تلك الصواريخ كان صاروخا يظهر للمرة الأولى  أٌطلق عليه اسم " رجوم" ، وهو صاروخ قصير المدى من عيار 114 ملم وهو الصاروخ الذي مهد الضربة الافتتاحية لطوفان الأقصى، والراجمة التي تطلق هذا الصاروخ تحتوي على 15 فوهة، أي أنها يمكنها إطلاق 15 صاروخا بشكل متتال، واستخدمت المقاومة عدة راجمات متجاورة للحصول على كثافة نيرانية كبيرة لتحييد بطاريات القبة الحديدية التي تقل فاعليتها كثيرا في حال إغراقها بالصواريخ وأيضا لإبقاء الجنود في المعسكرات الملاصفة لحدود قطاع غزة داخل ثكناتهم ومخابئهم حتى وصول المقاتلين المهاجمين.

أما عن ما قامت به غزة خلال عملية طوفان الأقصى ليس فقط انتصارا لها، بل انتصارا للمنطقة العربية وكل من يؤمن بالعدالة وحقوق الإنسان، فقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في مختلف الأقطار العربية تفاعل غير مسبوق وسادت حالة من الفرحة الكبرى افتخارا بالمقاومة الفلسطينية وغملياتها البطولية التي كانت في عثر دار إسرائيل وخلفت الرعب لدى جنودهم وشعبهم، كام تظاهر الآلاف في الأردن، واليمن، والمخيمات الفلسطينية في لبنان احتفالا بعلمية طوفان الأقصى التي أسفرت عن قتل وأسر عشرات الإسرائيليين، في حين أعلنت دول عربية وأجزاب سياسية ومؤسسات دينية عن دعمها لنضال الشعب الفلسطيني حتى النصر، وشارك المئا، كما طالبوا بطرد السفير الإسرائيلي وإغلاق السفارة، فاليوم هو يوم النصر، هكذا تعالت الأصوات مطالبة بتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.

وقد كشفت صحيفة «ذا صن» البريطانية أن رجال الإنقاذ في إسرائيل عثروا على 260 جثة كانوا قد تواجدوا في مهرجان موسيقي في إسرائيل خلال هجمات حماس وقال عدد من الحضور إن حماس قامت بقطع الكهرباء فتحت النار على المتواجدين خلال الحفل، ولكن ماذا حدث في هذا الحفل؟

ووصف الكثير من رواد الحفل ما حدث، وقالت أحدهم وفقًا لتقرير رصدته قناة bbc، إن صفارات الإنذار بدأت في العمل، بدأت مع بدء الهجوم وأعقبها إطلاق نار سريعا، وقالت الفتاة للقناة 12 الإسرائيلية: «لقد قطعوا الكهرباء وفجأة أطلقوا النار، وفتحوا النار في كل اتجاه" ؛ وقالت: حاول الكثير الفرار من الموقع، فركضوا عبر الرمال وصعدوا إلى سياراتهم للابتعاد، ولكن سيارات جيب كانت تنتظر في الخارج وتطلق النار على السيارات، وقال أحد رواد المهرجان، لصحيفة «هاآرتس» إطلاق النار كان بمثابة صدمة لقد اختبأنا تحت الأشجار وحاول الجميع الركض إلى مكان آخر، فيما قالت فتاة أخرى وفقًا لتقرير bbc إنها تظاهرت بالموت حتى أنقذها الجيش الإسرائيلي في النهاية، واختبأ العديد من رواد المهرجان، في الشجيرات وبساتين الفاكهة القريبة لساعات، على أمل وصول الجيش وإنقاذهم، وقال شاهد آخر للقناة 12 :"كان فيلم رعب مدته أربع وخمس ساعات... ركضنا بجنون، كان الأمر جنونيًا".. وللحديث بقية.

***

الأسٍتاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

..................................

المراجع:

1- قناة استيب: طوفان الأقصى" غزة تباغت إسرائيل بمشاهد لم يروها من قبل ولن ينسوها أبدًا!

2- أنظر مقال بعنوان من "طوفان الأقصى" إلى "السيوف الحديدية".. هكذا تستمر المواجهة بين إسرائيل وحماس.

3- أنظر مقال بعنوان هكذا تفاعل رواد مواقع التواصل مع عملية "طوفان الأقصى".

4- فاطمة محمد: «تظاهروا بالموت واختبأوا تحت الأشجار».. إسرائيليون يرصدون «حفلة الموت» لحظة طوفان الأقصى.. المصري اليوم .

الذهول هو سيد الموقف أمام الجميع.. فلا نحن ولا هم تخيل أن الجيش الإسرائيلى بهذه الهشاشة!

أروع ما فى الأمر أن يتزامن الانتصار الفلسطيني مع ذكرى نصر أكتوبر المجيد فى مصر.. لتتلاقى الفرحتان فى موسم واحد يجمع بيننا وبين أشقائنا فى فلسطين..  يوم الانتصار على العدو ..

مشاهد أسطورية..

ما حدث بالأمس وما زال يحدث هو أمر فى غاية العجب، ولم يُسبق أبداً مثله على مدار تاريخ الصراع العربى الإسرائيلي.. وهو ما يؤكد أننا أمام منعطف تاريخى له ما بعده..

من بعد طوفان ليبيا الذى أحزننا جميعاً، جاء الطوفان الذى أسعد كل العرب.. طوفان الأقصى. ساعات قليلة كانت كافية لتحدث المعجزة ونرى مشاهد تفوق الخيال.. السياج الإسرائيلى يندك والفلسطينيون يندفعون بالمئات ويتوغلون داخل المستوطنات، بينما المستوطنون يفرون مذعورين فى كل اتجاه لدرجة اختباء بعضهم داخل صناديق القمامة!

  يوم واحد كان كافياً لنشهد نتائج انتصار مؤكد سيتحاكى به العالم لسنوات قادمة، حتى لو أن العدو الصهيونى قام برد فعل غشيم كعادته فسيظل انتصار السابع من أكتوبر 2023 يوماً من أيام التاريخ وأن ما بعده ليس كما كان قبله..

  إننى لا أبالغ فيما ذهبت إليه من مزاعم؛ وتعالوا أشرح لكم أدلة مزاعمى تلك.. أولها أن الفلسطينيين جميعهم توحدوا في ذلك الحراك الفجائى، فمهما بدأت فصائل المقاومة ضربتها الأولى لكن تبعهم جميع الفلسطينيين شباباً وشيوخاً وأطفالاً بلا وجل أو تردد.. وهو ما جعل الوحدة التى يبحث عنها الجميع تحدث فى الميدان.. فجأة وبدون سابق إنذار وجد المستوطنون اليهود سكان فلسطين يعودون لأراضيهم المسلوبة، ويتجولون فى الساحات والميادين فى قلب إسرائيل! فكيف ومتى جاءوا؟

حدث الهجوم الفجائى بالتزامن براً وجواً .. جرافات أزالت الحواجز، وانطلق الرجال على دراجاتهم الهوائية أو مشياً على الأقدام، فى نفس الوقت الذى هبطت فيه مظلات مبتكرة بدون طائرات تحمل مقاتلين أشداء مدربين وصلوا إلىى العمق الإسرائيلي فى غياب الدفاعات الإسرائيلية.. وعلى نفس طريقة حرب السادس من أكتوبر اختارت المقاومة يوم السبت لهجومها المباغت ما يشي بتخطيط محكم سبق الهجوم التكتيكى البارع..

وفى يوم واحد انطلقت قذائف صاروخية تجاوز عددها 7000 قذيفة على رأس العدو الصهيونى، فكانت نتيجة كل هذا الهجوم المتزامن الكاسح سقوط ما يربو على700  قتيل ، وألفى مصاب بخلاف عشرات الأسرى منهم ضباط وقادة لجيش الكيان الإسرائيلي المحتل! فهل سمعتم من قبل عن مثل هذا الانتصار الفلسطينى فى مثل هذا الزمن القصير؟

وتلك فقط البداية

اللقطات القليلة المتفرقة التى سجلتها الكاميرات وبثتها وسائل الإعلام تؤكد أننا أمام ملحمة هائلة..

أهم وأعظم ما فى تلك الملحمة التكتم الشديد الذى يشي بعمل مخابراتى فائق البراعة أوصل المقاومة الفلسطينية إلى اقتحام العمق الإسرائيلي فى غفلة تامة من سائر أجهزته.. ولا أكاد أبالغ أن الفشل الاستخباراتى الإسرائيلي فى هذه الملحمة لا يقل أثراً عما حدث قبيل حرب أكتوبر المجيدة..  نفس الفشل والانهزام لجيش الاحتلال.. وسوف تكون ثمة محاسبة شديدة لكافة القادة الإسرائيليين الذين تسببوا فى هذا الفشل، تماماً كما حدث فى أعقاب انتصار 73..

(على نفسها جنت براقش).. هذا ما ينطبق على إسرائيل التى بدأت بالعدوان على قطاع غزة والأقصى، وسدرت فى غيها ببناء مستوطنات جديدة فى القدس رغم تحذيرات المجتمع الدولى. وانبرت تعتدى على الجميع داخل مخيمات جنين بلا أى وازع إنسانى ..  وظنوا أن كل هذا الاعتداء والبغى سيمر مرور الكرام وأن توسعهم فى بناء المستوطنات سيدفع اليأس فى قلوب الفلسطينيين، حتى فوجئوا بما لم يكن فى الحسبان..

بإمكانيات متواضعة وعزائم جبارة تحركت الفصائل الفلسطينية فى ثقة واقتدار لتصنع المعجزة تجاه ترسانة إسرائيلية مدججة بالسلاح والعتاد وقفت عاجزة مذهولة أمام الاقتحام المباغت. وأول الساقطين أمام الهجوم الكاسح كانت هيبة الجيش الإسرائيلي التى انكسرت كالقشة، قبل أن يسقط جنود الاحتلال كالذباب قتلى وجرحى وأسرى.. فى الوقت الذى اشتعلت فيه مركباتهم ودبابات الميركافا المتطورة وكأنها صفائح خردة أو هياكل فارغة بلا جنود يقودونها أو قل يحتمون بها!!

ردود الفعل العالمية تفاوتت لكنها جميعاً تؤكد أن ما فعله الفلسطينيون فى هذا اليوم سيكون درساً قاسياً يتذكره الإسرئيليون مدى الحياة فى أسوأ كوابيسهم التى يبدو أنها ستزداد فى المستقبل!

فرار القطيع ..

مشاهد الفرار كانت أبرز المشاهد وأكثرها دلالة على الفارق بين صاحب الحق واللص المغتصب..

فرغم أن الفلسطينيين أكثرهم كان أعزلاً من السلاح وقد اقتحموا المستوطنات بصدور عارية، إلا أن المستوطنيين الصهاينة فروا لمجرد مرآهم أمامهم، فلماذا كل هذا الذعر؟ السبب أنهم يعلمون أن أصحاب الحقوقجاءوا ينشدون استعادة حقوقهم المسلوبة.. وفى مطار بن جوريون اندفع الهاربون الفارون ينشدون اللحاق بأى طائرة ذاهبة لأى مكان إلا فلسطين المحتلة! وصفارات الإنذار باتت كغربان تنعق بالشؤم على آذان طالما صُمَّت عن صوت الحق.

كل هذا حدث ولما يبلغ عدد المقتحمين الفلسطينيين بضع عشرات، فما بالنا لو اتسعت الدائرة وزاد العدد إلى مئات وألوف، فكم عدد الفارين وقتها؟ إننى أرى أن استمرار المعارك بهذه الوتيرة سوف يسفر فى أدنى حالاته عن هجرة جماعية قادمة تخصم من تعداد إسرائيل عدة آلاف، أكثرهم من أثرياء اليهود الخائفين على مصالحهم وأموالهم.. ومثل هذا الأمر سيغير موازين الصراع القادم.

أبرع خطة ..

قالها الرئيس السادات قبل ذلك، إن السلام لا يُنال إلا على أطراف البنادق..  ولولا حرب أكتوبر ما جاءت معاهدة السلام. وهكذا الحال فى فلسطين المحتلة..  سوف تأتى المفاوضات وتحدث الهدنة عاجلاً أو آجلاً، لكنها ستأتى هذه المرة من موقف القوة والأنفة والكرامة..

 معركة صغيرة قصيرة نعم..  لكنها أحدثت زلزلة عظيمة سيتردد صداها إلى أبعد مدى.. المقاومة الفلسطينية أحكمت سيطرتها على مقاليد الأمور فى بضع ساعات، ولابد أن هذا الفعل الخارق سبقه إعداد هائل دام عدة شهور..  إنه تراكم خبرات اكتسبته المقاومة على مدار سنوات طويلة من المعارك كان الانتصار فيها جميعاً لصالح المقاومة، وإن كان الانتصار هذه المرة هائلاً عظيم الأثر..

الهجوم جاء مركزاً على قاعدة رعيم التابعة للمنطقة الجنوبية وفرقة غزة الإسرائيلية المكونة من 20 ألف جندى.. وخلال الضربة الأولى المباغتة تمت السيطرة على قطاعات واسعة بعد شل قدرات الفرقة وأسر قائدها وإحراق عدد من الدبابات.. كل هذا تم تحت غطاء نارى كثيف من صواريخ وقذائف كان الهدف منها شغل العدو بالهجوم الصاروخى، بينما السيطرة الحقيقية تتم على الأرض من خلال هجوم برى وجوى مزدوج! ولم تستطع إسرائيل الرد على المقاومة باستراتيجية "حنبعل" المكشوفة بقصف أماكن تجمعات المقاومة حال الكر والفر، أما هذه المرة حال العدد الهائل للأسرى من الجنود والمستوطنين دون اتخاذ رد فعل عنيف قد يودى بحياة هؤلاء الأسرى.. إننا أمام تخطيط محكم محسوب تلافَى كل أخطاء وعيوب الخطط السابقة عليه.. فى هذه المعركة السريعة البارعة كسرت المقاومة الفلسطينية حاجز المستحيل وسطرت تاريخاً جديداً للمقاومة ومنعطفاً يسير بالصراع العربي الإسرائيلي نحو نهاية لن تكون أبداً فى صالح  إسرائيل .

***

د. عبد السلام فاروق

قبل سبع سنوات نشر الصحافي الإسرائيلي الصهيوني آري شافيط مقالة متشائمة ويائسة يدعو فيها الى الرحيل من إسرائيل ومراقبتها من الخارج وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة وتساؤل ألم يفت الوقت على البدء بتطبيق سياسة سماها "الطريق الثالث" لإنقاذ إسرائيل بوسائل وسطية تقوم على (إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وإعادة تأهيل الصهيونية وإنقاذ الديمقراطية وتقسيم الأرض)، ولكن مشكلة شافيط هي أنه يدور في داخل القوقعة الأيديولوجية الصهيونية نفسها، ويريد إنقاذ إسرائيل الصهيونية بوسائل صهيونية فهدفه كما يقول هو قيام (دولة يهودية تعكس حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره. ديمقراطية تحترم جميع حقوق مواطنيها. دولة قوية تعرف كيف تتعامل مع البيئة الوحشية التي نعيش فيها. دولة حديثة ستمكن كل طفل يولد هنا من العيش بكرامة في أمة هي جزء من العالم الحر في القرن الحادي والعشرين)، وهذا هو الهدف الذي فشل في الوصول إليه اليسار واليمين الصهيونيين. وإذن فلا حل إلا بحلها، حل الدولة اليهودية الصهيونية وقيام دولة فلسطين الديموقراطية! إن إسرائيل الصهيونية تعيش منذ يومين تمرينا أوليا صغيرا على الزوال من الأطلس العالمي بعد أن عذبت شعب فلسطين طَوال 75 عاما وحاولت اقتلاعه من وطنه وألقت بنصفه في مخيمات اللجوء، وأقامت دولة توراتية خرافية أيديولوجية مليشياوية مسلحة بقنابل نووية!

نعم، هي دولة مليشياوية مسلحة إذا كان أغبياء الليبرالية العربية يجهلون ذلك، دولة مليشياوية دموية أسستها خمس مليشيات دموية هي:

1-مليشيا هاغاناه (الدفاع)،

2-مليشيا شتيرن (ليحيى) أسسها البولندي أبراهام يائير وكانت تفضل التحالف مع الحركة النازية،

3-منظمة إرغون (المنظمة العسكرية القومية في إسرائيل)

4- مليشيا بيتار التي تأسست في لاتيفيا ونشطت في فلسطين،

5- سرايا بلماح (سرايا الصاعقة).

إن تنبؤات شافيط بأن تلفظ هذه الدولة أنفاسها ستجد طريقها الى التحقق على أرض الواقع فهذه الدولة المسخ الخرافية لا مستقبل لها، وستزول بل لقد بدأت بالزوال الفعلي ولن ينقذها لا شافيط ولا التطبيع مع دويلات التخلف والاستبداد العربية. أدناه فقرات من مقالة شافيط:

* ربما ضاع كل شيء. ربما تجاوزنا نقطة اللاعودة. وربما لم يعد من الممكن إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وتحقيق السلام. وربما لم يعد من الممكن إعادة تأهيل الصهيونية وإنقاذ الديمقراطية وتقسيم الأرض.

* ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلم يعد هناك أي معنى للعيش في هذا البلد. ولم يعد هناك أي معنى للكتابة لصحيفة هآرتس. ولم يعد هناك أي معنى لقراءة صحيفة "هآرتس" أيضًا. ويتعين علينا أن نفعل ما اقترحه روجيل ألفر قبل عامين: مغادرة البلاد. يبتعد.

* إذا لم تكن الإسرائيلية واليهودية عنصرين حيويين في هويتنا، وإذا كان لدينا جواز سفر أجنبي ليس فقط بالمعنى الفني بل بالمعنى الروحي - فهذا كل شيء. يجب أن نقول وداعًا لأصدقائنا، ونحزم حقائبنا وننتقل إلى سان فرانسيسكو أو برلين.

* ومن هناك، من أرض الشوفينية الألمانية الجديدة أو أرض الشوفينية الأميركية الجديدة، علينا أن نراقب بهدوء إسرائيل وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. يجب علينا أن نخطو ثلاث خطوات إلى الوراء ونشاهد الدولة اليهودية الديمقراطية تغرق في غياهب النسيان. ولكن ربما لم نفقد كل شيء. ربما لم نتجاوز بعد نقطة اللاعودة. وربما لا يزال من الممكن إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وإعادة تأهيل الصهيونية وإنقاذ الديمقراطية وتقسيم الأرض.

***

علاء اللامي

.....................

*رابط مقالة آري شافيط هآرتس بتاريخ 8 أيلول 2016:

https://www.haaretz.com/opinion/2016-09-08/ty-article/.premium/the-third-way-for-israel/0000017f-e874-dc7e-adff-f8fd80380000

العملية الفدائية التي قامت بها كتائب القسام واحتلت خلالها عدة مستوطنات في غلاف غزة وقتلت وأسرت المئات من الإسرائيليين كانت مفاجئة للجميع من حيث التوقيت وحجمها وخسائر العدو وتأثيراتها النفسية على الإسرائيليين والفلسطينيين أيضا تداعياتها السياسية المتوقعة فلسطينياً وعربياً ودولياً.، كما ستكون ردة فعل إسرائيل قوية وعنيفة ومختلفة عن حروبها السابقة على القطاع.

خلال اليومين السابقين غطت غالبية الفضائيات ووكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي الفلسطينية والعربية ما يجري وأسهبت في إظهار بطولات المقاومين الفلسطينيين وكيف أسقطوا ببطولاتهم كل المراهنات والأوهام التي روجت لها حكومة اليمين الصهيوني كالزعم بانتهاء القضية الفلسطينية وتطويع حركة حماس في غزة والسلطة في الضفة للأمر الواقع، وهو الأمر الذي ساعدها على ترويج روايتها الصهيونية عربياً ودولياً وعلى أساسها جرت عديد الدول العربية للتطبيع والتخلي عن الشعب والقضية الفلسطينية، أو الزعم بأن الشعب الفلسطيني منقسم على نفسه وصراعاته الداخلية تطغى على صراعه مع الاحتلال الخ.

 إعلان إسرائيل حالة الحرب رسمياً وهو ما لم يحدث منذ حرب أكتوبر1973، وإعلان واشنطن وعلى لسان الرئيس بايدن في مؤتمر صحفي خاص بأحداث غزة بأن واشنطن تقف بكل حزم الى جانب إسرائيل وتضع كل امكانياتها المالية والعسكرية لدعمها وهو ما أكد عليه وزير الخارجية بلينكن وترسل حاملة طائرات للمنطقة، هذا يعني أن الأمور لن تقتصر على رد الاعتبار لهيبة الجيش الإسرائيلي من خلال عملية محدودة في غزة بل هي مؤشرات على تداعيات استراتيجية للحرب تتعلق بالقطاع ومستقبل حركة حماس في غزة وعلاقة غزة بإسرائيل، كما تحمل تحذيراً لأطراف أخرى فيما لو تدخلت في الحرب كحزب الله أو إيران، أو تدهور الوضع الأمني في الضفة والقدس وداخل الخط الأخضر.

الى الآن لا يبدو أن الحرب ستتطور لحرب إقليمية حتى على مستوى حزب الله، لانشغال (محور المقاومة) بمشاكل داخلية وتعرض أطراف المحور لضغوط دولية والخوف من الانزلاق لحرب لن تكون مع إسرائيل فقط بل مع واشنطن والغرب عموماً، مع اعتقادنا بوجود تهويل في دور ايران ومحور المقاومة فيما يجري في غزة وعموم فلسطين للتغطية على فشل إسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينية والإهانة التي تعرضت لها في عملية (طوفان الأقصى)، وبالتالي ستقتصر الحرب الآن على جبهة قطاع غزة و إسناد شعبي من فلسطينيي الضفة وستكون حرباً صعبة تمتد لأيام وأسابيع ستغير المعادلة في قطاع غزة وربما في الشرق الأقصى.

مع أن حركة حماس ثبتت نفسها كرقم صعب وأساسي في المعادلة الفلسطينية الداخلية، ومع أهمية ودراماتيكية عملية حماس وبطولة مقاتليها إلا أن الاحتلال الكبير في ميزان القوى يميل كثيراً لصالح الكيان الصهيوني، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات عن هدف حركة حماس من القيام بهذه العملية النوعية وهي تعرف الاختلال في موازين القوى لصالح العدو كما تعرف بأن محور المقاومة لن يتدخل بشكل مباشر؟  أيضا تساؤلات حول مستقبل قطاع غزة وحركة حماس بعد الحرب؟

ما قامت به حركة حماس فعل طبيعي وحق مشروع لحركة مقاومة ضد الاحتلال إلا أن العملية الفدائية تدخل في سياقات أخرى نظرا لتموقع حركة حماس كحكومة وسلطة تحكم في قطاع غزة وتتعامل معها عديد الدول على هذا الأساس، حتى إسرائيل ولسنوات تتعامل معها وتنسق معها بطريقة غير مباشرة كسلطة أمر واقع بل إن نتنياهو اعترف أكثر من مرة بأن وجود حماس في السلطة في القطاع يخدم مصلحة استراتيجية لها، فما الذي تغير وكيف ستؤول الأمور؟

استمعنا في اليوم الأول للحرب خطابات القائد العسكري محمد الضيف ورئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري وكلها أكدت أن عملية (طوفان الأقصى) جاءت كردة فعل على انتهاك المسجد الأقصى وإرهاب المستوطنين وأنها تهدف لتحرير الأقصى وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي! وهو نظرياً هدفاً مشروعاً، ولكن كيف سيحدث ذلك عملياً في ظل وجود حماس في السلطة في غزة ووجود سلطة أخرى في الضفة والحالة المتردية للعالمين العربي والإسلامي وعدم وجود عملية سياسية للسلام، ثم صدور تصريحات لاحقة من المقاومة بعد أسر مئات الإسرائيليين بأن الهدف مفاوضات لتبادل الأسرى، فهل ستؤول الأمور لمفاوضات بين حماس وإسرائيل تكون فيه حماس في موقع القوة لفرض شروط على العدو في أمور تتعلق بواقع ومستقبل قطاع غزة وتثبيت سلطتها؟ أم سيتجاوز ذلك لتغيير المعادلة كليا على مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟

 إن كان من السابق لأوانه الحسم في نتائج الحرب ومدى قدرة المقاومة الفلسطينية على تحقيق أهدافها الاستراتيجية في هذه المرحلة من الحرب التي ما زالت في بدايتها وتداعياتها الإقليمية غير واضحة وحجم وأهداف ردة الفعل الإسرائيلية غير واضحة أيضاً، وما زال من غير الواضح هل تريد إسرائيل انهاء الدور الوظيفي لحماس في القطاع وإحلال سلطة فلسطينية بديلة أو مجرد إضعافها وتدمير قدراتها العسكرية كلياً مع الحفاظ عليها كسلطة للحفاظ على حالة الانقسام الفلسطيني؟ إلا عملية (طوفان الأقصى) حققت إنجازات معنوية وأعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث، إلا أننا نأمل من فصائل المقاومة الحذر من مخطط إسرائيلي سيتم تنفيذه بعد حرب برية مدمرة على القطاع حيث يتم استدعاء تدخل دولي يؤدي لمرابطة قوات دولية على حدود القطاع وقطع التواصل والعلاقات كليا. مع القطاع ورميه في أحضان مصر، وخصوصا بعد اقتحام المقاتلين الفلسطينيين للمعابر بين القطاع ودولة الكيان وبالتالي مع بقية فلسطين، واحتمال عدم فتحها مرة أخرى.

***

د. إبراهيم أبراش

إن الانتصار البطولي الذي حققته المقاومة الفلسطينية في صفوف الاسرائيليين بقيادة الجناح العسكري لقسام في غزة، كان بمثابة تحول جديد في الصراع الفلسطيني -الاسرائيلي من الناحية التوقيت والجهوزية الاستباقية التكتيكية. وهذا العمل يشهد للمقاومة الفلسطينية به. وقد قال رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتانياهو بالامس، إننا في حالة حرب ولسنا في عملية عسكرية وذلك في اول تصريحات له في عملية طوفان الاقصى. إن هذه العبارة لها مدلول كبير وبخاصة، أن العملية تتزامن مع احداث اقليمية مهمة في سوريا وصفقة التطبيع السعودي مع اسرائيل. فهل تنذر عملية الطوفان بحرب شاملة في المنطقة؟

بداية لا بد ان نشير الى أن هذه المقاومة الفلسطينية موجود قبل ايران وقبل حزب حزب، فلا حاجة للقول بأنها مدعومة من قبل ايران وربط الصراع الفلسطيني بعناصر مستجدة . ثانية، لا بد ان نشير إلى أن ما حدث يوم السبت يعتبر خرقاً غير مسبوقاً للكيان الاسرائيلي من خلال قتل 150 قتيلا و2000 جريح في قطاع غزة ومنهم قيادات اسرائيلية تم اعتقالهم واسرهم. إن هذا الخرق الامني والاستخباراتي يعد عملية نوعية ومهمة جدا بفعل استخدام حماس السلاح السيبراني والاسلحة المتقدمة في العملية. ما شكل حالة ارباك لدى دولة الاحتلال على كافة المستويات الامنية والاستخباراتية، الامر الذي قد يقود اسرائيل نحو تغيير قواعد الاشتباك.

وفي تصريح لصحيفة نيويورك تايمز التي افادت: "بأن هجوم حماس الواسع كشف اخفاقات كبيرة لمؤسسة الدفاع الاسرائيلي".

وبالتالي، وسط هذه الاجواء من التصعيد والمواجهة ما حدود الرد الاسرائيلي على عملية طوفان الاقصى؟

ربما تتشابه احداث الطوفان بعملية خط برليف عام 1973، غير ان الظروف ومعطيات اليوم تختلف عن السابق بفعل العديد من المعطيات الموضوعية. كما ان الاعلام العسكري متقدم جدا في نقل الصورة والحدث بدقة ووضوح ، فلا مجال للتشكيك والظنون، وبخاصة اننا نعيش في قرية صغيرة منكشفين اعلاميا على كل شيء. فما المتوقع في الايام القادمة: هناك سيناريوهان لا سواهما، الاول: ان تكون ردة فعل الكيان الاسرائيلي محدودة تقتصر على عملية التصفية في صفوف الفلسطينين وقيادة حماس كما جرى في عمليات سابقة ايام عملية مخيم جنين ومن ثم التفاوض حول ملف الاسرى. ثانيا، الخوف من انتقال المعركة نحو حرب شاملة يتم من خلالها فتح الحدود البرية وبخاصة، أن السيد حسن نصرالله قد توعد بفتح الجبهة البرية اللبنانية فيما لو اقدم العدو على فتح جبهته البرية. ما يعني أننا دخلنا في حرب شاملة تشمل لبنان وسوريا وبخاصة ان الاحداث في الشمال السوري باتت اكثر تعقيدا وبخاصة ايران تتعرض لضغوطات قوية جدا ما يؤشر كذلك على احتمالية دعمها للمقاومة الفلسطينية بهدف التصعيد ورفع حالة الاستنفار والتأهب في المنطقة. وكذلك، في لبنان على خلفية النزوح السوري الامر الذي ينذر باجتياح اسرائيلي جديد الى لبنان لفرض واقع جديد وبخاصة انه يتم التحريض في لبنان نخو دعوات الدخلات خارجية وسط خطاب عنصري يستهدف من خلاله النازحين السوريين، ما قد يؤدي الى اشتباكات طائفية مسيحية - سنية -شيعية محتملة ومواجهات أمنية كالتي وقعت في منطقة كل من الكحالة والطيونة.

بالختام، ما يجري اليوم من احداث متزامنة وملتهبة تفتح الصراع على سينارويهات عديدة محتملة وذلك لانعدام الحلول وتفاقم الازمات والصراعات العميقة التي لا تستجيب فيها الانظمة العربية الى اصوات شعبها المهجورة والمشرد.

***

كتابة: أورنيلا سكر - صحافية وباحثة متخصصة في العلاقات الدولية

مديرة موقع أجيال قرن ال٢١

أعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في كلمته في منتدى "فالداي" للحوار، عن إمكانية سحب التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية CTBT، وهذا يرجع وفقا لبوتين إلى عدم وجود إجراءات مماثلة من جانب الولايات المتحدة، وانه يجب أن يتخذ مجلس الدوما هذا القرار، هذا الإعلان أثار وكما أفادت وكالة رويترز، قلق في الخارجية الأمريكية، إزاء خطط روسيا لسحب التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، ونقلت عن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، في بيان نقلته الوكالة "نحن نشعر بالقلق إزاء مثل هذا التحرك من قبل أي دولة مشاركة، ويعرض للخطر دون داع المعايير العالمية التي تحظر تجارب التفجير النووية"، وتزعم واشنطن، بأن موسكو تريد زيادة الضغط على الدول الأخرى حتى تتوقف عن مساعدة أوكرانيا.

وبشأن الوضع الحالي للسلامة النووية العالمية، فإن العقيدة العسكرية الروسية وكما اوضحا الرئيس بوتين، تسمح لسببين لاستخدام الأسلحة النووية، "الأول هو الاستخدام ضد روسيا، أي أنها ضربة انتقامية"، والثاني هو "تهديد لوجود الدولة الروسية، حتى لو تم استخدام الأسلحة التقليدية ضد روسيا، ويعرض ذلك وجود روسيا ذاته للخطر "، بالإضافة إلى ذلك، وعن إمكانية العودة إلى التجارب النووية، وللتذكير فإن الولايات المتحدة، مثل روسيا، وقعت على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية CTBT ، ولكن على عكس موسكو، لم تصدق واشنطن أبدًا على هذه الوثيقة، ويشدد الرئيس الروسي على أن بلاده تختبر بنجاح أنواعا حديثة من الأسلحة الاستراتيجية.

وسؤال المراقبون يكمن في مدى إلحاح الحاجة اليوم إلى تغيير القواعد الراسخة في اتجاه خفض عتبة التصعيد المسموح بها إلى "شركاء رصينين"، وهل روسيا بحاجة إلى تغيير هذا؟ ولأي غرض؟ فالرئيس الروسي، أشار في حديثه إلى أن كل شيء يمكن تغييره، وأنه لا يرى ضرورة لذلك، وفي رأيه، في الوقت الحالي “ ولا يوجد مثل هذا الوضع” الذي تواجه فيه روسيا تهديدًا وجوديًا حقيقيًا، وانه أطلق على هذه التطورات اسم Burevestnik وSarmat وأن الخبراء يتحدثون عن ضرورة إجراء اختبارات نهائية، لكنه ( بوتين ) غير مستعد للقول "هل نحتاج حقا أم لا" لتنظيم مثل هذه الأحداث.

ان موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، في 24 سبتمبر عام 1996، منعت بموجبها الوثيقة، إجراء تفجيرات تجريبية للشحنات النووية، وكذلك التفجيرات النووية للأغراض السلمية، وينطبق الحظر على كافة المجالات (في الجو، في الفضاء، تحت الماء وتحت الأرض) وهو مطلق وشامل الطابع، ولكن المعاهدة لم تدخل حيز التنفيذ، لأن الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل وإيران والصين لم تصدق عليها، ولم توقع عليها الهند وكوريا الشمالية وباكستان.

الرئيس الروسي رمى بكرة المعاهدة، وإمكانية سحب التصديق عليها الى مجلس الدوما (البرلمان)، الذي أكد رئيسه، فياتشيسلاف فولودين، إن اقتراح الرئيس بوتين، سيتم النظر فيه في الاجتماع القادم لمجلس دوما الدولة، مبررا ذلك " بوجود تغير في الوضع العالمي "، والإشارة إلى أن تحديات اليوم تتطلب حلولاً جديدة، ووفقا لفولودين، فإن مراجعة وضع المعاهدة "تتوافق مع المصالح الوطنية لدولتنا"، بدوره، أكد السكرتير الصحفي للرئيس دميتري بيسكوف، أن المراجعة المحتملة لوضع معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية لا تعني أن موسكو تعتزم إجراء تجارب نووية، وبشكل عام، فإن سحب التصديق على معاهدة حظر التجارب النووية هو القرار الصحيح برأيه، ولم تكن جميع الدول التي تمتلك مثل هذه الأسلحة مستعدة لاتباع أحكام هذه الوثيقة، وقال السيناتور كونستانتين دولغوف من جانبه، ان "الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لم تصدق قط على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية لأنها لا تريد تقييد يديها بالقيود"، ومع ذلك، فإن القرار المحتمل، إذا تم اتخاذه، لا يهدف إلى تنفيذ محاولة للتأثير على واشنطن، بل إلى ضمان أمن الدولة في روسيا، كما أن هذا الإجراء يجب أن يتوافق مع الواقع الحالي ويسمح لموسكو بتعزيز قدراتها الدفاعية بشكل كبير.

وبدورهم يؤكد الخبراء الروس، ان روسيا تتصرف دائمًا بمسؤولية كبيرة في هذا المجال، وبالإضافة إلى ذلك، فإن سحب التصديق لا يعني أنها ستبدأ على الفور إجراء تجارب نووية، ولكن في الوقت الحالي، فان روسيا تفكر فقط في مثل هذا الاحتمال، ولكن لم تبدأ في تنفيذه، وتهدف التدابير الانعكاسية إلى تحقيق ذلك في ضوء سلوك الولايات المتحدة، ومع ذلك، هناك آراء أخرى، حيث يرى عدد من الخبراء أن إحجام الولايات المتحدة عن التصديق على المعاهدة خاطئ بشكل واضح، إلا أن قرار موسكو المحتمل بإلغاء التصديق، في رأيهم، يمكن أن يزيد أيضًا من المخاطر في مجال الأمن النووي العالمي، وأكد أليكسي أرباتوف، رئيس مركز الأمن الدولي في IMEMO RAS، في مقابلة مع صحيفة كوميرسانت، أن هذه الخطوة يمكن أن تساهم في تدمير "النظام بأكمله المبني حول معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية".

ويُعتقد أن سحب التصديق يمكن أن يسبب سلسلة من ردود الفعل، لأن الدول الأخرى يمكن أن تراجع وضع الوثيقة خلف موسكو، ويشار إلى أنه إذا حدث ذلك، فإن معاهدة حظر الانتشار النووي ستنهار أيضًا، لأن أحد أهم ركائز نظام عدم الانتشار هو حظر التجارب، وأنه بهذه النتيجة يمكن أن تظهر دول أخرى كثيرة في العالم تمتلك مثل هذه الأسلحة المدمرة، أما أليكسي أنبيلوغوف، الخبير في مجال الطاقة النووية، فهو أكثر تفاؤلاً، ويعتقد أن الحاجة إلى إعادة النظر في حالة مشاركة روسيا في معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، ناجمة عن عدم التناسب في الأنظمة القانونية الحالية فيما يتعلق بالتجارب بين روسيا والأعضاء الآخرين في النادي النووي وأولئك الذين ليسوا أعضاء فيه.

وتنطلق واشنطن من منطق بسيط، ان كل الاتفاقيات التي تشارك فيها الولايات المتحدة يجب أن تفرض مسؤولية أكبر على منافسي أميركا، أي أنهم يحاولون تحقيق الحد الأقصى من العدو المحتمل، ويشير الخبراء أيضًا إلى أنهم ينصون في عقيدتهم للأمن القومي على أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ليس فقط في حالة وجود تهديد وجودي للدولة، ولكن أيضًا "في حالات خاصة "، وفي الوقت نفسه، لا ينبغي اعتبار مثل هذه الخطوة من جانب موسكو بمثابة استعداد سريع لبدء اختبار الأسلحة الاستراتيجية، وبصراحة، فإن الحاجة إلى هذه الاختبارات اليوم أقل إلى حد ما مما كانت عليه في الفترة السوفيتية.

ومع ذلك، فإن سحب التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية يمنح روسيا فرصة نظرية لإجراء اختبارات، وهو ما له في حد ذاته تأثير قوي على مظهر النظام الأمني العالمي، وبطبيعة الحال، يظل الحظر المفروض على إجراء التجارب في الجو وتحت الماء وفي الفضاء قائما، ولكن هذا يفتح الفرصة لتنظيم أحداث مماثلة تحت الأرض، ويؤكد أنبيلوغوف، ان هذا النوع من الاختبارات ينظمه البروتوكول الإضافي لمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وبالتالي، فإن الإنهاء المحتمل للوثيقة الرئيسية أو تقييدها سيعفي موسكو من مسؤولية الامتثال للوقف الاختياري المصاحب، وربما توافق روسيا على تنفيذ تفجيرات معزولة تحت الأرض، لذلك فإن هذا لن يتحول إلى نشاط منهجي لروسيا .

وبناء على ذلك، فإن روسيا، بسحبها التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، تعرب عن قلقها البالغ إزاء تصرفات الولايات المتحدة، وهذا القرار يمنحها الحرية في إطار أنشطة محددة لاختبار الأسلحة الاستراتيجية، إذا لزم الأمر، وتشير المعلومات الى أن شركة "Gton" تجد نفسها في دور "اللحاق بالركب" في المجال النووي، سياسيًا وعسكريًا تقنيًا، وهذا يعد تغيير خطير في وضع الولايات المتحدة، والذي يمكن أن يؤثر حقًا على نظرتها للعالم، وبالتالي فإن موسكو، وبطريقة حضارية للغاية، تلمح لخصمها حول مراجعة نوعية للحقائق القائمة، و"من المحتمل جدًا أن يكون لهذا تأثيرًا تنبيهيًا على السياسيين الأمريكيين"، في الوقت نفسه، لا داعي للخوف من أن إلغاء التصديق سيؤدي بأي شكل من الأشكال إلى تدمير نظام السلامة النووية القائم، وإن انتشار مثل هذه الأسلحة يحدث بغض النظر عن الأنظمة القانونية التي تخضع لها روسيا، وللتذكير فإن إسرائيل والهند وباكستان تلقت هذه التقنيات كجزء من التفاعل المباشر مع الدول الغربية.

ومع ذلك، لا يزال الحل المحتمل الذي تقترحه موسكو يواجه عدداً من الصعوبات، أولا وقبل كل شيء، سيخلق واقعا جديدا في إطار توازن الأمان النووي، وهو في حد ذاته غير آمن، لكن واشنطن أجبرت موسكو على هذه الخطوة، وإن عدم الرد على تصرفات الولايات المتحدة المتهورة سيكون خطأ كبيرا لا يمكن ارتكابه، في المقابل فإن القرار المحتمل، إذا تم اتخاذه، لا يهدف إلى تنفيذ محاولة للتأثير على واشنطن، بل إلى ضمان أمن الدولة في روسيا، وأن هذا الإجراء يجب أن يتوافق مع الواقع الحالي، ويسمح لموسكو بتعزيز قدراتها الدفاعية بشكل كبير، دون أن يسبب أي ضرر للأمن العالمي، وفي النهاية، فان روسيا تعلن فقط عن استعدادها لاتخاذ الإجراءات الأكثر صرامة فقط في حالة وجود تهديد وجودي للدولة، وأن خصومها الغربيون يتخذون إجراءات مدمرة حقًا فيما يتعلق بالاستقرار النووي.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

بعد خمسين عام حرب أكتوبر / تشرين بنسخة فلسطينية حمساوية

 قبل خمسين سنة وفي السادس من أكتوبر ١٩٧٣ فاجأت القوات المصرية إسرائيل باقتحام التحصينات في سيناء وحطموا خط بارليف المنيع، وكانت مفاجأة أذهلت الجيش والاستخبارات الإسرائيلية وكانت خارج حسابات المراقبين والمحللين السياسيين، لأنها لم تكن متوقعة بعد سنوات من حرب الاستنزاف على جبهة القناة وكانت إسرائيل تعتقد انه استقر لها الأمر وأن مصر لن تحارب خصوصا في ظل أوضاع اقتصادية سيئة وبعد ان قطعت مصر علاقاتها العسكرية مع الاتحاد السوفييتي وانفتحت على واشنطن والغرب.

 بعد اقتحام الجيش المصري لخط بارليف قام جيش العدو باختراق وفتح مغبر على قناة السويس في منطقة الدفرسوار (ثغرة الدفرسوار) حيث حاصر جيش الاحتلال وحدات من الجيش الثالث المصري واستعمالها لاحقا كورقة قوة في المفاوضات. وكانت نتيجة هذه الحرب والانتصار العسكري الجزئي، وهو أول انتصار لجيش عربي على عدو خارجي، دخول مصر واسرائيل بمفاوضات برعاية أمريكية قادها هنري كسنجر وزير الخارجية الأمريكية آنذاك-سياسة الخطوة خطوة- وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد ١٩٧٩ ومرابطة قوات دولية في سيناء التي انسحبت منها إسرائيل بشروط بعد ثمان سنوات في عام ١٩٨١.

في حرب أكتوبر الأولى كان تنسيقا بين مصر وسوريا وبعض الدول العربية على حرب لتحرير الأراضي العربية المحتلة عام ١٩٦٧ ولكن التحالف والتنسيق توقف بين سوريا ومصر وجرى حديث ان هدف السادات من الحرب القيام بحرب تحريكية لمفاوضات من موقع القوة وهذا ما تم بالفعل.

في حرب أكتوبر الفلسطينية/ الحمساوية، كانت إسرائيل تعتقد أنها طوعت حركة حماس والمقاومة في غزة كما أضعفت السلطة الفلسطينية في الضفة وحولتها لسلطة واهية فاقدة المصداقية والقدرة على فعل شيء حتى في إطار مشروعها للتسوية السياسية الأمر الذي أطلق سراح الحكومة اليمينية والمستوطنين لممارسة كل أشكال العنصرية والعربدة في الضفة وتهويد المسجد الأقصى، وأن تطبيع العربية السعودية ودول أخرى كفيل بإنهاء الصراع وحسمه لصالح دولة الكيان ... إلا أن نخبة من مقاتلي حركة حماس فاجأت الجميع وقامت بهجوم مفاجئ لوحدها دون تدخل أو تنسيق مع محور المقاومة وحتى مع حركة الجهاد الإسلامي حتى الآن، وحطمت خط بارليف على حدود غزة (غلاف غزة) والذي أنفق العدو المليارات لتحصينه بالأسلاك الشائكة والخنادق والحواجز والمعيقات الإلكترونية والكهربائية والقبة الحديدة واحتلوا سبع مستوطنات باعتراف العدو وقتل وأسر المئات مع إطلاق آلاف الصواريخ على عدة مدن.

ما قامت به حركة حماس أثار إعجاب وحالة عاطفية متأججة عند غالبية الشعب الفلسطيني وخصوصا في الضفة الغربية والقدس، وكيف لا يكون ذلك وقد وصلت عربدة بن غفير وسموترتش ونتنياهو والمستوطنين مداها في استفزاز مشاعر الشعب الوطنية والدينية، وسنسمع من الغرب وإعلامه إدانات للعملية و لبعض المشاهد التي صاحبت اقتحام المستوطنات، ولكن على الغرب أن يتذكر الجرائم والإرهاب الصهيوني من مجزرة دير ياسين وقبية وبحر البقر وقانا إلى إحراق عائلة الدوابشه وقتل الأطفال والنساء على الحواجز واحتجاز جثامين الشهداء و مقابر الأرقام وخمسة آلاف اسير  بينهم أطفال ونساء وجرحى.

 ولكن ماذا بعد؟ وما الذي تهدف له حركة حماس من هذه الحرب (طوفان الأقصى)؟ وما هي ردة الفعل المتوقعة من العدو؟ وما هي انعكاسات الحرب على قطاع غزة وعلى السلطة الفلسطينية وعلى القضية الوطنية بشكل عام؟ وهل يمكن اعتبار هذه الحرب (حرب تحريكية) كحرب أكتوبر المصرية ستفتح المجال لتدخل دولي وليس مصري وقطري فقط لفتح مفاوضات مباشرة بين حركة حماس وإسرائيل وقد تؤدي لمرابطة قوات دولية على حدود القطاع؟

إن كان من السابق لأوانه توقع نتائج هذه الحرب التي تجري الى الآن ت داخل الأراضي المحتلة وهذا يحدث لأول مرة بعد حرب أكتوبر 1973 ولم تبدأ الحرب على غزة التي هدد بها رئيس وزراء العدو، إلا أنه في حالة عدم دخول محور المقاومة - حزب الله وايران وسوريا -في الحرب من خلال إطلاق صواريخ من جنوب لبنان وإيران وسوريا على مدن العدو، وهذا من غير المتوقع، وفي حالة عدم انفجار الوضع في الضفة وداخل الخط الأخضر بمقاومة شعبية شاملة، فالحرب ستكون حرب إسرائيل وقطاع غزة،  ومن المتوقع وبعد التعامل مع المقاتلين الذين احتلوا أو حرروا المستوطنات سيقوم  العدو بردة فعل دموية  قوية ضد القطاع تسبق أي مفاوضات هدنة تختلف عن غيرها من الهدن السابقة..

وعلينا انتظار ما ستأتي به الساعات والأيام القادمة، وربنا يستر.

***

ا. د. إبراهيم أبراش

المجد الذى حققته لنا حرب الكرامة أكتوبر 73 تتدانى أمامه الأمجاد.. لم تكن حرباً عادية كما لم يكن نصراً سهلاً؛ لاسيما وقد فقد الجيش المصرى فى نكسة 67 شطراً عظيماً من قوته وعتاده، وفقد معه الشعب الأمل فى عودة أراضيه التى سلبت منه .. وبدأت الآلة الإعلامية العالمية والعبرية تبث سمومها لتوهم الجميع أن الجيش الإسرائيلى لا يمكن قهره، وأن خط بارليف يستحيل تجاوزه .. فإذا بالحرب تأتى لتنقلب الآية وتنكشف الأكاذيب والمزاعم الغربية ويحقق الجيش المصرى نصراً ما زلنا نفخر به إلى اليوم وحق لنا أن نفعل..

تلك الملحمة جاءت لنا بمفاجآت نقف أمامها اليوم مبهوتين لنتعلم دروساً لم يكن ممكناً أن نتعلمها بغير حرب النصر تلك.. عشر مفاجآت كشفتها لنا تلك الملحمة، ومن الخير ألا ننساها.

1- أبطال الحرب:

البطولات التى سطرها الجنود والمقاتلون فى حرب العاشر من رمضان وما قبلها أكثر من أن تحصى.. فكأن الحرب جاءت لتبرز حقيقة الجيش المصرى وتميز صفوفه بعضهم عن بعض، ويجد أبطال الجيش فرصتهم لنيل الشهادة أو بذل الواجب.

ولعل من أبرز الأسماء التى لمع نجمها خلال الحرب الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة آنذاك. وهو من الأبطال القلائل ذوى العبقرية العسكرية الفذة وهو أول من أنشأ سلاح المظلات قبل العدوان الثلاثى على مصر وشارك فى دحره.

لم يكن سعد الدين الشاذلى وحده البطل بل هناك آلاف الأبطال من الجنود والقادة الذين قضى بعضهم نحبه وآخرون عاشوا فى ذكرى بطولاتهم يروونها للأحفاد ولأجيال تأتى بعدهم.

2- المعدن المصرى النفيس:

قيل الكثير عن شعب مصر وجيشه قدحاً وذما وتشكيكاً فيما لديهم من عزيمة وإرادة للانتصار واستعادة الكرامة فى أعقاب النكسة. غير أن المعدن المصرى لم تتجل حقيقته إلا فى أصعب وأحلك الظروف.. إذ سرعان ما استعاد الجيش شتات نفسه وأذاق العدو ألواناً من العذاب وأقض مضجعه بحرب استنزاف طويلة أنهكت قواه على مدار ثلاثة أعوام ونصف. هكذا ينجلى المعدن المصرى الحقيقي فى مثل تلك اللحظات المصيرية..إن مصر لا تعدم العباقرة والأبطال والمخلصين فى طريق كفاحها المستمر فى معركة البقاء..

3- خسة الصهاينة:

كاد الجيش الصهيونى خلال الساعات الأولى من الحرب أن يفنى وقد ولى ظهره فراراً أمام جحافل قوات الجيش المصري الباسلة. لكنه سارع باللجوء إلى أمريكا لإنقاذه من براثن الجيش المصرى الهصور بعد أن تهاوى خط بارليف الذى اختبأوا خلفه ظناً منهم أنه يمنعهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب فولوا فراراً حتى حين..

وقد اكتشفنا بعد الحرب حجم ما ارتكبه الجيش الصهيونى من مذابح وانتهاكات بحق المصريين منذ النكسة وحتى انتهاء الحرب، وأن أخلاقيات الحروب أمر لا يكترثون له ولا يقع فى حساباتهم. واستمرت خسة الصهاينة ونذالتهم بادية فى كل خطوات الحرب وحتى فى المفاوضات التى أرادوا من خلالها المماطلة فى إخلاء المناطق التى احتلوها ونيل أكبر قدر ممكن من المكاسب على مائدة التفاوض. وعلينا ألا ننسي هذا الدرس الذى كشف لنا أن هؤلاء لا أمان لهم أبداً، وأن السلام فى أعرافهم له معانى شتى غير ما نعرف!

4- أمريكا العدو:

أمريكا كانت حاضرة فى الحرب طوال الوقت لحماية إسرائيل.. ولولا دعمها لها بالعتاد والسلاح والمال وشتى أنواع الدعم السياسي واللوجستى والدبلوماسي لاختفت إسرائيل من الخارطة..

لقد سارعت الولايات المتحدة الأمريكية بإعداد خطة سريعة فيما عرف بعملية "عشب النيكل" لإنقاذ العدو الصهيوني وإمداده بالسلاح وتعويض خسائره استمرت طوال فترة الحرب إلى ما بعد وقف إطلاق النار وحتى منتصف نوفمبر، ليصل حجم ما تم نقله من ذخائر وأسلحة إلى الجيش الصهيونى لنحو 13 ألف طن أسلحة عبر الجسر الجوى المستمر.. ناهيك عن الجسر البحرى الذى نقلت أمريكا من خلاله 65 ألف طن من المعدات والدبابات والمدافع، وهو ما ساعد الصهاينة لاستعادة توازنهم فى الحرب من خلال ثغرة الدفرسوار..ورغم كل الإمدادات العسكرية الأمريكية استمر نزيف الخسائر فى الجيش الإسرائيلى فسارعت أمريكا لعقد مباحثات الكيلو 101 لفض الاشتباك بحضور جنرال أمريكي ممثلاً للأمم المتحدة! فلولا أمريكا لكان لهذه الحرب شأن آخر..

5- أصابع اليد:

اكتشفنا فى هذه الحرب المجيدة أننا كعرب كأصابع اليد الواحدة لا يستغنى أحدنا عن الآخر. وأننا معا قوة لا يستهان بها، وأن ضعفنا ينشأ من تفرقنا بعضنا عن بعض..

جميع الدول العربية تآزرت. وأرسل الأشقاء العرب فى المغرب العربي والخليج العربي ما أمكنهم من مساعدات عسكرية ولوجستية ..شارك العراق والأردن والسعودية فى الجبهتين السورية والأردنية، كما شاركت الجزائر وليبيا والمغرب بأسراب من الطائرات الحربية لمؤازرة القوات المصرية. وكانت أياماً مجيدة من البطولة التى أبداها الأشقاء ومثالاً يحتذى فى التصدى والمواجهة صفا واحداً ضد العدو المشترك..

6- عبقرية التخطيط والأداء:

على مدار سنوات طويلة بدأت خفايا وكواليس الحرب المجيدة تبدو شيئاً فشيئاً لنكتشف الكثير مما حدث بها من بطولات وعمليات يجرى اليوم تدريسها فى الكليات العسكرية كنموذج لعبقرية التخطيط..

حتى قبل بدء الحرب الفاصلة فى السادس من أكتوبر حدثت عدة عمليات ضرورية مهدت الأرض للاجتياح الأخير، كان أهمها عمليات الاختبار والتدريب على اجتياز الساتر الترابى ووضع صواريخ الدفاع الجوى فى أماكن متقدمة بالضفة الغربية ..ولعل أهم ما اشتهر فى أحداث ما قبل الحرب خطة الخداع الاستراتيجى البارعة حتى حانت ساعة الصفر وانطلق سرب الطائرات الحربية المكون من أكثر من 200 طائرة لتنفيذ ضربة جوية مكثفة على ارتفاعات منخفضة لتفادى الرادارات وأوقعت الضربة الأولى خسائر مهولة فى صفوف العدو بالتزامن مع الاجتياح البرى الذى شهد ملحمة تاريخية بارعة. وبدأت المدفعية المصرية، بعد عبور الطائرات بخمس دقائق بقصف التحصينات والأهداف الإسرائيلية الواقعة شرق القناة بشكل مكثف تمهيداً لعبور المشاة، فيما تسللت عناصر سلاح المهندسين والصاعقة إلى الشاطئ الشرقي للقناة لإغلاق الأنابيب التي تنقل السائل المشتعل إلى سطح القناة، وفي الساعة الثانية والثلث تقريبا توقفت المدفعية ذات خط المرور العالي عن قصف النسق الأمامي لخط بارليف ونقلت نيرانها إلى العمق حيث مواقع النسق الثاني، وقامت المدفعية ذات خط المرور المسطح بالضرب المباشر على مواقع خط بارليف لتأمين عبور المشاة من نيرانها. بعدها عبر القناة 2000 ضابط و30 ألف جندي من خمس فرق مشاة، واحتفظوا بخمسة رؤوس كباري واستمر سلاح المهندسين في فتح الثغرات في الساتر الترابي لإتمام مرور الدبابات والمركبات البرية.. وتوالى تدفق القوات المصرية المقاتلة واستمروا فى التوغل مخترقين صفوف العدو الذى بادر بالفرار.. واستمرت الملحمة أياماً تنتقل من مرحلة إلى مرحلة فى خطط عسكرية مرسومة بدقة. وتم تنفيذها على أعلى مستوى من الالتزام والتفانى.. لقد شهدت تلك الحرب عدة معارك صغرى كمعركة بورسعيد ومعركة الفردان ومعركة الدفرسوار ومعركة المزرعة الصينية وأبدت القوات المصرية فيها فدائية عظيمة، ومرونة كبيرة فى الانتقال بين بدائل الخطط. حتى شهد لنا العدو قبل الصديق بالعبقرية العسكرية الفذة.

7- قوة سلاح الإعلام:

الشعوب العربية تعرضت فيما قبل ملحمة العبور لحرب نفسية عميقة الأثر من الإعلام الغربي والإذاعات الأجنبية أيقن على إثرها الناس أن إسرائيل جثمت على سيناء ولن تتركها، وأن جيشها لا يقهر وأن خط بارليف لا يمكن تجاوزه. وتزايد هذا الشعور خلال فترة حرب الاستنزاف لأن الحرب الفاصلة يتم تأجيلها باستمرار كأنها مماطلة الخائف من المواجهة..كل تلك الموجات الهلامية من الشائعات انهارت مع أول قنبلة سقطت على رأس العدو..

تلك الحرب الإعلامية هى لعبة أجادها الغرب ووعيناها جيداً منذ ذلك الحين إلى الآن. نعم لدينا بنية أساسية إعلامية قوية وكوكبة من الإعلاميين والصحفيين على أعلى مستوى، لكن ينبغى لنا تطوير الإعلام باستمرار لمواكبة التطور والتكنولوجيا العالمية فى هذا المجال.

8- سلاحنا السرى:

شهداء حرب أكتوبر المجيدة إذا عادوا للحياة فسيكشفون للعالم مدى قوة سلاحنا السرى الأعظم الذى طالما واجهنا به الدنيا فانتصرنا فى كل معركة بدأناها بصيحة النصر: الله أكبر.. إن إيماننا بالله ويقيننا فى نصره ومدده لهو أقوى من مفاعلات ديمونة فى أوج نشاطها..وهذا ما أكده الفريق الشاذلى فى مذكراته مستشهداً  بأحداث وقعت أثناء الحرب تؤكد تلك الحقيقة..

9- ثنائية الحرب والسلام:

لم تكن الحرب كلها معارك .. لقد حدثت عدة اتفاقيات ومباحثات لوقف إطلاق النار من أجل التفاوض وفض الاشتباك، جاءت بدعوى من الطرف الأمريكي الظهير الخلفى للعدو الصهيونى.. وقد جنحنا للسلم كما انتصرنا فى الحرب، وجلسنا جلسة الأقوياء مرفوعى الرأس نتفاوض لإقرار السلام بعد الحصول على كافة حقوقنا المسلوبة.. لقد استمرت مباحثات السلام عدة سنوات بعد الحرب واختتمت باتفاقية كامب ديفيد ثم استعدنا أرض طابا بالتحكيم الدولى لتعود أرض سيناء بأكملها لنا .. فالسلام هو الهدف فى نهاية المطاف.. لكنه سلام الأقوياء ..

10- الجيش..كلمة السر:

لم نكن لنخوض حرب الاستنزاف المضنية ولا حرب أكتوبر التى كلفتنا زمرة من خيرة أبطالنا لولا ما حدث فى 67 .. فالاستعداد المستمر والجاهزية الدائمة شعار الجيش اليوم بعد درس الأمس الذى أدركنا من خلاله أن عدونا لا يزال رابضاً فى حديقتنا الخلفية ينتظر لحظة انقضاض جديدة تحقق له مخططات لا تخفى على أحد.. لهذا لم ينفك جيش مصر يطور من قدراته واستعداداته على الدوام ولابد له أن يفعل.. مصر أمانة.. وجيشها خير من يحملها ..

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم