آراء

آراء

بدأت أسرار قمة الناتو التي عقدت مؤخرا في فيلنيوس، تتسرب الى العلن يوما بعد يوم، و اخطرها هي تلك التي تتعلق بالتحركات البولندية الليتوانية في غرب أوكرانيا، وحقيقة محاولة الناتو فتح جبهة بالوكالة ثانية واسعة النطاق ضد روسيا وربما بدأ الآن التنفيذ العملي لهذه الخطة، فهناك ضخ مكثف لمجموعة أرضية في بولندا وليتوانيا، مما يعزز الغطاء الجوي، بما في ذلك في فيلنيوس وبالقرب من كالينينغراد مباشرة.

حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال اجتماعه مع اعضاء مجلس الامن القومي الروسي، عزز الشك باليقين حول تلك النوايا، وحذر بوتين وبشكل صريح، من مساعي بولندا لحشد تحالف تحت مظلة "الناتو" والتدخل المباشر في أوكرانيا للاستيلاء على مناطقها الغربية، والاشارة الى إن موسكو تعرف أن بولندا ترغب في الحصول على جزء من الأراضي في بيلاروسيا، وأصدر بوتين تعليمات للمخابرات بمراقبة خطط بولندا الخاصة بأوكرانيا، ويهدف حديث الرئيس الروسي إلى تحذير الغرب من أن رد روسيا سيتبع على الفور، ومن المحتمل أن يكون هذا ردا نوويا، إن لم يكن في صورة معكوسة، فعندئذٍ بشكل غير متماثل، وأن بإمكان روسيا المضي قدمًا في تعزيز وجودها العسكري في بيلاروسيا.

ويؤكد المراقبون، أن الرئيس الروسي، حاول إنقاذ النخب البولندية والليتوانية من خطوات متهورة، وحذر الولايات المتحدة وحليفتيها في الناتو بولندا وليتوانيا، من محاولات تصعيد الصراع الأوكراني، وإيضاحه، بانه بات معروفا ان خطط بولندا لا تقتصر على هذا أيضًا، وأنهم يحلمون أيضًا بالأراضي البيلاروسية، لذلك أكد بوتين إن إطلاق العنان للعدوان على بيلاروسيا سيعني العدوان على روسيا، وفي حال وقوع أي اعتداء على بيلاروسيا، التي هي جزء من دولة الاتحاد، فإن روسيا سترد بكل الوسائل المتاحة، في الوقت نفسه، أشار إلى أن موسكو تعرف أن بولندا ترغب في الحصول على جزء من الأراضي في بيلاروسيا، وتتوقع تشكيل نوع من التحالف تحت "مظلة" الناتو، وبعد ذلك ستتدخل مباشرة في الصراع الأوكراني من أجل تمزيق "قطعة سمينة" في أوكرانيا، لاستعادة أراضيهم التاريخية - غرب أوكرانيا اليوم، وقد لفت الانتباه فقط إلى ما يجب أن تعرفه شعوب بولندا وليتوانيا، إن الغرب اليوم يفتقر إلى "وقود المدافع الأوكراني" في ساحة المعركة.

ويرى الرئيس الروسي إنهم يخططون لاستخدام مواد استهلاكية جديدة - بولنديون وليتوانيون وأقل من ذلك في القائمة، وأكد ان "هذه لعبة خطيرة للغاية، وعلى واضعي مثل هذه الخطط التفكير في العواقب"، ووفقا للمراقبين فانه بالفعل ستكون هناك عواقب، وسيكون رد روسيا حاسمًا وقاسًيا، ووفقا لهم، فإن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام بولندا ودول البلطيق، كأعضاء في الناتو لتصعيد الصراع مع روسيا، لكن ليس بشكل مباشر وليس في أوكرانيا - فهذا يعني الدخول في حرب مفتوحة مع روسيا، لكنهم يشكلون تهديدات لبيلاروسيا، وهذه تهديدات حقيقية، وليست كتائب خيالية من [الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، وأوضح العالم السياسي ألكسندر أسافوف، أن هذا تحذير الى بولندا وليتوانيا بشأن عدم الرغبة في اتخاذ إجراءات جذرية، ورسالة الى الناتو مفادها أن روسيا على دراية بخطط الحلف، وأنها تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية دولتها ودولتها الحليفة، ويجب ألا ينسوا بحسب أسافوف، أن بيلاروسيا تمتلك أسلحة نووية تكتيكية ومجموعة عسكرية مشتركة، في غضون ذلك يحاول بوتين منع الموت غير الضروري لسكان هذه البلدان التي تشترك معها روسيا في التاريخ المشترك و"الاختيار متروك لبولندا وليتوانيا".

كما تبين أن الجزء العلني من الجلسة الأسبوعية لمجلس الأمن الروسي، هذه المرة كان أطول من المعتاد، فبعد أن أعطى الرئيس بوتين الكلمة لرئيس جهاز المخابرات الخارجية في الاتحاد الروسي، سيرغي ناريشكين، فقد كان الأمر يتعلق بالتهديدات الجديدة التي نشأت في الاتجاه الأوكراني، ووفقًا لناريشكين، فإن النخب البولندية تدرك بشكل متزايد، أن القوات المسلحة لأوكرانيا لا يمكنها مقاومة الجيش الروسي، وأن "هزيمة أوكرانيا مسألة وقت ليس إلا "، وانه في هذا الصدد، تعمل القيادة البولندية وفقا لناريشكين على تكثيف مزاجها للحفاظ على سيطرتها في المناطق الغربية من أوكرانيا، والمناطق الغربية، من خلال نشر قواتها هناك.

ويمكن القيام بذلك في إطار مثلث لوبلين، زيادة كبيرة في قوة اللواء الليتواني-البولندي-الأوكراني، وقد وافق الرئيس بوتين على أن هذا تهديد حقيقي، ويمكن لبولندا أن تقرر اتخاذ مثل هذه الخطوة، ومشاهدة فشل الهجوم المضاد للقوات المسلحة لأوكرانيا، وعدم فعالية الإمدادات الهائلة من الأسلحة الغربية لأوكرانيا، فالجنود الروس وضباطها ووحداتها وتشكيلاتها، يقومون بواجبهم تجاه الوطن بشجاعة وثبات وبطولة، في الوقت نفسه، قال الرئيس الروسي ان العالم بأسره يرى، أن المعدات الغربية التي يُفترض أنها غير معرضة للخطر مشتعلة، ومن حيث البيانات التكتيكية والتقنية، غالبًا ما تكون أدنى حتى من بعض أنواع الأسلحة التي لا يزال إنتاجها سوفييتيًا.

كما ان مخزونات الأسلحة في الغرب مستنفدة بشكل كبير، و قدرات الإنتاج لا تسمح لهم بالتجديد السريع لاستهلاك المعدات والذخيرة، في الوقت نفسه فإن روسيا بحاجة إلى موارد جديدة، ليس فقط تقنية، بل بشرية أيضًا، وأكد بوتين أن هذا على الرغم من حقيقة أنه "نتيجة للهجمات الانتحارية، تكبدت تشكيلات القوات المسلحة الأوكرانية خسائر فادحة - هؤلاء عشرات الآلاف من الأشخاص"، في وقت يكون استيقاظ الاوربيين يسير ببطأ، ويرى الأوروبيون أن ما يسمى بدعم أوكرانيا هو طريق مسدود يخدم مصالح القوة المهيمنة العالمية التي تستفيد من إضعاف أوروبا، وإن إطالة أمد الصراع الأوكراني اللانهائي مفيد له أيضًا.

نواقيس الخطر من وجهة المراقبين البولنديين، بدأت تدق بشأن عسكرة بولندا العنيفة في الأشهر الأخيرة، ففي العام الماضي، اعتمدت البلاد قانون "الدفاع عن الوطن"، والذي بموجبه يزداد الإنفاق العسكري بشكل حاد (يصل إلى 2.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 و 3٪ على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023)، بالإضافة إلى ذلك، من المخطط زيادة الجيش البولندي بشكل جذري من 160.000 إلى 300.000 (وحتى 400.000، وفقًا لرئيس حزب القانون والعدالة ياروسلاف كازينسكي)، مما سيجعله أخطر قوة عسكرية في أوروبا، وأخيرًا، يمكن أن نرى بالعين المجردة أن بولندا تجمع قبضة مدرعة، وبالعودة إلى يوليو من العام الماضي، ظهرت معلومات حول نية وارسو شراء دبابات أبرامز الأمريكية، وكذلك K2 Black Panthers الكورية في ثلاثة إصدارات، علاوة على ذلك، كان من المخطط أن يتم تجميع جزء من العربات  الكورية في مصنع جديد في بولندا، بالإضافة إلى ذلك، أعربت السلطات البولندية عن نيتها شراء مدافع هاوتزر ذاتية الدفع AHS Krab من سيول، وكذلك WWR K239 Chunmoo MLRS، بالإضافة إلى ذلك، كان البولنديون سيشترون M142 HIMARS MLRS من الأمريكيين.

ويتضح للمجتمع البولندي أن الحزب الحاكم يقودهم إلى المذبحة، وأن القتال يبدأ في الداخل، ووفقا للمراقبين المحليين، فإن وارسو تستعد لفتح جبهة ثانية ضد روسيا وبيلاروسيا، وبما أن الانتصار الخاطف على روسيا لم يحدث، والآن يمكن للفصيل الحاكم لحزب القانون والعدالة (PiS) أن يخسر كل شيء، لهذا السبب، تواصل الحكومة مفاقمة الوضع المتوتر بالفعل، من خلال الترويج لروايات حول الحاجة إلى الاستعداد "لمحاربة المعتدي"، ويعترف عالم السياسة البولندي حنا كرامر بأن الهدف الحقيقي من إجراء عدد كبير من تدريبات الناتو في بولندا هو علامة على الاستعدادات لفتح جبهة أخرى ضد روسيا على أراضي حليف موسكو الرئيسي، بيلاروسيا، وكتأكيد لهذا الاستنتاج، يستشهد العالم السياسي بكلمات القائد السابق للقوات البرية البولندية، الجنرال فالديمار سكرزيبتشاك، الذي دعا الجمهور البولندي والغربي إلى الاستعداد لانتفاضة شعبية في بيلاروسيا.

ان الاستنتاجات المستخلصة من حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الاجتماع، هو ان بولندا مستعدة مرة أخرى للتصرف بعدوانية، وهذا أمر "خطير" بالنسبة لها، وان موسكو لن تتدخل إذا دخل البولنديون إلى غرب أوكرانيا، أي أن بوتين مستعد لتقسيم أوكرانيا، لكنه يحذر في الوقت نفسه وارسو من أن البولنديين "يجب أن يفكروا في العواقب"، وقد تكون العواقب هي خسارة الأراضي التي "منحها" ستالين - هذا جزء من غرب بروسيا، وجزء من سيليزيا، وشرق بوميرانيا وشرق براندنبورغ، ومدينة دانزيج الحرة (الاسم البولندي الحديث هو غدانسك)، ومنطقة شتشيتسين، وحتى تلك التي تطالب وارسو بتعويضاتها بعد نتائج الحرب العالمية الثانية؟.

كما سبق وان هدد المستشار الألماني أولاف شولتز، خلال خطابه في جائزة M100 Media، بولندا بإعادة النظر في الحدود بين الدول استجابة لمطالب التعويضات، وأوضح شولتز مدى أهمية الاتفاقات التي أبرمها [المستشار الألماني السابق] ويلي براندت، بأن الحدود بين ألمانيا وبولندا قد تم إنشاؤها بشكل واضح ودائم بعد مئات السنين من التاريخ، " ولا أريد أن يبحث بعض الناس في كتب التاريخ لإدخال تغييرات حدودية تنقيحية"، كما انه في ألمانيا، هناك وجهة نظر شائعة هي أن السلطات البولندية نظمت معسكرات اعتقال، ونتيجة للحرب، تم طرد 14 مليون مواطن ألماني من أرضهم الأصلية.

والحديث عن ثلاثة أقسام للكومنولث (1772، 1793، 1795) بين النمسا وبروسيا وروسيا، إلى حقيقة أن الدولة البولندية كانت غائبة عن الخريطة السياسية لأوروبا لمدة 123 عامًا، وتم إجراء القسم الرابع خلال مؤتمر فيينا، الذي أضفى الطابع الرسمي على التقسيم الجديد لبولندا إلى الأجزاء التالية: دوقية بوزنان الكبرى (التي تم التنازل عنها لبروسيا)، ومدينة كراكوف الحرة (في عام 1846 مدرجة في الإمبراطورية النمساوية) ومملكة بولندا (تم التنازل عنها لروسيا).

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

لا يتجادل أثنان سويان على وطنية الزعيم قاسم وعفة لسانه وقلبه ونظافة هندامه وبساطة روحه وشجاعته في مواجهة الموت في مبنى الصالحية ببغداد يوم ٩ شباط ١٩٦٣. لكن حتماً يتجادل أثنان على أداء قاسم الحكومي والوظيفي في إدارة مؤسسات الدولة وشؤون البلد، وتخبطاته في القرارات ونزعته بإتجاه الدكتاتورية والارتجال وتشبثه بكرسيه. في صبيحة 14 تموز 1958 ثمة عسكر أنقضوا على ثكنات ومحميات النظام الملكي ومؤسساته ولولا التأييد الجماهيري والشعبي لبيان رقم واحد من إذاعة بغداد في مبنى الصالحية في شوارع بغداد والمدن الأخرى لبقى ذكرى هذا اليوم ضمن دائرة مغامرات الإنقلابات العسكرية. يوم دموي دشن به بإبادة العائلة المالكة في قصر الرحاب بعد أن خرجوا من فضاءات غرف نومهم رافعين رايات الاستسلام. أطلق النار عليهم من قبل الضابط عبد الستار العبوسي، ولم ينجو منهم الا الأميرة بديعة أخت الامير عبد الإله وخالة الشاب المغدور الملك فيصل الثاني. تابعت بأهتمام طيلة السنوات التي مضت ما كتب حول الزعيم قاسم. فريق وهو المؤيد له. ذهب بعيداً عن حقيقة مجريات الاحداث ليجعل من قاسم قديساً، ونفر آخر جعل منه دكتاتوراً مستبداً.

حتى ننصف الرجل والمرحلة والتاريخ في فترة حكمه التي لا تتجاوز الخمسة سنوات مرت بمخاضات عسيرة. أدت ببعضها الى إسقاطات مشوهة. في رأي أول تلك الاسقاطات كانت محكمة المهداوي تجربة فاشلة. عكست وجهاً سلبياً عن أهداف ثورة تموز. وفي بعض المرافعات أنقلبت سلباً على سمعة الثورة ورجالها وخدمة أعداء الثورة , بل ألبت الناس عليها. محاكمة سعيد القزاز وزير داخلية النظام الملكي نموذجاً. وهناك نماذج أخرى عديدة في ملفات المحكمة لا يقتدى بها بما حملته في جلساتها من تعابير وألفاظ تخدش الذوق العام.

كان عبد الكريم قاسم بقدر وطنيته سياسياً فاشل بأمتياز، تذبذب مواقفه من عدة أحداث ووقائع، كان يفترض أن تكون مواقفه متساوية وبمسافات واحدة تجاه تطورات الاحداث في البلد. الموقف من المقاومة الشعبية وشعاراتها المستفزة وتجوالها في الشوارع العامة بذريعة حماية صورة الزعيم ومنجزات الثورة. خطابه المشهود في كنيسة ” المار يوسف ”عام 1959 ضد الشيوعيين . الموقف من حركة الشواف في الموصل وقطار السلام. محاكمة أياد سعيد ثابت بعد عفو رئاسي وعودته من المهجر على ضوء أحداث حركة مايس 1941 ورشيد عالي الكيلاني. أعدام الضباط الاحرار ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري،  الذي بدأ يبكي في يومها بمكتبه في وزارة الدفاع حسب شهود مرافقيه، مطاردة وإعتقال وأغتيالات الشيوعيين على مرآى ومسمع من بصيرته من قبل جهازه الأمني والقوى المعادية لهم، كل تلك الاحداث والتطورات تؤدي بنا الى دكتاتورية عسكرية في إدارة الحكم والتي كان يفترض أن تسلم الى حكم مدني أقصاه لمدة عامين بعد نجاح ثورة تموز. موقفه المتذبذب وسط التيارات والاحزاب السياسية. مرة يهادن ويغازل الشيوعيين على حساب البعثيين والقوميين. والشيوعيين كانوا أخلص الناس له ولحكمه دعنا من بعض الهفوات التي أرتكبت في حكمه. وفي الختام هادن البعثيين بالضد من الشيوعيين بل غض النظر عن تحركاتهم ونواياهم رغم تحذيره منهم ومن نواياهم , بالأخير أطاحوا به وبنظامه ودفع الثمن مئات الالاف من الشيوعيين والديمقراطيين. في اللحظات الاخيرة من حياته وحكمه زاد توجسه في الخوف من الشيوعيين، وفي باب وزارة الدفاع كان المشهد درامي تراجيدي أبناء الفقراء وساكيني بيوت الصفيح والشيوعيين يطالبوه بالسلاح للدفاع عنه وعن الثورة يتردد رغم أن زعاف الموت يقترب منه وينهي حياته بعد أن حصر نفسه في وزارة الدفاع وسلم نفسه ذليلا بعد ٢٤ ساعة من بدأ الإنقلاب، كان خائفاً من الشيوعيين لينقلبوا ضده ويقفزوا الى دفة الحكم  وليس خوفاً من سفك الدماء، فالدماء سالت منذ الصباح الباكر في شوارع بغداد.

من الملفات التي سارعت للاطاحه به وبحكمه. ملف دولة الكويت والتلويح به لاحقيتها لدولة العراق عام 1961. قانون رقم 188 لسنة 1959 للاحوال المدنية والمساواة في الأرث وحقوق المرأة مما أرعب الدوائر الرجعية والمتخلفة والحاقدة على منجزات الثورة وتقدمها. فتوة محسن الحكيم نموذجاً ” الشيوعية كفر وألحاد ”. مما أعطى مبرر فقهي وقانوني وأجتماعي في محاربة الشيوعية في العراق والتبرير في الممارسات الدموية ضدهم، والدليل ما حدث في يوم 8 شباط عام 1963 في أرض العراق. وقد جرت محاولة فاشلة من مجلس الحكم الانتقالي بعد إحتلال العراق للاطاحة بالقانون وتم التصويت على الغائه، لكن بريمر الحاكم المدني الامريكي في العراق أنقذه.

 ومن الملفات التي عجلت في إنهاء حياته وفترة حكمه قانون رقم 80 لعام 1961 حول تأميم النفط والتضيق على عمل الشركات الاحتكارية النفطية الامبريالية في العراق، مما دفع دوائر تلك الشركات في دعم القوى المعادية له والاطاحة به، علاوة على ذلك الملف الكردي والصراع الدائم والدائر بين الحكومة المركزية والملف الكردي. تاريخ العراق معقد وغائر من الصعوبة أن يكتب بواقعية وشفافية بعيداً عن الانتماءات الحزبية والطائفية والاثنية. منذ الدولة الاموية ومراحل الحكم التي أعقبتها على أرض العراق تاريخاً مغلوطاً بعيداً عن واقعية الاحداث ربما نقلت شذرات منه، لكن هذا لايكفي في تدوين تاريخ كامل، كان لزاماً علينا نحن الشيوعيين أن نقف بجد ونقد عل تداعيات تلك المرحلة بقراءات واقعية ومتأنية حتى على حساب نقد الذات وأستخلاص الدروس. فالبشر خطاؤون.. كما يقول فولتير.

الملفت في الأمر في السنوات الآخيرة من عمر إحتلال العراق يتباهى الشيوعيين العراقيين بصور الزعيم قاسم بعيدأ عن الوقائع الموضوعية في فترة حكمه وموقفه السلبي والمدمىر من الحزب الشيوعي العراقي وملاكاته في التضييق على نشاطاتهم بل في مطاردتهم، إذ لم يسمح لهم بنشاط سياسي واضح من خلال منحهم رخصة عمل ضمن شرعية قانون الاحزاب، وعندما قدموا طلب للحصول على أجازة رفضها بذريعة وجود حزب شيوعي يعمل ضمن قانون الاحزاب والتي منحها الى داود الصائغ فغير الطلب بأسم جريدة أتحاد الشعب الجريدة المركزية للشيوعيين أيضاً رفض طلبهم. وعلى أثر هذا الرفض طلب الشهيد سلام عادل بلقاء به وهو المعارض الى سياسته وتخبطاته مع الشهيد جمال الحيدري ومجموعة من العسكريين، وعندما خرج من اللقاء كان متذمراً ووصفه بالطاغي والجاهل في قراءة تداعيات الشارع العراقي. وعندما توسعت الدائرة بين أوساط الشيوعيين بالضد من سياسته هنا تدخل السوفييت في الحذر من أي خطوة بإتجاه أزاحته، في يومها أخرجوا جورج تلو، الذي كان يرقد في مصحات موسكو وحملوه رسالة شديدة اللهجة الى قيادة الحزب الشيوعي الحذر في النية بأي خطوة، وكما سموها بالمغامرة إتجاه قاسم وحكمه. لماذا يتباكا الشيوعيين عليه وعلى فترة حكمه إذن ؟. 

خاض الشهيد سلام عادل صراعاً حزبياً وسياساً مع رفاقه من أجل تحيدهم بالموقف من سياسة قاسم ومعارضتها مما عرضته تلك المواقف الى أبعاده وبأمر سوفيتي الى خارج البلد وبعيداً عن الفعل الثوري عام ١٩٥٩ بحجة التأهيل الدراسي، وعندما عاد في نهاية عام ١٩٦٢ وبقرار سوفيتي أيضاً. وجد تطورات الأحداث في العراق ” قاب قوسين أو أدنى ” من الشيوعيين في الخطورة ضدهم حيث العناصر القومية والبعثيين محتلين مواقع مهمة وحساسة في الدولة بدعم مباشر من الزعيم ومطاردة وابعاد الشيوعيين ورميهم في السجون والمعتقلات، وعندما أنقلبوا البعثيين عليه في يوم ٨ شباط عام ١٩٦٣ وجدوا مئات من الشيوعيين في السجون والمعتقلات مما وفر لهم وقتاً في إنهاء حياتهم. وحسب شهادات مرافقه الشخصي ”جاسم العزاوي ” أثناء مرافقته في جولاته على الافواج والكتائب يطالب قادتها البعثيين والقوميين في تطهير الجيش من العناصر الشيوعية، وهنا سؤال يطرح نفسه بألحاح، ما هو موقف الشيوعيين العسكر من تسلكات الزعيم تجاه رفاقهم وهم القريبين من دائرته الضيقة. مثالاً.. طه الشيخ أحمد، جلال الاوقاتي، وصفي طاهر، فاضل عباس المهداوي، ماجد محمد أمين ؟؟. درس تاريخي مهم في المشهد السياسي العراقي الحديث بحاجة شديدة الى قراءة جديدة ومراجعة نقدية جريئه.

في قراءة شخصية متأخرة حول صبيحة ٨ شباط عام ١٩٦٣ وبيان الحزب الشيوعي العراقي الداعي الى سحق المؤامرة الرجعية ومن متطلبات العمل السياسي  يفترض التأني بما ستؤول إليه الامور وعلى أساسها تتخذ المواقف في حدث مثل هذا، والذي أعطى للبعثيين والقوميين صبغة شرعية في أصدار بيانهم المرقم ١٣ بإبادة الشيوعيين، لكن هذا لاينفي نوايا البعثيين في إستهداف الشيوعيين والقوى الديمقراطية. كما أثبتت الوقائع في ذلك اليوم المشؤوم بأبادة الشيوعيين وأصدقائهم ولم ينجو أحداً من مخالبهم، لقد دمروا البلاد والعباد، وأستشهد زعيم الشيوعيين سلام عادل، عندما إعتقل يوم ١٩ شباط ومات تحت التعذيب يوم ٢٣ من نفس الشهر عام ١٩٦٣. وبعد عشرة سنوات من القتل والدم عاد الشيوعيين ليصافحوا أيادي البعثيين الملطخة بدم رفاقهم تحت يافطة ” جبهة وطنية وقومية تقدمية ”

***

محمد السعدي

مالمو/ تموز ٢٠٢٣

 

ليس أسهل مِن الهدم، عدته عضلة وفأس، أمَّا البناء فعدته رَويَّة وتفكير. الهدم ساعة وتتناثر الأنقاض «طشاريّ»، والبناء شهور وسنوات، لا يحُسنه إلا الكُفاة. أبلغ شعراء العصر قال في محنة ضياع البنائين عند الأزمات: «إذا لم ينلها مصلحون بواسلٌ/ جريئون في ما يدعون كفاةُ»(الجَواهريّ، قصيدة الرَّجعين 1929).

حدث ليلة الجمعة(14/7/2023)، أنْ تجرأت الآلات ناهشةً منارة مسجد السَّراجيّ، المشيدة (1727م)، لتوسعة طريق أبو الخصيب، وبُرر الهدم باتفاق مع «الوقف السُّنيّ»، لكنَّ الوقفَ أوضح: ما حصل جرى ضد الاتفاق، فلم تنقل المنارة، بإشراف فنيين بالبناء لا الهدم. أقول: هذا الاتفاق غير جدير بالتقدير. هوت المنارة، وكأن الثلاثمئة عام لم تشفع لها، كي يُحتفظ بها أثراً تاريخياً.

لم تهدم بشعور طائفيّ، لكنَّ في الوضع العراقيّ الحالي يُقال: ماذا لو كانت المنارة لضريح مِن الأضرحة، الحديثة لا القديمة، أتجرأت الآلات على نقضها بهذه الفاجعة؟! يسأل الأصدقاء: أين ذهبت آثار بغداد، أسوارها وأبراجها، وكانت عاصمة الدُّنيا لنصف ألف عام؟! الجواب مِن المعمار محمّد مكية(ت: 1915): أنَّ المهندس أرشد العمريّ(ت: 1978) أول أمين عاصمة ببغداد، كان مأخوذاً بالحداثة السّاذجة، فأصدر أمراً للبلديات بهدم كلِّ بناءٍ يعترض الشّوارع، وبهذا القرار ضاعت الآثار(مكية، خواطر السِّنين).

قبله أجاب ساطع الحصريّ(ت: 1968)، بمرارة على السُّؤال: توجه أمين العاصمة العمريّ لهدم «جامع مرجان»، لغرض تنظيم شارع الرّشيد، مع ما فيه مِن كتابات أثريَّة (الأجوريّة)، والتي أشار إليها الحصري بـ«أثمن الوثائق التَّاريخيَّة في مدينة بغداد». ثم تجرأت أمانة العاصمة على هدم سور بغداد وبرجه التّاريخيّ، والغرض «إنشاء بهو الأمانة خارج سور القلعة، أخذ (العمريّ) يهدم البرج القائم في نهاية السُّور مِن جهة الشَّط». سمَّى الحصري تلك الأفعال: «نزوات أمين عاصمة» (الحصريّ، مذكراتي في العراق).

كان التّفكير بهدم منارة سوق الغزل التّاريخيّة ببغداد جارياً، فالمنارات هي الآثار قبل المساجد، في حالة السّراجيّ، والتي سميت ربما لوجود نهر تاريخيّ بهذا الاسم بالمنطقة (مجلة لغة العرب)، وفي حالة منارة سوق الغزل كان العُذر احتمال سقوطها، إلا أنَّ العقلاء(1961) فكروا أنْ يُشيد مسجدٌ لها، وقد تم ذلك ومازالت شاخصة، فكُلف المعمار مكية بإنجازه (خواطر السنين).

عندما هدمت منارة «الحدباء» بالموصل (2017)، التي شيدت في عهد نور الدّين زنكي(ت: 569هج)، خلال المعارك مع «داعش»، هزّتَ العالم واقعتها، فتولت دولة الإمارات العربيَّة المتحدة إعادة إعمارها، بينما بلا وخزة ضميرٍ تُهدم منارة بأهمية الحدباء، وأرى «الدَّواعش» بالهدم جنساً واحداً، هذا، ولكم قياس حجم العبث. تأخر تشييد المنائر على بناء المساجد، فقد ظهرت شاهقة في أركانها(السَّنة 53هج)، أوجدها الوالي مسلمة بن مُخلّد الأنصاريّ(ت: 62هج) بمصر(ابن تغرى بردى، النُّجوم الزَّاهرة)، فلا تُعد مِن المقدسات، بل الآثار النَّفائس.

يُنقل أنّ الفرزدق(ت: 110هج) هجا الوالي خالد بن عبد الله القَسريّ(قُتل: 126هج)، لأنّه هدم المنائر، كي لا يطل المؤذنون على سطوح البيوت: «أَلَا قَطَعَ الرَّحْمَنُ ظَهْرَ مَطِيَّةٍ/ أَتَتْنَا تَهَادَى مِنْ دِمَشْقَ بِخَالِدِ/ فَكَيْفَ يَؤُمُّ النَّاسَ مَنْ كَانَتِ أمُّهُ/ تَدِينُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِوَاحِدِ/ بَنَى بِيعَةً فِيهَا النَّصَارَى لِأُمِّهِ/ وَيَهْدِمُ مِنْ كُفْرٍ مَنَارَ الْمَسَاجِدِ»(ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ). أقول: لو قيظ لمس بل(ت: 1936)، المسؤولة الشّهيرة، مؤسسة مديرية الآثار العراقيَّة(1920) العيش اليوم، لعملت الآتي بالمنارة المنكوبة: اشترت البيوت وعوضت أهلها بدلاً مِن هدمها، أو شقت نفقاً تحتها ولا جرحت التَّاريخ جرحاً بليغاً.

هذا، والعراقيون وحدهم نحتوا مِن «طشر» اسم «مطشر»، وأراه ماركة عراقيّة. الفضل في العنوان للأديبة أنعام كه ججي وروايتها «طِشاريّ»، عندما صارت أسرة بطلتها شذراً مذراً، شرقاً وغرباً.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

تُوصَف السياسة بأنَّها فن المُمكن، وتتمتع أقطار الخليج بمُمكنات كثيرة لكنها للأسف خالية من فنون السياسة وبعيدة عن الاستغلال الحميد، وبما أنَّ الحظ -وكما يُقال- لا يدق بابك مرتين، ففي تقديري أننا في اللحظات الأخيرة لهذا الحظ الذي يمكننا التقاطه لنعبر نحو المستقبل ونترجم فن الممكن في السياسة.

لا أحتاج هنا إلى تكرار المُكرر، والحديث عن الثروات الطبيعية لأقطار الخليج من نفط وغاز، والتي جعلت منها أقطارًا جاذبة لأطماع الأقوياء، لكنني أحتاج إلى التساؤل كمواطن عربي خليجي عن كيفية توظيف هذه الثروات الطبيعية والمنح الربانية لتنمية أقطارنا وشعوبنا.

لا شك أنَّ الوفورات المالية الكبيرة اليوم لبعض أقطار الخليج العربية جعلت لها صناديق سيادية مرموقة عالميًّا، وجاذبة لإغراءات الاستثمار شرقًا وغربًا، وهذا ما عزز من مكانة هذه الأقطار ماليًا، لكنه في المقابل لم يعزز من مكانتها اقتصاديًا؛ حيث ما زالت أقطار الخليج تحت رحمة الاقتصاد الريعي أحادي المصدر والدخل، وهو النفط أولًا والغاز ثانيًا، ولم تتمكن بعد من الانفكاك من هذه المعضلة المهددة لوجودها وفي أي لحظة. فالعالم من حولنا يغلي بالمبادرات والأفكار للبحث عن مصادر طاقة بديلة، بل وجغرافيات بديلة لمصادر الطاقة الحالية ونحن ما زلنا نحسب سنوات أعمار مخزوناتنا من النفط والغاز وكأن الزمن توقف عندنا.

وفوق هذا ما زالت أقطار الخليج تُنفق أموالها السيادية في مشروعات ريعية وأقرب إلى طابع الاقتصاد الطفيلي عديم القيمة المُضافة، كشراء سندات الخزينة الأمريكية والأسهم وقطاعات السياحة والاتصالات والرياضة، وجميعنا رأى مصير تلك الاستثمارات في خضم الأزمة الأوكرانية حين جُمدت وصُودر بعضها في وضح النهار. ما لم تتجه هذه الوفورات المالية الحالية في تقديري إلى بناء الإنسان أولًا والاستثمار به ثانيًا، والاشتغال على الاقتصادات الإنتاجية الضامنة للسيادة كالزراعة والصناعة، فسنبقى كمن يزرع في البحر.

ما زالت أقطار الخليج العربية اليوم مسرحًا للمتناقضات رغم مرور عقود من النشأة والتنمية والتجارب الحلوة والمرة، فما زالت الفجوة كبيرة في الدخول والرواتب بين أبناء هذه الأقطار؛ الأمر الذي يستحيل معه عقد اتفاقيات مُريحة وندية ومتكافئة، وكذلك انحسار القوة الشرائية في بعض الأقطار مقابل التبذير والإسراف والبذخ في غيرها، يضاف إلى ذلك وجود ملايين من العمالة الوافدة يشغل العديد منهم وظائف ويمارسون أعمالًا يُمكن أن يقوم بها المواطن، وفي المقابل تكدس ملايين المواطنين الخليجيين على قوائم الانتظار لفرص العمل في بلدانهم، وهذا دليل غياب التخطيط الاقتصادي الموحد بين أقطار الخليج في توحيد أجواء الظروف المعيشية، وغياب سياسات التشغيل والعمل في القطاعين العام والخاص فيها.

إضافة إلى غياب التفكير بحماية هذه الثروات بوجود قوة عسكرية خليجية تحمي الثروات والسيادة معًا، فما زلنا نبحث عمن نستقوي به شرقًا وغربًا في كل أزمة ومحنة وكأنه قدر محتوم علينا.

آن الأوان في تقديري وقبل فوات الأوان ومغادرة المُمكنات لنا وإلى الأبد، أن نفكر جديًّا في تكتل خليجي اقتصادي يستوعب وفوراتنا المالية ويخلق اقتصادات حقيقية بعيدة عن الريع ومظاهر الاقتصاد الطفيلي، ويوحد ظروف معيشتنا وإنفاقنا، ويدمج أبناءنا ومخرجات تعليمنا في سوق العمل؛ فلدينا من المقدرات الطبيعية والبشرية ما يجعلنا في أوضاع مثالية، بقليل من التخطيط والكثير من الإرادة.

يجب ألا نخجل من مواجهة ومكاشفة أنفسنا أولًا إذا أردنا أن نواجه ونكاشف الآخرين، ونخطو نحو المستقبل بقوة وثبات.

***

أ. علي بن مسعود المعشني

بعد سقوط سلطة دكتاتورية البعث في 2003 كان المؤمل أن يجد المواطن العراقي نفسه بعيدا عن غوائل كانت تهدد صحته وأمنه وسلامته، وأن لا يتعرض لسوء تغذية وأمراض وأوبئة وبطالة وحروب، وعجز أمام كوارث الطبيعة مثل الجفاف والحرائق، ولكن ومع مرور الزمن وجد أن قيمته المقدسة كبشر في أقصى حالات البخس والتردي، حيث تفقد إنسانيته قيمتها فيتحول إلى شخص يعيش حالات أسر واستلاب واغتراب عديدة، يفقد معها ابسط شروط الراحة النفسية والجسدية، ويعيش تحت ظروف عنف تقسو عليه وتخيفه فيها الطبيعة والسلطة معا، دون أن يجد وسيلة لحمايته، فيتضخم أمام هذه القسوة والعنف المفرط عجزه وضعفه . وخلال العشرين عاما الماضية، كانت ومازالت الكهرباء وانقطاعها المتكرر واليومي، عقوبة قاسية وبشعة يتعرض لها الإنسان العراقي بسبب القصور والتخلف وسوء إدارة السلطة لهذا الملف، لتصبح الكهرباء واحدة من أساليب العنف الممنهج حين تكون التكنولوجيا ومن يديرها سببا في تعذيب الناس واستلابهم. فمع توقفها وانقطاعها المتكرر وشحها تتعرض حياتهم لانتكاسات عديدة نفسيا وجسديا، أولها شعورهم بهدر القدرات وتعطيل المصالح. ومع توقف الأجهزة الالكترونية والكهربائية في البيت وفي دوائر ومرافق الدولة الأخرى ومثلها باقي المهن الخاصة، عندها تعدم الكثير من الفرص وتعطل العديد من الوظائف. وبشكل غير طبيعي ترتفع كلف الحصول على الكهرباء من المولدات، وتتصاعد معها وتيرة استنزاف الأموال للحصول على مواد بديله لتفادي الحر، وأيضا بسبب عطل الأجهزة المنزلية الموجب تصليحها أو أبدالها بالجديد، وبسبب قطع الكهرباء المتكرر تتعطل الكثير من الأعمال في المصانع والورش وتتلف المحاصيل الزراعية وباقي الخزين الذي يتطلب الحفاظ عليه بعمليات التبريد، ولن يتوقف تعداد تلك الأضرار التي تصيب حياة الناس جراء انقطاع التيار الكهربائي، والذي يجعل الناس تفقد  كامل الثقة بإجراءات السلطة وتجعلهم بعيدين جدا عن حياة الطمأنينة والاستقرار.

يذرف السيد الناطق الرسمي لوزارة الكهرباء العراقية الدموع ويستجدي عطوة من جارتنا الحنون الجمهورية الإسلامية لتزويد العراق المسلم بالغاز المساعد على تشغيل محطات كهربائه التي توقفت، ويعدد بصوت مجروح ومتهدج ما يقارب التسع محطات أصبحت مثلما يصفها، عبارة عن طابوق ليس إلا، بعد أن توقفت عن العمل كليا إثر امتناع جمهورية إيران الإسلامية عن فتح صنبور غازها لتزويد العراق الجار البائس الذي يمتنع عن تسديد ديونه دون مبرر معقول بل يتعمد ذلك وخاصة مع قدوم الصيف، حسب توصيف طهران للقضية.

وتتهم بعض الأوساط السياسية المشاركة في السلطة والقريبة من جمهورية إيران المسلمة، الولايات المتحدة الأمريكية بالضغط على الحكومة العراقية للامتناع عن دفع مستحقات الجانب الإيراني الشقيق المسلم، ويأتي ذلك من خلال هيمنة البنك الفدرالي الأمريكي وتحكمه بعائدات مبيعات النفط العراقي المودعة لديه، وتوقيت صرفها وطبيعة خروجها من بنوك العراق،وبهذا تختار أمريكا التوقيت المناسب أي أشهر الحر اللاهب لرفع وتيرة تذمر الشعب العراقي بالضد من حكومته المسلمة البريئة ولتطعن بعلاقتها بالجانب الإيراني أيضا، وهو المهم في هذه المعادلة التي يقع ضحيتها الشعب العراقي وليس غيره.

معادلة غريبة في بلد العجائب والمفاجآت، فلو بدأ دعاة الإصلاح والدين أحفاد آل بيت النبوة مثلما يدعون، ببناء غرفة واحدة من غرف محطات الكهرباء في كل عام لاكتملت لدينا العشرين وجهزت مع معداتها خلال فترة حكمهم. ولو تم التعاقد مع شركة حقيقية لاستغلال الغاز المصاحب للنفط بعيدا عن السرقات والتهديدات والعطوات وضياع التخصيصات، لوفر ذلك لنا خلال العشرين عاما ملايين المقامق، والأقدام المكعبة من الغاز، ولأصبح لدينا ما يحرك معدات محطات عديدة للكهرباء. ولكن مقمق السحت الحرام تخثر في العقول وما عاد يهمها غير سرقة ما يقع تحت أنظارها.

قطعا هناك من لا يستحي من مثل هذه المهزلة المقمقية. فبلد يحرق الغاز منذ أول ظهور للنفط على أرضه في عام 1927 من القرن الماضي،أي منذ ما يقارب 96  عاما دون أن تظهر معه ولحد الآن حكومة تمتلك الحكمة والرشاد والدراية لاستغلال هذه النعمة التي وهبتها الطبيعة للشعب العراقي  بسخاء مفرط، ولم تتعظ أي سلطة حكمت العراق أو تشعر بالخجل والغيرة من نظيراتها جاراتها التي بات الغاز المصاحب يشكل ثروة وطنية تدر على خزائن الدولة أرباحا طائلة.

فمصر المحروسة ذات الموارد التي لن تنافس العراق بالوفرة، فهي بلد لا يمتلك الخزين النفطي الهائل ولا الغاز المصاحب والمدفون تحت الأرض مثلما عليه العراق ولكن حكمة وإخلاص ونظافة يد وإرادة المسؤول الوطني المصري، جعلها وخلال خمس سنوات تعمل جاهدة على التعاقد دون خوف أو تردد مع شركة كهرباء رصينة من مثل شركة سيمينس لبناء أربع محطات وفرت لمصر تغطية كاملة وفائضا يسمح لها بتصدير الكهرباء.

عشرون عام مضت واليوم نسمع رئيس الوزراء يعلن بأنهم اكتشفوا الأسباب الحقيقية لأزمة الكهرباء، المهم أنهم وبعد العشرين اكتشفوا، والباقي له رب يعالجه. وقبل هذا وعدنا صاحبهم بتصدير الفائض منها وذهب حيث وعد بجنة عرضها السماوات. وتتكرر مع الظهور الأول لجميع وزراء الكهرباء الذين تداولوا شؤون الوزارة، مقولة الوعد الذي يفقأ العيون ويدمي القلب، انتظروني ليكون صيفكم طافحا بالكهرباء وإنارتكم علينا مثل فطوركم، ويأتي الأخر ليتهم كيزرات حمامات المواطن بالذي يحدث من قطع وشح الكهرباء. فبات العراقي يجد نفسه اليوم بعد أن ضاع من حياته الكثير وخسر سنوات عمره منتظرا الفرج يأتي مع كلمة سوف ذات الرنة الذهبية والصادرة عن المسؤول. فأصبح مع هذا الوعد مولعا بأغنية أم كلثوم عن فلسطين التي غنتها قبل أكثر من خمسين عاما ومازالت  تصدح في قوانة العالم العربي دون ملل وكلل، حيث تقول الأغنية، عشرون عاما وأنا أبحث عن أرضِ وعن هوية، أبحث عن بيتي الذي هناك، عن وطني،عن طفولتي .ليضيف لها العراقي عن كهربائي الوطنية. قولوا.. قولوا لمن يسأل عن قضيتي.. قضيتي صارت الكهرباء الوطنية.

هكذا تكون عقدة الخوف ومشاعر الذل والرخص سببا في هذا الوجع الذي يتحمله الشعب العراقي وليس سكان المثلث الأخضر، فالارتهان للغير أصبح طبعا يحتل ويهيمن على روح المسؤول العراقي ويطوقه بالأغلال، فيبحث عن إرضاء الأمريكان بعد أن ارهبوه بعقوباتهم، ويستجدي عطوة الأخوة في الجمهورية الإسلامية، التي يرزح تحت رحمة غازها الذي يمثل له مظهرا من مظاهر الاعتزاز والهيبة الوطنية التي تساعده على الوقوف شامخا بوجه الامبريالية العالمية وصامدا بمعاندة الاحتلال الأمريكي.

***

فرات المحسن

اشتدَّ الصراع على أوكرانيا بين الغرب بقيادة الولايات المُتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية "البوتينية"، وقد وصل الصراع إلى الحد الذي جهر الغرب بكل معاصيه، وافتخر بها بعد أن كان يبررها سابقًا ويطليها بطلاء الحق والحقيقة؛ فالغرب اليوم وصل به الإفلاس في قوته الناعمة تجاه روسيا إلى الجهر بمنح أوكرانيا أسلحة محرمة دوليًّا وعلى رأسها القنابل العنقودية مُؤخرًا.

الروس بطبيعة الحال أكثر هدوءًا في إدارة هذا الصراع؛ كونهم في موقف الدفاع أولًا، ولأنهم يمتلكون الإرادة الصلبة قبل السلاح الفتاك للحفاظ على أمنهم والدفاع ببسالة واستماتة عن مصالحهم، ولأنهم استعدوا جيدًا لهذه المواجهة منذ قيام الغرب بالسطو على جمهوريات كانت تُشكل ما يُسمى بـ"حلف وارسو" الحلف الشرقي المضاد لحلف الناتو الغربي.

تفجَّر الصراع في السودان اليوم دون مُؤشر حل أو مبادرة جادة للحل، واكتفاء أطراف التدخل بمطالب هُدن ووقف إطلاق نار بين حين وآخر، ووقوف دول جوار السودان والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي موقف المتفرج، مؤشرات تحمل جميعها دلالات تدويل الملف السوداني وتحول السودان إلى ساحة صراع ومقايضة سياسية للكبار فقط.

الغرب يستشعر اليوم أكثر من أي وقت مضى أنَّ الملف الأوكراني استهلكه واستنزفة أكثر مما كان متوقعًا ومخططًا له، وأفقده مصداقيته أمام العالم، كما أفقد المنظمات الدولية حياديتها ودورها الأممي، إضافة إلى إفلاس الغرب التدريجي من قوته الناعمة ولم يبقَ له سوى البلطجة، وفي المقابل يدير الروس الحرب بهدوء وفاعلية، وحافظوا على اقتصادهم كي لا يتحول إلى اقتصاد حرب وكما كان مستهدفاً من الآخر، وخلقت الحرب الأوكرانية مناخًا سويًّا للدول الخاضعة للهيمنة الأمريكية والغربية بعمومها وجعلها في وضع يمكنها من قول (لا)، والأدهى والأمر للغرب اليوم هو انفراط عقد مصالحه تدريجيًّا في قارة الثروات والخاصرة التاريخية الرخوة إفريقيا؛ لهذا لابد للغرب اليوم أن يعترف بأنه فشل في زرع إسرائيل جديدة على تخوم روسيا، كما زرع في قلب الوطن العربي لتفتيته وحرمانه من أي مشروع نهضوي، كما أن الغرب اليوم لن ينتظر ساعة إعلان هزيمته وتوقيع استسلامه أمام روسيا في أوكرانيا، لهذا سيبقى السودان في تقديري خط رجعته وجبر ضرره من نكبة مُغامرته في أوكرانيا وفشله في استدراج روسيا إلى فخ الإفلاس والتشظي السياسي والعسكري والاقتصادي؛ فالمفاجآت الروسية ما زالت كثيرة وكبيرة، بينما الغرب يتآكل على الجبهة الروسية ويفقد حضوره وهيمنته وثرواته المنهوبة من قبله كغنائم استعمار تدريجيًا في إفريقيا.

ففرنسا اليوم لم تعد دولة عظمى، بل أصبحت دولة مهددة بالجوع والإفلاس التدريجي نتيجة تمرد مستعمراتها السابقة والتي تُشكل ثروات فرنسا وقوت الفرنسيين، لهذا لابد ولا مجال للغرب اليوم سوى توظيف ما تبقى له من قوة وعقل للحصول على السودان كغنيمة حرب وكمقايضة مع الروس مقابل إطلاق يد الروس كاملة في أوكرانيا. السودان الذي لم ينعم بثرواته ولا باستقراره منذ عام استقلاله 1956م ولغاية اليوم، أصبح اليوم في وضع مثالي ليكون بديلًا لأوكرانيا في صراع دولي كبير يفوقه ويتجاوزه من صراع محلي إلى طوق نجاة أخير للمدنية الغربية يحفظها من الزوال الكلي. ثروات السودان ليست الهدف الوحيد فحسب، والبديل عن الدويلات التي أدارت ظهرها وتمردت على فرنسا والغرب، بل موقع السودان كذلك، والذي يُهدد الأمن القومي العربي برمته والسعودية ومصر على وجه الخصوص وبشكل كبير.

السودان سيكون بديلًا عن أوكرانيا والبلدان الإفريقية "المارقة"، وفق تصنيف البورد السياسي الغربي، وسيعجِّل من إغلاق ملفات أزمات مفتوحة منذ زمن كملفات اليمن وسورية وليبيا؛ لأن خيار الغرب اليوم لم يعد البحث عن الحظوة والرفاه والجاه، بل تجنب الجوع والسقوط المدوي المُريع أمام أنظار العالم وشماتتهم.

وبالشكر تدوم النعم...،

***

علي بن مسعود المعشني

.........................

قبل اللقاء: لو أدرك العالم أهمية الصراع على أوكرانيا اليوم وأهمية الوقوف إلى جانب بوتين، لتخلص العالم من شرور إمبراطورية الشر أمريكا، وحلفها العدواني الناتو، وعاد العالم إلى قواعد الصراعات التقليدية الفطرية المتعارف عليها، والخالية من النزعة الشيطانية وأطماع الاحتلالات والاتجار بالشعوب، وسادت الشرعية الدولية الحقيقية، والقوانين المنظمة للعلاقات بين الدول بروحها ونصوصها وفلسفتها.

ليس من قبيل المصادفة، أو لزيادة عدد صفحات كتابه، أن يضع رجل الأعمال والخبير المالي البريطاني العراقي الراحل نمير أمين قيردار مؤلف كتاب « إنقاذ العراق .. بناء أمّة مُحطّمَة « نَّص الخطاب الذي ألقاه نوري السعيد مساء يوم السابع عشر من كانون الأول 1956، ملحقاً وحيداً لكتابه المهم الذي أصدره باللغة الإنكليزية، ثم أسهم في ترجمته وتحريره إلى اللغة العربية والإشراف عليه ثلاثة من كبار الكتّاب والمترجمين والدبلوماسيين العراقيين، نجدة فتحي صفوة، وعطا عبد الوهاب، ومدحة الجادر، ففي ذلك الخطاب المطول الذي ألقاه السعيد من دار الإذاعة العراقية، تتكشف تفاصيل الضغوطات والتحديات الدولية في حقبة تاريخية مفصلية من تاريخ العراق الحديث، كانت من نتائجها المباشرة ما حدث في الرابع عشر من تموز 1958.

ويبدو أن قيردار أراد من نشر نَّص خطاب السعيد الذي وصفه بالتأريخي، الإيحاء بأن المحنة التي كان يعيشها رئيس الوزراء آنذاك وهو يجري مباحثاته الإقليمية والعربية، ويتصدى للتحديات الداخلية والخارجية، ويواجه سوء الفهم هنا وهناك، ولاسيما من الأشقاء المصريين، قد أدت إلى ما آل إليه العراق» من انهيار ملكية هاشمية مزدهرة إلى دكتاتورية غاشمة»، وما انتهى إليه من حطام بعد التاسع من نيسان 2003، والأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها واشنطن في العراق بعد احتلاله، كما أنه يوحي بأن ما جاء في ذلك الخطاب من مفاهيم يمكن أن تكون جزءاً مما أسماه ببرنامج عمل للرخاء والسلام، أو الحل الذي اقترحه وأسماه بالطريق الثالث، مشيراً إلى أنه قدم في كتابه هذا خطة تهدف إلى بناء عراق جديد، ومستقل، وموحد، وعلماني، مستخدماً أفكاراً من ماضيه ومن تجربته الشخصية ومن قصص النجاح في العالم، بعد أن وضع قائمة بالأخطاء الجسيمة التي أُرتكبت منذ الاحتلال والتي أدت إلى تبديد فرصة نادرة لا سابقة لها لبناء عراق جديد مزدهر حسب قوله، وهي أخطاء باتت معروفة للقاصي والداني.

ويُستدل من حديث نوري السعيد وهو يتوجه للعرب، وللمواطنين العراقيين بعبارة « أبناء وطني» أنه يرغب بكشف ما أسماه : «بعض الحقائق التي بقيت محجوبة عن الرأي العام زمناً غير يسير»، فهذا الحديث يأتي بعد جلاء القوات الأجنبية عن الأراضي العربية التي احتلتها بعد العدوان الثلاثي على مصر، وبعد حديثي عبد الناصر وشكري القوتلي، لذلك فهو يوجه رسالة واضحة في أعقاب هذه الحرب، وقد تكون موجهة لعبد الناصر بالذات : «وقبل أن أبدأ حديثي أود أن ألفت الأنظار إلى أن من حق أي سياسي أن يجازف بسمعته أو أن يجازف بحياته ولكن ليس من حقه أن يجازف بسلامة أمته وكيان بلاده»، ثم يمضي في عرضه للعلاقات بين العراق والاتحاد السوفييتي، مهاجماً بقوة الشيوعية العالمية والصهيونية والتعاون بينهما، ومطامع روسيا التوسعية، ومتحدثاً عن استسلام مصدق للشيوعيين في ايران: « وكانت قلوبنا واجفة خوفاً على جارتنا العزيزة «، وعن دور الحزب الشيوعي الفرنسي واتصالاته الوثيقة «بالشيوعيين وخلاياهم في الأقطار العربية التي كانت حينئذ تحت الانتداب الفرنسي». وعلينا أن نتذكر موجة التخويف المبالغ بها من المد الشيوعي التي اجتاحت العالم والمنطقة العربية والعراق في تلك السنوات التي ألقى فيها السعيد خطابه وهو تحت تأثير هذه الفوبيا التي كانت تُدعَم عادة بقرائن وأدلة حقيقية أو مُختلقة عن محاولات التغلغل الشيوعي السوفييتي في عدد من الدول العربية وفي مقدمتها مصر، والتي أوصلته إلى الاعتقاد بأن الشيوعية تقف وراء حملات الافتراء والتضليل ضد العراق، ومن ذلك الترويج لما أسماه بالفرية الكبرى القائلة بأن العراق وإسرائيل متفقتان على اقتسام الأردن. ثم يشير السعيد إلى الاقتراح الذي قدمه للزعيم الهندي البانديت نهرو خلال زيارته إلى نيودلهي بتأليف كتلة حيادية دفاعية قوية تضم الهند والباكستان وأفغانستان وإيران وتركيا والبلاد العربية، ورفض نهرو لهذا الاقتراح بسبب ظروف الهند الخاصة، وعدم رغبته في استفزاز الشيوعية المجاورة، وقلة عدد الجيش الهندي الذي لا يكاد يكفي لحفظ الأمن الداخلي في بلاد تضم أكثر من 350 مليون شخص وما لا يقل عن ثلاثة ملايين شيوعي – عدد سكان الهند يقارب الآن المليار و400 مليون نسمة، ولا نعرف عدد الشيوعيين فيها -! : «ولما رجوته أن يرشد العراق إلى الطريقة التي يمكنه أن يتوصل بها إلى السلام أجابني بضرورة التعاون مع جيران العراق الذين لهم خبرة دولية يمكن الاسترشاد بها».

ومع كل هذه الأجواء العدائية التي كانت تحيط بالعراق، والتي أدت إلى سقوط الملكية  بأقل من تسعة عشر شهراً على هذا الخطاب الذي يصلح لأن يكون درساً في العلوم السياسية وللباحثين والمحللين السياسيين، وعبرة لرجال السياسة، فإن « دار السيد مأمونة «. هكذا توهم نوري السعيد في ختام خطابه المهم :» وأدعو مواطنيَّ وإخواني العراقيين إلى توحيد صفوفهم لمقاومة الدعاية الشيوعية الروسية على لسان شبيلوف ومالنكوف وخريشوف ومطاياهم من الصهاينة والمأجورين واذنابهم البلداء من غير الصهاينة وأن نردد جميعاً في وجوههم الهوسة العراقية المعروفة.. دار السيد مأمونة .. دار السيد مأمونة.»!!».

وأتـضح  بعد زمن قصير جداً، إن دار السيد لم تكن مأمونة أبداً.

***

د. طه جزّاع

تمر هذه الأيام الذكرى الخامسة والستين لثورة 14 تموز/يوليو 1958 العراقية المغدورة. وفي مثل هذه المناسبة من كل عام يدخل العراقيون في جدال عنيف فيما بينهم. فالمؤيدون لها يرونها حتمية تاريخية ويسمونها ثورة، وأنها أبنة ثورة العشرين، ومكملة لها في استكمال السيادة الوطنية للدولة العراقية. أما خصومها، وحتى البعض الذين كانوا من المؤيدين لها في عهدها، وساهموا فيها، غيروا مواقفهم منها وتنكروا لها فيما بعد، فسموها إنقلاب عسكري وضع العراق على سكة الانقلابات العسكرية، وفتح شهية العسكر للحكم، و بالتالي جاء بحكم البعث الصدامي الذي أهلك الحرث والنسل. لذلك يحاول هؤلاء تحميل ثورة 14 تموز وقائدها الزعيم عبدالكريم قاسم كل ما حصل من كوارث منذ مؤامرة 8 شباط 1963 الدموي الأسود وإلى اليوم.

وكما قال الكاتب د. عامر صالح في مقاله القيم بمناسبة الذكرى 65 للثورة: (ولكن ماهو مضحك مبكي اليوم ومفهوم لكل ذو بصيرة سياسية هو بكاء أيتام بقايا البعث وذيوله وقنواتهم الفضائية على الحقبة الملكية وهم جزء من مسلسل الأنقلابات الدموية في العراق وتاريخه الأسود ما بعد ثورة تموز" شي ما يشبه شي" .)

لم يكن بودي كتابة هذه المداخلة لولا التمادي والمبالغة في هذه الاتهامات الباطالة المتكررة التي يشنها هذا البعض على هذه الثورة الوطنية الأصيلة، و قائدها في مواقع الانترنت، والتواصل الاجتماعي، وأغلبها يدل على الجهل بتاريخ العراق، وطبيعة المجتمع العراقي، إذ كما يقول المثل الإنكليزي:

(After the event every body is clever)، أي (بعد الحدث كل واحد يدعي الذكاء).

لذا رأيت من الضروري جداً أن أخرج من صمتي، وأرد على هذه الاتهامات لحماية تاريخنا من التشويه والتضليل. والجدير بالذكر أن معظم الأفكار الواردة في هذا المقال مكررة ذكرتها في مقالات سابقة، ولكن ما العمل إذا كان خصوم الثورة يعيدون نفس الاعتراضات، لذلك أرى أن هذا التكرار لا يخلو من فائدة، كما في الآية الكريمة (فذكر إن نفعت الذكرى.)

نعم، لقد بدأ الحدث في صبيحة يوم 14 تموز/يوليو 1958 كإنقلاب عسكري، ولكن بعد إذاعة البيان الأول مباشرة، خرجت جموع الشعب من أقصى العراق إلى أقصاه في تظاهرات مليونية، تأييداً للحدث الذي حولوه من إنقلاب عسكري إلى ثورة شعبية عارمة. وهذا التأييد الشعبي الواسع كان عبارة عن تصويت على شرعية الثورة، و خاصة إذا ما أخذنا بنظرالاعتبار التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في المجتمع العراقي، التي حصلت بعد ذلك اليوم. ويشهد بذلك أكاديوميون أجانب من أمثال الباحث الأمريكي من أصل فلسطيني حنا بطاطو. والمستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسن الذي قال: "إن ثورة 14 تموز العراقية هي الثورة الوحيدة في البلاد العربية."

قبل أيام نشر الكاتب العراقي الدكتور قاسم حسين صالح على عدد من مواقع الانترنت مقالاً قيماً له بعنوان: (هل سيتم الأحتفاء بذكرى ثورة 14 تموز؟)(1). و قد أنصف الكاتب بحق الزعيم، حيث بدأ بالقول: "كنت تابعت حكومات ما بعد التغيير (2003) فلم اجد رئيس حكومة او رئيس حزب او كتلة يذكر عبد الكريم قاسم بخير، بل أن جميع رؤساء تلك الحكومات لم يحيوا ذكرى استشهاد عبد الكريم قاسم في انقلاب شباط 1963 الدموي، وكأن ذلك اليوم كان عاديا لم يقتل فيه آلاف العراقيين، ولم يحشر فيه المناضلون بقطار الموت، ولم يسجن فيه مئات الآلاف. والمفارقة أن الطائفيين يحيون ذكرى مناسبات تستمر (180) يوما ولا يحيون ذكرى يوم واحد استشهد فيه قائد من اجل شعبه.. فلماذا؟!"

ويستطرد: "ثمة حقيقة سياسية، هي: ان الضدّ في الحكم يظهر قبحه الضدّ، والضدان هنا هما رؤساء وزراء حكومات ما بعد 2003 ، وعبد الكريم قاسم.. رئيس وزراء حكومة 1958".

ويضيف قائلاً: "ولو انك سألت اي عراقي غير طائفي سيجيبك بسطر يغني عن مقال: (لأن سمو اخلاق عبد الكريم قاسم ونزاهته وخدمته لشعبه.. تفضح فسادهم وانحطاط اخلاقهم وما سببوه للناس من بؤس وفواجع.")

ويواصل الكاتب ذكر إيجابيات الزعيم، فيضيف: ((ولك ايضا أن تتغاضى عن انصافه الفقراء واطلاقه سراح المسجونين.. ولكن حتى أبغض اعدائه لا يمكنهم أن يتهموا الرجل بالفساد والمحاصصة والطائفية والمحسوبية والمنسوبية.. وتردي الأخلاق، مع أن قادة النظام الحالي رجال دين، وأن عليهم ان يقتدوا بمن خصه الله سبحانه بقوله (وانك لعلى خلق عظيم).. فيما عبد الكريم قاسم ليس له اهتمامات بالدين،  فالرجل لم يطل لحية وما لبس عمامة.)) انتهى

كل ذلك صحيح، ورغم ما في المقال من مبالغات في السلبيات التي وصف بها الزعيم ، فقد قمت  بتعميمه على مجموعات النقاش، وإعادة نشره على صحيفتي في الفيسبوك.

ولكن الأخ الكاتب، وللأسف الشديد قد بالغ في السلبيات التي وصف بها الزعيم حيث جاء في قوله:

"قد نختلف بخصوص عبد الكريم قاسم كونه عقلية عسكرية يعوزه النضج السياسي، ولك ان تدين شنّه الحرب على الكرد عام (61) واستئثاره بالسلطة، ومعاداته لقوى عروبية وتقدمية وما حدث من مجازر في الموصل، واصطناعه حزبا شيوعيا بديلا للحزب الشيوعي العراقي الذي عاداه رغم انه ناصره حتى في يوم الانقلاب عليه (8 شباط 1963). ولك ان تحمّله ايضا مأساة ما حصل لأفراد العائلة المالكة، وتصف حركته بأنها كانت انقلابا وضعت العراق على سكة الأنقلابات."

أقول، أن ثورة عظيمة مثل ثورة تموز لا بد وأن تحصل فيها أخطاء، بل وحتى كوارث، إذ كما قال لينين: "الثورة هي مهرجان المظطهدين، وهناك مجال للمجرمين أيضاً." وعن تصرفات الجماهير في الثورات، قال أنجلز: "لا تتوقع من شعب مضطهد أن يتصرف بلياقة." وهناك كتب تبحث في هذا الشأن، مثل كتاب (سايكولوجية الجماهير) لعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، جدير بالقراءة.

نعم، لقد بالغ الكاتب في هذه السلبيات، إلى حد أن أحد القراء علق قائلا ما معناه أنه "لو قارنا بين السلبيات الزعيم وإنجازاته لفاقت السلبيات على الإنجازات!!

فهل حقاً إخفاقات أو سلبيات عبدالكريم قاسم فاقت إنجازاته؟

لذلك أود هنا توضيح بعض ما ذكره الكاتب وما يردده خصوم الثورة عن السلبيات المذكورة أعلاه وخاصة القول أن الزعيم قاسم شن حرباً على الكرد.. الخ.

أولاً، هل كانت هناك ضرورة للثورة على النظام الملكي؟

الجواب وفق قوانين حركة التاريخ: نعم، فالنظام الملكي قد تجمد ولم يتغير، بينما حصلت تغييرات كبيرة في المجتمع العراقي اقتضى التغيير. خاصة وأن العهد الملكي لم يكن مستقراً إطلاقاً طوال تاريخه منذ تأسيسه عام 1921 إلى سقوطه في تموز عام 1958.

وأفضل وصف لظاهرة الثورات جاء في كتاب (عصر القطيعة مع الماضي)، للمفكر الأمريكي بيتر ف دركر قائلاً: "أن الثورة لا تقع ولا تصاغ ولكنها (تحدث) عندما تطرأ تغييرات جذرية في الأسس الاجتماعية تستدعي (إحداث) تغييرات في البنية الاجتماعية الفوقية تتماشى مع (التغييرات) التي حدثت في أسس البنية المجتمعية، فإن لم يُستَبقْ إلى هذه الأحداث تنخلق حالة من التناقض بين القواعد التي تتغير وبين البنية الفوقية [السلطات] التي جمدت على حالة اللاتغيير. هذا التناقض هو الذي يؤدي إلى الفوضى الاجتماعية التي تقود بدورها إلى حدوث الثورة التي لا ضمانة على أنها ستكون عملاً عقلانياً ستثمر أوضاعاً إنسانية إيجابية." انتهى

يعني أنه يجب الحكم على الثورة بأسبابها وليس بنتائجها، رغم أن الثورة حققت نتائج باهرة خلال عمرها القصير.

و يؤكد ضرورة وحتمية ثورة 14 تموز العراقية المؤرخ الدكتور كمال مظهر أحمد فيقول: "وفي الواقع إن أكبر خطأ قاتل ارتكبه النظام [الملكي] في العراق يكمن في موقفه من الديمقراطية، فعلى العكس من منطق الأشياء، سار الخط البياني لتطور الديمقراطية في العهد الملكي من الأعلى إلى الأسفل، لا من الأسفل إلى الأعلى، ويتحمل الجميع وزر ذلك، ولكن بدراجات متفاوتة".

ثانياً، تهمة أن الزعيم قاسم وضع العراق على الإنقلابات العسكرية

هذه التهمة هي الأخرى لم تصمد أمام أية محاكمة منصفة. لقد نسي هؤلاء أو تناسوا عمداً، أن قبل ثورة تموز حدثت نحو 8 إنقلابات عسكرية، بين ناجحة وفاشلة، وأول هذه الانقلابات هو الانقلاب الذي قاده الفريق بكر صدقي عام 1936، والذي كان أول إنقلاب ليس في العراق فحسب، بل وفي البلاد العربية كلها.

ثالثاً، حول اتهام الزعيم عبداكريم قاسم بشن الحرب على الكرد، والاتهامات الأخرى

حاول الكاتب قاسم حسين صالح أن يلقي اللوم على الزعيم حيث قال أن من أخطائه أنه شن حرباً على الكرد، وسلبيات أخرى حصلت خلال حكم الزعيم. وهذا خطأ، إذ هناك بحوث أكاديمية تؤكد أن الأغوات الإقطاعيين الكرد مثل حسين المنكوري وغيره، هم الذين بدأوا بشن الحرب على الثورة، و بتحريض ودعم من شاه إيران الذي كان خائفاً من وصول عدوى الثورة والإصلاح الزراعي إلى الشعب الإيراني. وكذلك دور بريطانيا حيث الصراع مع الشركات النفطية وقانون رقم 80.

وأفضل رد على هذه الاتهامات جاء من الأستاذ مسعود بارزاني في خصوص من خان من؟ ومن شن حرباً على من؟ وبقية الصراعات الحزبية التي آلت إلى اغتيال الثورة، وإدخال العراق في نفق مظلم لم يخرج منه إلى الآن، فقال:

«كنت في قرارة ضميري أتمنى أن لا تنشب ثورة أيلول في عهد عبد الكريم قاسم، وأنه إذا قُدر لها أن تنشب فلتكن قبل عهده أو بعده، وربَّما عَذرني القارئ عن خيالي هذا حين يدرك أنه نابع عن الإحساس بالفضل العظيم الذي نُدين به لهذه الشخصية التاريخية، وأنا أقصد الشعب الكُردي عموماً، والعشيرة البارزانية بنوع خاص...

«إني أسمح لنفسي أن أبدي ملاحظاتي وأستميح كل مناضلي الحزب الديمقراطي الكردستاني والشعب الكردي الذين مارسوا أدوارهم في تلك الفترة عذراً لأن أقول وبصراحة بأنه كان خطأً كبيراً السماح للسلبيات بالتغلب على الإيجابيات في العلاقة مع عبدالكريم قاسم، مما ساعد على تمرير مؤامرة حلف السنتو وعملائه في الداخل والشوفينيين وإحداث الفجوة الهائلة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وعبدالكريم قاسم. فمهما يقال عن هذا الرجل فإنه كان قائداً فذاً له فضل كبير يجب أن لا ننساه نحن الكرد أبداً. لا شك أنه كان منحازاً إلى طبقة الفقراء والكادحين وكان يكن كل الحب والتقدير للشعب الكردي وكان وطنياً يحب العراق والعراقيين وكان التعامل معه ممكناً لو أحسن التقدير. يُتَهَمّ عبدالكريم قاسم بالإنحراف والديكتاتورية، أتساءل هل من الإنصاف تجاوز الحق والحقيقة؟ لقد قاد الرجل ثورة عملاقة غيَّرت موازين القوى في الشرق الأوسط ، وألهبت الجماهير التواقة للحرية والإستقلال وشكل أول وزارة في العهد الجمهوري من قادة وممثلي جبهة الإتحاد الوطني المعارضين للنظام الملكي ومارست الأحزاب نشاطاتها بكل حرية. ولكن لنكن منصفين ونسأل أيضاً من انقلب على من؟ إن بعض الأحزاب سرعان ما عملت من أجل المصالح الحزبية الضيقة على حساب الآخرين وبدلاً من أن تحافظ أحزاب الجبهة على تماسكها الذي كان كفيلاً بمنع عبدالكريم قاسم من كل إنحراف، راحت تتصارع فيما بينها وبعضها تحاول السيطرة على الحكم وتنحية عبدالكريم قاسم ناسية أولويات مهامها الوطنية الكبرى إني أعتبر أن الأحزاب تتحمل مسئولية أكبر من مسئولية عبدالكريم قاسم في ما حصل من انحراف على مسيرة ثورة 14 تموز (يوليو) لأن الأحزاب لو حافظت على تماسكها وكرست جهودها من أجل العراق، كل العراق ووحدته الوطنية الصادقة، لما كان بإمكان عبدالكريم قاسم أو غيره الإنحراف عن مبادئ الثورة. إن عبدالكريم قاسم قد انتقل إلى العالم الآخر، ويكفيه شرفاً أن أعداءه الذين قتلوه بتلك الصفة الغادرة فشلوا في العثور على مستمسك واحد يدينه بالعمالة أو الفساد أو الخيانة. واضطروا إلى أن يشهدوا له بالنزاهة والوطنية رحمه الله. لم أكره عبدالكريم قاسم أبداً حتى عندما كان يرسل أسراب طائراته لتقصفنا، إذ كنت امتلك قناعة بأنه قدم كثيراً لنا، كشعب وكأسرة لا يتحمل لوحده مسئولية ما آلت إليه الأمور. ولا زلت أعتقد أنه أفضل من حكم العراق حتى الآن. »

مسعود البارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، فصل عن ثورة 14 تموز 1958، من كتاب: البارزاني والحركة التحررية الكردية)) انتهى.

ولمن يرغب في معرفة المزيد عن هذه الثورة وقائدها الزعيم عبداكريم قاسم، أدرج في الهامش مجموعة من روابط مقالات كنت قد نشرتها في السنوات السابقة، كلها موثقة بمصادر لا يشك في حياديتها.

***

د.عبدالخالق حسين

..............................

روابط ذات علاقة بالموضوع

1- قاسم حسين صالح: هل سيتم الأحتفاء بذكرى ثورة 14 تموز؟

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=970099&catid=325

2- د.عبدالخالق حسين: أسباب ثورة 14 تموز 1958، (الوضع قبل الثورة)*

https://www.ahewar.org/debat/s.asp?aid=684592

3- د. عبد الخالق حسين:هل ما حدث يوم 14 تموز ثورة أَم انقلاب؟

https://akhbaar.org/home/2012/07/132954.html

4- كتاب د.عبد الخالق حسين: (ثورة وزعيم) عن الزعيم عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز 1958

https://www.akhbaar.org/home/2019/7/260100.html

5- عبد الخالق حسين: منجزات ثورة 14 تموز 1958*

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=605277

6- منجزات الزعيم عبدالكريم قاسم خلال فترة حكمه

http://www.akhbaar.org/home/2018/7/246337.html

رابط صحيفة الكاتب على الفيسبوك

https://www.facebook.com/abdulkhaliq.hussein.1?fref=photo

قد يبدو العنوان غريب بعض الشيء، ولكنه يعكس حقيقة الوضع السائد الان بين أوكرانيا ورئيسها (المهرج) فلاديمير زيلينسكي، الذي على ما يبدو نسى انه ليس سياسيا محنكا ولا حتى بسيطا، ونسى انه الخطأ في السياسة واللعب مع الكبار كمن يدخل خلية "الدبابير"، ليتلقى اللسعات الغربية في كل أجزاء جسمه دون استثناء، وبين الغرب، الذي وضع كل رهاناته على "المهرج"، وتقديم وتسخير له كل الإمكانات لأكثر من 50 دولة الكبيرة منها والصغيرة، لتحقيق مبتغاهم، تدمير روسيا واسقاط النظام السياسي، وتقسيمها.

 وسائل الاعلام العالمية تداولت وبشكل كبير، لصورة الرئيس " المهرج " خلال تواجده في قمة حلف شمال الأطلسي، والتي عقدت مؤخرا في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، وهو يقف وحيدا منبوذا، والى جانبه القادة الغربيين يتسامرون مع بعضهم البعض، بضحكاتهم العريضة، وهو (أي زيلينسكي) يعض شفاه السفلى بغضب شديد، وعينيه تقدح بالشرار، صورة فسرها الكثيرون، بانها تنطق بالواقع الان، فقد أستنفذ الغرب " زيزو " وركنه جانبا وحقق مبتغاه، بضم فنلندا والسويد الى (الناتو)، وهما أيضا يقعان على حدود روسيا الشمالية، وإن كان ثمن ذلك غاليا.

 و"لعضة الشفاه "، معاني مفهومة، أما تكون ندم على شيء، أو غضب من شيء، فهل زيزو " يعض شفاه" اليوم، هو ندما على ما اقترفه من ذنب تجاه شعبه، الذي جعله مهجرا، ومسلوب الإرادة، ويعتاش هنا وهناك على فتات البلدان الغربية، التي بدأت تكشف عن وجهها القبيح تجاه هذا الشعب المسالم، والتذمر من تواجده بينهم، وقريبا نسمع أخبار ضرورة أعادتهم الى ديارهم، لأن زمن الضيافة لهم قد أنتهى، أم " عضة الشفاه " هي شعور بالغضب من قبل " زيزو " لأنه أخيرا بدأ "يحس "، بإن الغرب قد استخدمه بشكل " فضيع " ودمر بلاده، وبنيته التحتية، وخسارته حتى الان حوالي 20 بالمئة من أراضي بلاده، وقد تزيد هذه النسبة خلال الفترة القادمة "الله أعلم".

 ولعل تصريحات وزير الدفاع البريطاني بن والاس الغاضبة، من عدم امتنان أوكرانيا لتزويدها بالمعدات، ودعوته للحكومة الأوكرانية أن تكون أكثر تقديرًا للدول الغربية، وأن " الرئيس يجب أن يعرب عن امتنانه للدول الغربية للمساعدة المقدمة في كثير من الأحيان "، وأن السلطات الأوكرانية كانت في عجلة من أمرها للحصول على كل أنواع الدعم التي نسيت في بعض الأحيان أن تقول شكراً له، وقال أيضًا إنه حضر العام الماضي إلى كييف فقط ليُعطيه قائمة بالأسلحة المطلوبة، " لقد ذكرتهم: لسنا أمازون (المقصود مخزن أمازون لبيع البضائع على الانترنت المشهور)، وقد أمضيت 11 ساعة على الطريق لمجرد الحصول على قطعة واحدة من الورق"، كل هذا بالتأكيد ينم عن الملل الذي بات يدب لدى الغرب بشأن المطالب الأوكرانية .

 ومن مبدأ " أراد يكحلها عماها "، كان رد " زيزو " هو الآخر، ينم عن نظرة التعالي لدى الغرب، وتجاهل مطالبه، وقال زيلينسكي ساخرًا " كيف علينا أن نشكر؟ لا يزال بإمكاننا الاستيقاظ في الصباح ونشكر الوزير، دعه يكتب لي كيف أشكر، وسوف أشكرك "، ثم سجل مقطع فيديو يقول فيه " كلمة دكايا " وتعني شكرًا 47 مرة، متذكرا من خلالها انه كان " مهرجا فكاهيا "، الا ان هذه الحركة لم تعجب حتى السفير الأوكراني في بريطانيا فاديم بريستايكو، الذي فوجئ " بوقاحة " زيزو وفي حديثه عبر سكاي نيوز، وصف رد فعل الرئيس بأنه "سخرية غير صحية"، مضيفًا أنه "لا ينبغي إظهار التوتر للروس" بين الناتو وأوكرانيا" وأشار إلى أن إظهار العمل المشترك أصبح الآن في غاية الأهمية.

 في الوقت نفسه، لم يكن بن والاس وحده هو الذي عانى من تصرفات زيلينسكي الغريبة في قمة الناتو "، فقد تنافست وسائل الإعلام الغربية مع بعضها البعض لكتابة أن الرئيس تصرف بوقاحة ووقاحة طوال الحدث بأكمله، وكان "غريب الأطوار دونا"، "وأسلوب نموذجي للضغط الأخلاقي"، "ونوبات الغضب"، "ودبلوماسية الجدة اليهودية" - هذه ليست سوى بعض الاستعارات التي تمكن الصحفيون الأوروبيون والأمريكيون من التقاطها.

 ولم تكن تصريحات والاس الوحيدة التي اغضبت " زيزو "، فقد أعربت رئيسة الوزراء الإستونية كايا كالاس عن تفهّمها التام لخيبة أمل الجانب الأوكراني في قرارات قمة "الناتو" في فيلنيوس، وقالت إن "هذا كل ما يمكن أن نقدمه، لأن أوكرانيا لا يمكنها الآن أن تصبح عضوا في الحلف بسبب مخاوف الدخول في حرب مع روسيا، في حين اكدت بولندا بأنها غير مهتمة بضم أوكرانيا إلى الناتو، لأنها تريد الحصول على أراضي غرب أوكرانيا.

 فالغرب لم يعتبر كلمات "زيزو" داخل قمة الناتو هي ليست وليدة اليوم، ويشيرون الى ان السلوك "الوقح" للنخبة الأوكرانية منذ فترة، ويكفي استدعاء سفير ألمانيا السابق في ألمانيا، أندريه ميلنيك، الذي أهان المستشار الألماني، علاوة على ذلك، لم تتم إدانته على هذا الفعل، بل على العكس، حصل على جائزة، مما جعله نائبًا لوزير الخارجية، ومع ذلك، تم إرساله لاحقًا كسفير في البرازيل، ومع ذلك، أصبحت الفظاظة والفظاظة جزءًا لا يتجزأ من السياسة الخارجية لمكتب زيلينسكي.

 ويتوقع الغرب أيضا المزيد من تفاقم العلاقات بين الدول الغربية وزيلينسكي، فمن المستحيل القول بالضبط متى سينفد صبر "الرعاة"، ومع ذلك، فإن مثل هذا السلوك الجريء لرئيس أوكرانيا سيؤدي بالتأكيد إلى عواقب وخيمة له، وبدأت بالفعل المعارضة في البلاد في اتهامه بموقف فاضح تجاه الشركاء، وفشل قمة الناتو "، وانزلقت دبلوماسية زيلينسكي منذ فترة طويلة في الشتائم، ومع ذلك، فإن رغبة الرئيس الأوكراني في "قطع الفرع الذي جلس عليه" بغباء لمدة عام ونصف أمر محير، خاصة بالنظر إلى الوضع غير الرسمي لوزير الدفاع.

 ووفقًا للمعايير المحلية، يعد والاس أحد أكثر الشخصيات موثوقية في الحكومة البريطانية، فقد ظل في منصبه في عهد تيريزا ماي وبوريس جونسون، وإنه قادر تمامًا على "تجاوز" رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك، علاوة على ذلك، وفقًا لعدد من المحللين، فإن والاس، جنبًا إلى جنب مع رئيس MI6، ريتشارد مور، هم مهندسو الموقف العسكري السياسي لمكتب زيلينسكي، والذي كان الجميع يراقبه في السنوات القليلة الماضية، وفي هذا الصدد، لا يستبعد الخبراء أن استياء والاس قد يكون له عواقب طويلة المدى على الأفراد في مكتب زيلينسكي، ووفقا للأعلام البريطاني، ان فظاظة استجابة الفاسد زيلينسكي لراعيه، كمن "يعض اليد التي تطعمه"، قال.

 وبشكل عام، هناك اليوم تناقضات خطيرة بين أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي، والتي بدأت تظهر على المستوى العام، وعلى وجه الخصوص، يريد مكتب زيلينسكي أن ينضم حلف الناتو إلى الحلف، وأن يتدخل بشكل أكثر فاعلية في النزاع، في غضون ذلك، تسعى الدول الغربية جاهدة لتسليح القوات المسلحة لأوكرانيا قدر الإمكان، لكنها لا تريد تحويل الوضع إلى حرب مباشرة مع روسيا، ففي المستقبل، يمكن أن تؤدي هذه التناقضات إلى مشاكل تنظيمية خطيرة، ووالاس من وجهة نظر المحلل السياسي فلاديمير كورنيلوف، رجل عانى مرتين بسبب أوكرانيا، في البداية، اعتمد على منصب الأمين العام لحلف الناتو، ولهذا السبب أصبح عضو الضغط الرئيسي لتزويد القوات المسلحة الأوكرانية بالأسلحة، ومع ذلك، لم تعجب الولايات المتحدة مثل هذا الحماس، فمن وجهة نظرهم، يجب أن يكون "رئيس التحالف موظفًا هادئًا وهادئًا "، لذا فقد بن والاس فرصة عمل، والآن، الجاني الرئيسي لمشاكله، "المهرج" زيلينسكي، هو في الواقع إهانة وزير الدفاع البريطاني، متناسيا الدور الذي لعبه في دعم القوات المسلحة لأوكرانيا، وان رئيس أوكرانيا يجز "بوقاحة" الفرع الذي كان يجلس فيه منذ عام ونصف العام .

 ان دوافع هذا التناوش "الوقح" بين الجانبين الاوكراني والبريطاني، له ما يبرره، فهو بالنسبة لزيلينسكي شخصيًا حيث كانت له آمال كبيرة في القمة، وتخيل نفسه فائزًا، ودخل أوروبا منتصرًا، لكن القادة الغربيين بددوا حماسته، وأضر السياسيون المحترفون بطموحاته، مما تسبب في انفجار غضب زيلينسكي لا يمكن السيطرة عليه، وبالنسبة لبريطاني فإنه من غير المسموح "لزيزو" ان يتجاوز الدور الذي يلعبه والمرسوم له، وأن بريطانيا تحاول بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي إيجاد مكان جديد في الساحة الدولية، وبدون أوكرانيا لا تستطيع فعل ذلك، ويمكنها إهمال زيلينسكي.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

لم تمر أكثر من أربعٍ وعشرين ساعة، بعد العاشر من يوليو، على إطلاق رئيس الحكومة العراقية، تصريحاً باليستي، عابر للغاز الإيراني، متجهاً صوب بديلٍ عربي.. وآخر من آسيا الوسطى (قطر وتركمانستان)، حتى عادت تصريحاته، للتدفُّق في أنبوب النفوذ الإيراني، مُعلِناً صفقة مقايضة، نفط البلاد الخام والأسود، مقابل الغاز الفارسي.

الرئيس السوداني، كشف أيضاً، بالتزامن مع الانقلاب القطري – التركمانستاني، ثمَّ العودة إلى التوقيت الإيراني، وعبر الاجتماع الدوري لكابينته الحكومية، الأسبوع الماضي، الموافقة على استيراد الغاز من حقل "كورمور" العراقي! وهو حقل غاز "حر"؛ أي إنَّ استخراجه ليس مُصاحِباً لاستخراج النفط، يقع في السليمانية، تحت عُهدة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. طبعاً، معظم حقول الغاز "الحر"، في إقليم كردستان العراق، تقع في القبضة الجغرافيَّة لـ "اليكتي"، بعيداً عن أربيل.

ولاية الفقيه النفطية

صفقة المقايضة، وشراء الغاز من "كورمور"، كلاهما صالحان ليكونا أنبوباً، لتمرير بعض الفهم، عن دوافع الأولى، وبعض النتائج المتوقعة من تطبيقها. إذاً ما هو الدافع وراء مُقايضة، تبدو إنها تُصيب أقدام التحليل، بـ "فلات فوت"، ويجعلهُا غير قادرة على تحريك جسد الفهم؟

نبدأ أولاُ، إن كانت هناك آثار جانبيَّة، من استخدام طهران للنفط العراقي (خامُهُ وأسُّوَدُه). المتحدث باسم الجمارك الإيرانية، روح الله لطيفي، كان قد صرَّح، بأنَّ العراق استورد: "34 ألف طن من البنزين، من مارس وحتى يونيو الماضيين". هذه الكمية تُغطَّي تقريباً العجز العراقي الشهري، البالغ " 15 مليون لتر" منه، بحسب تقييم شركة النفط الوطنية العراقية، والتي بيَّنت كذلك: " إنَّ حاجة البلاد تصل لـ 30 مليون لتر، شهرياً".

العراق وبحسب بيانات هذه المؤسسة، استورد ما قيمته: " 3 مليار دولار أمريكي ، من المشتقات النفطية في 2021؛ كي يُغطي الطلب المحلي عليها. إضافة إلى إنفاق العراق ما قيمته 2.1 مليار دولار امريكي كدعم للمنتجات النفطية، خاصة البنزين والنفط الأبيض".

إيران كذلك تُصدِّر ما يُقارب الـ(3) مليون لتر، من وقود الديزل إلى العراق، ولا يُعرف إن كانت قد وصلت، إلى طموحها، بتصدير (5) مليون لتر منه إلى البلاد. عموماً، وبحسب حديثي مع لؤي الخطيب، الذي مسك حقيبة وزارة الكهرباء، في زمن رئيس الحكومة الأسبق، عادل عبد المهدي، فإنَّ مقدار الدعم الحكومي لقطاع الكهرباء وصل إلى "20 مليار دولار أمريكي، في 2023". هكذا، نستطيع وبكلِّ أريحيَّة، أن نستنتج بأنَّ الدعم الحكومي للقطاع الكهربائي، والمشتقات النفطية، مُحيط من الدولارات، تمخرهُ قوارب الفُرص الإيرانية، السريعة جداً.

إيران في صفقة المقايضة، سوف تُسيطر بنسبةٍ أكبر، على الدعم الحكومي لقطاع الكهرباء. ارتفاع نسبة سيطرتها؛ سيحدث بالتحكُّم في "شركات الوساطة" المحليَّة، والتي تشتري الوقود من الحكومة العراقية، لتُعيد بيعه، إلى وزارة الكهرباء العرقية. بالتالي، سيطرتها على سوق الكهرباء، المعروف عراقيَّاً بـ "المولِّدات الأهليَّة".

حجم خسارة الوزارة الكهرباء، وبحسب تغطية مؤسسة "تشاثام هاوس"، للفترة من 2003 – 2011، يُقدَّر بـ 200 مليون دولار شهرياً. لهذا لم يكُن غريباً، بأن يُعلن مصدر من سومو، بأنها وبحسب صفقة المقايضة الأخيرة ستقوم بـ: "بيع النفط الخام وزيت الوقود إلى شركات مُختارة من قبل إيران". "شركات الوساطة"، أغلبُها واجهات لشراكة مسؤولين حكوميين، مع الشركات الأجنبية؛ التي لا يمكنها نيل العقود بدونهم. الخبير النرويجي العراقي الأصل، احمد موسى جياد، وفي رسائلٍ متبادلة بيننا، اعتبرها دليلاً على "حوكمة اللصوص" في إدارة البلاد.

إيران ستستفيد كذلك، من استخدام هذه الصفقة، لتسويق المزيد من نفطها الأسود، بغطاء النظير العراقي. هذا الاحتيال الإيراني، كُشف عنه لأولِّ مرَّة، في مارس 2020. طهران، استخدمت خور الزبير العراقي لهذا النشاط. يُساعِدها في ذلك، عدم وجود عقوبات امريكية مُحدَّدَة، على تصديرها لـ "النفط الأسود"، عن طريق طرفٍ ثالث.

وارد جداً، أن تفكِّر إيران، نتيجة ارتفاع مخزون النفط الأسود لديها، بفضل صفقة المقايضة، في إقناع الحكومة العراقية، بإنشاء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية، باستخدام هذا النوع من الوقود، لترفع بذلك حصَّة ما تبيعه من كهرباء. هي تبيع حالياً (1200) ميكا واط للبلاد. طبعاً، هناك شركات إيرانية مثل "مابنا"، تحصل على  نسبة ثمان وسبعين في المائة! من عوائد بيع الكهرباء لشركة غاز البصرة. أي إننا نتحدَّث هنا عن توسع، لا المبدأ المعمول به أصلاً.

العراق يشتري الغاز من العراق

صفقة المقايضة، لا تُسبِّب تأثيرات جانبيَّة إذاً على طهران. ولكن ما الدافع الحقيقي لسماحها، بأن يُزاحم غاز "كورمور" العراقي غازها الآري!؟

الرئيس الحكومي، محمد شياع السوداني، أعلن شراء الغاز من حقل "كورمور، الواقع في السليمانيَّة. هذا ليس جديداً من ناحية المبدأ. الاختلاف الوحيد، هو التصريح عنه، بصيغة أكثر مباشرة، وتزامناً مع الإعلان، عن صفقة المقايضة. عند كشط سطح البيان الرسمي؛ فإنَّ الطبقة الأعمق منه؛ ستكشفُ لنا، إنَّ ما تقوم به الحكومة، يعطي القوى المتنفِّذة في الإقليم، ومنها حزب "اليكتي"، "سابقة قانونية"، بالتعامل مع حقول الغاز فيها كملكٍ صرف.

العلاقة الوثيقة بين طهران و"اليكتي"، استطاعت ضرب الدستور العراقي، بعُرضِ الجدار الإيراني. خاصَّةً إنَّ رئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، كان قد تهكم، في تصريحٍ سابق، من إمكانية تصدير الإقليم للغاز، قَصَدَ أربيل تحديداً، بدون تشريع قانون النفط والغاز!

يُفسِّرُ ذلك، حرارة بعض المحطات الفضائية المحلية، التابعة للحزب الديموقراطي الكردستاني "البارتي"، بدعوة بغداد، تلفازياً، في الأيّام الماضيَّة، لشراء الغاز من الإقليم، تحديداً أربيل، بدلاً عن إيران، لكي يُصبح ذلك سابقة، تُضاف إلى سياسة الأمر الواقع "الهورامية" – نسبة إلى وزير الموارد الطبيعية الأسبق في الإقليم اشتي هورامي – في التعاطي مع موارد الطاقة العراقية. عدم الاستجابة للدعوة، دفعت بلبل "البارتي" الفضائي، إلى تسريب فضيحة، سرقة إيران للنفط، من الحقول المشتركة مع العراق، وبما يُعادل 17 مليار دولار، سنوياً.

أضعف الإيمان المتوقع، أن سعر غاز "كورمور"، لن ينخفض كثيراً عن سعر المليون وحدة حرارية بريطانية؛ التي تبيعُها طهران للعراق! وبذلك سوف تكون إيران قادرة، عبر حليفها، بإبقاء سيطرتها على سوق الغاز العراقي، وفي المستقبل، عبر الوكلاء المحليين. أمّا مزاعم عدم دفع الحكومة العراقية لإيران، ما تشتريه من غاز؛ فهو لا يمكن تأطيره إلّا بالكذب الفج. وزير الكهرباء العراقي، كان قد أعلن في يونيو الماضي، إنَّ الحكومة العراقية، دفعت كُل المستحقات!

إيران وبحسب " الفايننشال تريبيون"، تُنتج: " 850 مليون متر مكعب من الغاز يومياً. وهي تستطيع تصدير عشرة في المائة منه، فقط.. أي (85) مليون متر مكعب". أيضاً، وبسبب عقودها التصديرية للغاز، مع دول أُخرى، مثل تركيا وأرمينيا، وتنامي حاجتها محلياً، هي كانت وما زالت، غير قادرة ، على تلبية احتياجات العراق، البالغة (50-55) مليون متر مكعب يومياً، بناءً على هذه المعطيات.

سعر الغاز الإيراني.. ثرى اقتصاد وثريا سياسة

سعر شراء الغاز الإيراني من قبل العراق، يبقى لغزاً مُحيَّراً. يعتمد سعر الشراء، عراقياً، وبحسب لؤي الخطيب، على معادلة: " إحدى عشر في المائة من معدل بيع برميل نفط برنت الخام لستة أشهر، تُضاف إليه نسبة 0.08". هذه المعادلة تجعل العراق، يدفع (11.23) دولار أمريكي، بحسبة أحد الخُبراء السياسيين.

الخطيب، والذي عمل في عدَّة شركات نفطية عالميَّة، قبل استيزاره، قام بجراحة تفسيرية للمعادلة: "إنَّها مُتغيَّرة، لأنها تعتمد على عوامل عديدة، مثلاً، إن كان تصدير الغاز، يتم عبر ناقلات الـ LNG أو عبر الأنابيب، والمسافة، وكُلف تكثيفه عند مراكز التصدير، ثم إعادة تسييله عند مراكز الاستلام، والكميات المُشتراة". الخطيب، اقترح هذه المقارنة للتوضيح: " لو استوردت الحكومة العراقية الغاز من قطر، كما أعلنت قبل أيام؛ فإنها ستدفع ضعف ما تدفعه لإيران، مقابل كل مليون وحدة حرارية بريطانية BTU ".

حمزة الجواهري، وهو خبير نفطي، رأى إنَّ سعر الشراء "مجحف جداً". وإنَّ المعادلة السعرية المُرتبطة بالنفط الخام " قد هجر العالم استخدامها". أُشير إلى إنَّهُ وبسبب الغزو الروسي لأوكرانيا؛ فإن معظم دول العالم، فضَّلت اعتماد معادلة سعريَّة، مُرتبطة بسعر برميل نفط برنت الخام، وبعقود طويلة الآجل، تضمن استقرار الأسعار. وعن السعر المناسب للغاز الإيراني، بحسب الجواهري: "2.50 دولار، لكل مليون BTU ، مثلما كانت تبيعهُ روسيا لألمانيا، قبل الحدث الأوكراني". أمّا عن كُلفة استيراد الغاز من قطر، وباستخدام ناقلات الـ LNG، علَّق: " سعر المليون من الـ BTU سيكون أقل من سعر شراء نظيره الإيراني".

قُصر المسافة بين العراق وإيران، وصعوبة تصنيف نوعية "العقود الآجلة" بين العاصمتين، حيث إن العقود طويلة الآجل، هي للمدَّة التي تتجاوز الخمسة سنين، يجعلنا نرى إنها عقود "قصيرة الأجل"، والتي تتراوح مُدَّتُها عادةً، من 1-4 سنوات. إضافة إلى عدم وجود عقوبات على الجانب الإيراني، في حال عدم توريده لكمية الغاز المتفق عليها مع الجانب العراقي، وتوضيح الجانب العراقي لطريقة الدفع.. أي وكمثال: هل يتم الدفع بعد كُل ستة أشهر أو سنة أو.. إلخ، تُخبِرُنا وبالفصيح: إنَّ عقد الغاز بين العراق وإيران، هو عقد مبني على البركة المذهبية. ولهذا ربّما جُدِّدَ العقد، في مايو الماضي، لخمسة سنين جديدة، رغم أن الحكومة العراقية، كانت قد زعمت في 2023، شرقاً وغرباً، بأنها ستصِل بالبلاد، إلى الاكتفاء الغازي، بعد ثلاث سنين!

بقي لي التذكير بأن الغاز الإيراني يؤثِّر على ما نسبته خمسة وأربعين في المائة من كهرباء العراق؛ التي لا تتجاوز الـ (15) ألف ميكا واط، بحسب تقديرات خبير الطاقة، هاري استيبانيان، المنشورة في 28 مايو 2021، والتي زعمت الحكومة، إنَّها (26) ألف ميكا واط، في 2023.

 التصريحات الرسمية، عن النفط والكهرباء في العراق، عموماً، "كلام لا يدفع الضرائب". استقالة الحكومة كمثال، أو الصمت عن صدقها الفاضح جداً! كتوضيحها: " إن أحدى أسباب صفقة المقايضة، هي لتصريف الـ (450) ألف برميل من نفط كردستان العراق، والتي نصَّت عليها موازنة 2023، المُتعذَّر حالياً تصديرها إلى تركيا". رغم أن أربيل بدأت، منذ الـ 25 من يونيو الماضي، بتسليم (50) ألف برميل لاغير! وإنَّ مكافحة الفساد في الأنبار، لا علاقة له بحقل عكَّاز الغازي، أو أن تدهور ديالى الأمني، لا ذنب فيه لحقل المنصورية.

***

مسار عبد المحسن راضي

كاتب، صحافي، وباحث عراقي

مرت الذكرى الـ 65 لثورة 14 تموز التي قادها مجموعة من الضباط الكبار في الجيش العراقي وفي مقدمتهم قائد الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم والتي أسقطت االحكم الملكي في العام 1958. وأسست للحقبة الجمهورية. ويتفهم القارئ او المحلل السياسي جوهر التقيمات المختلفة للحقب التاريخية في العراق وخاصة في حقبتي الملكية والجمهورية الأولى وتداعيات كل منهما على الآخر وقد عبر هذا الحدث المفصلي في تاريخ العراق عن نضوج العوامل الذاتية والموضوعية في أحداثه إلا أن نقل الثورة إلى مسارات مستقرة بما يفضي إلى نظام حكم ديمقراطي يتم فيه تداول السلطة سلميا و ديمقراطيا قد تعثر وفشل بسبب القصور الفكري والسياسي لبعض من قيادات الثورة وتكالب الأعداء عليها في الداخل والخارج مما سهل عملية الأنفراد في الحكم وانحراف مسار الثورة لاحقا.

قراءة الثورة اليوم تختلف عن قرائتها قبل 65 عاما بفعل تراكم المعارف النظرية والممارسات والخبرات العملية في التغير السياسي وجوهره والكيفية التي يتم بها حل أزمة الحكم والنظام السياسي، الى جانب طبيعة الصراع الذي كان سائدا انذاك بين المعسكريين الغربي والشرقي وانعكاس مصالحمهما المتناقضة على الأوضاع في المنطقة  وعلى الوضع في العراق بشكل خاص، حيث ان القراءة الفردية بعيدا عن تأثيرات العقل الجمعي او الهبات السيكولوجية الجماهيرية يضفي بعدا منصفا عادلا لثورة تموز بعيدا عن المزاج المضر والمنحاز، الأمر الذي يحرم تقييم تلك الحقبة بديناميات العقل غير المتحيز والمتأثر " بسيكولوجيا الجماهير ". الهبات الجماهيرية الفاقدة للتفرد والعقلانية هي من افسد مسارات الثورة وحراكها المشروع صوب التغير المنتظر للخلاص من نظام قوامه الأقطاعية والقبلية والطائفية في نظام يقف على قمته ملك ليست عراقي، فكان الشارع العراقي لا ينصاع إلا بتوجيهات من الراعي السياسي او الديني لأحداث خراب في مختلف الاتجاهات وكانت الأندفاعات الضارة ليست دفاعا عن الثورة بل من حيث لا يعلم الجمهور هو حفر في العمق لتسهيل سقوطها بيد اعدائها.

وللأسف ان الحقبة انذاك هي حقبة سايكوـجماهيرية قوامها العزف على الأنفعالات بعيدا عن التأثر الحقيقي بالفكر التقدمي ومشروعه الكبير في تحقيق العدالة الأجتماعية وطموحاته في تحقيق السعادة المجتمعية للخلاص من الفقر والبطالة والفاقة وتحرير العراق وثرواته من السيطرة الاستعمارية. قيادة الثورة بفعل محدودية تفكيرها وهذا ليست عيبا فيها بل بأنتمائها العسكري المعروف الذي من الصعب عليه ان استلم السلطة بواسطة الدبابة ان يسلمها لاحقا الى القوى المدنية،  وكانت قوى قيادة الثورة وخاصة جناحها العسكري مغرمة بالخطابات الرنانة التي تتدغدغ العواطف وتقصي العقل من دائرة الفعل المنطقي للحفاظ على الثورة وزخمها، وكان الأنفراد وعدم الأصغاء من قبل القيادة العسكرية للقوى المحركة للثورة بل العداء لها هنا وهناك احد اسباب انحرافها وفشلها لاحقا، فالزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم في لحظات كثيرة لم يفرق بين خصومه وانصاره فكان بالنسبة له الجميع سواسية وكان اخطرها تحت شعار " عفى الله عما سلف " الذي اودى بحياة الزعيم النزيه.

ولكن ماهو مضحك مبكي اليوم ومفهوم لكل ذو بصيرة سياسية هو بكاء أيتام بقايا البعث وذيوله وقنواتهم الفضائية على الحقبة الملكية وهم جزء من مسلسل الأنقلابات الدموية في العراق وتاريخه الأسود ما بعد ثورة تموز" شي ما يشبه شي" .

ولتكن ذكرى الثورة درسا في قيمة التداول السلمي للسلطة واحترام ارادة الشعب العراقي في اختيار ممثليه عبر ممارسة ديمقراطية نزيهة لا يكون فيها للسلاح مكانا في أكراه الشعب على الأختيار، الى جانب الأستلهام من دروس الثورة في عمرها القصير وانجازاتها الكبيرة في ميدان الخدمات العامة، كالصحة والتعليم والكهرباء، والتخطيط لبناء بنية تحتية اقتصادية متينة والى جانب التشريعات في ميدان حقوق الأنسان والمرأة بشكل خاص والأحوال المدنية العامة.

***

د.عامر صالح

أي نوع من الرجال تحتاجهم ليبيا في مرحلتها الانتقالية المتعسرة هذه، والتي تتسم بالكثير من التعقيد في بيئتها السياسية الداخلية؟ هل هي تفتقد إلى رجال دولة حقيقين؟ أم أنها بحاجة إلى رجال سياسة يستطيعون أن إدارة المجال السياسي وتدبير هذه المرحلة الصعبة، إن لم يوجد رجال دولة؟

على أرض الواقع، وبنظرة فاحصة ومتمعنة في المشهد السياسي الليبي خلال العشرية المنصرمة بعد تغيير مابعد عام2011ظلت ليبيا تفتقد إلى رجال دولة حقيقين، كما أنها لازالت تفتقد إلى رجال سياسة بمعنى الكلمة، والذين يظهرون في المشهد اليوم جلهم أوأغلبهم يمكن تصنيفهم ب.. عاملين في السياسة، وما أبعدهم من أن يكونوا رجال دولة، وبعض هؤلاء العاملين في السياسة في ليبيا أصبحوا محترفي سياسة يجيدون فقط اللعب على الحبال والتلون حسب إتجاهات مصالحهم الذاتية الضيقة.

في نظر المفكرين والفلاسفة، يكون رجل الدولة؛ هو الشخص الذي يتمتع بالقدرة على فهم الأمور المعقدة والتفاصيل الدقيقة لإدارة الدولة، والذي يسعى جاهداً لتحقيق الصالح العام والمصلحة الوطنية،ويكون لديه القدرة على توجيه السياسات واتخاذ القرارات الحكيمة والمدروسة بما يضمن أمن الدولة واستقرارها ورفاهية مواطنيها.بالمقابل، يعتبر رجل السياسة؛ هو الشخص الذي يتمتع بمهارات التحكم في الأحداث السياسية والإعلامية والرأي العام، والذي يستخدم هذه المهارات للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها. وغالبًا ما يكون رجل السياسة مهتمًا بتحقيق أهدافه الشخصية والحزبية بدلا من التفكير في المصلحة العامة.

 أما العامل في السياسة ؛ فهو الذي لا يمتلك تأهيلا علمياً أو مهنيا في السياسة، وهم يشكلون المنتخبين والمتعينين والناشطين السياسيين والصحفيين السياسيين والمستشارين السياسيين إلخ.. والمنتخبين هم غالباً جاءوا من مهن ووظائف لاعلاقة لها بالسياسة، هم فقط نتاج صناديق الاقتراع، حيث أن الانتخابات لا تنتج  بالضرورة رجال دولة أو رجال سياسة، وعلى الأغلب تأتي بعاملين في السياسة، قد يصبحون لو إجتهدوا رجال سياسة، ولكنهم على الأغلب لن يصلوا أبعد من ذلك أي لن يتحولوا إلى رجال دولة، حيث تبقى تتقاذفهم إما مصالحهم الفئوية أو الحزبية أو مصالح الجماعات الاجتماعية التي ينتمون إليها.

 والعاملين في السياسة من المنتخبين في ليبيا اليوم، جاءت بهم كما أسلفنا صناديق الاقتراع سواءا في الانتخابات البرلمانية التي أفرزت البرلمان المنتخب الأول في ليبيا المتمثل في ؛ المؤتمر الوطني العام عام 2012، أو الإنتخابات البرلمانية الثانية التي أفرزت مجلس النواب الليبي عام2014، وجاء بعض العاملين في السياسة في ليبيا عبر إنتخابات داخلية كما حدث ويحدث في مايسمى بالمجلس الأعلى للدولة المنبثق عن إتفاق الصخيرات عام 2015. وللاسف فإنه رغم هذه الطفرة الانتخابية والتي تشكل خطوة في كل الأحوال، إلا أنها لم تنتج رجال الدولة الذين تحتاجهم ليبيا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها، وظل أغلبهم مجرد عاملين في السياسة، إلا قلة منهم أصبحوا فقط رجال سياسة ماهرون في حشد الأتباع، يمكن أن يصبحوا رجال دولة إذا تساموا على مصالحهم ووضعوا مصلحة ليبيا العليا نصب أعينهم، ويمكن إستجلاء أهم المعوقات التي تحول دون ظهور رجال دولة أو تكون عقبة أمام خطواتهم حتى وإن وجدوا  في ليبيا على النحو التالي:

أولا/المعوقات الأمنية: حيث تعاني ليبيا من انعدام الأمن والاستقرار وصعوبة في إرساء حقيقي للسلام في العديد من المناطق، وتشهد البلاد انتشارًا واسعًا للأسلحة والجماعات المسلحة، وتغولا للميليشيات التي أصبح لقادتها سلطة حقيقية في البلاد، ويربطون ويحلون في كل المجريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى أن الكثير من الباحثين يرون أنها يجب أن تكون جزءا من أي معادلة قادمة لتحقيق التوافق والاستقرار في ليبيا.

ثانيا/شيوع ظاهرة الفساد: حيث مع إستفحال الفساد  والتلاعب بالسلطة والمال، وتعدد الأطراف المتورطة والمستفيدة منه من أشخاص نافذين ومؤسسات متورطة وميليشيات متسلطة، يصبح من الصعوبة بمكان ظهور رجال دولة وحتى وإن وجدوا، فلن يمكنهم التعامل بسهولة ويسر مع هذه الخيوط المتشابكة من المصالح والتحالفات الغارقة في مستنقع الفساد، من أجل إرساء الشفافية ومكافحة هذه الظاهرة.

ثالثاً/ المعوقات الاجتماعية: في ظل الإنقسام السياسي والبلقنة الحكومية،  مما جعل القبائل والجهات تنقسم بشدة بين هذه السلطة الحكومية والأخرى، أو وراء هذه السلطات الأمنية والعسكرية المتناقضة، فيصبح من الصعب العثور على رجال دولة حقيقين يستطيعون خلق الإجماع حولهم، أو التعامل مع كل هذه الأطراف المتنازعة، وحتى وإن وجدوا في ظل هذا المشهد الضبابي، فأما أنهم غالبا سوف يتعرضون للطمس أو يتم إحتوائهم عبر إنتماءاتهم الاجتماعية والجهوية أو يتم شراء ولاءاتهم.

رابعاً/المعوقات الدولية: بعد أن بلغ التدخل مداه بل وأكثر في ليبيا، وحيث أصبحت أغلب الأطراف المتنازعة بل وحتى المليشيات وكلاء لهذه الأطراف الدولية والإقليمية المتدخلة في ليبيا، فكيف يمكن لرجل أو بضع رجال دولة أن يظهروا في ظل هذا الوضع الشائك والمتشابك، وحتى وإن ظهروا وهم يحملون مصلحة ليبيا العليا على كواهلهم فكيف سيتعاملون مع هذا الاخطبوط من التدخل الدولي الغاشم؟ هذه الأطراف التي تقيس وتفصل حسب مصالحها المتناقضة أوالمتقاطعة، ولا ترضى الإ ببعض الأشخاص الذين  تحركهم كالدمى حسب مصالحها.

الخلاصة؛ لن ينقذ ليبيا ولن يستطيع أن يضعها على جادة طريق ممهد نحو البناء والسلام والاستقرار إلا رجال دولة حقيقين، يعلون مصلحة الوطن العليا، ويديرون السياسات وفقا لهذا المنطلق، وهؤلاء إما أن ينبثقوا من أوجاع الوطن ويتنادون لنجدته، أو بتحول بعض رجال السياسة إلى رجال دولة، وأما العاملين في السياسة ومحترفيها، والذين يظلون يطاردون مصالحهم فقط،فهم أحد الأعباء الثقيلة على كاهل الوطن.

***

د. أبوبكر خليفة أبوبكر

كاتب راي وباحث وأكاديمي ليبي

قبيل إنعقاد قمة مجموعة دول بريكس في جنوب افريقيا في 22 أغسطس المقبل، طفت على السطح بوادر تخلي الهند عن مشروع إنشاء عملة البريكس الموحدة، من قبل دول مجموعة بريكس التي تضم خمسة من كبريات الاقتصاد العالمي، كالصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، بالإضافة الى دول أخرى تصل الى 20 دولة في انتظار انضمامها الى هذه المنظمة، ويتجاوز عدد سكان دولها الخمس 40٪ من سكان العالم، وتمثل ما يقرب من ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي و 18٪ من التجارة العالمية، وقال وزير الخارجية سوبرامانيام جايشانكار، إن الهند لا تؤيد إنشاء عملة واحدة لدول البريكس، والسؤال هو ماذا يعني ان تتخلى الهند على مثل هذا المشروع بالنسبة لروسيا والغرب والعالم ككل، وهل هناك طريقة للخروج من هذا الوضع؟ .

وتعمل دول البريكس منذ سنة تقريبا على مشروع العملة، والموقف الأكثر نشاطا بشأن هذه القضية اتخذته كل من البرازيل وروسيا، ودعمت الصين وجنوب إفريقيا هذا المشروع، لكن بحذر، في حين ظلت الهند صامتة، لكنها اتخذت الآن موقفا سلبيا، وبالتالي وضعت نيودلهي العصا في دولاب المنظمة، وبالتالي إفشال المشروع، والخيار الأكثر وضوحا هو أن الأطراف لم يتمكنوا من الاتفاق على شروط طريقة تحديد سعر العملة الجديدة، وإنشاء سلة متعددة العملات لبلدان البريكس وتحديد نسبتها - حقوق السحب الخاصة، وتقريبا بنفس ما هو متاح بعملة صندوق النقد الدولي.

الصحافة الهندية ربطت مثل هذا الموقف للدولة فيما يتعلق بعملة البريكس الموحدة، مع توسع العلاقات الهندية الأمريكية، حيث تتمتع دلهي بعلاقات جيدة جدًا مع الولايات المتحدة وأوروبا بسبب الصفقات التجارية والعسكرية، وبالتالي يُزعم أن الهنود لا يريدون المخاطرة بالتجارة مع القوى الغربية، مقابل عملة البريكس المستقبلية، وسبب آخر هو تعزيز الصين، والتي، في رأيهم، أصبحت القوة الدافعة الرئيسية لمجموعة البريكس، وهذا يقلق دلهي اليوم.

والسؤال المهم هنا، هو كيف يتم الاتفاق على تحديد النسب، فبطبيعة الحال، تريد كل دولة حصة أكبر، والتي يجب أن يكون لها في المستقبل تأثير إيجابي على استقرار العملة الوطنية، حيث إن الطلب عليها يتزايد، وإن كان بشكل غير مباشر، والمرحلة التالية مع السياسة النقدية السيادية هي زيادة المعروض النقدي لهذا الطلب، والذي يمكن استخدامه لتطوير الاقتصاد الوطني، ويطرح المراقبون خيارين محتملين لرفض الهند دعم مشروع العملة المشتركة .

ويكمن الخيار الأول، في إن الهند غير راضية عن الحصة التي تم طرحها في سلة العملات المتعددة، إذا نظرت إلى نسبة الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، فإن 70٪ من دول البريكس تحتلها الصين والهند - 13.5٪ فقط، وفي هذه الحالة، هناك تأثير مباشر في اعتماد عملة البريكس الجديدة على اليوان، في حين يشير الخيار الثاني الى ان الهند لا تريد أن تصبح معتمدة على العملات شديدة التقلب، (فقط اليوان مستقر)، فقيمة الريال البرازيلي والراند الجنوب أفريقي تنخفض باستمرار مقابل الدولار، كما أن سعر صرف الروبل يقفز باستمرار، ويحدث أيضًا انخفاض قيمة الروبية، ولكن إذا كان مرتبطًا بعملة البريكس الجديدة، فقد يزداد هذا الانخفاض في قيمة الروبية.

كما ان الهند التي تحتل مكانة خاصة ليس فقط في دول البريكس، ولكن بشكل عام في السياسة العالمية، هدفها القومي ليس الاعتماد على أحد، ولكن بشكل خاص على الصين، وإن عملة البريكس، حيث يمكن للروبية الاعتماد على ربع "الوزن" كحد أقصى، هي الحالة ذاتها، والفكرة العامة للطبقة السياسية الهندية هي أن الهند اليوم أضعف بكثير من الصين عسكريًا واقتصاديًا، وبالتالي لا ينبغي أن تشارك في أي شيء إذا كان الأمر يتعلق بمركز تابع للصين، ويمكن استخدام أي شيء لمثل هذه الأغراض.

وبدأت مراكز الدراسات الاقتصادية والاستراتيجية المهتمة، بطرح خيارات جديدة، لتقريب وجهات نظر دول البريكس، وأحد الطرق للخروج من هذه الازمة برأيهم، هو إنشاء "نادي من خمسة مؤسسين" يتمتع بحق النقض وشيء من هذا القبيل، لكن هذا كما يقولون ليس ديمقراطيًا للغاية ولن يعجب أحد، ولكن الخيار الثاني يمكن تعلمه من آلية APEC المنسية الآن تقريبًا، على الرغم من وجودها وتحاول تطوير العديد من برامجها لتكامل اقتصادات المحيط الهادئ، وعلى الرغم من العداء الشرس للاثنين الرئيسيين - الولايات المتحدة والصين، وباستمرار في اجتماعات معينة، تولد الأفكار حول البرامج الجديدة، لكن كل من اقتصادات أبيك البالغ عددها 21 ليست ملزمة بالمشاركة فيها، فالجميع طوعي هناك، ويمكن لمن لديهم شكوك الانضمام لاحقًا.

إن فشل دول البريكس في الاتفاق خلال عام، هو خبر سلبي للغاية فيما يتعلق بآفاق اتحاد جيوسياسي وجغرافي اقتصادي جديد، ومع ذلك، ليس كل شيء سيئًا كما قد يبدو، وكبديل لـ "سلة العملات" لتحديد سعر العملة الجديدة، يمكن دائمًا إحياء معيار الذهب، علاوة على ذلك، تمت مناقشة هذا الخيار بالفعل في دول البريكس، وكان هذا هو الخيار الأفضل، ويرى المحلل الاقتصادي كونستانتين دفينسكي، إن هذا من شأنه أن يستبعد إمكانية سيطرة عملة واحدة (اليوان) على دول البريكس، ويزيل مخاطر التقلب المفرط ويضمن التسعير الأكثر عدلاً للعملة الجديدة، والحديث عن الذهب، والتغييرات الحالية في العالم لم تتجاوز الغرب، وكذلك النظام الذي بناه، فبعد العقوبات غير المسبوقة ضد روسيا، اتضح فجأة للعديد من الدول أنه من الأفضل إبقاء احتياطيات النقد الأجنبي أقرب إلى قلبك.

وكانت الأجراس المزعجة في هذا الصدد تعود إلى عام 1965، عندما اضطرت فرنسا بالفعل إلى شراء ذهبها من الولايات المتحدة، وكانت ألمانيا أقل حظًا في هذا الصدد، حيث أُعلن لبرلين أن وجود الذهب الألماني في الولايات المتحدة، بمثابة ضمان لوجود القوات الأمريكية في ألمانيا لحماية الألمان من "العدوان السوفيتي" المحتمل، وتخلت الولايات في وقت لاحق تمامًا عن معيار الذهب، مما جعل من المستحيل تكرار المخطط الفرنسي، وفي الآونة الأخيرة، كانت فنزويلا هي الاشارة الأكثر إثارة للقلق، ثم اتضح أنهم قد لا يعطونها ذهبها، لأن "الديكتاتور" يحكم البلاد، وان من هو الديكتاتور، ومن ليس كذلك، سيقرره الشخص الذي يحتفظ بالذهب، وهكذا، رفض بنك إنكلترا إعادة احتياطي الذهب إلى فنزويلا بسبب الرئيس "الخطأ"، و لم يقدم البريطانيون أيضًا سبائك ثمينة للهند، على الرغم من أنها عادت منذ فترة طويلة جميع ديونها، لكن الذهب لا يزال في المملكة المتحدة، لم تتم إعادته بسبب "قضايا التأمين والأمن".

بالإضافة إلى ذلك، حتى عندما يتخلى الغرب عن الذهب، فقد يتضح أنه مزور، وأحرق هذا الصين في عام 2009، عندما اشترت حوالي 70 طنًا من الذهب، ومع ذلك، عندما تم تسليم السبائك إلى بكين، اتضح أنها تتكون من التنجستن، فقط من الخارج مغطى بطبقة صغيرة من الذهب، الامر الذي أدى الى انخفاض الثقة في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وبنك إنغلترا إلى الصفر بالتأكيد، ووفقًا لاستطلاعات الرأي، في عام 2023، يفضل ما يقرب من 70 ٪ من المشاركين من مختلف البلدان تخزين الذهب في المنزل، حتى على الرغم من التكاليف المرتبطة بذلك، في حين أنه حتى قبل ثلاث سنوات كان هناك حوالي 50٪ ممن يثقون في الغرب .

من الواضح أن الصراع حول خطط إنشاء عملة جديدة للتجارة المتبادلة بين دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) يتكثف، وبغض النظر عن قرارات المسؤولين الهنود، أنهم لن يشاركوا في مشروع عملة البريكس، الذي سيقلل من استخدام الدولار الأمريكي في المدفوعات الدولية،، فإن العديد من دول العالم ترغب في تقليل مخاطر استخدام الدولار الأمريكي، والذي عانت منه روسيا بشكل واضح، و إن فكرة إنشاء عملة موحدة داخل البريكس من وجهة النظر الروسية، ف‘ن فكرة المشروع تستحق الاهتمام، وتعرب رئيسة البنك المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا، عن اعتقادها، بأن الامر سيكون من الصعب جدًا تنفيذه، فهي مثل أي فكرة عن عملة فوق وطنية، تتطلب موافقة العديد من الأطراف، فهو ليس مشروعًا سهلًا على الإطلاق، لذلك، وحسب قولها "ما زلنا نعمل ونركز جهودنا على تطوير التسويات الثنائية باستخدام العملة الوطنية، وتطوير البنية التحتية التي تربط أنظمة الدفع لدينا، وما تحتاجه الشركات اليوم، الآن".

كما أن الفكرة الأكثر طموحًا ستكون إنشاء عملة موحدة مثل اليورو، ولكن قد يكون هناك الكثير من القيود على ذلك، وستكون المفاوضات بشأن عملة موحدة، وفقا لمجلة Fortune، صعبة، بالنظر إلى عدم تناسق القوة الاقتصادية والديناميكيات السياسية المعقدة داخل البريكس، ولكي تعمل العملة الجديدة، تحتاج دول البريكس إلى الاتفاق على آلية سعر الصرف، وأن يكون لديها أنظمة دفع فعالة، وأن يكون لديها سوق مالي منظم جيدًا ومستقر وسائل، ولتحقيق مكانة العملة العالمية، ستحتاج دول البريكس إلى خبرة جيدة في إدارة العملات المشتركة من أجل إقناع الآخرين بموثوقية العملة الجديدة.

كانت البريكس منذ البداية وسيلة للتواصل بين دول مختلفة للغاية تقع في مناطق مختلفة وحتى التنافس مع بعضها البعض، والآن نشهد تدفقًا حقيقيًا للدول الراغبين في الانضمام إليها - وليس أقلها جهود دول البريكس لإنشاء نظام مالي خاص بهم، ومستقل عن النظام الغربي، ولكن إذا كان هناك عدد أكبر من الأعضاء، فسيكون هناك المزيد من الاختلافات (على سبيل المثال، بين الأرجنتين والبرازيل)، وإن تصريحات الهند بأنها لا تدعم فكرة عملة واحدة لبريكس، هي حقيقة مزعجة للأعصاب، لكنها حقيقة صغيرة، وراءها حقيقتان هائلتان، أولها يتعلق بما يمكن أن تتحول إليه بريكس، وهي آلية التفاوض العصرية للبرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، والواقع الثاني هو ما تريده الهند ويمكن أن تتحول إليه.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

واحدة من أكثر المقولات شيوعا في دولنا حينما يدور النقاش حول تولي أشخاص لإدارات في شتى مفاصل الدولة ومستوياتها هي (الرجل المناسب في المكان المناسب) التي تعكس حالة التذمر لدى الأهالي بسبب تولي مجاميع من الفاسدين والفاشلين او غير المؤهلين لمواقع سلطوية وبأساليب بعيدة عن السياقات الإدارية والتكنوقراطية وفي بازارات يتصارع فيها طلاب السلطة على الامتيازات والتكسب وليس لخدمة تلك المؤسسة او الموقع ومن ثم خدمة الاهالي، حيث يحمي وطيس بازار المناصب في العراق ليصل الى عشرات الملايين من الدولارات للمناصب العليا ومئات الالاف للمناصب الأقل شأنا في مواردها وليس في مكانتها.

حينما تشتد تلك الصراعات وتتبوء تلك الشخصيات كراسي السلطة والإدارة ندرك عظمة مقولة (لا يولى طالب الولاية) وروعتها في إعطاء صلاحية الاختيار لهيئة رأي أو جهة تشريعية أو حاكم عادل، لكي يمنع ذلك التهافت والمتاجرة بالمناصب التي ابتليت بها بلداننا ناهيك عن التوسط والرشاوى التي ترافق عملية التنصيب بعيدا عن الكفاءات والاستحقاقات المهنية وميزان الرجل أو المرأة المناسب والمناسبة في المكان والمنصب المناسب، ولا شك بأن ذلك هو الطريق الأقصر والأسلم لتحقيق الهدف المرتجى في تقدم مجتمعاتنا وأداء حكوماتنا وإداراتها بعيداً عن الوساطات والبيع والشراء لكراسي السلطة والمناصب.

ولعل الكثير من المصطلحات الشعبية الدارجة تنطبق على العديد الغالب من متبوئي المناصب في بلداننا وخاصة تلك التي تشبه عريس الغفلة الذي يؤتى به على غرة أو دون سابق إنذار لتزويجه من مطلقة كي يصح إعادتها شرعيا إلى زوجها الأول، أو ربما يؤتى به زوجا لتغطية فضيحة ما، وفي كل الأحوال ليس عليه إلا حمل لقب زوج شرعي لتفادي مشكلة معينة ولملئ فراغ محدد حتى أجل مسمى!

في معظم بلداننا الشرق أوسطية وخاصة العربية منها ومن شابهها عالم عجيب ورهيب هو عالم المناصب والإدارات على مختلف مستوياتها ودرجاتها وامتيازاتها الكارثية وقد اردت بمسمى عريس الغفلة ان الج هذا العالم المقزز الذي يأتي بالمغامر من حلبات الجريمة أو العصابة أو النكرات إلى أعلى المراتب في الدولة، كما قال عنه ومارسه ذات يوم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين (نحن نطلق صراح المتهم من على كرسي الإعدام إلى الشارع فوراُ ومنه إلى كرسي الوزارة)، وليس أدل على فوضى المناصب وتقلدها في بلادنا من الانقلابات وما جرى بعدها من أحداث أدت الى دفع أفواج من النكرات والمغامرين وحمقى العسكريين والفاسدين وبقالي السياسة الذين حولوا دولنا إلى هذا الشكل المعوق بعد ما يزيد على قرن من تأسيسها؟

لقد واجهت شعوب هذه الدول التي انتجت تلك الأنظمة المعاقة سياسيا وثقافيا واخلاقيا وموروثها المشحون بالألم والإحباط واليأس تحديات وكوراث أكبر من تحملها أدت الى قبولها بأي تغيير حتى لو كان خارجياً كما حصل في العراق حيث كانت شعوبه تتأمل خيراً بسقوط نظامه الطاغي وبداية حقبة جديدة يفترض أن تكون بالضد تماماً من سابقتها التي اندثرت مع سقوط النظام، لكن الأمور لم تك هكذا في بلاد قضت أكثر من نصف عمرها تحت ظل أنظمة دكتاتورية وزعماء متخلفين أنتجت أجيالاً وأنماطاً من السلوكيات والثقافة البائسة التي نشهدها اليوم في شكل النظام السياسي وأداء عناصره سواء في البرلمان أو الحكومة ومؤسساتها.

فقد حملت سفينة الديمقراطية المستوردة مجموعة من الأحزاب وكتلها واصطفافاتها المذهبية والقبلية مئات النكرات والمتخلفين ممن يحملون لقب عريس الغفلة، الذين حملتهم ثقافة البداوة والعقلية العشائرية أو الطائفية المقيتة لكي يكونوا في مواقع بريئة منهم تمام البراءة، وهم يشغلونها بالتأكيد لحساب منظومة المحسوبية والمنسوبية الخارجة بالتمام والكمال عن أي مفهوم للمواطنة والكفاءة والقيادة، فقد امتلأت مجالس الاقضية والمحافظات والبرلمان وكل الوزارات دون استثناء بالمئات من الراقصين على كل الحبال منذ زعيمنا الأوحد وحتى بطل التحرير القومي ومختار زمانه، وهم يقومون بواجباتهم في تدمير البلاد وإفسادها حتى غدت الأكثر فسادا وفشلا في العالم حسب توصيف مؤسسات الشفافية العالمية؟

بعد عقدين من تغيير نظام الحكم وتطبيق مفترض لنظام ديمقراطي يضع الانسان المناسب في مكانه المناسب؛ يخرج علينا أحد الوزراء معترفا بأنه تلقى مكالمة هاتفية في منتصف الليل من زعيم احدى الميليشيات تبلغه بانه أصبح وزيرا لوزارة يفترض ان يكون وزيرها على اقل تقدير من علماء البلد!

وتبقى مقولة لا يولى طالب الولاية موقوفة عن التنفيذ حتى يظهر الشخص المناسب الذي يعتلي مكانه المناسب!

***

كفاح محمود

على الرغم من أن العلاقة ما بين الريف والمدينة هي من نوع العلاقات العضوية التي لا تستلزم فقط وجود كلا الطرفين في سياق تاريخي واحد فحسب، وإنما تستدعي حصول تفاعل بيني وتواصل متبادل لضمان انتظام سيرورة التطور الحضاري، بالشكل الذي يحقق مصالح المجتمع الكلي (الحضري والريفي) على نحو متوازن ومتناغم . ولكن مع ذلك، تبقى ظاهرة (الأريفة) بمثابة لعنة تطارد المدن وتتربص بها الدوائر، كلما تهاونت هذه الأخيرة في الذود عن مكونات (حضريتها) إزاء مظاهر (التأريف) المتوثبة للانقضاض عليها مع كل لحظة تغافل أو تكاسل . وهو الأمر الذي دللت عليه العديد من تجارب المدن والحواضر في بلدان العالم الثالث، التي وجدت نفسها في أتون انعطافات تاريخية حادة، واختلالات بنيوية مزعزعة .

وإذا ما وضعنا باعتبارنا تجارب المدن العراقية بصورة عامة ومدينة بغداد بشكل خاص بشأن نصيبها من عمليات (الأريفة) التي تعرضت لها، سنلاحظ ان كل ما وقع من أزمات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ضمن نطاق الجغرافيا العراقية، كانت مدينة بغداد – ولا تزال – هي المستهدف الأول والمتضرر الأكبر لجهة تآكل مدماكها الحضري وتشوه معمارها المديني وتبدون محتواها السكاني . ليس فقط كونها القطب الأبرز في إطار قوى الجذب المادي والإغراء المظهري التي تتمتع بها نظير مدن العراق الأخرى، لاسيما في مجال توفر الخدمات الإدارية والبلدية والصحية، فضلا"عن تكاثر الفرص الاقتصادية والوظيفية والتعليمية فحسب، وإنما نتيجة لطابع عمرانها التاريخي المتقادم والسريع التأثر بالحراك العمراني (العشوائي) المنفلت، جراء طبيعته الهشة بنيويا"والحساسة حضاريا"إذا ما قورن بنظيره العمران الحداثي الذي يمتاز بالمتانة والصلابة، فضلا"عن قدرته على التكيف مع المتغيرات والتطورات في طرز العمارة والاستجابة لأنماطها المدينية .

ولعل من أخطر مظاهر (الأريفة) التي يمكن أن تواجهها المدن التاريخية – وبغداد مدينة تاريخية بامتياز – إزاء موجات (الهجرة) الريفية والقروية التي لم تفتأ تستهدفها بشكل يكاد يكون يومي، وخصوصا"خلال العقدين الماضيين اللذان شهدا عمليات نزوح هائلة لم تتعرض لها هذه المدينة المستباحة منذ خمسينيات القرن الماضي، وذلك لأسباب عديدة لا يسع المجال هنا ذكرها والتطرق إليها . نقول ان من أخطر مظاهر تلك (الأريفة) كونها لا تقتصر فقط على مفاقمة الكثافات السكانية الخانقة، ومضاعفة ما ينجم عنها من مشاكل مجالية واجتماعية ونفسية وصحية ليس من السهل ضبطها والسيطرة عليها فحسب، وإنما – وهي الأهم بنظرنا – إحداث تغييرات جوهرية وتحولات عميقة داخل بنى الوعي الجمعي ومنظومات القيم الأخلاقية لدى الساكنة، والتي من شأنها زيادة معدلات التآكل والاندثار في أساسات المدماك الحضري للمدينة، بعد أن تكون كفة العوامل المسؤولة عن مظاهر (الأريفة) و(البدونة) قد تغلبت وتفوقت على ضدها النوعي العوامل الداعمة لمظاهر (التمدن) و(التحضرن) التي طالما كانت تعاني الضعف والهزال .

والجدير بالذكر ان الاهتمام بمدينة (بغداد) التاريخية وغيرها من مدن العراق الأخرى ؛ لجهة الحفاظ المستديم على أنماط عمرانها المديني والرعاية المستمرة لطابعها الحضري، قلما شكلت هاجسا"وطنيا"وحضاريا"لدى معظم الذين توافدوا على سدة الحكم في هذا البلد المستباح والمنتهك، لاسيما وأن أغلب أصول هؤلاء (المتسلطين) تشير الى أنهم ترعرعوا في بيئات ريفية وقروية لا تزال تعيش في أطوار بداوتها الأولى، فضلا"عن كونهم لم يفتأوا يمتحون من نسغ قيم وأعراف أبت أن تفارق نوازعها القبلية والعشائرية . ولذلك قلما اكترثت رموز تلك الأنظمة السياسية (المتريفة) بالمصائر التي آلت – وستئول - إليها هذه المدن، جراء سيول (الهجرة) الريفية والقروية المتدفقة نحوها على مرّ العقود من جهة، مثلما لم تحفل بتسلل وتغلغل القيم والأعراف والعادات والرموز ذات الطابع (البدوي) و(القبلي) داخل أوساط المجاميع السكانية التي سبق وأن اكتسبت الطابع (المديني) و(الحضري)، الأمر الذي لم تلبث آثاره السلبية  تنعكس على تواضعات (الانتماء) للمكان / المدينة و(الولاء) للجماعة / المجتمع .

وبقدر ما تتمكن المجاميع الريفية والقروية ذات الأصول (البدوية) التي دفعت بها موجات (الهجرة) المستمرة لاستباحة المدن وانتهاك حضريتها من تغيير موازين القوى لصالحها، بقدر ما تشرع ظواهر (التأريف) المديني و(التبدون) الحضري بالظهور العلني والانتشار السافر بين جنباتها، على وقع (التآكل) التدريجي و(الاندثار) البطيء لمداميك عمارتها المدينية وعمرانها الحضري .

***

ثامر عباس

كنت تابعت حكومات ما بعد التغيير (2003) فلم اجد رئيس حكومة او رئيس حزب او كتلة يذكر عبد الكريم قاسم بخير، بل أن جميع رؤساء تلك الحكومات لم يحيوا ذكرى استشهاد عبد الكريم قاسم في انقلاب شباط 1963 الدموي، وكأن ذلك اليوم كان عاديا لم يقتل فيه آلاف العراقيين، ولم يحشر فيه المناضلون بقطار الموت، ولم يسجن فيه مئات الآلاف.والمفارقة أن الطائفيين يحيون ذكرى مناسبات تستمر (180) يوما ولا يحيون ذكرى يوم واحد استشهد فيه قائد من اجل شعبه.. فلماذا؟!

ثمة حقيقة سياسية، هي: ان الضدّ في الحكم يظهر قبحه الضدّ، والضدان هنا هما رؤساء وزراء حكومات ما بعد 2003 ، وعبد الكريم قاسم.. رئيس وزراء حكومة 1958

فما الذي بينهم وبينه من اضداد؟

لنبدأ من حقيقة ان مهمة السياسة هي تدبير شؤون الناس، وأن من اولويات الديمقراطية.. تحقيق العدالة الأجتماعية، فكيف ستكون المقارنة بين حكومات استمرت عشرين سنة، وحكومة استمرت اقل من خمس سنوات؟

هذه المقارنة تحديدا هي التي تجعل رؤساء حكومات ما بعد 2003 صغارا . فبمنطق سيكولوجيا الشخصية فان الأنسان يشعر بالنقص حين يكون الآخر افضل منه في صفة أو اكثر، وتشتد حدّة هذا النقص حين يكون هذا الانسان شخصية عامة او قائدا في السلطة.

ولو انك سألت اي عراقي غير طائفي سيجيبك بسطر يغني عن مقال: (لأن سمو اخلاق عبد الكريم قاسم ونزاهته وخدمته لشعبه.. تفضح فسادهم وانحطاط اخلاقهم وما سببوه للناس من بؤس وفواجع).

نعم. قد نختلف بخصوص عبد الكريم قاسم كونه عقلية عسكرية يعوزه النضج السياسي، ولك ان تدين شنّه الحرب على الكرد عام (61) واستئثاره بالسلطة ، ومعاداته لقوى عروبية وتقدمية وما حدث من مجازر في الموصل، واصطناعه حزبا شيوعيا بديلا للحزب الشيوعي العراقي الذي عاداه رغم انه ناصره حتى في يوم الانقلاب عليه (8 شباط 1963). ولك ان تحمّله ايضا مأساة ما حصل لأفراد العائلة المالكة، وتصف حركته بأنها كانت انقلابا وضعت العراق على سكة الأنقلابات.ولك ايضا أن تتغاضى عن انصافه الفقراء واطلاقه سراح المسجونين.. ولكن حتى أبغض اعدائه لا يمكنهم أن يتهموا الرجل بالفساد والمحاصصة والطائفية والمحسوبية والمنسوبية.. وتردي الأخلاق، مع أن قادة النظام الحالي رجال دين، وأن عليهم ان يقتدوا بمن خصه الله سبحانه بقوله(وانك لعلى خلق عظيم).. فيما عبد الكريم قاسم ليس له اهتمامات بالدين ، فالرجل لم يطل لحية وما لبس عمامة.

والحقيقة التي تسكن اعماق قلوب من حكموا العراق بعد 2003 أنهم يكرهون عبد الكريم قاسم، لأنه يمثل انموذج الحاكم القدوة من حيث نزاهته.فالرجل كان يعيش براتبه ولا يملك رصيدا في البنك، ولهذا لم يجرؤ في زمانه وزير او وكيله او مدير عام على اختلاس او قبول رشوة او التحايل على مقاولة.وما كان اهله او اقرباؤه يحظون بامتيازات، فشقيقه الأصغر كان نائب ضابط في الجيش العراقي، وبقي بتلك الرتبة طيلة مدة حكم أخيه عبد الكريم قاسم (ولم يجعله ضابط دمج!).

وما كان للرجل قصر او بيت لرئيس الجمهورية، بل كان ينام على سرير عادي بغرفة في وزارة الدفاع، ومنحه العراقيون لقب (ابو الفقراء).. لأنه بنى مدينة الثورة( الصدر) لساكني الصرائف في منطقة الشاكرية، ومدنا اخرى في البصرة واكثر من 400 مدينة جديدة وعشرات المشاريع الاروائية، فيما الذين حكموا بعد 2003 حولوا الوطن خرابا ، وافقروا 11 مليون و 400 ألف عراقي بحسب وزير التخطيط في (2020) وسرقوا 840 مليار دولارا بحسب (بومبيو)، وسرقوا كذا مليار دولار من وزارة الكهرباء وتركوا الناس في تموز 2023 بلا كهرباء لأكثر من عشر ساعات متواصلة في اليوم!. وأن ما فيهم نظيف يد بشهادة مشعان الجبوري :(لا بو عكال ولا ابو عمامه ولا الافندي ولا لجنة النزاهة.. كلنا نبوك من القمة للقاعده) .. ووصف مرجعيتهم الدينية لهم بانهم في الفساد.. حيتان!. ولهذا فهم يخشون احياء ذكراه لأن الناس ستعقد مقارنة بين ما صنعه من اعمارفي أربع سنوات وبين ما صنعوه من دمار، وأخرى تخزيهم في اربعة اضعاف مدة حكمه!.

فمعظم الذين جاءوا بعد التغيير كانوا لا يملكون ثمن تذكرة الطائرة، وصاروا يسكنون في قصور مرفهة ويتقاضون رواتب خيالية، وعزلوا انفسهم لوجستيا بمنطقة مساحتها (10) كم مربع محاطة بالكونكريت وبنقاط حراسة مشددة سرقت احلام العراقيين وجلبت لهم الفواجــع اليوميــة، وأوصلتهم الى اقسى حالات الجزع والأسى.

ولهذا فهم (يغلسون) عن الأحتفاء بثورة 14 تموز.. لأن المقارنة ستفضي بالناس الى احتقارهم.والمخجل ان كثيرين منهم صاروا محتقرين شعبيا ، وآخرين صاروا سخرية في وسائل التواصل الأجتماعي.. ولا يخجلون!.وما خجلوا يوم خرج العراقيون يهتفون (الله واكبر يا علي الأحزاب باكونه.. و نواب الشعب كلهم حراميه).

وهم فعلوا من القبائح ما يجعلهم صغارا امام فضائل عبد الكريم قاسم.. اقبحها أن الفساد في زمنه كان عارا فيما صيّره الطائفيون شطارة، واصبح العراق في زمنهم افسد دولة في المنطقة، حتى بلغ المنهوب من قبل وزراء ومسوؤلين كبار ما يعادل ميزانيات ست دول عربية مجتمعة!، وراحوا ينعمون بها في عواصم العالم دون مساءلة. وصار رئيس الجمهورية ورئيس الوزرارء والوزراء يعينون ابناءهم وبناتهم مستشارين لديهم.. لا ليقدموا خبرة هم اصلا لا يمتلكونها، بل ليحصل من هو في العشرين من عمره على راتب يعادل اضعاف راتب استاذ جامعي.. دكتور وبروفيسور.. بلغ الستين!.. فيما كان عبد الكريم قاسم يعتمد معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة، ومبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في اغلب اختياراته.. مثال ذلك:

ابراهيم كبة (اقتصاد)، محمد حديد (مالية) فيصل السامر(ارشاد)هديب الحاج حمود (زراعة) ناجي طالب (شؤون اجتماعية).. نزيهة الدليمي(بلديات).. وهي اول وزيرة في تاريخ العراق. واختياره عقلا اكاديميا عبقريا درس على يد آينشتاين لرئاسة جامعة بغداد التي تاسست في زمنه.. الصابئي المندائي الدكتور عبد الجبار عبد الله، برغم معارضة كثيرين، قالوا له كيف تعين هذا الصابئي.. فأجابهم: (عينته رئيس جامعة وليس خطيب جامع!).

ولهذا فان حكومات وقادة العملية السياسية بعد 2003 يكرهون عبد الكريم قاسم، لأن احياء ذكراه توحّد الناس ضدهم.. ولأن الضد الجميل في الأخلاق يبرز الضد القبيح في الأخلاق.

وتبقى حقيقة.. أن عبد الكريم قاسم برغم مرور ستين سنة ونيف فانه باق في قلوب العراقيين الذين نسجوا عنه الاساطير، فيما حكّام الخضراء سوف لن يبقى لهم ذكر، ومؤكد ان العراقيين سيلعنون معظمهم بعد مماتهم.

ونعود نتساءل:

ان السيد محمد شياع السوداني يختلف عن سابقيه.. فهل سيختلف عنهم ويعلن عن الأحتفاء بذكرى ثورة 14 تموز؟

***

أ. د. قاسم حسين صالح

10 تموز 2023

بعدما خصصت كتابا كاملا تحت عنوان "عبد الرحمان اليوسفي، زعيم سياسي بحجم وطن"، الصادر عن مطبعة القلم بالرباط في شهر أبريل 2023، للوقوف على أهم المحطات السياسية التي ميزت مسار المغرب المستقبل، والتي لعب فيها زعيم حزب الوردة أدوارا ريادية من الصبا إلى النهاية المحتومة، أعود هذه المرة لإبراز انشغال هذا الرجل الاستثنائي بمصير الطفولة المغربية وهو يقود الجهاز التنفيذي المغربي. فقبل مغادرته كرسي الوزير الأول، وقع بالعطف عن الظهير الشريف رقم 1.02.172 الصادر في فاتح ربيع الآخر 1423 الموافق ليوم 13 يونيو لسنة 2002 بتنفيذ القانون رقم 15.01 المتعلق بكفالة الأطفال المهملين. لقد جعل من تقنين الكفالة آلية قانونية لتوسيع مفهوم الأسرة ليشمل، إضافة إلى الوالدين والأبناء الشرعيين، الأطفال المكفولين. حماية للحمة الاجتماعية وتقوية التحامها بالوطن والعرش، تمت صياغة هذا القانون بمنظور امتداد الحماية الاجتماعية والنفسية لتشمل كل الأطفال من يوم ولادتهم إلى بلوغهم سن ثمان عشرة سنة شمسية كاملة. أكثر من ذلك، لقد ربط هذا القانون الحق في الكفالة بالالتزام برعاية طفل مهمل وتربيته وحمايته والنفقة عليه كما يفعل الأب مع ولده الشرعي.

لقد استحضر اليوسفي بقانونه هذا كل فئات الطفولة في وضعية صعبة بدءا من مجهولي الأبوين أو المولودين من أب مجهول وأم معلومة تخلت عنه بمحض إرادتها، والأيتام، وأبناء الأسر الشرعية العاجزة عن رعاية أبنائهم بسبب عوزهم وجهلهم وفقرهم المدقع، وحتى أبناء الأبوين المنحرفين اللذين لا يقومان بواجبهما في الرعاية والتوجيه من أجل اكتساب سلوك حسن. لقد فكرت حكومة التناوب التوافقي حتى في ظاهرة سقوط الولاية الشرعية، وإخلال أحد الأبوين بواجبه بعد فقد الآخر.

تعبيرا على ضمان الدقة في الإجراءات الحامية لهذه الفئة من الأطفال مع الأخذ بعين الاعتبار لمصلحتهم الفضلى، ربطت حكومة التناوب التوافقي بين العثور على الطفل وتأكيد حالة إهماله ورعايته مؤقتا من جهة أولى، وتفصيل شروط الكفالة ومسطرة إقرارها وتتبعها والتأكد من بداية الرعاية واستمرارها من جهة ثانية، وتسجيل بيان الكفالة في رسم ولادة المكفول(ة) والتدخل القضائي السريع لإنهاء وضعية الكفالة في حالة انتفاء شروط استمرارها من جهة ثالثة.

الإثبات القضائي للإهمال والولاية وحماية الطفل صحيا واجتماعيا

لقد ألزم المشرع كل مغربي عثر على طفل مهمل بأن يقدم له المساعدة والعناية التي تتطلبها حالته، وأن يبلغ على الفور مصالح الشرطة أو الدرك أو السلطات المحلية لمكان العثور عليه. كما أقر نفس القانون معاقبة كل من امتنع عن أن يقدم لطفل وليد مهمل المساعدة أو العناية السالفة الذكر أو عن إخبار الجهات المختصة. مباشرة بعد هذا الإبلاغ، يتدخل وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية الواقع بدائرة نفوذها مقر إقامة الطفل، أو مكان العثور عليه، بإيداع الطفل مؤقتا بإحدى المؤسسات أو المراكز الرسمية المختصة. تعمق هذه المؤسسة القضائية المحورية في النسق المؤسساتي المغربي البحث خلال فترة زمنية محددة، وتعجل بتقديم طلب التصريح بأن الطفل مهمل إلى المحكمة المعنية مدلية بعناصر البحث الذي أجرته، ثم تقوم بالإجراءات الرامية لتسجيله بنظام الحالة المدنية.

لإتمام مسطرة إثبات حالة الإهمال، خاصة في حالة الأطفال مجهولي الأبوين، يتم استصدار حكم تمهيدي يتضمن كافة البيانات اللازمة للتعريف بالطفل وكذا أوصافه ومكان العثور عليه. يعلق الحكم في كل الأماكن الهامة لمدة ثلاث أشهر لإتاحة الفرصة لأبوي الطفل، في حالة ندمهما أو تفاهمهما أو ضياعه منهما لسبب من الأسباب، أن يتعرفا بنفسهما عليه ويطالبا باسترداده. الحكم بالإهمال لا يتم إلا بعد انصرام المدة السالفة الذكر. عندئذ، توجه نسخة من الحكم، بطلب من وكيل الملك أو من الشخص الذي يطلب كفالة الطفل، إلى القاضي المكلف بشؤون القاصرين. هذا الأخير يباشر على الفور مهام الولاية طبقا لأحكام النيابة الشرعية والنيابة القانونية المنصوص عليهما في مدونة الأسرة وفي قانون المسطرة المدنية. إنها الإجراءات التي تخول لوكيل الملك من إيداع الطفل مؤقتا بإحدى المؤسسات الصحية أو بأحد مراكز أو مؤسسات الرعاية الاجتماعية الرسمية المهتمة بالطفولة أو لدى أسرة أو امرأة تتوفر فيها شروط المطلوبة وترغب في كفالته أو في رعايته فقط.

تفصيل شروط الكفالة ومسطرة إقرارها وتتبعها والتأكد من بداية الرعاية واستمرارها

بعد إثبات حالة الإهمال لا يمكن تسليم الطفل بمقتضى كفالة قانونية إلا للزوجين المسلمين البالغين سن الرشد والصالحين للكفالة أخلاقيا واجتماعيا وماديا، ولم يسبق الحكم عليهما معا أو على أحدهما من أجل جريمة ماسة بالأخلاق أو جريمة مرتكبة ضد الأطفال، وأن يكونا سليمين من كل مرض معد أو مانع لتحمل مسؤوليتهما، وأن لا يكون بينهما وبين الطفل الذي يرغبان في كفالته أو بينهما وبين والديه نزاع قضائي أو خلاف عائلي. كما يحق للمرأة المسلمة التي توفرت فيها الشروط الأربعة أعلاه أن تكون كافلة.

رعاية الطفولة إلى حين استصدار أحكام الكفالة من مسؤولية الدولة. يسلم الطفل في حالة التنافس على كفالته للزوجين اللذين ليس لهما أطفال، أو للقادرين على توفير أفضل ظروف الحياة له (توفر الزوجان على أطفال تحت شرط تحقيق المساواة لا يصنف في خانة الموانع). درءا لتشرد الأطفال ومنعا لتحويلهم إلى أطفال شوارع، ممارسة الطفل لحقه في الموافقة على كفالته بعد تجاوزه اثنى عشرة سنة شمسية كاملة تلغى إذا كان طالب الكفالة مؤسسة عمومية مكلفة برعاية الأطفال، أو هيئة أو منظمة أو جمعية ذات طابع اجتماعي معترف لها بصفة المنفعة العامة.

هكذا، إسناد الكفالة لا يتم إلا بعد أن يجري القاضي المكلف بشؤون القاصرين المختص بحثا مفصلا مدعما بالوثائق المثبتة لاستيفاء الشروط المبينة في المادة التاسعة من القانون أعلاه، وبنسخة من رسم ولادة الطفل المراد كفالته. باستصدار حكم قضائي في هذا الشأن يعين الكافل مقدما عن المكفول.

مزيدا من الحرص على ضمان حقوق الطفل، أقر المشرع إمكانية استئناف حكم كفالة. لقد حدد مهلة خمسة عشر يوما قبل وضع طابع الصيغة التنفيذية عليه والأمر بتسليم الطفل رسميا إلى الكافل. يحرر محضر بهذا الشأن ويسلم الطفل بحضور ممثل النيابة العامة والسلطة المحلية والمساعدة الاجتماعية المعنية عند الاقتضاء. يحرر المحضر في ثلاث نظائر، يوجه أحدهما إلى القاضي المكلف بشؤون القاصرين، ويسلم الثاني إلى الكافل، ويحتفظ بالثالث في ملف التنفيذ.

تسجيل بيان الكفالة في رسم ولادة المكفول(ة) والتدخل القضائي السريع لإنهاء وضعية الكفالة في حالة انتفاء شروط استمرارها

بعد التأكد من عملية التسلم النهائي، يسهر القاضي المكلف بشؤون القاصرين، بعد انقضاء أجل شهر من تاريخ إصدار حكم الكفالة، على ترسيم الوضعية الجديدة للطفل في رسم ولادته. يرسل وجوبا الأمر بإسناد الكفالة أو بإلغائها أو باستمرارها إلى ضابط الحالة المدنية الماسك لرسم ولادته. يقوم هذا الأخير بتنفيذ الأمر الوارد عليه عبر القنوات الرسمية المعروفة بتحرير البيان الهامشي في طرته طبقا للمقتضيات المتعلقة بالحالة المدنية. ابتداء من تاريخ التسليم الرسمي، يسهر القاضي المختص على تتبع أوضاع الطفل وظروف تنشئته طبقا للمقتضيات القانونية الواردة بمدونة الأسرة المتعلقة بحضانة ونفقة الأولاد. تستمر الرعاية إلى أن يبلغ الذكر سن الرشد وإلى أن تتزوج الأنثى. يستفيد الكافل من التعويضات والمساعدات الاجتماعية المخولة للوالدين عن أولادهم من طرف الدولة أو المؤسسات العمومية أو الخصوصية أو الجماعات المحلية وهيئاتها. بالموازاة أتاح المشرع للكافل إمكانية تخصيص هبة أو وصيه أو تنزيل أو صدقة للمكفول(ة) بعقد قانوني يسهر على إعداده القاضي المختص.

أكثر من ذلك، أحاطت حكومة عبد الرحمان اليوسفي تنفيذ هذا القانون بكل الضمانات الممكنة الحامية للطفولة المهملة، بحيث تطرقت إلى كل الجوانب والخيارات الممكنة المتعلقة بهذا الموضوع، والتي نذكر منها:

- التتبع يستمر داخل المغرب وخارجه: لقد ربط المشرع إمكانية السفر بالطفل المكفول للإقامة الدائمة خارج المملكة المغربية بالحصول على إذن يسلمه القاضي المكلف بشؤون القاصرين. ترسل نسخة منه بعد صدوره إلى المصالح القنصلية المغربية لمحل إقامة الكافل للقيام بدور تتبع وضعية الطفل المعني ومراقبة مدى وفاء كافله بالالتزامات القانونية مع ضمان التواصل بين المؤسسات القضائية المختصة داخل البلاد والهيئات القنصلية المعنية في شأن الحفاظ على مصلحة الطفل. يمكن للقاضي، بتنسيق مع القنصلية المختصة، اتخاذ ما يلزم من الإجراءات لإلغاء الكفالة وحماية الطفل من أي ضرر محتمل.

- لا تلغى الكفالة بأمر قضائي إلا بشروط : عدم التزام الكافل بمسؤولياته المتعلقة بالرعاية، بلوغ المكفول سن الرشد وزواج البنت المكفولة (لا تسري هذه المقتضيات على الولد المعاق أو العاجز عن الكسب أو البنت غير المتزوجة)، موت المكفول، موت الزوجين الكافلين مع أو المرأة الكافلة، فقدان الزوجين الكافلين لأهليتهما معا، فقدان المرأة الكافلة لأهليتها، حل المؤسسة أو الهيئة أو المنظمة أو الجمعية الكافلة.

- في حالة انفصام عرى الزوجية بين الزوجين الكافلين، يتدخل القاضي المختص رسميا إما بالأمر باستمرار الكفالة لأحدهما أو باتخاذ ما يراه مناسبا من إجراءات في صالح الطفل المعني. لقد نظم هذا القانون حق الزيارة بالاستماع إلى الطفل إذا أدرك سن التمييز. إذا ارتفعت أسباب الإهمال، يمكن لأحد الوالدين أو كليهما استرجاع الولاية على طفليهما بمقتضى حكم.

- كل ممارسة تمس مبادئ التربية والرعاية والكرامة تعرض المعتدي لعقوبات زجرية (الحفاظ على حقوق وواجبات الوالدين والأولاد).

بالعودة إلى تفاصيل هذا القانون يتضح للقارئ بجلاء سعة رؤية حكومة التناوب التوافقي ونظرتها الشمولية المنهجية والمعرفية لتفصيل كل الحالات المفترضة وطرق معالجتها. لقد أحاط هذا القانون بكل الجوانب المتعقلة بموضوع الكفالة وحماية الطفولة المهملة. عبد الرحمان اليوسفي كان على بينة كون إهمال الأطفال وتحويلهم إلى أطفال شوارع يشكل خطرا كبيرا على أمن واستقرار المجتمع والدولة. البالغون يغضون الطرف ويعطفون على أطفال الشوارع، لكنهم يستاؤون من وجودهم كمنحرفين بعد بلوغهم سن الرشد. والحالة هاته، ونتيجة لتراكمات المصاعب في حياتهم الطفولية والشبابية، يصبح الأطفال المهملون بعد تجاوز سن الرشد عرضة للاستقطاب من طرف عصابات الإجرام والسرقة والمخدرات. الإهمال ظاهرة خطيرة ومستشرية في المجتمع المغربي وتشمل حتى الأسر الشرعية بأبوين متزوجين. تشديد المراقبة وتتبع أحوال الأطفال يتطلب يقظة عالية وموارد هامة وأرضية مؤسساتية وقانونية لإعادة الإدماج ومنظومة تربوية واضحة المعالم والمرامي.

***

الحسين بوخرطة

مستقبل الحرب الروسية - الأوكرانية مع الوساطة الجزائرية العربية

بعد الزيارة الأخيرة للرئيس الجزائري إلى دولة روسيا الاتحادية وقبول الرئيس الروسي بوتين طلب الرئيس الجزائري تبون للسعي إلى وساطة توقف الحرب مع أوكرانيا وتبحث عن وجود حل سلمي ودائم يرضي الطرفين ويخدم مصلحة الدولتين الجارتين، ومن هذا المنظور يتضح لنا أن مهمة الوساطة الجزائرية ليست بالسهلة، لا من حيث صعوبة الموقف بين الطرفين الذي يوجب على وفد الصلح الجزائري بقيادة رئيس الدولة الحذر والحيطة، سواء من جهة الإطلاع على تاريخ العلاقات الدبلوماسية والجيوسياسية والتعاون فيما بين الدولتين وكذا التوتر الناتج بينهما بعد انفصال أوكرانيا عن الإتحاد السوفيتي إراديا، ثم العمل الجاد على وجود حل مؤقت هو ما أسميه حل فترة التفاوض والاتفاق بين الطرفين الذي يجب أن يسير في ظروف هادئة، بدون أحداث توتر الموقف أن تزعج أحد الطرفين عند التفاوض، ثم مرحلة الاتفاق سواء بتلاقي الآراء والمصالح أو تنافرها والبحث عن الحلول الوسطى، يتنازل فيها طرف هنا والطرف الآخر هناك حتى يستقيم الحل ويتقاسم الطرفان المصلحة بالتساوي والتراضي، والأمر الأخير الذي يعيق وفد الصلح هو تدخل أطراف خارجية في سعيها لإفشال مسعى الجزائر ونيتها في ترك الوضع متوترا بين الجارتين الذي يخدم مصالح معادية لروسيا كقوة استراتيجية عالمية، بفضلها يحافظ العالم على توازن القوى التي تصد القطب الوحيد ولو كان في يد مجموعة من الدول مثل الناتو أو الاتحاد الأوروبي وغيره.

القدرة الجزائرية على قيام الصلح:

للجزائر خبرة معقولة ومقبولة في مباشرة الصلح بين دولتين وترك بصمة طيبة وإيجابية في كل ما قامت به سابقا وما تسعى إليه في المستقبل، فبعد مفاوضات إيفيان التي أنجبت استقلال الجزائر والتي أصبحت تدرس في الثانويات والجامعات الجزائرية وبالأخص في تخصصي التاريخ والسياسة، ثم تلتها المالحة الوطنية التي قادها أطراف من الجيش الوطني الشعبي، والتي تكللت بنجاح باهر أنهى خطة إرهابية دولية كانت تستهدف استقرار الجزائر والتي صدرتها لدول تعيش نفس الأزمة، إلى جانب الموقف الجزائري والحنكة السياسية التي اتسم بها النظام في الآونة الأخير في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة ومسايرة الحوار بين الأطراف المتنازعة إلى أن يصلا إلى اتفاق ووئام يخدم الوطن، وقد شهد العالم بموقف الجزائر وهو موقف دولة لا نظام حكم ثم يزول معه، في قضايا عربية مثل ما جاء مع ليبيا واليمن وسوريا وفلسطين.

إن الجزائر صديقة الجميع، وكما هي صديقة روسيا وحليفة لها فهي أيضا صديقة أوكرانيا في تعاملها الاقتصادي والصناعي، كذلك أصبحت تتعامل دوليا مع الكل بالتساوي والمصلحة المتبادلة سواء سياسيا أو اقتصاديا أو تجاريا، وإن كانت تقترب من مصف الدول الكبرى فهي تعمل مع دول إفريقيا الند للند وبقانون رابح رابح، وبرهنت على ذلك في شراكة عربية وتركية، مع شركات إماراتية وقطرية ناجحة وشركات البناء التركية، كما لديها خبرة ليست بعيدة عن الأزمة الروسية – الأوكرانية في تهديد الحدود من طرف دولة جارة شقيقة، عندما تركت المنافس إن لم نقل العدو في بسط قوته بالسلاح والعسكر بالقرب من حدودها، والعمل السياسي مع طرف يتنافى مع سياسة والدولة ومبادئها وقد تعود النتائج وخيمة على الدولة الجارة، التي يراها بعض العسكريين خيانة العظمى حين تفتح أرضك وعرضك لعدو بعد أن ينال مراده يشمت فيك وتبقى دونه وتابعا له ذليلا ومحتقرا، فمن لا يصون جاره ويصونه جاره فلا قوة له ولا سند يحميه، وكل دخيل على مجموعة يبقى كالربيب بين الأشقاء.

الحلف الأطلسي أساس الحرب الروسية – الأوكرانية:

الكل يعلم أنه مع تفكك النظام الشرقي الإشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي في سنة 1991، وخروج أوكرانيا مع بعض الجمهوريات من الإتحاد، بقيت العلاقات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا كما كانت عليه سابقا وذلك بفضل تعهد كييف على التخلي عن جميع الأسلحة الثقيلة والنووية لروسيا والتعاون في الصناعة العسكرية والمدنية ذات التكنولوجيا الدقيقة والعالية، لكن الحلف الأطلسي صار يعمل في السر والخفاء مع الدول المستقلة ونزعها من تحت وصاية روسيا والشرق وضمها تحت جناحه، ويظهر ذلك جليا في انضمام الكثير من الدول للحلف الأطلسي ومن ثمة إلى الاتحاد الأوروبي، منها المجر وبولندا بلغاريا وسلوفاكيا وتشيك ورومانيا وغيرها، ولم يعد يحمي جانبي روسيا سوى أوكرانيا وبلاروسيا، واليوم ترى الناتو في تمدد مستمر إلى الشرق واختياره أكثر لدول قريبة من روسيا وأكثرها مسيحية.

لهذا صارت روسيا ترى أن الخطر وشيك وأنها أراضيها أصبحت عرضة لاعتداء من القوى العظمى وأنه من حقها أن تقلق على أمنها وسلامة ترابها، وكما يقول المثل عندما تحس الأسود بالخطر والقلق على أمنها فهي تهاجم الذئاب، لذا فالمشكلة الكبرى والمعضلة ليست أوكرانيا بحد ذاتها، وإنما الخطر الذي تجلبه إلى حدود روسيا، وهذا النظام الحاكم الذي لا يحسب لأمن المنطقة ولا لمصلحة الشعب الأوكراني الذي له ميول روسية في تفكيره وانتماءه للشرق، وعليه يعتبره النظام الروسي هذا التصرف طيشا من الطرف الأوكراني وخرقا سافرا وانتهاكا من الناتو لمبادئ النظام العالمي والأعراف الدولية في الأمن والسلم الذي صار يهدد روسيا التي تصدت له بالقوة العسكرية، والتي كانت تطلب السيطرة على كييف وتنحية الحكومة والرئيس المعاديين لروسيا واستبدالهم باطراف متعاونة وتحترم كل العهود والمعاهدات بين الدولتين.

بعد أن اتجهت السياسة العسكرية الأمريكية إلى التدريب في البحر الأسود وبحر إيجا سواء مع تركيا واليونان ورومانيا منذ 2021، وتوسيع القواعد العسكرية في بلدان شرق أوروبا، أصبحت روسيا في خطر داهم، لذا عمدت سياسة التصدي لإستراتيجية الناتو واستعمال السياسة القمعية داخليا وخارجيا، كما تفعل ذلك في بيلاروسيا وكازاخستان.

وقد بدأت الأزمة بانطلاق الحرب على أوكرانيا في 24 فبراير 2022 بدعوى الدفاع عن الحدود الجديدة لروسيا وحلفائها، وقد تعرضت الدولتين لخسائر كبيرة من حيث عناصر الجيش والمعدات العسكرية والاقتصاد ولكن روسيا ترى أنها الطرف الوحيد الرابح في هذه المعركة، بما أنها قامت بتجارب واقعية وعلى الميدان في مشاركة كافة عناصر الجيش في الحرب واستعمال الأسلحة العادية في المعارك، سواء الدبابات والصواريخ والبوارج الحربية والجنود والضباط وتعبئة الشعب مع تدابير الاستنفار واللجوء إلى المخابئ، ولما نرى عدم تدخل الحلف الأطلسي مباشرة وحماية حليفته بالقوة العسكرية نعرف أن روسيا هي الرابح في الأزمة، وعليه فإن أوكرانيا وأوروبا هما الخاسران الكبيرين، مع تدمير الكثير من المباني والعتاد الحربي وهروب الشعب الذي لجأ إلى أوروبا الغربية، لأكثر من أربعة ملايين لاجئ ونفقة تصل إلى ثلاثين مليون يورو سنويا إذا استمر الأمر.

بين الناتو ومجلس الأمن، من المسئول عن السلم في العالم؟

ترى رروسيا أن الحلف الأطلسي NATO أصبح خطرا كبيرا خاصة بوجود مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم الكتحدة، الذي يضطلع بمسئولية حماية الدول الضعيفة من الاعتداء على حدودها والحفاظ على السلم في العالم، وهو اليوم يحاول التوسع شرقا لحساب الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، فهكذا تكتل عسكرية سوف يأدي حتما لحرب عالمية جديدة لصالح أعضائه، فهذا الحلف شارك مع الجيش الفرنسي في حربها ضد الجزائر المستعمرة والتي حصلت على استقلالها رغم مشاركة دول الناتو معها، وبهذا فالجزائر لا تؤمن بتكتل يدعو الاحتلال والاستعباد ويحمي مصالح دول قوية تهيمن على الاقتصاد العالمي وصناعة الأسلحة الفتاكة والمدمرة كما فعلت فرنسا بتجاربها النووية في الجزائر قبل وبعد الاستقلال.

لا زال الناتو متخوفا من دول الشرق مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، ونسي أن لهذه الدول الحق أيضا للدفاع عن حدودها واسترجاع ما نهب منها في أوقات الضعف والسيطرة الاستيطانية، كما لأوكرانيا الدفاع عن نفسها ضد أي إعتداء سواء من روسيا أو غيرها، ولروسيا أن توقف أي تهديد لحدودها الجغرافية ومن دخول قوة معادية إلى المنطقة التي تعتبرها محظورة.

ترى دول الناتو أن هجوم روسيا على أوكرانيا غير مبرر كما ترى ذلك أمريكا أيضا، وترى السياسة عكس ذلك فماذا لو تحالفت روسيا مع كندا وقامت بإنشاء قاعدة عسكرية للتدريب والتجسس، فما موقف أمريكا من هذا العدوان الصارخ في هذه الحالة، وماذا لو دعت روسيا كل من الصين وكوريا الشمالية والهند وإيران ومنغوليا وغيرها إلى تكتل يعدو إلى السلم في العالم وحماية مصالحها العسكرية المشتركة ومنطقتها من كل إعتداء.

ترى روسيا أن الاستراتيجية الحربية الروسية لا تريد احتلال أوكرانيا ولا إخضاعها بالقوة لهيمنتها، وربما أرادت فقط حماية نفسها وحدودها من تهور الرئيس الأوكراني الذي يتلاعب بمصير بلده رغم علمه بالعواقب مسبقا.

روسيا حاولت الوصول إلى العاصمة كييف وفرض تغيير الرئيس الحالي، وعندما رأت أنها لا تمتلك دعم الشعب الذي فر إلى أوروبا الغربية لاجئا،غيرت من خطتها واتجهت شرقا لحماية الجمهوريتين والسيطرة على البحر الأسود وميناء القرم بالسيطرة عليه وعلى مدينة ماريوبول.

إن العقوبات التي فرضتها أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي تكشف عن ضلوع الناتو، كونها غير مبنية على تهديد الأمن في إحدى مناطق العالم، بل لا تخدم سوى مصالح دول الناتو بالدرجة الأولى، والتي بدأت دعوة الصين إلى الانضمام إلى دعم هيئة الأمم المتحدة والنظام الدولي في مبادئه المتعلقة بالأمن والسلم الدوليين والسلامة الإقليمية.

مخطط الصالح الجزائري:

تنتهج الجزائر الصلح في موضوعين هامين، أولها هدوء ساحة التفاوض وهذا ما نسميه بالهدنة المشروطة، والتي تستجيب لبعض مطالب الدولتين قبل الاتفاق النهائي، وتتمحور في:

- الاتفاق على وقف إطلاق النار أو هدنة مؤقتة بين الطرفين دون الحديث عن انسحاب الجيش الروسي.

- وقف العقوبات على روسيا أو التقليص منها إلى الحد المقبول.

- تعهد أوكرانيا بعدم اللجوء إلى أي تكل أو مجموعة أوربية لجلب مساعدات عسكرية أو استخباراتية روسيا.

- تعهد الحلف الأطلسي بعدم التدخل في أمور البلدان المجاورة لها في فترة التفاوض، سواء أوكرانيا أو بيلاروسيا أو البحر الأسود.

- يدخل الطرفين في تفاوض مستمر إلى حين الوصول إلى إتفاق نهائي، يمكن لأي اتفاق جزئي أن يطبق إذا رأى الطرفان أن ذلك يخدم مصلحتيهما، ويبقى باقي وفود الدول الأطراف في مهمة التفاوض على حياد ما لم يطلب منهم التدخل حسب القواعد الدولية.

إن من أهم النقاط التي يجب أن تبرمج لطرحها أمام الطرفين وليست بالإجبارية أو وصاية من الوفد الجزائري بل تكون حسب طلبات الطرفين لوقف الحرب نهائيا والعمل سويا على أمن المنطقة، ويمكن ذكر ما تيسر منها:

- التعاون العسكري والسياسي الروسي – الأوكراني والعمل على حماية المنطقة من أي خطر أو اعتداء أجنبي أو من دولة على دولة أخرى هي صديقة.

- عودة العمل الصناعي العسكري بتكنولوجياته وخصائصه مع التعاون بين خبراء عسكريين بجيوش الدولتين.

- عدم انضمام أي طرف إلى حلف غربي أو شرقي أو أي تكتل اقتصادي يمكن أن يضر بالدولة الثانية أو قد ترى هي ذلك.

- التعاون الجاد مع حسن النية في إيجاد حلول ملائمة للأزمات السياسية مثل أزمة الجمهوريتين اللتين تطالب بعض الأطراف بها عن الاستقلال عن أوكرانيا، ولا تتدخل روسيا في الموضوع كوصي أو كقوة رادعة ما لم تكن لصالح أوكرانيا.

- وجود حل ملائم ومنطقي وقانوني لمشكلة جزيرة القرم.

- العمل على التآخي بين الشعبين وعودة العلاقات القديمة ما قبل الاتحاد السوفييتي والتعاون في مجالات عدة منها الثقافية والسياحية والعادات والتقاليد لكلتا الدولتين وفي مجال الأدب والعلوم والرياضة.

***

سليمان عميرات - الجزائر

تُعتبر منطقة الشرق الأوسط الكبير الممتد غربا حتي افغانستان وتركيا وشمال إفريقيا. ساحة الاختبار على المستوى الدولي في ما يتعلق بفعالية المساعدة الأمنية. التي تُقدمها القوى العالمية والإقليمية. التي ساهمت تلك المساعدة الأمنية في شدة وتكرار الحروب بالوكالة – مثل تلك القائمة الآن في ليبيا واليمن وسوريا والعراق – وفي عسكرة الجهات الفاعلة الحكومية وشبه الحكومية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ففي ثمانينيات القرن المنصرم،وفي نهاية الحرب الباردة كانت المساعدة الأمنية هي جوهر التنافس على التفوّق العسكري والاستراتيجي والأيديولوجي وحتى الاقتصادي في الشرق الأوسط، لكن على الرغم من الأهمية الواسعة والمتنامية للمساعدة الأمنية للمنطقة،وللمنافسة داخلها بين الجهات الفاعلة العالمية والإقليمية، كانت المساعدة الأمنية موضع قدر قليل نسبيًا من التحليل المقارن، وبالمثل فالجهود المبذولة لتقييم العلاقات بين الأهداف الاستراتيجية وبين الأساليب التشغيلية لمزودي المساعدة الأمنية وتأثيراتها النسبية على المستفيدين، حاولت الولايات المتحدة وبكل الأساليب التنافس بطرد الوجود السوفيتي السابق في الشرق الأوسط.وكانت البداية من مصر والقرن الأفريقي،وجاء عام 1979م.تنقلب موازين القوة والتنافس مع ظهور النواة الأولي لتنظيم القاعدة.من رحم الأحداث إقتحام الحرم المكي فجر أول يوم في السنة الهجرية 1400.وقيام الثورة الإيرانية.وتوقيع اتفاقية السلام بين ( مصر وإسرائيل) وطرد الوجود السوفيتي من مصر.وتولي صدام حسين مقاليد الحكم في العراق،والحرب الأهلية في لبنان.واشتعال حرب افغانستان الاهلية،.كل ذلك ساعد علي صراع لصالح الأمريكان وحليفة الاستراتيجي إسرائيل.ومع انهيار حائط برلين وانهيار وتفكك حلف" وارسو"،كانت المنافسة آحادية لصالح الأمريكان،ظهر منافس أخر من رحم الثورة الأسلامية في إيران (ولاية الفقية) ضد الهيمنة الأمريكية.وظهور قوة جديدة مع تولي الرئيس بوتين الحكم،

فمن المعروف أن منافسيها الرئيسيين في المنطقة في تقديم المساعدة الأمنية – أي روسيا وإيران – ساعدا وكلائهما على تحقيق نجاحات ملحوظة في ميدان المعركة. فالمنافس الأول، روسيا ساعد في سوريا وبشكل مطرد في ليبيا؛ والمنافس الثاني "إيران" ساعد في سوريا وكذلك في لبنان من زرع وكيل لة من ( حزب اللة) كذلك فصائل في العراق تنتمي الي المذهب الشيعي ، وإلى حد أقل في اليمن من جماعة الحوثيين. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن روسيا أنجزت، بدرجات متفاوتة، عددًا من أهداف المساعدة الأمنية التي حددتها وكالة أبحاث الكونجرس. فدورها المحوري المتزايد في المنطقة، والذي يعتمد إلى حد كبير على قدرتها الظاهرة كمزود للمساعدة الأمنية، إلى جانب الدبلوماسية المُحنكة، مكناها من إدارة التحديات الأمنية الإقليمية في المشرق والمغرب الكبير، مثل تلك التحديات التي تنطوي عليها العلاقات (التركية العربية) من خلافات مع تداعيات ثورات الربيع العربي، وبناء روابط مؤسسية وشخصية مع النخب العسكرية والسياسية ليس في سوريا وحدها ولكن أيضًا في مصر والسودان والجزائر. وهذا إلى جانب نجاحات مماثلة في بلدان أخرى، من الممكن لهذه الروابط في المستقبل أن تمكنّ روسيا من إقامة تحالفات غير رسمية تمارس عليها على الأقل نفوذًا كبيرًا.

من الواضح أن الولايات المتحدة وروسيا وإيران اختارت مناهج مختلفة للمساعدة الأمنية في الشرق الأوسط لها تبعات هائلة على بناء الدول والاستقرار ولكم مازالت الأوضاع في مناطق غير مستقرة..

على الجانب الآخر، فيما يتعلق بالدولة المنافسة للولايات المتحدة، سواء في الشرق الأوسط أو في مناطق الصراع الساخنة في أوروبا، فإن لروسيا توجهات تحكمها أوضاعها الداخلية، وطموحات الرئيس بوتين، وما تملكه من قدرات على تحقيق ما تريده لتواجدها خارج حدودها. وتستند سياسات روسيا تجاه منطقة الشرق الأوسط إلى كون هذه السياسات، جزءاً من معادلة علاقتها بالولايات المتحدة، - قرباً أو تباعداً - وارتباط ذلك بحرص روسيا على أن تستعيد وضع القوة العظمى الذي كان لها في فترة وجود الاتحاد السوفيتي. وإن كانت عودة روسيا إلى المنطقة تسير في مسار مختلف عن المسار السوفيتي السابق، وبمبادرات تختلف عن سياسات الولايات المتحدة، والغرب عامة. وإلى جانب هذا الهدف، فإنها تريد التوسع في العلاقات مع دول المنطقة، خاصة ما يعود عليها بمنافع اقتصادية.

في هذا الإطار كان تدخلها عسكرياً في سوريا، والذي استغلت فيه حالة السلبية التي سادت الموقف الأمريكي خاصة تجاه توسع شبكات الإرهاب الخارجية في الأراضي السورية.

ولكن الكثير من المراقبين يرون أن التدخل العسكري الروسي في سوريا، يمثل حالة استثنائية، ولا يتوقعون أن يتكرر في حالات أخرى في المنطقة، وهي تدرك أنها لن تكون في وضع المنافسة مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

ولا شك في أن الأبواب المفتوحة أمام روسيا في المنطقة، لخلق علاقات سياسية واقتصادية، يساعد عليها ما كان قد انتاب الولايات المتحدة من تردد في الوفاء بالتزاماتها التاريخية تجاه أمن بعض دول المنطقة، وإنتاجها سياسات تمثل إغراقاً في التحيز ل«إسرائيل» على حساب القضايا العربية، وتزايد لهجة المطالبة بأن تتحمل دول المنطقة أعباء ما تقوم به الولايات المتحدة من تحركات ومواقف، كانت تقوم بها في الماضي وهي تعلم أنها إذا كانت تحمي مصالح دول المنطقة، فإنها تدعم مصالح الأمن القومي الأمريكي في الوقت ذاته.

في هذه الأدبيات السياسة الخارجية الأمريكية، باعتباره تسهيلاً للعلاقات الفعالة بين المسؤول الرئيسي والوكيل، وبالتالي تسهيلاً للمساعدة الأمنية، يمتاز بأهمية خاصة في الشرق الأوسط، وهو وجود "مؤسسة حكم شرعية وفعالة نسبيًا". تشير وكالة أبحاث الكونجرس إلى أن "الجهود الأقل فعالية التي أجراها بناء قدرة الشريك كانت تتم إما أثناء النزاعات والحروب (المواقف التي تتنافس فيها أطراف معارضة على الحكم) أو في البلدان التي يكون فيها الحكم الشرعي ناشئًا نسبيًا. " وهذا ظهر في سمال العراق في دعم الأكراد ومحاربة الدولة الاسلامية (داعش) في نفس الوقت تساعد بالدعم اللوجستي فصائل جهادية شمال سوريا. ففي فترة حكم الرئيس أوباما طالبت الدول العربية بفتح مجال الحريات والانتخابات الحرة وملفات حقوق الانسان شرط المساعدات الامنية. لذلك كانت الخارجية الأمريكية في حالة تخبط من اندلاع الثورات العربية. من الاكتفاء بتصريحات فقط بضبط النفس. وكان يقلق الجانب الامريكي أن "الفساد والكسب غير المشروع لدى الشريك يمكن أن يعوقا فعالية بناء قدرة الشريك بشكل كبير. توجد أدلة قليلة تفيد بأن فعالية بناء قدرة الشريك يمكن أن تكون فعالة من دون وجود شريك راغب وقادر على أرض الواقع. ومع الأحداث الجارية في شرق اوروبا من الحرب الدائرة في اوكورانيا والتقارب الصيني مز لعب دور في التقارب السعودي الإيراني.وظهور شخصية الامير محمد بن سلمان في محاولات التخلص من الهيمنة الغربية.والتقارب السعودي - الصيني والروسي - سوف يخلق نظام جديد للمنطقة .هل صعود الصين وقوي اقليمية أخري في العالم...؟ سيخلق وضع أخرمن حرب عالمية باردة وصراع في الشرق الأوسط من أطراف أقليمية..!!!

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب مصري وباحث في الجغرافيا السياسية

المستقلون في العراق.. أصيص اصطناعي للأحزاب التقليدية

هذا المقال كان من المفترض أن يُنشر بشكلٍ مشترك، مع أمينٍ عام لإحدى الأحزاب، ذات السُمعة المستقلَّة. لكن يبدو إنَّ الخشيَّة من ردَّة الفعل، دفعته للتنصُّل بكل "أدب". كان الله في عون الناخب العراقي، إن انتخب مثل هكذا حزب، يقودهُ شخصٌ جبان ونفَّاج.

هناك من يروِّج، إلى أن دور الأحزاب الناشئة والمستقلين، في الانتخابات القادمة؛ سيكون عبارة عن روحٍ "كاشانيَّة" – نسبةً إلى سجادة الكاشان الإيرانيَّة – تُجدِّد فُرص ما تُسمَّى بالأحزاب التقليديَّة، والتي هي في الحقيقة، تمديدات إقليمية ودولية، استعرضت نفسها وما زالت، ومنذُ عشرين عاماً، بثيابٍ سياسيَّة، من القومية العرقيَّة، الطائفيَّة، والمناطقيَّة.

لا يمكن التحالف بحسب فهمِنا، لرواية إحدى الأحزاب الناشئة، مع من شبَّ إقليمياً، واستوى عوده دولياً، وشاخت سياسته الداخليَّة، بأسلوبه الفاسد والمحاصصاتي. الناشئون  يعتبرون هؤلاء التقليديين، عارِضاً انتقالياً في إدارة البلاد، يحاول التيمم بالصندوق الانتخابي. عليه فإنَّ المستقلين لا يمكن أن يتيمَّموا وبحجة الصندوق الانتخابي، بأيَّة علاقات مع تلك الأحزاب.

المستقلون.. تفاح المُدن الفاضلة

السؤال إذاً: كيف تستطيع الأحزاب الناشئة أن تُغيَّر المعادلة السياسيَّة بشكلٍ حقيقي؟

إحدى الأحزاب الناشئة لخَّصت رؤيتها؛ التي اتكأت على جِدار الوقائع المنطقيَّة، بأنَّ الناشئين والمستقلين، مُجبرون، إذا ما أرادوا قلب المعادلة السياسيَّة، على "التوحُّد في قائمة انتخابيَّة، للذهاب إلى الصندوق الانتخابي، بتحالفٍ جامع. غير ذلك؛ فإنَّ النتيجة ستكون تبعثر حظوظهم الانتخابية، ولن يحصلوا على ما اتاحهُ لهم، قانون الدوائر المُتعدِّدَة".

هذه القوَّة الحزبيَّة الناشئة، سعت منذُ عامٍ ونيَّف، على تنضيج بديل سياسي مع شركائها، في تحالف " قوى التغيير الديموقراطية". هذا التحالف الذي استطاع جمع (11) أحد عشر حزباً، حركة، وتجمعاً للمستقلين في المحافظات العراقيَّة، للذهاب مجتمعين، إلى الانتخابات القادمة.

الأحزاب التقليدية، تقوم الآن بحربٍ نفسيَّة، ضدَّ الناخب العراقي، عندما قررت استعادة قانون الانتخابات الجديد، لحدبة نظام سانت ليغو الرياضي، لحساب الأصوات. هي تُريد تحديداً، الإيحاء بأن الأمور عادت إلى المُربَّع الأول، وبأنَّها ذبحت القطة على المحراب "الكاشاني"، وبأن المستقلين وإن هربوا من فخ هذا النظام الرياضي؛ فإنَّ القطة (المستقلون) ستموء على السجَّادة وهي شاكِرة.

نحنُ نجد إنَّ هذا التفسير مغلوط بالكامل. نظام سانت ليغو الرياضي لاحتساب الأصوات، ورغم عيوبه، إلَّا إنَّهُ وضِعَ أساساً، ليضمن للأحزاب الصغيرة، تمثيلاً برلمانياً عادلاً، باحتساب ما حصلت عليه من أصوات انتخابية. العيوب في هذا النظام، صنَّعتها سُلطة الأحزاب التقليدية،  حيثُ عمدت إلى تعديله وتشويهه، من خلال التلاعب في الرقم الذي يُقسِّم الأصوات الانتخابيَّة، وبالتالي تحديد عدد المقاعد النيابية التي يفوز بها كُل حزب. تحديداً، هم حرَّفوا رقم (1.4) الذي يُتيح منافسة انتخابية، شريفة سياسياً وغير لائقة بهم، إلى منافسة شريفة لهم، بالذهاب إلى الرقم (1.7) فما فوق؛ كي يسلم شرفهم الرفيع من أذى الأصوات الانتخابيَّة.

بعضُ المراقبين والواقعيين السياسيين، قد يرون فيما تُريد القوى الجديدة الذهاب إليه، من نبذ التعاون مع الأحزاب التقليدية، في عملِها السياسي، نوعاً من العُذريَّة، المتولِّدة من خيالات المُدن الفاضلة. نحنُ نُعطيهم الحق فيما ذهبوا إليه، ولكن هل هم مستعدون، لأكل التفاح الفاسد ولا شيء غيره، ما داموا ينظرون إلى تفاحات سليمة.. أليست تلك الصورة أكثر عُذريَّة وطوباوية!؟

الأحزاب الناشئة، تزعم بأنها تمتلك المبدأ، وجُرعات من الفهم الواقعي للبيئة السياسيَّة. هي تؤكِّد إنَّها لن ترضخ لِحراكٍ "كاشاني"، ولن تضع نفسها، في الانتخابات القادمة، في سلَّة واحدة، مع التفاح التقليدي. ظاهريَّاً، هناك اختلاف إيديولوجي، وخلاف جذري فيما يخصُّ المعايير السياسيَّة، والنزاهة. كما إنَّ القوى الجديدة، ليس لديها أسنان طائفية، ولا معدة مُحاصصاتية، مثل القوى التقليدية. الانتخابات الماضية في أكتوبر 2021م، كشفت شيئاً آخر. لم يتوزع المستقلون الفائزون، على كامل الطيف الاجتماعي العراقي، بل كانوا زائدة "شيعية وكردية".

الآن، هناك حاجة، إلى توضيح الآلية التي ستتعامل بها القوى الجديدة مع المجتمع الدولي، والتي يمكن اختصارُها بطرح هذا السؤال ذو الروح الشعبيَّة: هل سيكونون "أبناء السفارات" كما تفعل الآن القوى التقليدية التي اتهمت غيرها بذلك سابقاً، غيرةً منها على الوالد ذو العيون الزرقاء واللحية "الكاشانيَّة"؟

النظام يحتاج إلى أصيص اصطناعي مستقل

التعامل مع المجتمع الدولي، وبحسب بعض المستقلين؛ سيكون من "خلال البعثة الأممية في العراق"، رغم كُل العيوب التي يشوب عملها. تحاول "يونامي"، المشهورة بانحيازها للوضع الراهن، التوفيق بين الجميع في البلاد، والحفاظ على استقرارها السياسي، ولو بالدرجة الدُنيا. أيضاً، تحسين البيئة السياسية، بتوافق جميع اللاعبين. هي وبحسب الواقعيَّة الدولية، تُعامل الجميع أنداداً، لكنها لا تصنعُ ندَّاً من الفراغ، كحال بعضٍ، صنعتهُم ألعاب التوازنات الإقليمية والدولية. باختصار هي تستخدم سُلطة الأمم المتحدة كمسامير، لتثبيت ألواح التوازنات المتفق عليها، خارج الحدود العراقيَّة.

 العمل مع الدول المُمثِّلة للمجتمع الدولي؛ سيكون بـ "الطُرق المُتفق على معاييرها وطنياً ودولياً". لا نفهم كيف سيقوم المستقلون بذلك. أو ما هي الخطوة الأولى.. كيفية جس النبض الدبلوماسي لتلك الدول (سفاراتها) في البلاد. تُراهن الأحزاب الناشئة، بأنها لن تستخدم سمَّاعاتِها الحزبيَّة، للإصغاء إلى أمنياتٍ طائفيَّة، أو صوت صُفَّارات الانتماء، إلى هذا المحور الإقليمي أو ذاك الدولي. شِعارُهم البارز: "لن نستطيع العمل مع دولٍ، تتدخل بالشأن العراقي، وتُسيء للمبادئ الدولية".

دول الجوار التي لعبت بالداخل العراقي، وأضعفت موقف العراق خارجياً، لن "يكون لها نصيبٌ في المستقلين"، بحسب الأحزاب الناشئة. نحنُ ما زلنا نرى هذه الدول ولحدِّ الآن، تُدمِنُ على ربح الطارئين – الأحزاب التقليدية - وتخسر العراق، بحجَّة السياسة الواقعيَّة.

تُريد القوى الجديدة، الدعوة إلى سياسة خارجية، ذات منهج مختلف. إذ ليس هناك حزبٌ عراقي، حمَّل الدول التي تتعامل مع البلاد، ثمناً دبلوماسياً، تزدادُ فداحته، بشكلٍ يتناسبُ طرديَّاً، مع خسارة تلك الدول للعراق، ومراكمتها للأرباح الطارئة!

الأحزاب الناشئة كحالها من الأحزاب التقليدية، إعلاميَّاً، تُريد أن يكون "العراق سيداً لقراره، وأن يتعامل وفقاً لمصالحه، والمصالح المشتركة مع الدول والعالم الخارجي، لا وفقاً للأهواء الإقليمية والمصالح الدولية". يراهِن المستقلون، بأنهم لن يتبعوا القاعدة؛ التي افصح عنها واحدٌ من سياسيَّ الجوار: "نحن من أجل مصلحة النظام ندخل إلى الجحيم ونحاور الشيطان".

أعود إلى الانتخابات القادمة، المزمع انطلاقُها في ديسمبر القادم، والتي ستكون ذات طبيعة مصيريَّة. تعليل الأهمية المُطلقة لها، يبدأ من السخط الشعبي الكبير والواسع، حيال النظام السياسي، والذي يُعبِّرُ عنه هذا السؤال المُتكرِّر: ما هي الجدوى من المشاركة في عملية انتخابية لا يُعمل بنتائجها؟

نتائج الانتخابات السابقة في أكتوبر 2021، كانت مُختلِطة ومشوشة. السبب الأول، وصول نسبة المقاطعين إلى ثمانين في المائة. أمّا الثاني فكان ظهور بديل سياسي، اختلف بالنهج عن الاحزاب التقليدية، مثَّلته القوى الجديدة، لكن سعرها الشعبي انخفض. بعضُها شُري من قبل الأحزاب التقليدية، وفضَّل بعضهم الآخر، الاحتماء بيافطة حزبية، أو ميليشيا مًسلَّحة، مع مواقف أُخرى لا نعلم عنها شيئاً. إذ أن الناشئين كما يبدو، يفضِّلون العمل في غُرفٍ نصف مُغلقة، حيثُ النصف المفتوح تُحدِّدُه آمال الجمهور حصراً! وربّما لأنَّ كثير منهم الآن: صحافيون، ناشطون، ومنظمات مجتمع مدني، يظنون السياسة فُرصة للتنافس الشخصي.

الثالث والأخير كان دراماتيكياً، لكنه كشف ببغائيَّة الأحزاب التقليدية التي خسرت الانتخابات الماضية. دعت فوراً، وعبر قنواتها الفضائية، إلى استعارة التجربة اللبنانية. تحديداً، هُراء "الثُلث الضامن"، لتئد التغييرات السياسية؛ التي عبَّرت عنها النتائج الانتخابية.

 العملية الانتخابية القادمة، إن لم تتوفَّر فيها "تطمينات واقعيَّة، بأنها ستكون نزيهة، وقابلة للفحص بالمجهر الأممي، وراضِخة للديموقراطية والتبادل السلمي للسلطة؛ سيكون من الأفضل، توفير ما سيصرفُ عليها، من أموال وآمال". هكذا رأى المستقلون.

الاتجاه إلى المجهول أو إلى التغيير الحقيقي؛ سيكون واضحاً من خلال تطبيق قانون الانتخابات، والذي يمنع مشاركة من يحمل السلاح، ويخفيه تحت هراء يافطة "الثلث الضامن". تطبيق القانون لا الهُراءات الضامِنة والمُسلَّحة، سوف يُحفِّز نسبة أوسع من المشاركة الجماهيرية، أمّا بقاء الوضع على ما هو عليه، وعمل المفوضية المستقلة للانتخابات، كمفوضية للأحزاب التقليدية؛ فسيكون معناه خسارة العراق وربح الطارئين. باختصار، ما يحدث في العراق ولحد الآن، نكتة سمجة، مفادُها: أخسر الصندوق الانتخابي، ألتقط حكومة بالسلاح وبالصلافة الطائفية، وزيَّنها بأصيصٍ من المستقلين الاصطناعيين. 

***

مسار عبد المحسن راضي

كاتب، صحافي، وباحث عراقي

سيتحدث العالم كثيرًا وطويلًا عن مسرحية فاجنر التي أخرجها بحنكة واحترافية استخباراتية عالية الزعيم الروسي فلاديمير بوتين، وأوهم فيها العالم بتمرد كتيبة فاجنر عليه وعلى الجيش الروسي، واحتلالها لمدينة رستوف الروسية المحاذية للحدود الأوكرانية والتي تبعد عن موسكو العاصمة الروسية حوالي 400 كلم فقط، الأمر الذي أسال لعاب وألسنة المُحللين الغربيين بسقوط موسكو في يد قوة فاجنر المُتمردة، وسقوط بوتين معها وهروبه من موسكو! ونهاية الحرب وانتصار أوكرانيا، ومن خلفها الحلفاء والمراهنين عليها في الغرب؛ خاصة وأنَّ التمرد المزعوم من قبل "قوة فاجنر" تزامن مع هجوم عسكري أوكراني مضاد على القوات الروسية راهن الغرب على تغييره لقواعد المعركة على الأرض لصالح أوكرانيا وداعميها الغرب.

في 11 فبراير من عام 1986، سقطت مدينة الفاو (الساحلية العراقية) بكاملها بيد القوات الإيرانية في عملية أسمتها "فجر 8"، وتمكنت خلالها من أسر 60 ألف جندي عراقي دفعة واحدة وبدون مُقاومة تُذكر. ومعركة الفاو لم تكن بتخطيط عسكري بحت فقط؛ بل رافقها تكتيك سياسي إيراني قبلها بأيام قليلة؛ حيث وافق وزير النفط الإيراني حينها على طلب العراق بزيادة حصته من إنتاج النفط عبر منظمة أوبك، والذي فُسر من القيادة السياسية بالعراق حينها ومن المراقبين والمتابعين للشأن النفطي ومجريات يوميات الحرب، أنها إشارة ضعف واستسلام والرغبة في وقف إطلاق النار من قبل إيران، بينما كانت الحشود العسكرية الإيرانية تتأهب للسيطرة الشاملة على الفاو، وقد تحقق لها ذلك.

المُراد من هذا المثل من الحرب العراقية الإيرانية- وهو من جملة أمثلة كثيرة في الحروب ومفاصلها الحرجة- التدليل على أن الخداع والعمليات النوعية وتمثيل الانقسامات والتمردات وخلافه، تعد من أدبيات الحروب، ونتاج تفتق العقول العسكرية والأمنية والسياسية لتحقيق مكاسب وازنة على الأرض.

كثيرون ممن يعلمون- ولكنهم لا يُدركون- ما تعنيه أوكرانيا لروسيا البوتينية وأمنها القومي وحالتها الوجودية، لا يدركون حجم الاستعداد الروسي لهذه الحرب منذ إطاحة الغرب بالحكومة الوطنية في كييف عام 2014، والتي كانت بمثابة إعلان حرب صريح على روسيا من قبل النظام الأوكراني الجديد ورعاته وداعميه في الغرب.

لم يُبيِّن بوتين ويكشف عن عدوانية الغرب وهشاشته وحلف الناتو من بعده في حرب أوكرانيا؛ بل أسقط ورقة التوت التي تواري بها أمريكا عورتها كنمرٍ من ورق ما زال يقاتل العالم ويفرض سطوته على الخانعين بأثر رجعي.

بالعقل والمفاهيم العسكرية، لو فرضنا جدلًا وصدقنا تمرُّد فرقة فاجنر الروسية على الجيش الروسي وسيطرتها على مدينة رستوف، لا يُعقل أن تقف القيادة الروسية مكتوفة الأيدي بجحافل وحداتها العسكرية وعتادها النوعي الخارق وتترقب زحف فاجنر على موسكو، وهي تمتلك خيار تدمير عدتهم وعتادهم بالكامل ومحوهم في رستوف بسلاح نووي تكتيكي واحد. كما لا يُعقل أن يُقارِن عاقلٌ واحد بين التفوق الكمي والعددي للجيش الروسي مُقارنة مع فرقة فاجنر.

الاستراتيجية الروسية في حرب أوكرانيا اعتمدت على عنصرين أرهقا النظام الأوكراني ومن يقف معه وخلفه، وتمثلت في محاربة النظام بمعزلٍ عن الدولة الأوكرانية؛ لأن أوكرانيا تمثل النشأة الأولى للإمبراطورية الروسية. وعملت الاستراتيجية الروسية على إظهار حقيقة أن الحرب والاستهداف لروسيا وأمنها وتاريخها ومكانتها، وليست حربا ضد بوتين، كما يروج الغرب وإعلامه، وهي نبرة عادةً ما يستخدمها الإعلام الغربي في حروبه مع الخصوم والخارجين عن إرادته، وقد سمعناها ضد الرئيس صدام حسين والقائد معمر القذافي، وكأن خلاف الغرب مع الأشخاص، ولا يطمع لاحتلال البلدان والتنكيل بها.

قبل اللقاء.. أمريكا والغرب لا يمكنهم تحقيق أي انتصار نهائي وحقيقي في حروب سلاحها الإرادة أولًا، والتاريخ يكشف لنا كم من شعوب انتصرت بإرادتها على قوى نووية. وبالشكر تدوم النعم.

***

علي بن مسعود المعشني

لا بدَ من تغيير جذري، لكي ينهض الاسلام الصحيح، وتتجدد قيمه، وتستمر مجتمعاته الجديدة، ولا يتم ذلك الا في ظل تطبيق عدالة القانون، بين الناس دون تفريق بعد ان فقدت في اسلام فقهاء التجديد، فهل بمقدور مؤسسة الدين الساكتة على الخطأ عبرالزمن الطويل، وقادة التغييرالمستغلين للوطن والدين اليوم من اصلاح حال المواطنين في نظام أنشأ على الطائفية والاكراه الفكري والتعسف الاجتماعي "المرفوض بالدستور العراقي الجديد، بموجب الفقرتين 07 ، ،10 "، أشك في ذلك،

كفاية تغليس وتدليس، لقد حان الوقت للتخلي عن التعصب، عليكم الاعتراف علناً بان الحقيقة الدينية تتغير وتتطور ، وليست هي مطلقة ومنقوشة فوق حجر، فالثورات والتغيرات المجتمعية يرتبط نجاحها بتوفر القيادات المخلصة ، والاهداف الواضحة والبناء السليم والانصياع لنظريتي التغيير والتطويرالعلمي حسب ، يقول النص الديني:"قل سيروا في الارض فأنظروا كيف بدأ الخلق،العنكبوت 20"، أي كيف بدأ وكيف يتطور، هنا صيرورة التاريخ التي اهملها فقهاء الدين طمعاً في السلطة والمال والجنس، بل ، هي ليست ملكهم كما يعتقدون اليوم اصحاب نظريات التخريف، حتى اصبحوا امام انهيار القيَم المقدسة وجهاً لوجه لكنهم لا يتعضون ولا يقبلون الرأي الاخر، لأنهم يعتقدون ان رأيهم هو الدين المزيف لا الصحيح لارتباطهم بالسلطة وهم مخطئون، فأين الدين، واين القيَم ؟، التي كانوا يتحدثون بها أمامنا قبل التغييرفي 2003؟، وهم اليوم قاتلي الشعب وسارقيه والدين معاً.

نقول لشياع السوداني: لا تكن عبدا لغير الله، فالحق القديم للشعب لا يبطله شيء، والعقل مضطر لقبول الحق، ففي العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق، وطن العراقيين اليوم في محنة تكاد تنطق بصوت الكارثة القادمة من وراء حجب الغيب الرهيب، انت مكلف من الأطار الذي لا يعترف بحقوق الله والشعب وآديت القسم واليمين،عليك ان تعمل بأمانة واخلاص وعدل العادلين، فلا تفهم نظرية الحكم سلباً، لان ذلك يؤدي الى نفي صورتك الصادقة التي تدعيها، وسيؤدي هذا الموقف السلبي ، الى الجمع بين نقيضين، الادعاء والنقيض، في حين ان العقل يحكم ان لا يجتمع على صدقٍ نقيضان.

لم يأتِ حكم الأديان للناس من اجل عبادة الخلق للخالق بلا حقوق، ودون تحقيق مصلحة الخلق،فالخالق والخلق عنصران متلازمان بعضهم من بعض،فلولا الخلق ما عُبد الخالق ولما اصبحت الحياة لها من معنى (وما خلقت الانس والجن الا ليعبدون،الذاريات 56). ويُقصد بالعبادة هنا هي علاقة الحقوق والواجبات الصميمية بين الخالق والمخلوق.،حتى قال بعض الفلاسفة: "لولا وجود الخلق لانتفت الحاجة للخالق".لذا نلاحظ ان المعايير الاساسية التي جاءت بها الاديان كانت وسيلة لدروب الهداية الحياتية للانسان، وليست للعبودية وسيطرة الحاكم وأعوانه على المحكومين ، كما يدعي آولوا الأمر منهم اليوم،

ايها الحاكم الجدبد، انت عربي وحولك من يكره العرب كراهية التحريم حتى لو كنت منهم، فينبغي عليك الأنتباه لموازين الحق والعدل وفق معايير انسانية الانسان، فمعايير حكم الناس لا يستوي الا على الصراط المستقيم، حكما ايجابياً بعيداً عن خلفيات الذات وتصوراتها الخاصة، لتتخلص من ترسبات التاريخ المناهضة لروح العصر، ولتدرك نظام الحكم ادراكاً واقعياً دون تأثير.فالزرادشتية والمانوية همُهم الوحيد تحطيم العرب والدين معاً، منذ القديم والى اليوم، وغداً.

ان حكم الدولة اليوم هو ثورة فكرية اجتماعية معاصرة في مناهجها وخططها وليست افكارا متخلفة مبنية على اراء مؤسسة الدين، فأبتعد عن السلبيات التي ينادي بها المنتفعون من الفاسدين ، فهم لا دين لهم ولا يمثلون امام الشعب الا انفسهم الخائفة من المستقبل القريب، فلا يخيفك ظلهم المرتجف من طلاب التزوير ، فهؤلاء ما هم الا امعات بيد هذا او ذاك من مضللي حكم التاريخ وسارقيه، ومع كل محاولاتهم البائسة وبيعهم الوطن للاعداء المجاورين.فالحاكم القوي المؤمن يبقى اقوى عوداً من كل المزورين، فهو في اخلاصه للوطن والانسان يبقى ينبع من عين صافية لا عشوة فيها ولا ظلام، كما كان محمدا (ص) في تصميمه على الصلاح والفلاح دون الخوف من اعدائه الاخرين.

اتبع اخي الحاكم، وصايا الخالق التي تعتبر بمثابة حجر الاساس في بناء الحياة الانسانية للبشرية جمعاء،حين منحهم وسيلة المعرفة والتوجه الصحيح لدروب الصلاح والفلاح بوصاياها السرمدية "الوصايا العشر 151-153 الانعام"التي يجب ان لا تخرق ابدا ،وهي كل ما جاءت به الكتب السماوية المنزلة واترك اهل الحديث المنافقين، لانها قوانين الحياة الاصلاحية التي لا تخيب، المسلمون أول من خرقها، والحاكمون اليوم أول من داسها، لذا هم الفاشلون، فلا تثق بهم من اجل ان تكون، اعدل واصلح وكن وفيا، فلا تكن مزهوا بالمنصب حتى لا تكن ضياعا بين المحكومين.

ابعد عن اشكاليتهم المتولدة من باطلهم وفسادهم في العنصرية والطائفية والمناطقية ان كنت تريد للوطن الاصلاح الاكيد.

انت اليوم بحاجة لمراجعة معايير الحقوق والواجبات والتفكير، ولكن كيف؟ وهم يستندون للقوة لا للقانون. فالفكر الفقهي القديم الجامد لم يعد يستوعب عملية التجديد،لابل هالهُ ما يرى وما كان يحسبه سرمديا لايناقش،وفق معايرهم الشرعية المتخلفة التي يعتقدون ، فواردات الدولة بلا مالك شرعي لها سوى هُم.، - جماعة رفحاء الظالمين مثالاً - فظلوا يكافحون وينافحون من اجل ابقاء القديم على قدمه دون تغيير،متخذين من النص الديني المفسرترادفياً. وفق نظرية الترادف اللغوي الخاطئة سندا لهم في تطبيق العادات والتقاليد البالية حتى ولو تضاربت مع النص، متخذين من المفسرين التقليديين تخريجا بعيدا عن الواقع والحقيقة المستجدة ،وخلافا لسنة الطبيعة ومقادير الحياة، لا بل قل انها لنا جميعا، فتنبه لنظريات التطور للعلم الحديث؟

ثم جاءت مرحلة الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلام مستمدة من دين واحد هو الاسلام الصحيح وليس اسلامهم اسلام الفقهاء البغيض، يقول الحق:"اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا" فالكل مسلمين: "ان الذين امنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاخر لاخوف عليهم ولاهم يحزنون، " اذن لماذا التفريق الفقهي الكريه ، ألم يكن هذا خروجا على النص في الدين. فلا تمنحهم فرصة اضعاف جوانب حقوق الانسان في الدولة باعتبارهم مشاركين. كن ندا للفاسدين. واترك اراء الولائيين المجرمين، والا وجودك يصبح عدماً عند المواطنين.

أين هي وصايا القرآن الكريم والتي منها اخذ الرسول (ص) دستوره الذي عرف بدستور المدينة المغيب البارحة واليوم، من هنا غابت الشورى وحين طالبت الناس بها اعتبروهم مرتدين فكان السيف لجز الرقاب بديلا للقانون فقتل مالك بن نويرة التميمي واستبيحت زوجته ليلى العامرية لرفضه مبايعة الحاكمين ،وقتل ابوعبيدة وقالوا عنه قتله الجن، كما قتلوا المفكر هشام الهاشمي وقالوا عنه قتله الارهاب، والاثنان كذبوا برب العالمين.فتبع ذلك الانفراد بسلطة الحكم وحقوق المسلمين دون قانون، الخلافة شورى بين المسلمين بقانون آلهي لا يخرق ابدا وهذا لم يحصل بالمطلق عند المسلمين، هذا الاسلام العظيم الذي زيفته سلطة المتجبرين، حين زيف رئيس مجلسهم النيابي ارادة نواب الحاكمين بشاكوشه الباطل(تمت الموافقة) فاين دولة النص عند المسلمين، ؟.

، فهل من احد يستطيع ان يطبق هذه العدالة الموصى بها من القرآن على كل البشر وعلى مدى عصور الزمان، بعد ان عجزوا عن القانون في التطبيق، هنا تكمن مشكلة الاسلام من عدمه.؟ وهنا تكمن ازمتنا الحالية في الحقوق وحكم الناس، فقانون الاسلام ليس شماعة تخريف في تطبيق عدالة القانون، عند الملتحين.

الوصية في الاسلام مشروعا اسلاميا بكل قسماته الحضارية. لذا جاءت آيات الوصايا كلها حدية واجبة التنفيذ ،لخلق مشروع حضاري اسلامي ترتبط توجهاته بمنطلقاته لتحديد المسار الرباني دون تحريف.،قابلا للتطبيق ، لجعل الترابط بين المنطلقات والتوجهات ،ترابطا وثيقا لتحديد المسار بمشروعية قانونية لا تُخترق بجعل الانسان هو المحور المحرك بعد اعطائه مكانة التكريم والتقوى والوقاية من اي انحراف ، فالشريعة منطلقا تعطي امتداد الزمان،واتساع أفاق المكان ،ليكون الالتزام والوعي وعيا تاريخيا مستوعبا ومتناميا ومتسعا ومتجاوزا كل خطأ محتمل بالعقل والادراك ،وان كان الخطأ يدركه العقل الانساني متى عرض عليه،فالعقل مضطر لقبول الحق على ما قاله الامام الشافعي حقا وصدقاً.وكل هذا هم عنه بعيدون، ولا زالوا هم يمارسون فساد المال والقتل والتخريب." منذ عهد سبايا الفتوحات التي عدوها دين.".وحتى الارث محكوم بالوصية أنظر الاية180 من سورة البقرة لذا فهي ملزمة التطبيق، وهم خانوها، بالاحاديث المزورة التي هي بل اصل ولا تثبيت.

اما الزواج والطلاق فقد ربطهما بمثاق قوي غليظ،وليس بمتعة عمائم الدين ولا ندري من اين جاؤا بالطلاق المتهور بالثلاث ووصايا اخرى كثيرة يطول شرحا الان.واليوم يأتونا بزواج المسيار ورضاعة الكبير، واللقاء بالمرأة الميتة اللقاء الاخير.ولا ندري ماذا يخبون لنا غدا من موبقات جنسهم الرخيص الذي به يعتقدون.؟ فأين مرجعيات الدين.ثلاث مرجعيات انحرفت بالدين وأودت به الى التدمير هي:مؤسسة الازهر في مصر، والزيتونة في تونس، والحوزات الفقهية في النجف وقم.فماذا غداً ينتظرنا من مصير.

علينا ان نعرف هذه القوانين التي جاءت بنصوص الخالق العظيم هي : "لايصلح السلطان الابالتقوى،ولا تعمر البلدان بغير العدل "فاين نحن من الاسلام في التطبيق، ؟وهذا هو الاسلام الصحيح، وليس اسلام الفقيه الميت خادم سلطة السارقين، وهذه هي وصاياه التي لاتخرق.فالاسلام ليس فوضى المعممين ومرجعيات الدين الصامتة صمت القبور في التحقيق.

ان الخطيئة القاتلة التي يرتكبها المسلمون اليوم انهم لا يفرقون بين قواعد السلوك وحقيقة الوجود ،لان حجر الاساس في القرآن هو علاقة الانسان بربه ليتحرر من كل عبودية فلا ظلم ولا دكتاتورية بل عدل ومساواة واحترام لحقوق الله والاخرين كما يقول الامام علي (ع): "لا تكن عبدا لغيرالحق، فان الحق حر"وهو اول من طبق النظرية عندما اتهمه اليهودي بسرقة السيف حين اصر على المحاكمة لاعلان البراءة حتى ظهرت امام الله والناس. فلماذا يرفض الخائن اليوم محاكمته امام القانون؟

فأين نحن اليوم من حكام التدمير المحروسين من مليشيات قتل العلماء والمفكرين فهل من حاكم اليوم يستطيع ان يقدم للمحاكمة واحدا من الفاسدين الكبار الهوامير، كلا والف كلا لان الحكم مؤمن من مليشيات التدمير، المسلمون لم يطبقوا ابدا هذه الوصايا بل انحرفوا نحو الضد منها، ،هذه هي نتيجتهم اليوم، فلا تظلموا من يتنحى عن الاسلام بعد ان اوصله الفقهاء الى هذا الدرك من قبول ظلم الاخرين.

ان من ينظر الى قوانين الشعوب وتطبيفها على المواطنين بعدالة القانون، ليُذهل كيف تطبق عندنا نحن المسلمون، انه عار التاريخ لكن حكوماتنا لا تؤمن بدين ولا تستحي من العار والخطأ امام الله والمواطنين، فأين نحن من وصايا القرآن والرسول. كفاية تبجحا بالدين والحديث المزيف وشعارات داعش والقاعدة وطالبان والمتزمتين، انتم اعداء لهما باليقين.

نحن نحترم شجاعة، من يقول الحقيقة او بعضها، يافقهاء الدين، اعداء الدين، كفاية بعد ان أصبحتم مهزلة التاريخ، ان كانت لديكم الحجة فردوا على المحاورين.

***

د.عبد الجبار العبيدي

إن التبعية هي ظاهرة مركبة سياسياً واقتصادياً وثقافياً وحضاريا، بدأ ترسيخها بالاستعمار المباشر وتوطدت بتواصل الهيمنة عبرالاستعمار غير المباشر بتجلياته المتعددة، إنها استقلال ناقص على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية، وذلك على الرغم من تحقق الإستقلال الرسمي قبل حقب وعقود، حيث يشعر التابع بتفوق التابع له، وينتابه إحساس بالعجز عن مجاراة المتفوق عليه، هي نتاج وحصاد حملات  غزوات عسكرية أعقبها إحتلال ثم إستعمار، وترافق ذلك مع غزو فكري ثم إحتلال ثم إستعمار ثقافي، وحتى بعد أن توارى الجنود والأدوات العسكرية والإستعمار الفعلي، بقيت الأفكار الغازية بأدواتها الثقافية المدججة بالإيديولوجيا، مع محاولات الابقاء على طبقة سياسية تدين بالولاء للمستعمر المغادر لتعزيز التبعية، حتى أنتجت الحقب الإستعمارية المتعاقبة نموذج التفوق الغربي الرأسمالي الليبرالي الامبريالي، والذي يعتمد على ثلاثة ركائز أساسية:

1- ترسيخ التفوق العسكري.

2- تعزيز الهيمنة الحضارية والثقافية.

3- تجذير التفوق الاقتصادي .

حيث يتم التحكم في صناعة السلاح وتسويقه، والتحكم الصارم في أسرار هذه الصناعة، وتسويقه عبر تهيئة بؤر التوتر لترويجه وتجريبه، وكذلك تأسيس الأحلاف العسكرية بهدف الحماية والإحتواء والردع، ولإحكام الهيمنة على مناطق النفوذ ومحاولة التمدد كلما أمكن ذلك.

أيضاً يعتبر تعزيز الهيمنة الثقافية، عن طريق التسويق عبر كل الوسائط والوسائل الإعلامية الحديثة ركيزة إستراتيجية، لإعلاء شأن الثقافة الرأسمالية، وتبخيس كل ثقافة الحضارات الأخرى،  والتركيز على أن الثقافة والمنظور الرأسمالي الليبرالي في السياسة والاقتصاد والثقافة، هو نهاية التاريخ وافضل ماأنتجه الفكر البشري من حلول لكل المشاكل السياسية والاقتصادية والثقافية.

كذلك فإن الهدف الأكبر هو تجذير التفوق الاقتصادي لانه يعزز الهيمنة الغربية الرأسمالية المطلقة، عبر كل الأدوات الممكنة بدءا من صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، والشركات متعددة الجنسيات، والاتفاقيات الاقتصادية غير المتكافئة مع الدولة النامية، وتحديد معايير التنمية والتحديث وفق المنظور الغربي الرأسمالي الذي لايراعي خصوصية البلدان والدول وخلفياتها الثقافيةوالحضارية.

ولتحقيق وتجسيد كل هذه الأهداف دأبت قوى الغرب الرأسمالي الليبرالي الإمبريالي منذ حقب وعقود على المضي قدماً في الخطوات التالية :

أولا/ محاربة كل القوى المناوئة ومحاولة إرباك وعرقلة كل الكيانات الاقتصادية الناشئة، وبشكل أساسي محاولة إيقاف المارد الصيني بكل الوسائل الممكنة، عن طريق خلق الأزمات، وشيطنة هذا الكيان الصيني، حتى أن كورونا هذا الوباء الكوني الفتاك، هناك من يرى بأنه إحدى المحاولات القذرة من طرف قوى الغرب الرأسمالي الليبرالي، لوصم الصين بالتآمر عن طريق إتهمامها بإطلاق هذا الفيروس والذي حصد أرواح مئات الآلاف من البشر.

ثانياً/ إختراق كل الحركات الثورية، بل ومحاولة التدخل في صنع الثورات وتهيئة قادة الثورات بمواصفات معينة، ولم تخلو أغلب الحركات الاحتجاجية والثورية من تغلغل قوى الغرب الرأسمالي الليبرالي، فتدخلاتهم تكاد تشمل كل ثورات العالم الثالث بغرض إحتواء عواصف التغيير للتحكم في مساراتها ومآلاتها ؛والعالم العربي ليس إستثناءا باعتباره ينضوي تحت مظلة العالم الثالث والنامي،هذه الثورات التي ترتب عليها الإستقلال الهش لأغلب دول العالم الثالث، وصولا إلى شبهة تورطه وتدخله في مايسمى بثورات "الربيع العربي" بموجتيه الاولى والثانية، لأن الغرب الرأسمالي الليبرالي والإمبريالي ليست له مصلحة في وصول حكومات ديمقراطية حرة ومستقلة ومنتخبة في دول العالم الثالث، ولابد من الابقاء على التبعية عبر الشركات متعددة الجنسيات، والدور المطلوب كذلك من سفراء الدول الكبرى لإدارة أمور الحكم والقوة في الدول التابعة، والتحكم في السياقات السياسية فيها، وما نلاحظه في دولة مثل ليبيا لهو خير شاهد ودليل.

ثالثاً/ السعي الدؤوب للسيطرة على اقتصاديات الدول التابعة، ومنعها من إحداث نقلة نوعية تتيح لها الاستقلال الاقتصادي الحقيقي، عن طريق محاولة الهيمنة بطرق مختلفة على المقدرات الاقتصادية للدول التابعة، خصوصاً عبر محاولات تطويق المؤسسات السيادية والمصارف المركزية والمؤسسات الوطنية المشرفة على إدارة الموارد الاستراتيجية كالنفط، والسعي نحو جرها إلى خطط صندوق النقد الدولي والذي هو أحد أدوات الهيمنة الرأسمالية على الاقتصاد العالمي.

رابعاً/ محاولة فرض رؤية التفوق الحضاري والثقافي على دول العالم بحضاراته المختلفة وحضارات الدول التابعة خصوصاً، وإظهارها بمظهر الحضارات المتخلفة والعاجزة عن ملاحقة تطور وتقدم الحضارة الرأسمالية الغربية، والترويج بأن علة تخلفها وعجزها عن إدراك التقدم والتنمية إنما تكمن فيها، كل ذلك يتم عبر كل الوسائط والوسائل المتعددة منذ عقود وحتى اليوم، عبر مراكز البحث والفلاسفة والمفكرين التابعين لدول الغرب الرأسمالي، مثل أطروحة صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي لصامويل هنتنغتون والتي تشيطن الحضارات الأخرى، وتصف الإسلام مثلا بأن حدوده دموية، ونهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما والتي ينظر فيها للانتصار النهائي لقيم الديمقراطية الليبرالية.. وكذلك العمل على تدمير  العقائد المتماسكة كالدين الإسلامي،والتي يرى كثير من مفكري الغرب أنها تهدد عرش هيمنة الحضارة الغربية على المدى البعيد،  لذلك هم مستمرون منذ أمد بعيد في طريق السعي إلى إختراقها ومحاولة تمزيقها فرقا وأحزابا.

فأين نحن من كل مايحاك لنا؟ لاشك أنه لا حل لنا إلا المقاومة، فكرياً: عن طريق تشبثنا بحضارتنا وثقافتنا وابراز مكامن قوتها، وليس بمسخها عبر محاولة التمثل والمجاراة للحضارة الغربية الرأسمالية المسيطرة، واقتصادياً: عبر محاول تأسيس كيانات إقتصادية على أسس علمية نجمع فيها نقط قوة دولنا الاقتصادية، ونضع إستراتيجيات عميقة للتنمية الحقيقية والقضاء على التخلف. ودينيا: عبر محاولة تنقية ديننا من عوامل التفرقة والتشرذم، وفضح وتعرية الخطط المشبوهة القديمة والحديثة لشيطنة عقيدتنا، واستخدام كل الوسائل الممكنة لتحقيق ذلك.

***

د.أبوبكر خليفة أبوبكر

كاتب راي وباحث وأكاديمي ليبي

 

دائما ما سببت المواقف الأمريكية تجاه الوضع في العراق حالات من الفوضى والإرباك والقلق بين أوساط الشعب العراقي.فهي وفي العموم  تتفاوت بين الشدة واللين، بين الجد والإهمال، بين التغاضي والتضييق،بين التهديد والوعيد مقابل الرضا والقبول. ومع هذه الربكة في التعامل تنهار العقلانية عند الكثير من الناس وتحجب الرؤية الواقعية لديهم وتشل القدرات وتضطرب معها الحياة اليومية بجميع تفاصيلها، ويفقد الناس حياة الطمأنينة ويعيشون القلق والتوتر بانتظار تلك اللحظات المرتقبة الممزوجة بالخوف المشروع من ما تضمره طبيعتها ومآلاتها.

 فالعراقي يتلقى يوميا كما هائلا من الأخبار المتضاربة، ومشاكله ومشاغله اليومية تجعله يفقد القدرة على تدقيقها والوقوف على حقيقتها، لتتحول لديهم لوظيفة نفسية اجتماعية ذات قدرة على تنشيط وإثارة التفاعل والاضطراب، وفي نفس الوقت تشيع الفزع والريبة والشكوك، وتنتعش معها قريحة البعض من السياسيين صناع الخوف وزعزعة القناعات ومروجي الشرور، وتبدأ مرحلة حياكة الروايات والسيناريوهات على طريقة ضاربات الودع وقراء الطالع، ومثال على ذلك  الأخبار المتداولة والمتكررة في جميع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، عن تغيير قادم لا يبقي ولايذر، يكتسح أمامه كل شيء، ولا تقدر على مقاومته أية قوة. جبروت مدمر لا تستطيع صده أي متاريس وموانع .

ولكون الإنسان العراقي يعاني من أزمات حادة ومزمنة سببتها له السلطات الحاكمة على مر عقود طويلة من عمر الدولة العراقية ولحد الآن، فان هذه الأنباء تجعله يعيش بتوتر انفعالي دائم، لذا نراه يدخل في هوس التحليل وتفاصيل سياسية شائكة ومرهقة وبالذات ما يتعلق بالموقف الأمريكي وسباق التصريحات المربكة التي يتلقاها والتي لا يجد فيها ما يساعده على الاستقرار وضبط إيقاع حياته اليومية.

نهاية عام 2022 أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن إنهاء الولايات المتحدة لمهامها القتالية في العراق ، وأشار في ذات المرسوم الرئاسي لاستمرار بقاء عدد من القوات الأمريكية بمهام تدريب الجيش العراقي. ولكننا فوجئنا لاحقا وفي هذه السنة 2023، بمرسوم آخر مدد الرئيس بايدن بموجبه حالة الطوارئ الوطنية، المتعلقة بالأوضاع في العراق، وجاء في المرسوم الجديد: لا تزال هناك عقبات تعترض إعادة الأعمار المنظم للعراق، ولضرورة استعادة السلام والأمن في البلاد والحفاظ عليهما، يحتاج العراق تطوير مؤسساته السياسية والإدارية والاقتصادية ، لذا تمدد حالة الطوارئ الوطنية المتعلقة بالأوضاع في العراق. مع التأكيد على أن هذه العقبات تشكل أيضا تهديدا غير عادي للأمن القومي والسياسة الخارجية للعراق للولايات المتحدة الأميركية.

عندها أثيرت تساؤلات جادة وحيوية تتعلق بطبيعة وتوقيت هذا الإعلان، وما انطوت عليه هذه الرسالة التحذيرية المقلقة. فما هي غايات الرئيس بايدن مما جاء بمرسومه هذا، هل يعني وضع نوع من الوصاية على العراق،  يتقدمها حفظ وحماية الأصول المالية العراقية الموجودة في الخارج، أم اتخاذ تدابير محددة تفرض من خلالها قيود على تحركات الحكومة العراقية لإعادة ترتيب تشكيلاتها الإدارية ونسق عملها، بما يوائم مصالح العراق وقبلها المصالح الدولية تتقدمها المصالح الأمريكية، أو أن الغرض من حالة الطوارئ إعلان عقوبات صارمة وصادمة ضد شخصيات أو قوى وجهات سياسية بعينها تعدها الولايات المتحدة عقبات تعترض تطوير مؤسسات الدولة السياسية والإدارية والاقتصادية، وتقف بالضد من استعادة وصون السلام والأمن، وبات وجودها يشكل تهديدا غير عاديا للأمن

القومي والسياسة الخارجية الأمريكية، وأصبح العراق جراء أعمال وتحركات هذه الأطراف، منطقة غير آمنة وخطرة على المصالح الأمريكية وهذا يستدعي إعادة وضع العراق تحت نوع من أنوع الوصاية أو الحماية القسرية.

دائما ما مثلت سياسة وزارة الخزانة الأمريكية تجاه السلطة في العراق نوعا من أنواع التهديد العلني والصريح بإمكانية غلق العديد من المنافذ التي تتنفس عبرها مؤسسات الدولة العراقية وبالذات الاقتصادية منها. حيث من المعروف قدرة وزارة الخزانة على فرض قيود مالية تشمل مراقبة صارمة لتداول العملة في البنوك العراقية، وفرض قيود تعارض تعاملات البنك الدولي وباقي المؤسسات المالية الدولية مع العراق. وتستطيع أيضا مخاطبة وزارات ومديريات عديدة في أمريكا لتقييد التعامل مع العراق، من مثل وزارات الخارجية والأمن القومي والعدل والطاقة والدفاع والتجارة، ومديرية مراقبة التجارة ومكتب مراقبة الأصول المالية الأجنبية وهيئات الكمارك، وإعطائها الإشارة بتقييد التعامل وفرض جزاءات على المؤسسات العراقية والبعض من السياسيين، ومراقبة حركة الممتلكات العامة ولأشخاص محدودين وشركات ومؤسسات بعينها، ومن ثم التهديد بتجميد كافة الأصول المالية للحكومة العراقية الموجودة في الولايات المتحدة، وهذه التهديدات لوحت بها الإدارة الأمريكية خلال بداية أزمة الدولار في العراق، ولكنها وعند منتصف الطريق خففت من حدة تهديداتها وتغاضت عن الكثير من السياسات الاقتصادية المعطوبة للحكومة والبنك المركزي العراقي.

 في جميع الاحتمالات فان مستقبل العراق مهم ، ليس فقط للعراقيين بل للمنطقة والمجتمع الدولي بأجمعه، وما تقوم به الولايات المتحدة أو لا تقوم به، سيكون له تأثير كبير على مستقبل المنطقة.وهذا ما دفع المتحدث باسم مجلس الأمن القومي السيد ادم هودج للقول بأنهم يؤيدون سيادة واستقلال العراق بشكل كامل، ورحب بزيارة أمير قطر للعراق، وهذا الترحيب تلميح لأهمية ومحورية علاقة العراق بمحيطه العربي بعيدا عن المحاور الأخرى.ومثلت زيارات السفيرة الأمريكية السيدة  آلينا رومانوسكي وتطوير علاقتها ببعض أطراف العملية السياسية وبالذات ممن لهم علاقة وطيدة بالجانب الإيراني وسبق لهم أن أدلوا ولمرات عديدة بتصريحات متشنجة عن امتناعهم إجراء أي لقاء أو مقابلات مع الجانب الأمريكي، والإصرار باعتبارها أي أمريكا بلدا محتلا للعراق وعليها الخروج منه. وكان تصريح السفيرة بالقول إن الإدارة الأمريكية لن تعود إلى لعبة تغيير أنظمة الحكم،مثال حيوي لحسن نوايا وعملية تطمين قدمت كعربون للأصدقاء الجدد.

بعد انقضاء كل تلك السنوات ومنذ خروج العساكر الأمريكان عام 2011 ومن ثم إعادة تواجدهم وفق تخريجه دبلوماسية ـ عسكرية، سميت بقوة التحالف الدولي للحرب ضد الإرهاب، وانتشار عسكري تحت مسمى تدريب الجيش العراقي.عادت للتفكير بلعب دور جديد وحيوي يختلف عن سابقته. يبدو السبب في هذه العودة القوية والاهتمام الجدي وكذلك تفعيل الدبلوماسية النشطة من خلال التحركات الدؤوبة والمحورية للسفيرة السيدة آلينا رومانوسكي،التي قالت وهي تخرج من اجتماع ضمها وبعض رجال عشائر، بأن العراقيين لايرغبون بوجود مليشيات.كل هذه التخريجات والتحركات جاءت بعد أن أدركت الولايات المتحدة الفجوة الكبيرة التي أحدثها تضارب الأفعال والرؤية القاصرة التي شابت الأداء العسكري والدبلوماسي غير المقنع، للطاقم الذي كلف بإدارة العمل في العراق خلال السنوات العشر الماضية.وكذلك ما تمخضت عنه الوقائع على الأرض قبل وبعد انتهاء سيطرة داعش على المدن العراقية. وليترافق كل هذا مع احتدام التجاذبات والمشاحنات غير العقلانية والتشوهات السياسية والاقتصادية وعدم الثقة التي تشوب علاقات وسلوك الكثير من السياسيين العراقيين، مما سبب ويسبب خللا كبيرا في إدارة المؤسسات وإضاعة أموال الدولة. لذا باتت الأوضاع في العراق تحتاج العودة إلى مشروع يعزز وجود الولايات المتحدة قبل أي شيء أخر، ويعطي انطباعا حيويا لطبيعة مهامها وحتمية بقائها كفاعل محوري، يتقدمه بالأهمية  الحفاظ على مصالحها الحيوية، ولذا عليها استحداث أطر عمل جديدة لطبيعة العلاقة مع العراق، وهذا ما دفع الإدارة الأمريكية بالعودة لقراءة الحدث العراقي بتفاصيل جديدة قديمة يجعلها أكثر مكنة ودراية وفهما للمشكلة العراقية. مما اضطر الرئيس لإعلان مرسومه الأخير استنادا للأمر التنفيذي المرقم 13303 الصادر عام 2003 أي بعد أيام من احتلال العراق وعلى عهد الرئيس جورج بوش الابن.ويقضي هذا المرسوم بحضر تصدير بعض السلع الخاصة بالإضافة لمعاقبة شخصيات وكيانات تضع العراقيل وتعترض تطوير مؤسسات الدولة وتمارس أعمالا تهدد السلام والأمن.

تجزم الإدارة الأمريكية أن العراق لازال يواجه معضلات جمة ليس من الممكن حلها على المدى القريب دون تقديم تضحيات على المستوى السياسي والعام، وهذا يجعله يحتاج إلى شريك فعال ومتعاون وقوي. ولكن ولحد الآن فالكثير من الساسة العراقيين يجدون أن إيران لازالت تمثل وعلى أرض الواقع، الشريك الأقرب اقتصاديا وسياسيا، وليست للعراق القدرة على فك الارتباط بهذا الشريك دون مواجهة تبعات كبرى لا طائل منها. كذلك فالوجود الأمريكي يجد أمامه عقبات كأداء تبعد حسم الأمور لصالحه، ربما أولها يتمثل بهشاشة إجراءات الحكومة العراقية و ترددها أمام سلطة الأحزاب والكتل السياسية ذات العلاقة بإيران،وعدم قدرتها على فرض القانون،والوقوف بحزم أمام النزاعات العشائرية وانتشار السلاح وتحركات البعض من الفصائل المسلحة خارج سيطرة الدولة. يضاف لذلك انتشار جنوني وعميق للفساد الإداري وسرقة المال العام في عموم مؤسسات الدولة وبأشكال عديدة ومرعبة طال آذاه  شرائح واسعة من المجتمع العراقي وأنهك الاقتصاد وأعاق عمليات التنمية والبناء وأشاع الجريمة وقوض سلطة القانون.

من الجائز أن البعض من الساسة في الولايات المتحدة أدركوا بأن هناك حاجة فعلية لإعادة ترتيب علاقة ذات طابع خاص تستطيع الولايات المتحدة عبرها إمساك ما تستطيع إمساكه واكتشاف التعرجات المربكة داخل العملية السياسية الجارية في العراق والإقدام على معالجتها. لذا وجدت ما كانت تنتظره لحسم خيار تمديد حالة الطوارئ الوطنية المتعلقة بالأوضاع في العراق لوضع قواعد عمل لكسر حلقات سلسلة الروابط السياسية والاقتصادية للعراق مع الجانب الإيراني عبر زج الخليج ومصر والأردن في صلب معركة إعادة البناء وعودة العراق لحضنه العربي. لذا حددت لهذا اتجاهات ذات طابع تكاملي سياسيا واقتصاديا، لا يشمل تأثيرها الجانب العراقي فقط ، وإنما معني بعموم الإقليم. وكذلك الوقوف بوجه جميع من يحاول الإخلال بأمن العراق وقبله بطبيعة العلاقة بين الطرفين الأمريكي والعراقي.

وفي سياق العمل هذا وضعت الإدارة الأمريكية أولويات بعينها لبنية السلطة العراقية وتركيبتها، والتي تكفل من خلالها تشكيل ائتلاف واسع يعمل على ضمان المصالح الوطنية للجميع، وهذا الأمر وحسب اعتقاد الأمريكان هو الخيار الأفضل في الوقت الراهن والذي تشجع على ديمومته، فهذا الموديل يقدم تسهيلات جمة بعد أن يطمئن الاستقرار المجتمعي والسياسي عبر شراكة الأضداد، ويكون شرط رسوخ عملية المحاصصة في تقاسم السلطة. على أن يكون الهدف هذا مقرون بتعزيز المصالح الأمريكية ليصبح لها الأثر الفاعل في مسيرة توطين العملية كطريق لمستقبل العراق.

 وأهم ما تؤكد عليه النقلة الجديدة، حقل العلاقات الاقتصادية حيث  يضمن العمل سهولة وانسيابية تصدير النفط العراقي الذي يقع ضمن أولويات الولايات المتحدة وبرامجها وأنشطتها الدولية، ويبقى واحدا من أهم العوامل المحركة للنمو الاقتصادي الإقليمي والعالمي.

***

فرات المحسن

صباح عيد الأضحى، أقامت الشرطة السويدية خطاً أمنياً أمام المسجد الكبير في العاصمة استوكهولم، لحماية سلوان موميكا، الذي أعلن أنه سيحرق نسخة من المصحف ويدوسه بقدميه؛ تأكيداً على انضمامه إلى تيار اليمين المتشدد. ومعروف أن الرجل لاجئ من العراق، يسعى لإقناع الطيف المعادي للمسلمين بدعم محاولاته للدخول مبكراً في الحياة السياسية.

بعد هذا بساعات كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يزور الجامع الكبير بمدينة دربند، على ساحل بحر قزوين، حيث ظهر أمام كاميرات التلفزيون وهو يضم نسخة من مصحف قديم إلى صدره، ويحيطه بيديه، بينما يحدّث مستقبليه عن احترام الدولة الروسية للقرآن والكتب المقدسة كافة، ورفضها أي إهانة أو جرح لمشاعر أتباعها «خلافاً لما يجري في دول أخرى، حيث يهان الكتاب المقدس، ولا تفعل الدولة أي شيء للتعبير عن احترام معتقدات سكانها».

جريمة حرق المصحف، قد تتحول إلى حجر زاوية في السياسات الأوروبية الخاصة بالتعدد الثقافي والهجرة والاندماج. نعلم أن هذا ليس الحادث الأول من نوعه. فقد جرى بالتفاصيل نفسها تقريباً في أبريل (نيسان) 2020، ثم في يناير (كانون الثاني) من العام الحالي. وفي المرة الأولى أثمرت الحادثة عن صدامات واسعة بين الشرطة ومهاجرين محتجين، وسجّلت إصابات وأُحرقت سيارات، واعتُقل أشخاص عدة.

الجديد في الحادث الأخير، هو تزامنه مع الصدامات الواسعة التي شهدتها فرنسا بعد مقتل الشاب الجزائري، نائل المرزوقي على يد الشرطة يوم 27 يونيو (حزيران) المنصرم. لكن هناك ايضاً حوادث عدة تساهم كلها في تحويل هذا الحادث إلى قضية متشعبة الانعكاسات، ونشير خصوصاً إلى موقف الرئيس الروسي، الذي سيجيّر من دون شك للصراع السياسي الموازي للحرب في أوكرانيا، وهو - كما نعتقد - حلقة من حلقات الصراع الأوسع نطاقاً، الذي يدور حول عودة نظام القطبية الثنائية (روسيا والصين من جهة والدول الصناعية الأخرى في الجهة المقابلة).

ويظهر أن رسالة بوتين قد وصلت فعلاً، حيث تحدث بيان للجامع الأزهر بامتنان، عن موقف الرئيس الروسي، بينما ندد بما يمكن عدّه موقفاً سلبياً من جانب الحكومة السويدية. لا أعتقد أن روسيا قد كسبت - بشكل نهائي - تعاطف العالم الإسلامي، فلديها - هي الأخرى - مشكلاتها. لكن كلمة الرئيس بوتين في الجامع القديم، قدمت جواباً للسؤال الذي يدور في أذهان الكثير من المسلمين، سؤال: من يقف معنا إذا تعرضت هويتنا أو مقدساتنا للتهديد أو الإهانة.

جواب كهذا لا بد أن يزعج التحالف الغربي؛ لأنه ببساطة يمهد الطريق لعودة التحالفات القديمة بين موسكو والعالم الثالث. وهو يشي بتحول جوهري في نظام العلاقات الدولية.

الحوادث التي تزامنت مع حرق المصحف، تشكل في مجموعها إطاراً تحليلياً جديداً، لا بد أن يؤخذ في الحسبان في الدوائر الأوروبية. ومن المحتمل أن نقاشاتهم التالية لن تتمحور حول حرية التعبير أو احترام المقدسات، كما حصل في المرة السابقة، بل حول الانعكاسات التي يمكن أن يقود إليها حادث من هذا النوع، نظير اضطرابات باريس، أو استثمار سياسي عالمي النطاق، كما يظهر من توجهات الرئيس الروسي.

هذه إذن لحظة مواتية للمسلمين في أوروبا. ومن المحتمل أن الخطاب السياسي للنخبة الحاكمة، لن ينشغل في الأيام المقبلة بمفهوم الدمج الثقافي الجبري، كما جرت العادة في الأشهر الماضية، بل سيدور غالباً حول الاستيعاب السياسي في إطار تعددي، كما فعلت بريطانيا والولايات المتحدة من قبل.

إنها فرصة لمن استوعب معناها. وأظن أن على المسلمين المسارعة في اغتنامها، بالانخراط الواسع في الحياة السياسية والمشاركة الفاعلة في الانتخابات العامة والمحلية؛ لأنها الطريق الوحيدة للحصول على ما يطالبون به، في إطار القانون.

***

د. توفيق السيف

بعد مرور مئة وإحدى عشرة سنةً، مِن كارثة السّفينة «تايتانيك» 14 أبريل 1912، حصلت بسببها كارثة الغواصة «تايتن» أو «تيتان» 18 يونيو 2023. هذا، ولولا اكتشاف حطام تايتانيك (1985)، بعد سنوات طويلة، ما حصلت الضَّجة حولها، وأخذت القصص تنسج عنها وعن ركابها، وأُحييت القصائد التي رثتها ورثت المسافرين عليها، وثلاثة منهم كانوا مِن شعراء العِراق، وفي شهر وعام غرقها، حتى قرن الشّيخ محمد رضا الشّبيبي(تـ: 1965) أسطورتها بفعل «شياطين بابل»: «يا بابل البحر الخضم سَحرتنا/ سحراً أرى هاروت في تيتنيك»(لغة العرب 1912).

جرى جدلٌ على منصات التَّواصل الاجتماعي، عن كارثة الغواصة، والتي قضى فيها خمسة مِن أغنياء العالم، فالسفر في بطنها كلفت تذكرته الواحدة ربع مليون دولار، ومِن الجدل: هل كان هذا غروراً بالمال، وطلباً للشهرة، فالمال وحده قد لا يكفي سبباً للاشتهار؟ أم أنّ هناك مشروعاً حقيقياً غير إشباع الفضول، يدخل ضمن دراسة، واستكشاف البحار مثلاً، وهذا لم يُعلن عنه، أو أنّ الكارثة قد غطت عليه.

كان مِن المؤكد أنَّ المغامرين الخمسة ليس لديهم شكٌ بنجاح مغامرتهم؛ وسيعودون شاغلين الإعلام والرأي العام بأخبارهم، ولم يحسبوا لظلمة المحيط حسابها، وما يولده مِن الضغط الهائل تحت الماء.

بطبيعة الحال لا تستحق النظرة لحطام سفينة، في أعماق البحار، خطورة المغامرة، وصرف هذا المال، لولا الأساطير التي أحيطت بتايتانيك الأُمّ، والفيلم الذي هزّ عالم السّينما، وإلا كم سفينةٍ غرقت وغطى الماء الهائل حطامها؟ وكم غواصة رقدت بطاقمها تحت الماء، ولم يُشد الرّحال لرؤية أو استكشاف آثارها، مثلما حصل لتايتانيك. ما يجمع ركاب «تايتن» الغنى وحبّ المغامرة، مع أنّ حطام تايتانيك قد اكتشف وانتهت المفاجأة في حينها، فماذا يريد المغامرون اكتشافه وتقديمه للبشريّة؟!

وهم: رجل الأعمال البريطاني هامش هاردينغ، ورجل الأعمال الباكستاني شاهزاده داود وولده سليمان، الذي عمره تسعة عشر ربيعاً، ورجل الأعمال الأميركي ستوكشون راش، والمستكشف الفرنسيّ بول هنري نارجوليه، ويغلب على الظّن أن الأخير مثل جانب الاطمئنان لعودة الغواصة سالمة، لأنّ هذه الرّحلة السابعة، التي انتهى فيها، إلى المكان نفسه، فلو كان شاهزاده داود لديه شعرة مِن الشّك ما حمل معه وريثه سليمان.

أتيت أثناء الجدل، مع مَن اعتبر المغامرة ترف أهل المال، بمثال مغامرة عباس بن فرناس التَّاكرنيّ (تـ: 274هج)، لم يكن صاحب مالٍ، لكنه كان صاحب هدفٍ، الحلم الذي كلفه الاتهام بالزَّندقة والجنون، لكثرة فنونه والأدوات التي ابتدعها، فقد اخترع صناعة الزجاج مِن الحِجارة، وأداة تضبط له أوقات الصَّلاة، ثم الطيران «عمل له جناحين، وكسا جسمه بالرِّيش»(القُرطبيّ، المُقتبس مِن أبناء أهل الأندلس)، ولما سقط قيل: «يَطمُ على العنقاء في طيرانها/ إذا ما كسا جثمانه ريشُ قَشعمِ»(ابن سعيد، المُغرب في حلى المغرب)، والقشعم مِن أسماء النّسور. غير أن جنون ابن فرناس كان فنوناً، ورغبةً في تحقيق ما كان قد بلغه عقله، لكنّ الزَّمن ليس زمن اختراع الطَّائرة، فتأجل تحقيق الحلم إلى أكثر مِن ألف عام.

أقول: ماذا كان الفن الذي أراد بلوغه ضحايا «تاتين»، ولم يحسبوا للمغامرة هولها، وهم يدخلون في عماء الماء المظلم؟ هل هناك ما يريدون اكتشافه، أو الوصول إلى اختراع شيء لم يُخترع بعد، مثل الذين يتوقون السّفر إلى الكواكب، للنفاذ خارج الأرض إذا ما ضاقت بالبشر مثلاً! أما ركوب الأهوال لمجرد النّظر لحطام سفينة، فهذا ما أشعل الجدل. وجدت تايتانيك وضحاياها مِن يرثيها ويرثيهم، مع قلة الاتصال بين بقاع الأرض آنذاك، ولم تجد «تاتين» سوى الذُّهول بالمغامرة، وكأنها كانت خُرافةً.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

هل تعيد الأحداث الجارية في فرنسا البلاد إلى روح تجربة الثورة الفرنسية من خلال ثورة جديدة أخذت تتجلى في الوقت الراهن، كردة فعل ضد إجراءات وقوانين جائرة أصدرتها دولة يحكمها اليبراليون الجدد، الذين خالفوا مبادئ الثورة الفرنسة، وذلك من خلال سن قوانين هجينة تتجاوز مضمون تلك المبادئ حتى تبرر لقيم العنصرية بذريعة مقاومة الإرهاب وإعادة تفسير الظلم وحقوق الإنسان والحريات.. ناهيك عن التلاعب بمستحقات الشعب الفرنسي وخفص مستواه المعيشي لمواجهة التضخم والتعامل مع الأقليات العرقية والدينية كمجاميع طارئة، رغم دورها الأساسي في التنمية الفرنسية المستدامة من باب المواطنة والانتماء.

من هنا يمكن القول بأن فرنسا في أزمة تشريعية فكرية واقتصادية من الصعب تجاوزها بارتجال القوانين دون معالجة الأسباب الحقيقة والتعامل معها بشجاعة وموضوعية.

وكان الأولى بفرنسا الاعتراف بأن للأزمة الراهنة في فرنسا جذور تاريخية من خلال ممارسة التهميش للفرنسيين من أصول أفريقية، وخاصة حاملي الهوية الدينية الإسلامية، والتعامل معهم وفق مفهوم "الإسلامفوبيا" المرتبط جوهرياً بقانون الإرهاب، خلافاً لقوانين معاداة السامية وحماية المثليين.

فالتاريخ البعيد القريب يقرّ دون مجال للشك بالدور الفرنسي الاستعماري في نهب ثروات مستعمراتها في أفريقيا، التي تُعَدُّ منبعاً للهجرات غير الشرعية إليها، وما نجم عن ذلك من ظلم وفقر واضطهاد.. على نحو ما حصل إبان ثورة تحرير الجزائر (1954-1962) التي لقبت من جرّائها ببلد المليون شهيد.

مع أن فرنسا لا تنكر احياناً دور أولئك المهاجرين في الدفاع عن فرنسا إبان الغزو النازي وإسهاماتهم المشهودة في البناء؛ لكنهم ظلوا في عين اليمين الفرنسي فئة غير أصيلة لا بد من اجتثتثها.

وهذا يفسر ما يجري الان في فرنسا من أحداث عصيبة واحتجاجات تجاوزت في اسبابها مقتل الشاب الفرنسي نائل وهو من أصول جزائرية، على يد شرطي فرنسي، بعد تنبيهه لمرتين، أعقبهما إطلاق النار عليه بدم بارد، متذرعاً بتطبيق القانون.

حدث ذلك في مشهد انتشر كالنار في الهشيم عبر الفضاء الرقمي واضعاً الدولة الفرنسية برمتها على المحك.

ما يحدث الآن في فرنسا أحرج موقفها في مجال حقوق الإنسان.

إذ حث مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الحكومة الفرنسية يوم الجمعة الماضية، على "معالجة جدية للمشاكل العميقة للعنصرية والتمييز في إنفاذ القانون".

وقالت مفوضة حقوق الإنسان في مجلس أوروبا، دنيا مياتوفيتش، إن أعمال العنف المتفرقة لبعض المتظاهرين أو أفعالا أخرى مُدانة ارتكبها آخرون خلال التظاهرات، لا تبرر الاستخدام المفرط للقوة من قبل عناصر تابعة للدولة.

وقد أدينت فرنسا من قبل رئيس رابطة حقوق الإنسان باتريك بودوان، ومنظمة هيومن رايتس ووتش وهذا من شانه أن يضر بسمعة فرنسا التي ارتبط اسمها بحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان وفق مبادئ الثورة الفرنسية.

والغريب في الأمر أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تجاوز عمق الأزمة المدمرة للبلاد وما رافقها من عنف شبابي لافت، معزياً أسبابها- فقط- إلى إدمان الشباب على ألعاب الفيديو التي ساهمت في ترسيخ العنف في العقول والتحريض على ممارسته، دون وعيٍّ منهم لمخاطره على النفس والمجتمع.

كما درج ماكرون -وفق ما يرى مراقبون على مدار أعوام خلت- على الاستخفاف بالقضايا التي دأبت على تثوير الشارع الفرنسي، على نحو ارتفاع معدل المعيشة بسبب التضخم الناجم عن توريط البلاد في الحرب الأوكرانية، وقوانين الضمان الاجتماعي الجديدة التي رفعت من عمر التقاعد، وأزمة البطالة التي عزاها ماكرون إلى تكاسل الشباب في البحث عن فرص العمل التي قال بأنها متوفرة، ما ثوّر اليسار الفرنسي عليه.

وفي سياق ذلك قالت ماتيلد بانو النائبة عن حزب فرنسا الأبية اليساري المتشدد، إن "ماكرون أصبح صورة كاريكاتورية لماكرون".

وكأنها تشير إلى عجزه عن اجتراح الحلول، والدوران نمطياً حول نفسه دون أن يفكر خارج الصندوق.

لا بل اعتبرت النائبة بانو أنه "بإظهار ماكرون هذا الازدراء للناس، فإن الشخص الوحيد الذي نأمل أن يكون عاطلاً عن العمل هو إيمانويل ماكرون نفسه".

وهذه دعوة مبطنة ساخرة لإسقاطه في الانتخابات المقبلة.

وفي وقت سابق هذا العام، اتهم وزير الداخلية جيرالد دارمانان اليسار المتشدد بالرغبة في "مجتمع من دون جهد" والدفاع عن "الحق في الكسل".

وهذا استخفاف من قبل الحكومة الفرنسية بأسباب الأزمة المستفحلة في فرنسا، مما سيصعب على أصحاب القرار اتخاذ ما يلزم بشانها، لا بل من شأن ذلك أيضاً تسجيل بعض النقاط لصالح اليسار الذي يسعى لتجيير الأزمة لصالحة، مزاحماً في ذلك اليمين الفرنسي الذي يُحَمّلُ سياسة ماكرون تبعاتها.

ولكن الطامة الكبرى تتمثل بتحذيرات وزير العدل الفرنسي إريك دوبوند موريتي للفرنسيين مهدداً:

"أقول للمحرضين في مواقع التواصل الاجتماعي إننا سنصل إليكم".

محذراً الأسر الفرنسية من مغبة سماحها لأبنائها بالخروج ليلاً من البيوت؛ بغية التفاعل مع الأحداث، منذراً باعتقال كل من يقبض عليه بالجرم المشهود من المشاركين في الأحداث وأولياء أمورهم، في سابقة فرنسية غير مشهودة، وتخالف مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكأن فرنسا باتت من جمهوريات الموز التي اغرقت البحر الكاريبي بالدماء.

فكيف تقوم الأسرة بالدور المنوط بها في ظل قوانين جائرة تهمش دورها التربوي!

بحيث يعتمد هذا التهميش على إعادة تفسير معنى "الأسرة" بمضمونها التربوي ودورها في التكاثر الطبيعي، واستهدافها بالتفكيك المبرمج ومن ثم إغراقها بالأزمات التي تساعد على ذلك، على نحو سن قوانين حداثية تنتهك الظروف المعيشية المتميزة للمواطن الفرنسي تحت شعار مواجهة التضخم، الذي بات كما يبدو مزمناً، ما أثر سلبياُ على تماسك الأسرة، وقد رافق ذلك ما نجم من أزمات أسرية تجاوزتها القوانين بغية بناء إنسان فرنسي مبرمج على الطاعة العمياء والسطحية الخالية من الأسئلة العاصفة البناءة، وكأن المجتمع بات يحتوي على تقاسم نوعي بشريِّ جديد تتراوح عناصره الأربعة ما بين: الذكر، والأنثى، والمثليّ، والإنسان(الريبوت) الآلي.

فيقوم هذا التقاسم غير الطبيعي على إعادة تعريف مفهوم الحريات العامة من خلال التحرر من كل القيود الاجتماعية والدينية وتسطيح العقل الفرنسي، لا بل والغربي برمته! بالانقلاب على الثوابت العلمية والدينية التي تغذي الإسرة بمعطيات البقاء والتأثير الإيجابي والتي تستكمل المؤسسات التعليمية التربوية رسالتَها؛ لتقبل المتغيرات الشاذة التي حولتها السياسات التربوية الغربية إلى واقع مستدام فصار من الطبيعي قيام جامعة عريقة بريطانية، مثل أوكسفورد التي تضاهي السوربون في المكانة، باستقبال نجمة الأفلام الإباحية مايا خليفة لتلقي محاضرة في الطلاب من نفس المنبر الذي شهد محاضرات قدمها أشهر خريجيها من امثال: ماريغريت تاتشر، وليستر بيرسون، وديفيد كميرون، وتوني بلير، ووليان جوندينغ.. وغيرهم من رجال العلم والسياسة!

نعم الأسرة التي يُحَمِّلُها وزير العدل الفرنسي تبعات الأزمة هي نفسها المستهدفة أيضاً من خلال دعم القوانين الفرنسية -كسائر الدول الغربية- دعم المثلية والتزاوج الشاذ لبناء أسر فارغة المحتوى، بهدف ضرب الأسرة التقليدية الطبيعية التي تعتبر نواة المجتمع المستهدف من قبل الليبراليين الجدد.

فهل يستقيم العتب والتجني على أسرة مكبلة بالقيود؟

لذلك فقبل تحميل أولياء الأمور مسؤولية الاحتجاجات الأخيرة وما نجم عنها، لا بد من إجراءات إصلاحية جذرية تساعد على بناء الأسرة لا هدمها.. ما يعني بأن الكرة باتت في ملعب وزير العدل الذي خاطب الجماهير الفرنسية كقائد عسكري تحركه الشهوة إلى الانتقام.. في تصعيد يتوافق مع العقلية الأمنية الفرنسية التي تتصدى للاحتجاجات بالحديد والنار ما جعلها تستفحل وتمعن تخريباً في البلاد.

لذلك لجأت قوات الأمن الفرنسي إلى الاستعانة بخبرات أعتى أنظمة الفصل العنصري في العالم، "إسرائيل" التي اكتسبت خبرتها من خلال الاحتلال وارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين منذ ثمانية وأربعين حتى هجوم جنين الأخير دون رادع أممي.

وما بين الاستخفاف الرئاسي بالأزمة ومحاولة التصغير من دوائرها المنداحة، إلى جانب تلك العقلية الأمنية التصعيدية، تقف فرنسا وتاريخها على المحك في أحوال تذكر الفرنسيين بالأسباب التي فجرت الثورة الفرنسية الكبرى أواخر القرن 18، التي غيرت العقل الأوروبي عبر قرون خلت، وما زالت مبادئها تتفاعل في العقل الغربي إلى أن جاء من يسعى لطيّ صفحتا إلى الأبد! من خلال الليبرالية الجديدة وتمدد نتائجها تدريجياً في عموم القارة العجوز.

***

بقلم: بكر السباتين

4 يوليو 2023

هل أصبح ملف المصالحة في ليبيا مجرد ذريعة للتدخل في ليبيا؟ وأن التأكيد من بعض الأطراف الدولية المتدخلة في ليبيا على ضرورة تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة قبل كل شي،محض مبالغة في تهويل الأزمة في ليبيا لأغراض متعددة؟ وان قضية المصالحة على أرض الواقع لم تعد بتلك الأهمية؟ حيث أن أغلب واهم شروط هذه المصالحة قد تحقق على أرض الواقع.. فقضية تاورغاء واهلها شبه محلولة، لأن أهل تاورغاء رجعوا إلى منطقتهم، وأصبحت العلاقة شبه طبيعية بين المدينتين الجارتين مصراتة وتاورغاء، وهاهي مصراتة اليوم تنخرط بقوة في إعمار تاورغاء ومساعدتها على النهوض، وكذلك الحال فإن العلاقة بين بني وليد ومصرتة. أصبحت شبه طبيعية، وعاد التواصل بين سكان المدينتين الجارتين على مختلف المستويات بشكل ملحوظ، وكذلك حلت الكثير من الأزمات العالقة بين الزنتان والمشاشية، ورجع أهل مدينة العوينية إلى منطقتهم وهاهي عجلة البناءوالحياة تدور هناك، وأيضا فقد حل الكثير من الوئام بين قبيلتي أولاد سليمان والقذاذفة في الجنوب الليبي،فقط فإن الأزمة في مرزق مازالت عالقة، رغم رجوع بعض السكان، وبالرغم من بوادر الحلول، حيث أنه حسب ماوردنا، فإن أغلب عقلاء التبو ليست لديهم مشكلة في عودة مهجري مرزق، وأن بعض التدخلات الخارجية والداخلية مازالت تنفخ في رماد هذه القضية،ومن بعض الأشخاص المستفيدين ولمصلحتهم الخاصة في بقاء الأمر على ماهو عليه، خاصة وأن الكثير من أهل التبو عانوا من نزوح أهل مرزق، من حيث مسألة تعليم أبنائهم، خاصةً  وأن أغلب كوادر التعليم هم من أهالي مرزق، أما عن مهجري بنغازي فالكثير منهم أعادوا إكتشاف أنفسهم، من حيث أن أغلبهم يمارسون التجارة وريادة الأعمال في مناطق غرب البلاد وغيرها، وازدهرت أحوالهم، ويساهمون في تحريك عجلة الاقتصاد في غرب البلاد خصوصاً، رغم أنه لاشئ يغني عن مسقط الراس من الناحية الاجتماعية على الأقل، والحال كذلك فإنالمتبقي فقط من المصالحة الوطنية الليبية المتحققة بشكل كبير على الأرض هو؛ شرط واحد يتمثل في تجسيد العدالة الانتقالية وجبر الضرر ... بناءاً على كل هذه المجريات نستخلص التالي:

اولا/ إن قضية المصالحة في ليبيا هي بشكل أساسي تتعلق بالجانب الاجتماعي والصدوع التي أحدثتها مجريات مابعد عام 2011فيه، هذه الصدوع والشروخ التي بدأت تلتئم تباعا، ولقد أثبتت أحداث التاريخ الليبي، أن الليبيون على مر تاريخهم قادرون على تجاوز صراعاتهم ونزاعاتهم مهما إشتدت وإحتدت، بفضل مرجعياتهم المتمثلة في كبارهم وحكمائهم وشيوخهم وأعيانهم، وهو ماظل مستمراً حتى اليوم، حيث لم تفلح المحن والفتن في تمزيق هذا الرباط الاجتماعي رغم ضراوة دورات العنف المتعاقبة في العشرية الماضية.

ثانياً/ إن هذه القبلية النشطة في العقود الأربعة الماضية رغم أنها تعطل مايسمى بالمجتمع المدني المتحرر من الولاءات الاجتماعية الضيقة، ومفاهيم دولة المواطنة والتزاماتها وحقوقها العادلة، أظهرت هذه القبلية أن لها جانباً إيجابيا أيضاً، وهو أنها زادت من مناعة هذا الرباط الاجتماعي القوي، حيث أنها أوقفت تمدد الإرهاب وساهمت في إسقاط مشروعه في ليبيا، كذلك ساهمت اليوم في التاسيس للمصالحة.

ثالثا/ كذلك فإن الليبيون تخلصوا من ذلك التنابز والتنازع الحدي والصارم بين من يؤيد التغيير ومن يعارضه، وأصبح هناك نوع من التعايش بين أنصار الراية الخضراء وأنصار راية الإستقلال في أغلب مناطق ليبيا، ووصل الأمر إلى تحويل الأمر إلى مادة للطرافة والتندر، إلى جانب أن الكثير من الليبيين أدركوا أن المستهدف الأكبر من الاحداث كلها هو، ليبيا وثرواتها وليس مجرد نظام سابق أو نظام يأتي على أنقاضه.

***

د.أبوبكر خليفة أبوبكر

كاتب راي وباحث وأكاديمي ليبي

تصريحات نائب وزير الخارجية البريطاني، ليو دوكرتي، بأن بلاده وحلفاءها الغربيين عاجزون حتى اللحظة عن إيجاد وسيلة قانونية لمصادرة الأصول الروسية المجمدة بشكل دائم لاستخدامها في إعادة إعمار أوكرانيا، يعكس حالة الحرج واليأس لدى بريطانيا والغرب والولايات المتحدة في إيجاد حتى الآن حلا قانونيا موثوقا لتنفيذ الالتزام باستخدام الأصول الروسية لصالح أوكرانيا على المستوى المناسب، بالرغم من تقديمهم عددا من مشاريع القوانين للنظر فيها، وحتى تم اعتماد بعضها، فالهدف كما يقول دوكرتي " هو العثور على مسار قانوني عملي لإعادة توجيه الأصول الروسية إلى أوكرانيا"، حيث تلفت بريطانيا الى انها تدرس "جميع السبل الممكنة" لمصادرة الأصول الروسية المجمدة، وأن هذه العملية تتطلب إبداعا ونهجا مبتكرا لتحقيق المراد .

فمنذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، أدرجت بريطانيا أكثر من 1500 فرد ومؤسسة ومنظمة روسية ضمن قائمتها السوداء، كما جمدت أكثر من 18 مليار جنيه استرليني (23 مليار دولار) من أصولهم، وفي 19 يونيو، قدمت وزارة الخارجية البريطانية مشروع قانون جديد يسمح بالإبقاء على العقوبات ضد روسيا حتى تدفع موسكو تعويضات إلى كييف، في حين بحث مجلس العموم البريطاني، مبادرة مقدمة من قبل حزب العمال المعارض، باستخدام الأصول الروسية المجمدة لإعادة إعمار أوكرانيا عقب انتهاء الصراع، حيث ترفض بريطانيا وكما ذكرت صحيفة "ذا غارديان" تحمل التزامات بشأن مصادرة أموال البنك المركزي الروسي الموجودة في بريطانيا، خشية إنشاء سابقة تعطل النظام المالي الدولي وتثير إجراءات ردع بحق بريطانيا، وتشير الصحيفة، إلى أن الاستراتيجية التي تصبح أكثر شعبية في الغرب تقضي بأن الدول الغربية ستحتجز الأصول الروسية حتى توافق موسكو على تعويض أوكرانيا بدلا من مصادرتها نهائيا.

بدورها فإن دول في الاتحاد الأوروبي ، طالبت المفوضية الأوروبية بتأجيل مقترحاتها لسبل التصرّف بالأصول الروسية المجمدة في دول الاتحاد بموجب العقوبات الغربية، وأفادت صحيفة "فاينانشيال تايمز"، أن عددا من الدول الأوروبية تقترح أن تنتظر المفوضية الأوروبية، لتقديم مقترحاتها بشأن استخدام عائدات الأصول الروسية المجمدة، لما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من مشكلات قانونية ومالية، فضلا عن تقويض ثقة الدول الأجنبية في سلامة الأصول المخزنة في أوروبا، وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في وقت سابق إن المفوضية ستقدم اقتراحا، قبل العطلة الصيفية، بشأن استخدام عائدات الأصول الروسية المجمدة لتمويل أوكرانيا.

ووعدت المفوضية الأوروبية على مدار أسابيع بمقترحات مفصلة حول كيفية إعادة توجيه الإيرادات لدعم تعافي أوكرانيا، إلا أن هذه الخطوة تحمل في طياتها مشكلات قانونية ومالية، فيما تضغط بعض العواصم بشكل خاص على المفوضية لتعليق مقترحاتها، ونقل عن مصادر مطلعة، أن البنك المركزي الأوروبي حذر المفوضية الأوروبية ، من إعادة توجيه المدفوعات على سندات البنك المركزي الروسي لمساعدة أوكرانيا، لأن هذا سوف يقوض الثقة في اليورو كعملة عالمية، وتشير صحيفة " الفايننشال تايمز " إلى أن دول الاتحاد الأوروبي منقسمة بشدة حول هذه القضية، حيث يخشون من أن الاقتراح الجذري يمكن أن يقوض ثقة الدول الأجنبية في أمن الأصول الموجودة في أوروبا، وصرح مسؤول ألماني بأن بعض الدول الأجنبية يمكن أن تخفض احتياطياتها باليورو خوفا من العقوبات، كما نقل عن مسؤول أوروبي لم يذكر اسمه قوله إن "هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به لإقناع الدول الأعضاء".

من جانبه، يرى الكرملين بأن تبني مثل هذه القرارات "سيكون خطوة أخرى على طريق انتهاك كافة قواعد وأعراف القانون الدولي"، وأن موسكو "ستبحث في السبل لمحاربة ذلك"، وعلى الرغم من التصريحات المتكررة من قبل المفوضية الأوروبية حول إمكانية استخدام الأصول الروسية المجمدة لاحتياجات إعادة إعمار أوكرانيا، إلا أنه لا يوجد حتى الآن أي أساس تشريعي لمثل هذه الإجراءات في الاتحاد الأوروبي، في حين وصفت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا تجميد الأصول الروسية في أوروبا بـ "السرقة"، مشيرة إلى أن دول الاتحاد الأوروبي لا تستهدف الأموال الخاصة فحسب، وإنما أصول الدولة الروسية أيضا ، وحذرت بالفعل من اتخاذ إجراءات انتقامية في حالة مصادرة الأصول الروسية في الاتحاد الأوروبي.

وكما هو معروف فقد تم الاستيلاء على حوالي 300 مليار دولار منذ بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة، ة في أوروبا القديمة، بعد ذلك، قرر الغرب معرفة كيفية سحبها "قانونياً" ونقلها إلى نظام زيلينسكي، حتى لا تتأثر ضمانات حرمة الودائع، والآن استمرت قصة احتياطيات الذهب والعملات الأجنبية المجمدة، لدى روسيا ما تجيب عليه، " على الغرب أن يدفع ، فإذا سلبت أموالهم من الروس، فلن يخاطر الشركاء الرئيسيون الآخرون بالاستمرار في تخزين الأصول في الغرب، مدركين أنه يمكنهم فعل الشيء نفسه معهم، وهكذا أبلغ رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك العالم بالخطة التي يمكن من خلالها سرقة الأموال الروسية بطريقة "حضارية "، بانه يجب على روسيا أن تدفع ثمن تدمير أوكرانيا، لذلك " نحن نعمل على مشروع يسمح باستخدام الأصول الروسية المجمدة.

وبهذه الكلمات من البريطاني، كانت "النخبة المدعومة" الأوكرانية، التي اعتادت التجول حول العالم بأيدي ممدودة، سعيدة للغاية، فقد قال المستشار الاقتصادي لزيلينسكي أوليغ أوستينكو ، ودون تردد أن كييف ستكون المستفيدة من السرقة الغربية، وأضاف "نحن لا ندفع قروضنا الآن، لكن لا تنسوا أن 350 مليار دولار من احتياطياتهم (الروس) من الذهب والعملات الأجنبية و 150 مليار من أموال تسمياتهم قد تم حجزها من روسيا " وان لدى أوكرانيا ديون أقل بعشرة أضعاف، ويمكن استخدام بعضها، وبالتالي سينمو الاقتصاد الأوكراني ، وسيأتي المستثمرون، وتغطية الديون بجزء مما يأخذ من روسيا.

رجال الأعمال الغربيين، ليسوا راضين عن تلاعبات ساستهم، فبعد كل شيء، ردت روسيا بشكل متناسب على مثل هذا الفوضى الإجرامية بـ "شكل بمليارات الدولارات"، فقد منع البنك المركزي المستثمرين الأجانب من سحب الأموال من نظام روسيا المالي، وبحسب بعض التقديرات فإن الحديث يدور عن أكثر من 500 مليار دولار، وأعرب المحلل المالي ألكسندر رازوفاييف عن رأي مفاده أن مصير احتياطيات روسيا من الذهب والعملات الأجنبية لم يتحدد بشكل نهائي، وتجري مفاوضات سرية بشأنها، وان المعلومات الواردة من الغرب متناقضة، على سبيل المثال، قالت بلومبيرغ، إنه لا توجد أسس قانونية لتحويل الأموال إلى روسيا إلى أوكرانيا.

وبالطبع، قد تكون بعض هذه الأموال لغير المقيمين روسية، ولكن حتى في هذه الحالة، فإن التقدير التقريبي للأموال المحجوبة لغير المقيمين من الدول غير الصديقة سيكون في حدود 300 مليار دولار، لكن هناك أيضًا اعتبارات أكثر جرأة، ووفقًا لخبراء الاقتصاد، يبلغ إجمالي أصول المستثمرين الأجانب في مختلف الأدوات المالية أكثر من 1 تريليون دولار، وقد جمدت الحكومة الروسية حوالي 300 مليار دولار من أصول الدول غير الصديقة، ردًا على إجراءات مماثلة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، ويتذكر ألكسندر أرسكي، الأستاذ المشارك في كلية الاقتصاد بجامعة RUDN. "حاليا، يجري النظر في مسألة التبادل المتبادل للأصول المجمدة، الأمر الذي سيستغرق وقتا طويل .

لذا فإن لدى روسيا بالتأكيد شيئًا للرد على الأعداء بمصادرة أصولها ، لكن ما إذا كانت القيادة السياسية ستتصرف بهذه الطريقة هو سؤال كبير، فما هو على المحك هو ثقة المستثمرين الأجانب من البلدان الصديقة والمحايدة الذين يستثمرون في الاقتصاد الروسي ويراقبون عن كثب مسار الصراع، وبشكل عام، في حالة التحويل الحقيقي للأموال الروسية إلى الجانب الأوكراني، ستواجه السلطة الروسية خيارًا صعبًا للغاية.

***

بقلم: الدكتور كريم المظفر

حول قراءة جديدة لمفهوم الحرية في الإعلان العالمي لحقوق الانسان

السيد انطونيو غوتيريش - الامين العام للأمم المتحدة - المحترم

في وقت تتعرض فيه البشرية حول العالم الى مشاكل ومخاطر بسبب الحروب والسياسات والأوبئة والأزمات الإقتصادية والمخاوف التي تنتظر مستقبل الحياة على الارض المتعلقة بالمناخ والبيئة على وفق رؤى مستقبلية لمعنيين بهذا الشأن، فإن من حق الإنسانية علينا جميعاً ان نتحرك ونعمل معاً من أجل حماية استقرار واستمرار الحياة على الأرض، وان من اهم شروط هذا الإستقرار والإستمرار هو حفظ حالة التوازن في شخصية المواطن حول العالم في جوانبها الأخلاقية والنفسية والعقلية والسلوكية، وحيث ان المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تتيح حرية الرأي والتعبير في نصّها :" لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حرية إعتناق الآراء دون أي تدخل، وإستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية "، فقد استخدمت هذه الصيغة لمفهوم الحرية من قبل البعض بشكل الحق أذى كبيراً في نفوس أعداد كبيرة من الناس حول العالم كان ابرزها الإساءات المتكررة لشخص نبي الله الخاتم محمد صلى الله عليه وآله، وللكتاب المقدس "القرآن"، فإنني ادعوكم من منطلق النزعة الإنسانية المتأصلة في طبيعة التكوين البشري والمسؤولة عن تحفيز رغبة التواصل والإتحاد بين الناس ولكي تؤدي هذا الغرض فإنها تحتاج الى إظهار قيمة الإنسان وكرامته، لذلك ادعوكم الى إعادة قراءة المادة (19) قراءة جديدة تأخذ بعين الإعتبار طبيعة المجتمعات الإنسانية في ظروف النظام العالمي اليوم للعمل على إنقاذ النزعة الإنسانية من محاولات جرّها الى الأنانية التي تبعد الإنسان عن مركزيته في الأرض وحقه في حرية التعبير والرأي من دون اعتداء أو استهزاء أو استخفاف أو طعن أو تشويه في آراء وأفكار ومعتقدات الآخرين ..

***

د. عدي عدنان البلداوي

أكتب هذه السطور استدراكاً على فكرة لصديقي الأستاذ عثمان العمير، فكرة هي أشبه بالنبوءة عند بعض الناس، وهي ترتيب منطقي للحوادث عند آخرين. في أوائل مايو (أيار) المنصرم كتب العمير معلقاً على تصريحات قائد ميليشيا فاغنر، يفغيني بريغوجين، التي انتقد فيها وزارة الدفاع الروسية. وتساءل: هل يفضي هذا إلى مشهد شبيه بما جرى في السودان، أي تمرد الميليشيا على حكومة موسكو؟.

وهو ما جرى فعلاً في الأسبوع الماضي، وفاجأ الجميع.

المحللون الذين تابعوا الحدثين الروسي والسوداني، ركزوا على ثنائية القوة العسكرية. فهم يعتقدون أن وجود قوى مسلحة خارج إطار الجيش، سيفضي - طال الزمن أم قصر - إلى صراع بين القوتين. هذا تحليل يسنده تنظير علمي متين، فضلاً عن التجارب الواقعية المتكررة.

لكنني أود النظر إلى زاوية أخرى، هي حاجة كل بلد لما يسمى في الفلسفة السياسية «المجال العام» الذي يسهم في تحييد القوى المسلحة ومنعها من القفز على السلطة، أو الانخراط في الصراعات السياسية الأهلية.

لا بد من القول ابتداء إن نقاشاً كهذا، يفترض توافر سياق اجتماعي وثقافة سياسية ونظام علاقات، لا تتوافر عادة في المجتمعات التقليدية. ولهذا فقد يكون النقاش غير ذي صلة بالأوضاع التي نناقشها. لكنني مع ذلك أرى أن طرح الموضوع سيستثير السؤال البديهي: لماذا نجح الآخرون في الوصول إلى هذه النقطة، ولماذا أخفقنا في ذلك؟. إن تفكيرنا في هذا السؤال سيحملنا خطوة إلى الأمام. وهذا بذاته جزء من عملية التطور التي نتمناها في مجتمعاتنا.

المجال العام هو الفضاء الذي يتيح للناس مواجهة بعضهم، ليتشاركوا في الرأي أو يختلفوا من دون جبر ولا خديعة. إن السمة الأولى التي تسمح بقيام هذا الفضاء المشترك وانسياب التعاملات فيه، هي عدم انفراد أي جهة أهلية بقوة فائقة أو سلطة مادية أو معنوية، تمكنها من إقصاء الأطراف التي تتبنى رأياً أو مصلحة مخالفة للبقية.

وفقاً لرأي الفيلسوف المعاصر يورغن هابرماس، فإن المجال العام هو الرحم الطبيعي لما نسميه اليوم «الرأي العام» الذي ينمو ويتبلور في سياق التبادل المتواصل للأفكار والآراء بين المواطنين، حول القضايا العامة، بما فيها تلك القضايا الخاصة التي يرى بعضهم أن لها بعداً عاماً، أو أنها تؤثر على المصالح المشتركة. لا يستطيع المواطنون جميعاً ممارسة السلطة.

وليس من الحكمة أن يفعلوا. لكن من المهم أن يشاركوا بالرأي في القضايا التي تؤثر عليهم، أو التي يكون أشخاصهم أو مصالحهم جزءا من موضوعها.

دعنا نتخيل أن هذا المجال كان موجوداً في روسيا، فهل كان بوسع الرئيس بوتين أن يشن الحرب على أوكرانيا، من دون أن تسمع مليون صوت محتج؟. أو لنذهب إلى الجنوب، إلى الخرطوم التي انتفضت فمهدت الطريق للإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير.

أما كانت تستطيع فعل الشيء نفسه مع الذين أمسكوا بالزمام بعده؟ ولو حصل هذا فهل كانت البلاد تنزلق إلى الحرب الأهلية التي نقترب منها اليوم؟. بل لو ذهبنا مسافة أبعد زمنياً: هل كان صدام حسين سيغزو إيران ثم الكويت، لو كان المجتمع قادراً على الاعتراض العلني على قرار كارثي كهذا؟.

هذه الأمثلة كلها تشير إلى مواقف ضرورية من حروب كارثية. لكنني أريد الإشارة أيضاً إلى أن كل مجتمع يحوي العديد من أصحاب الأفكار والكفاءات والأشخاص الذين لديهم رؤية مستقبلية، يمكن أن يكون أحدها أو بعضها مفتاح الباب نحو التحولات التاريخية الكبرى في مجال العلم أو الاقتصاد أو غيرهما.

لا يمكن لهذه الرؤى العظيمة أن تظهر أو تتبلور ما لم يكن ثمة فضاء آمن وسليم يمنح الاحترام اللازم والقيمة المناسبة لكل رأي أو فكرة، سواء كانت عظيمة حقاً أو كانت بسيطة.

***

توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

"أوروبات" جديدة ونظام عالمي قديم

لم تُفلِح زهور اللوتوس؛ التي توسطت طاولة الاجتماعات، بين الرئيس الصيني، ووزير الخارجية الأمريكي، في رأب الصدع، بين واشنطن وبكين. أيضاً، لم يكُن الاختيار الرمزي لوقت الظهيرة؛ يوم الاثنين الماضي، التاسع عشر من يونيو 2023، والذي جمع بين الرئيس شي جين بينغ، والوزير بلينكن، حظ، في إعادة الذاكرة الأمريكية، إلى لقاء الظهيرة السابق، في الرابع عشر من نوفمبر السنة الماضيَّة، بين الرئيسين، شي جين بينغ وبايدن، في بالي الإندونيسيَّة.

الرمزيات التي سيطرت على لقاء بكين وبالي – هنالك المزيد - نجحت فقط، في إقناع الرئيس بايدن، بتوجيه كلمة غير مُحتشِمة دبلوماسياً، باتجاه صدر الرئيس شي جين بينغ: الدكتاتور .

الاتكاء على اللوتوس، الظهيرة، والدكتاتور، لا تصلح لتقدير درجة "فقر الدم" الدبلوماسي؛ الذي أصاب جسد العلاقة الخارجية، بين العاصمتين. الحديث كذلك عن رؤية مُتضاربة بين البلدين؛ فيما يخصُّ النظام العالمي، والتي ما يزال يُعبَّر عنها، باستخدام العلكة الإعلامية الأشهر: نظام أحادي القطُب ومتعدد الأقطاب، لا تعدو كونها رمزيَّة أُخرى، "خالية من المعنى"، على حدِّ تعبير فريدريش ميرز، أحد رؤساء أحزاب المعارضة الألمانية، والتي استخدمها لوصف العقيدة الاستراتيجية لبلاده، المُعلن عنها في الرابع عشر من يونيو 2023، والغارِقة في بحر الصين والمحيط الأطلنطي.

بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، ربّما هي نُقطة الشروع المناسبة، لكي نُقدِّر حجم الرعب الدولي، في حال بقاء بكين وواشنطن، بعيدتين عن "المسؤولية التاريخية"، على حد تعبير الرئيس الصيني، المُلقاة على عاتقهما، في هذه اللحظة من التاريخ الإنساني. ولنبدأ السؤال بدون تأخير: لماذا تُصِّرُ واشنطن على أن تُغلِق بروكسل أبوابها بوجهِ بكين؟

أوروبا، هي الخزنة التاريخيَّة الأشهر لنظام توازن القوى العالمي. هانز. جي. مورغنثاو، العالم السياسي الأمريكي، يرى أن سبك هذه الخزينة، بدأ تأريخُه في القرن التاسع عشر: " شهد القرن الذي بدأ بعام 1815م وانتهى بنشوب الحرب العالمية الأولى، توسعاً متدرجاً للتوازن الأوروبي، متحولاً بذلك إلى نظام عالمي شامل". هكذا عندما نود تفسير المصطلحات اللغوية الجديدة؛ التي سيطرت على فم بروكسل وواشنطن، في تقييم وتحديد دور بكين عالمياً، مثل جُمُل "التخلص من المخاطر" و"فك الارتباط" مع الصين، نجِد أن تلك الجُمُل الصغيرة والبخيلة في التفسير، تُدافِع وببذخٍ مبالغٍ فيه، عن نُسخة نظام توازن القوى (النظام الدولي، أو العالمي، أو سمِّه ما شئت) كما تُريدُه واشنطن وبروكسل بالضرورة الأمريكيَّة.

توازن القوى هذا، كما افترض، دائماً ما كان مصمماً، ولكي يعمل بطريقةٍ مُثلى، على استبعاد أنظمة توازن فرعيَّة، في مناطق أخرى من العالم، كأمريكا الجنوبيَّة. لهذا لم يكُن من الغريب، أن تجاهل الرئيس زيلينسكي، مبادرة الرئيس البرازيلي، لولا دي سيلفا، لحل الأزمة الأوكرانية، على هامش قمة السبع الماضية، في هيروشيما اليابانيَّة، أواخر مايو 2023. أساساً لم يلتقِ به.

هذا النظام، بدأ يميل، منذُ خمسينيات القرن الماضي، وبحسب رؤية مورغنثاو إلى العمل بالشكل التالي: استهلاك التوازنات الداخلية للدول لصالحه، وميلان القوى الكُبرى فيه نحو استغلال الأنظمة المحلية للدول، وعدم قُدرة الدول غير الأوروبية بشكلٍ متزايد، على إصلاح اضطراب توازن القوى في أوروبا.

بكين هنا، تُمثِّلُ "ماهية" آسيا، وهذه "الماهية" باستعارة رؤية الإيديولوجية الماركسيَّة، لا يُمكن الإمساك بطبيعتها، كما نُمسِك بكرسيّ مثلاً. ولا يُمكِن تفسيرُها بـ "الحسابات الرياضيَّة" لواشنطن، في سياساتها الخارجيَّة، على حدِّ تعبير محمد حسنين هيكل، في كتابه (أحاديث في آسيا). لذلك فإنَّ ما قاله الرئيس الصيني، عن النظام الدولي، عند لقاءه الرئيس الأمريكي، في بالي، يستحق ذكرهُ هنا وباختصار: " حماية النظام الدولي الذي تُمثِّلُه الأمم المتحدة في جوهرها والمدعوم بالقانون الدولي. ولا نيَّة لدينا بتغييره".

التفاوت التفسيري لكلام الرئيس الصيني، حتمي، حالما نضعه في سياقات السياسة الدوليَّة، إلَّا إنَّهُ لا يقترح، بحسب المُعطيات المتوفرة، تغيير التوازنات العالميَّة، أو على الأقل، المُساهمة في تسريع عملية التغيير. لكن درهم الوقاية التاريخي، يُعلِّمُنا: إنَّ القوى الصاعِدة دائماً ما تعِدُنا بعدم سقوطِها الحُر، أمام جاذبيَّة مصالحِها!؟

بات علينا إذاً أن نسأل: ما هو الدور الذي تلعبهُ بكين حقيقةً في السياسات الدولية الآن؟

الإجابة المقترحة، تخرجُ من أوروبا أيضاً، برلين تحديداً. كان لافتاً إنَّ الألمان، اختاروا قبل أربعة أيام تقريباً، من زيارة الوزير بلينكن، للعاصمة بكين، وبأربعة أيَّام تقريباً، الإعلان ولأول مرَّة، عن امتلاك عقيدة استراتيجية، ذهبت، إلى أنهم سيركزون أكثر، من الآن فصاعداً، على السياسة الخارجية.

لم تكُن هناك أي رمزيَّة، في اختيار هذا التوقيت، بل شعور ضرورة، مُرتبط بتغيُّر المشهد العالمي، ومصيريَّة الاتفاق مع كُل اللاعبين المؤثرين في المشهد العالمي. بكين التقطت الكرة بسرعة، وقام رئيس وزرائها بزيارة برلين، بالتزامن مع وجود الوزير بلينكن.

المستشار الألماني اولاف شولتز، لم يتواضع مُطلقاً ولم يكُن متقشِفاً في التوضيح، كسياسات بلاده الاقتصادية، في عهد المستشارة السابقة، انجيلا ميركل؛ بل بيَّن وبكامل الأبهة، إنَّ العقيدة الاستراتيجية لبلاده، غيَّرت أوروبا القديمة: "تصميم الأمن الأوروبي قد تغيَّر بشكلٍ جذري". المستشار شولتز، أكَّد أيضاً إنَّ أوروبا المُتغيَّرة هذه، لن تُخرِج رأسها من خيمة الشراكة مع واشنطن. وهكذا يبدو إننا بتنا أمام "أوروبات" بدل أوروبا واحدة!

أعود هنا للاستعانة بمورغنثاو، وإشارته إلى إنَّ توازن القوى الأوروبي، والذي أصبح يمثل نظام توازن القوى في العالم، كان يحتاج أحياناً، إلى توازنات فرعية داخله، عبَّر عنها بـ "أوروبا صغرى داخل أوروبا الكبيرة".

واشنطن وكمثال، تحاول في صراعها مع موسكو بواسطة كييف، أن تخلق أوروبا أمريكية، مكوَّنة من أوروبا الشرقيَّة. هيكل أوروبا الأمريكية هذه، كُنت قد كتبت عنه مقالاً، بعنوان (مصير أوكرانيا بين الانتصار الروسي وولادة "مثلث فايمار" أمريكي)، يُغيَّر الطبيعة الجوهرية للسياسة الألمانية، المُتعلِّقة بروسيا وشرق أوروبا عموماً، وبالتالي كامل التوازنات الأوروبية، الكبيرة منها والصغيرة.

الصين، تحاول حقن النظام العالمي، بمزيد من أنظمة توازن القوى اللاأوروبية، بشكلٍ أساس، والمهجورة من قبل التصميم الأساس لتوازن القوى العالمي. مِثالُ ذلك، ما فعلته بكين دبلوماسياً، في إعادة العلاقات، بين الرياض وطهران. للطرافة التاريخية؛ فإن الانفراج بين البلدين اليوم، كان في الأمس، عقيدة أمريكية، رأت إنَّ قلب التوازن في الشرق الأوسط، يعتمد على الرياض وطهران، لتُستبدل الرياض فيما بعد، في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، بـ "إسرائيل".

رؤية بكين العريضة، إنَّ النظام العالمي، ولكي يعمل توازنُه، بشكلٍ صحيح، بات مُحتاجاً لأنظمة ثانويَّة، سواء أكانت إقليمية، أم توازنات صغرى داخل كُل أكبر. ولهذا تُعلن بكين مراراً وتكراراً، بأن أسلوب سياساتها الخارجيَّة، غير معني بالتحالفات والمحاور، إنّما بالشراكات مع الدول، وقد وضعت تَدَرُّجاً لهذه الشراكات، يبدأ من "علاقة استراتيجية" إلى "علاقة استراتيجية شاملة"، ليخرج الجميع فائزاً، بدون الفوز بكل شيء.

الصدام بين واشنطن وبكين، قد يكون حتمياً، بحسب عالم السياسة، جون ميرشايمر، وهو أمريكي الجنسية أيضاً. الغير حتمي إذا لطَّفنا مفردة الجنون، أن تدعم دول العالم صراعاً، لاختيار شكلٍ قديم من السياسات العالمية!

***

مسار عبد المحسن راضي - كاتب، صحافي وباحث عراقي

تُرى! هل كان انقلاباً فاشلاً خطط له بريغوجين، أم مجرد نقلة موفقة حركها بوتين على رقعة الشطرنج كان من شأنها أن تضع التفسيرات الغربية للموقف في حيص بيص؟

ولفهم ذلك ينبغي الولوج إلى تفاصيل اللعبة البوتينية من خلال حقيقة أن الرئيس الروسي فلادمير بوتين يعتمد في إدارته للحرب الأوكرانية على ثلاثة بيادق خارج إطار المؤسسة العسكرية الروسية وجهازها الاستخباري (جي آر يو) يحركها وفق المطلوب فتؤدي دورها الوظيفي باقتدار، حتى تمثل أذرع بوتين المساندة في الداخل والخارج، وذلك من منطلق تكتيكي ضمن إستراتيجية الحرب الشاملة مع الناتو التي تخوضها أوكرانيا بالوكالة كرأس حربة.

دعونا نتعرف على هذه البيادق، وهي:

أولاً: البيدق الشيشاني متمثلاً برئيس جمهورية الشيشان رمضان قديروف (فتى بوتين المدللل) العضو في اللجنة الاستشارية لمجلس الدولة في الاتحاد الروسي الذي يضم جمهورية الشيشان، وهو من المقربين إلى الرئيس فلاديمير بوتين ويعتبر واحداً من أكثر الشخصيات تفاعلاً مع الكرملين والأشد ولاءً لبوتين.. ويجير له أن في عهده شهدت بلاده ازدهاراً استثنائياً بدعم روسي.

ولشدة ثقة بوتين بقديروف فقد أوعز إليه بأن تحلَّ قواتُهُ مكان جماعة فاغنر التي طُلِبَ منها الانسحاب من خارسون رغم جهودها الملحمية في تحريرها.

لا بل أن قديروف استجاب طائعاً لطلب بوتين في تأمين أهم المرافق العامة في موسكو بثلاثة آلاف مقاتل شيشاني لمواجهة قوات فاغنر بعد إعلان رئيسها الانقلاب على القيصر، فيما سيطرت تلك القوات على جميع المواقع العسكرية الروسية في مدينة روستوف؛ لا بل توجهت أرتال عسكرية مكشوفة من قوات فاغنر نحو العاصمة موسكو دون أن تتعرض لقصف الطيران الروسي، رغم ما قيل بأنه قصف روسي مفتعل تعرضت له بعض مواقع قوات فاغنر دون أن يُحْدِثَ أضراراً بشرية، ناهيك عن الادعاء بسقوط بعض المسيرات الروسية، وهو ما أنكرته موسكو فيما وصف الخصوم المشهدً بالمسرحية الباهتة.

ثانياً: البيدق الحليف متمثلاً برئيس بللاروسيا (روسيا البيضاء) اليكساندر لوكاشينكو الذي قدم فروض الطاعة لبوتين إلى درجة أنه سمح بنشر الأسلحة الروسية النووية التكتيكية على أراضي بلاده.

ولفهم سر العالقة الاستثنائية بين موسكو ومنسك، تجدر الإشارة إلى الوضع الذي أخذ يتغير بشكل ملموس إثر فرض عقوبات من قبل الدول الغربية على بيلاروسيا بسبب أحداث عام 2020، عندما اندلعت احتجاجات في البلاد بعد الانتخابات الرئاسية، دعمت خلالها موسكو -دون تحفظ- الرئيس ألكسندر لوكاشينكو.

وتحسنت العلاقات بين مينسك وموسكو بشكل أكبر بعد بدء الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022، فقدمت بيلاروسيا أراضيها للجيش الروسي، وتشاركت مع روسيا في التعرض للضغوط والعقوبات الغربية، على الرغم من أنها لم تشارك بشكل مباشر في الحرب.

ويبدو أن بللاروسيا مرشحة بقوة لستشهد انطلاق عملية عسكرية روسية محتملة باتجاه العاصمة الأوكرانية، كييف، ما يفسر المهمة التي أنيطت بلوكاشينكو من قبل بوتين بإقناع بريغوجين لإيقاف حركته الانقلابية مقابل ضمان أمنه الشخصي وقبوله كلاجئ سياسي في منسك.. ما دعا البعض لوصف الانقلاب بالخدعة الكبرى كون الشركاء فيها من أشد البيادق ولاءً لبوتين، إذن كيف يستقيم الأمر بالنسبة لبوتين في ظل تعرضه لانقلاب من قبل بريغوجين بإبرام عقد مع الجيش البللاروسي لإعادة بناء قوات فاغنر هناك، مقابل اسقاط الكرملين كافة التهم الجنائية عن بريغوجين!. الأمر الذي أثار زوبعة من الأسئلة المبهمة إزاء ما يدور علناً بين بوتين وطباخه الوفي!

ثالثاً: رئيس قوات شركة فاغنر للأمن، بريغوجين.. الذي كان من أشد البيادق إخلاصاً لبوتين حتى أنه لقب بطباخ الرئيس، وذراعه الخارجي الذي نفذ الأجندة الروسية في سوريا وليبيا ومالي والسودان للسيطرة على موارد الطاقة والذهب دون أن تدان موسكو من قبل مجلس الأمن بذريعة أن فاغنر مجرد شركة أمن عابرة للقارات لا سلطة لموسكو عليها.

وما بين مؤيدي فكرة أنّ الانقلابَ جادُ أو أنها مسرحيةٌ مكشوفة، لا بد من تقدير الدوافع التي ذهبت ببريغوجين نحو إعلانه الانقلاب على بوتين، وذلك على النحو التالي:

- دوافع تكتيكية في حالة الانقلاب المخادع وفق رؤية بوتين لاستغلال خبرات بريغوجين في حرب المدن من خلال إعادة تموضعها في بيلاروسيا، بموجب تعاقد أمني مع الجيش هناك، والمساهمة في أي هجوم روسي محتمل إنطلاقاً من بيلاروسيا باتجاه العاصمة الأوكرانية كييف.. وبالتالي تحويل قوات فاغنر إلى حصان طروادة بعد إعادة بنائها في منسك واستغلالها كرأس حربة في مقدمة أي هجوم روسي منتظر انطلاقاً من الأراضي البيلاروسية.

- دوافع نفسية في حالة جدية الانقلاب، لتحقيق أهداف شخصية بدوافع ثأرية ضد قادة الجيش الروسي الذين جيروا الانتصار الروسي في خارسون لأنفسهم دون منح قوات فاغنر حقها المعنوي والتعامل مع بريغوجين كسجين سابق غير موثوق به.

وذلك راجع كما يبدو لعدة أسباب أولها طبيعة شخصيته وأهدافه الطموحة المتمثلة في الوصول إلى مراكز قرار جد مهمة في هرم السلطة بروسيا، ثم رغبته الكبيرة في رد الاعتبار لنفسه نظرا لأنه كان سجيناً سابقاً ينظر إليه من قبل النخبة بهذا الشكل كما أشرنا غلى ذلك.

وهذا يعزز تفسيرات المراقبين الذين تبنوا فكرة أن الانقلاب الفاشل كان جاداً وقد أخمدته حكمة بوتين وقدرته على ضبط الساعة وفق الرؤية البوتينية وخاصة ما توفر من أسباب عززت من هذا التوجه.

ومن الطبيعي أن هذه البيادق الثلاثة لا تتحرك على هواها بل مضبوطة على ساعة بوتين الذي يتمتع بعقل استخباراتي فذ وقدرة على ضبط النفس وانتاج الخيارات المناسبة في الوقت المناسب.

وكانت مكاسب بوتين جمَّة في كل الأحوال سواء كان الانقلاب مفتعلاً أو جاداً وعلى كافة الصعد، لأنه استطاع توظيف المخرجات لتحقيق أهداف أمنية من خلال تفعيل قانون مقاومة الإرهاب.. ناهيك عن استقدام القوات الشيشانية لحماية العاصمة موسكو بذريعةٍ أمنيةٍ مقنعة.. فيما اختبر بوتين من خلال ذلك ولاءات قادته العسكريين.. كما وهيأ لهجوم محتمل ربما سيأتي من الشمال الأوكراني لاحتلال كييف كما هو متوقع بمساعدة قوات فاغنر فيما لو كان الانقلاب تكتيكاً مخادعاً.. لا بل أن فشل الانقلاب أثبت للخصوم في الداخل والخارج بان بوتين رئيس متوازن يمتلك القوة إلى جانب الحنكة السياسية والقدرة على ضبط النفس، إلا أن ذلك -من جهة أخرى- قد يثير المخاوف الغربية من كونه يمتلك حق الضغط على أزرار الحقيبة النووية فيما لو تعرض الاتحاد الروسي للتفكك القسري.

هكذا حرك بوتين البيادق الثلاثة لحماية خطوته الغامضة نحو ما يعتقد بأنه هجوم روسي محتمل وكبير قد يبدأ في الشتاء القادم.. وإلا فإن الخطوة المقبلة ستكون استخبارية لو صح ما قيل في أن الانقلاب كان جاداً؛ وذلك بوضع حد لحياة رجل ظن بأنه سيهزم القيصر بسهولة!

***

بقلم: بكر السباتين

27 يونيو 2023

كعادتهم فإن اللبنانيين يختلفون على كل شيء فعملية تضخيم أعداد اللبنايين المقيمين في الخارج واحدة من القضايا التي لم ترسوا على بر معين.

البعض يقول أن العدد يتجاوز 14 مليون والبعض الآخر يقول ان العدد حوالي 12 مليون وغيرهم يقول ان العدد حوالي 8 مليون وقس على ذلك حتى تبقى "الطاسة ضائعة".

اللبنانيون المقيمون أنفسهم لا يصارحون ذواتهم بعدد اللبنانيين المقيمين، ولا غرابة بذلك حسب مقولة وقفنا العد الشهيرة،

طبعاً، العد توقف رسمياً منذ آخر إحصاء للسكان في العام 1932، مع أن ذلك لا ينفي معرفة عدد الولادات والوفيات المسجلة في دوائر النفوس وحسب السجل الطائفي الذي يحرص عليه اهل السلطة الدينية والدنيوية لمنع قيام الدولة المدنية والعلمانية، لانها تأتي على مصالحهم وعلى حساب المواطن البائس الذي لا حول ولا قوة له في تقرير مسيرة حياته ومماته إلا من خلال ذلك النظام الذي تحتكره الطوائف والمذاهب.

علماً ان الدول تقوم باحصاء أعداد سكانها من اجل بناء البنى التحتية والمؤسسات التي تؤمن الخدمة العامة للمواطنين وتحسين أوضاعهم..  ولكن على ما يبدو أن لبنان يشذ عن هذه القاعدة.

مناسبة هذا الكلام هو الشق المتعلق بتأثير ودور المغترب في الحياة السياسية اللبنانية وقبل ذلك في بلاد الأغتراب،

في ما يتعلق بالشق الأول تحتفظ الطوائف والاحزاب في بلاد الاغتراب بكل الأرث اللبناني ولا بل تغالي في التطرف في طروحاتها ( بدون تعميم) لان هناك قلة على مستوى الافراد نعم قلة لديها رؤية مختلفة وتحاول الارتقاء بالعمل الى مستويات أفضل.

عند كل مناسبة انتخابية تحرك الأحزاب اللبنانية ماكيناتها الانتخابية باتجاه الأغتراب خصوصاً بعد أن أصبح بإمكان المغتربين الإنتخاب في بلدان الاغتراب بعد آخر تعديل لقانون الانتخاب، والذي ينص على الانتخاب بموجب سجل القيد في القرية أو البلدة أو المدينة التي ولد فيها المغترب أو آباءه أو أجداده إذا كان قد سجل تلك الولادات في البعثات اللبنانية في الخارج.

المؤسف والمضحك في الأمر ان من لا يمارس حقه الانتخابي حيث يقيم يريد ان يقرر من يتولى زمام السلطة التشريعية للمواطنين المقيمين الموزعين أصلاً على إقطاعيات طائفية ومذهبية ومناطقية وعائلية وغيرها.

هنا نأتي على الشق الثاني من الموضوع أي دور المغتربين خصوصاً الدور السياسي في المجتمعات التي يعيشون فيها وسنأخذ أستراليا نموذجاً ولا أعرف إن كان يمكن إسقاط التجربة على باقي المغتربات 100 بالمئة.

في أستراليا تراجع عدد الأشخاص التي تنتمي الى الاحزاب الأسترالية بشكل كبير فعدد المنتمين لحزب العمال عام 2020 كان 60.085 عضواً بينما بلغ أعضاء حزب الاحرار ما بين 50 الى 60 الف من أصل 26 مليون مواطن.

هنا نعود الى موضوعنا كم تبلغ نسبة المنتسبين للأحزاب الاسترالية من أبناء الجالية اللبنانية وما هو دورهم في الحياة السياسية الأسترالية؟

لا يوجد إحصاء يقول بإعداد المنتسبين الى الاحزاب من الخلفيات الأثنية، المعروف انه في أستراليا وحسب نظام وست مينستر الحزبان الكبيران الاحرار والعمال يتناوبان على السلطة، ويتحالف حزب الاحرار مع الحزب الوطني (المعروف بالتحالف) ويعتبر حزب الخضر الاكثر حضوراً في مجلس الشيوخ أقرب الى حزب العمال منه الى التحالف، بالاضافة الى وجود احزاب صغيرة والمستقلين الذين ترتفع وتنخفض اعدادهم في الانتخابات التي تجري كل ثلاث سنوات على المستوى الفيدرالي.

ان تأثير السياسيين والحزبين من الخلفية اللبنانية محدود جداً رغم تضخيم التغطية الاعلامية لمن يصل كأنه يمثل الجالية سواء في الحكومة المحلية او الولاية او الحكومة الفيدرالية، والسبب يعود إلى أن الأعضاء عليهم الإلتزام بالخط الحزبي وعدم الخروج عنه خصوصا في حزب العمال مع وجود هامش صغير عند الاحرار في بعض القضايا، ولكن بشكل عام من لا يريد ان يلتزم بسياسة الحزب عليه او عليها ان يستقيل/ تستقيل من المراكز التنفيذية سواء كان الحزب بالحكم او بالمعارضة.

الملفات للانتباه أن هؤلاء الأشخاص يمثلون أحزابهم في الجالية وليس العكس، حيث تستثمر الاحزاب فيهم لكسب أصوات ابناء الجالية وجمع التبرعات، وهناك الكثير من الأدلة وقد عمدت الاحزاب الى تأسيس ما يعرف بأصدقاء حزب العمال من الجاليات الاثنية ومنها العربية، وأخيرا بدأ حزب الاحرار يتبع نفس النهج، ويعمد الحزبان الى وضع شخص حزبي من تلك الخلفية لتولي قيادة هذه المجموعات ذات النشاطات الفلكورية وحفلات الشواء والتبولة.

أخيراً، قد تبدو الصورة من بعيد براقة لكن الواقع عكس ذلك، ولكن ومما لا شك فيه ان هذه المشاركة ضرورية في حال كانت في الأتجاه الصحيح، وقد تساعد ابناء الجالية في حال المشاركة بالحياة السياسية وفي صنع القرار، خصوصاً في ما يتعلق بالقضايا التي تهم الجالية كجزء من المجتمع الأسترالي العام لأن مشاكلنا في المغتربات لا تنفصل عن مشاكل المجتمع الذي نعيش فيه سواء كانت إقتصادية، إجتماعية، ثقافية وسياسية وغيرها، والباقي لا يقدم اذا لم يؤخر ويدع أبناء الجالية على الهامش، طبعا الا المستفيدين على المستوى الشخصي.

***

عباس علي مراد

أبلغ تعبير قدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال خطابه للشعب الروسي ومناشدته المواطنين، وأفراد القوات المسلحة، ووكالات إنفاذ القانون والخدمات الخاصة، والجنود الذين يصدون اليوم هجمات العدو، الى الوحدة والتكاتف والوقوف صفا واحدا تجاه أي خطوة، تهدف الى زعزعة الامن والاستقرار في البلاد، ووصف ما قام به قائد ميليشيا " فاغنر " يفغيني بريغوزين، ولمصالح شخصية قام بالخيانة والتمرد المسلح، والسيطرة على مدينة رستوف (جنوب موسكو 1000 كلم )، بأنها " طعنة في الظهر "، وقارن الوضع الحالي بعام 1917 - عندما شاركت روسيا في الحرب العالمية الأولى، ثم "سرق" النصر من البلاد، وتحولت المؤامرات والمشاجرات "وراء ظهور الجيش والشعب إلى أكبر صدمة"، وتدمير الجيش وانهيار الدولة، وخسارة مساحات شاسعة، و نتيجة لذلك - الحرب الأهلية،، وشدد بوتين دعوته بالقول " لن ندع هذا يحدث مرة أخرى " .

الرئيس الروسي أكد في خطابه أن بلاده تخوض اليوم معركة شرسة من أجل مستقبلها، وصد عدوان النازيين الجدد وأسيادهم، عملياً، يتم توجيه الآلة العسكرية والاقتصادية والمعلوماتية بأكملها في الغرب ضدها، وقال " نحن نناضل من أجل حياة وسلامة شعبنا، من أجل سيادتنا واستقلالنا. من أجل الحق في أن تكون روسيا وأن تظل دولة لها تاريخ يمتد إلى ألف عام"، مشددا في الوقت نفسه عل إن هذه المعركة التي يتقرر فيها مصير الشعب الروسي تتطلب توحيد جميع القوى والوحدة والتماسك والمسؤولية، وضرورة التخلص من كل ما يضعفه، فإن أي صراع يمكن أن يستخدمه الأعداء الخارجيون لتقويض الشعب من الداخل.

وتلقت القوات المسلحة والوكالات الحكومية الأخرى الأوامر اللازمة، ويجري الآن اتخاذ تدابير إضافية لمكافحة الإرهاب في موسكو ومنطقة موسكو وعدد من المناطق الأخرى، كما سيتم اتخاذ إجراءات حاسمة لتحقيق الاستقرار في روستوف-نا-دونو، " حيث لا يزال الوضع، بحسب رئيس الدولة، صعبًا، وعمل السلطات المدنية والعسكرية معطل في المدينة، " وبصفتي رئيسًا لروسيا والقائد الأعلى للقوات المسلحة، كمواطن روسي، سأفعل كل شيء للدفاع عن البلاد وحماية النظام الدستوري وحياة المواطنين وأمنهم وحريتهم" بحسب تعبير الرئيس بوتين .

اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب (NAC)، أكدت بدورها أن مكتب الأمن الفيدرالي (FSB) فتح قضية جنائية ضد بريغوزين، وفق المادة 279 من القانون الجنائي للاتحاد الروسي ("التمرد المسلح")، ووفقًا لمكتب المدعي العام، يمكن أن يواجه من 12 إلى 20 عامًا، ودعا جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، من جانبه في بيان نشره، مقاتلي شركة فاغنر العسكرية الخاصة إلى عدم ارتكاب خطأ لا يمكن إصلاحه، ووقف أي أعمال عنيفة ضد الشعب الروسي، وعدم تنفيذ أوامر بريغوزين الإجرامية والغادرة، واتخاذ إجراءات لاعتقاله، ووصف الجهاز تصريحات وأفعال بريغوجين بأنها تدعو إلى بدء نزاع أهلي مسلح و "طعنة في ظهر الجيش الروسي".

وفي القانون الجنائي للاتحاد الروسي وفي المادة 279 "تمرد مسلح"، تنص على العقوبة من 12 إلى 20 سنة في السجن، ويمكن اتهام مثل هذه المادة بتنظيم تمرد مسلح، أو المشاركة النشطة فيه من أجل الإطاحة بالنظام الدستوري للاتحاد الروسي، أو تغييره بالقوة أو انتهاك السلامة الإقليمية لروسيا، وفي تاريخ روسيا الحديثة، أدين بهذه المادة فقط العقيد المتقاعد من المخابرات العسكرية الروسية فلاديمير كفاتشكوف في 2005.

ونفت وزارة الدفاع الروسية صحة الادعاءات المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي، والمنسوبة لمؤسس شركة "فاغنر" العسكرية الخاصة، وأشارت الى ان جميع الرسائل ولقطات الفيديو التي انتشرت على الشبكات الاجتماعية والمنسوبة ليفغيني بريغوجين حول "ضربة شنتها وزارة الدفاع الروسية" على المعسكرات الخلفية للشركة العسكرية الخاصة "فاغنر" لا تتوافق مع الواقع وهي استفزاز إعلامي"، و أكدت وزارة الدفاع، أن القوات الروسية تواصل القيام بمهام قتالية على خط التماس مع الجيش الأوكراني في منطقة العملية الخاصة.

وأهابت الدفاع الروسية بمقاتلي مجموعة "فاغنر"، عدم الانخراط في مغامرة مؤسس "فاغنر" الإجرامية والاتصال بالأجهزة الأمنية فورا، متعهدة بضمان سلامتهم، وتعهدت الوزارة بضمان أمن وسلامة كل من يتصل بها من مقاتلي المجموعة ويرفض الانخراط في هذه المغامرة الإجرامية، وقالت انها قدمت المساعدة لعدد من عناصر المجموعة لضمان عودتهم إلى نقاط تمركزهم بسلام، وكشفت وزارة الدفاع الروسية عن استغلال نظام كييف لاستفزاز مؤسس شركة "فاغنر" يفغيني بريغوجين، وتركيز نشاط وحداته الهجومية التكتيكية على أطراف مدينة باخموت.

في غضون ذلك، أعلنت حكومات مناطق ليبيتسك وروستوف وتولا في فورونيج تعزيز الإجراءات الأمنية، وأعلن عمدة موسكو سيرغي سوبيانين وحاكم منطقة موسكو أندريه فوروبيوف عن إدخال نظام عمليات مكافحة الإرهاب في منطقتهما، بالإضافة إلى ذلك، ووفقًا لوكالة ريا نوفوستي، طوقت قوات الأمن مبنى مركز واغنر PMC في شارع زولوتايا في سانت بطرسبرغ، ودعا رئيس أوسيتيا الشمالية، سيرجي مينيايلو، مقاتلي الجمهورية الذين يخدمون في Wagner PMC إلى عدم الانصياع لأوامر بريغوزين الجنائية، ووصف رئيس الشيشان رمضان قاديروف تصرفات بريغوجين بأنها خيانة وتمرد وقال إن مقاتلي وزارة الدفاع والحرس الروسي في جمهورية الشيشان قد غادروا بالفعل إلى مناطق التوتر، وأكد ضرورة قمع التمرد المسلح، وأعلن عن جاهزيته لاتخاذ إجراءت صارمة إذا تطلب الأمر ذلك.

وفي موسكو أعلن عمدتها سيرغي سوبيانين عبر قناته على Telegram، أنه تم تعزيز الإجراءات الأمنية في المدينة، وقال إنه أدخل سيطرة إضافية على طرق المدينة. قال سوبيانين: "من الممكن الحد من تنظيم التظاهرات الجماهيرية"، ومن أجل منع الهجمات الإرهابية المحتملة على أراضي موسكو ومنطقة موسكو، تم إدخال نظام عمليات مكافحة الإرهاب .

وحث قادة عسكريون بارزون في الجيش الروسي، مجموعة "فاغنر" على الكف عن الإساءة لسمعة روسيا وجيشها، والامتثال لإرادة الرئيس فلاديمير بوتين، ودعوا الى إيقاف القوافل، وأعادتها إلى نقاط انتشارها الدائمة ومناطق تركيزها، وحل جميع المشاكل "سلميا فقط، تحت قيادة القائد الأعلى للقوات المسلحة لروسيا الاتحادية .

وقال قائد قوات العملية العسكرية الخاصة الجنرال سيرغي سوروفكين في تسجيل فيديو نشره المراسل العسكري أندري رودينكو على "تلغرام": "أناشد قيادة وقياديي ومقاتلي شركة "فاغنر" العسكرية الخاصة. لقد عبرنا طريقا صعبا ومعقدا معا. قاتلنا معا، وخاطرنا، وعانينا من الخسائر، وانتصرنا، نحن من نفس الدم، نحن محاربون. أنا أحثكم على التوقف، فالعدو ينتظر فقط تفاقم الوضع السياسي الداخلي في بلدنا. لا يمكنكم أن تخدموا مصالح العدو في هذا الوقت الصعب على البلاد" .

ومن جانبه حذر نائب رئيس هيئة الأركان الروسية، الفريق فلاديمير أليكسييف، مجموعة "فاغنر"، من توجيه ضربة لسمعة روسيا والقوات المسلحة الروسية، وقال أليكسييف في تسجيل فيديو نشره على تطبيق تلغرام، "مهما كانت نواياكم، فهذه طعنة في ظهر البلاد والرئيس"، مؤكدا أن الرئيس وحده له الحق في تعيين أعلى أركان قيادة القوات المسلحة وأنتم تحاولون التعدي على سلطته، وهذا انقلاب، أطلب منكم التعقل".

وأعلن رؤساء مناطق روسيا دعمهم الوطني للرئيس فلاديمير بوتين، واكدوا في رسائلهم التي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي و " تلغرام"، ان أفضل شيء يمكن القيام به لبلده الآن هو الحفاظ على هدوء العقل، وعدم الاستسلام للاستفزازات، وذكروا قوات البلاد بالوحدة، فقد كانت لوحدة الشعب الروسي وبطولاته التي لا مثيل لها هي التي جعلت من الممكن كسب الحرب الوطنية العظمى، وما يواجهونه اليوم من تحديات لا تقل خطورة، لذلك يجب تذكر وحدة ومسؤولية كل واحد منهم عن مصير روسيا.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

لأسباب تاريخية واقتصادية وسياسية وجغرافية، يشكل الشرق الأوسط منذ زمن بعيد منطقة محورية في العلاقة بين الشرق والغرب ولهذا تجده دائماً في قلب اهتمام القوى المختلفة، منذ ان بدء بكثرة تداوله طرح مفهوم"الشرق الأوسط" السياسي والفكري في اواسط القرن العشرين الماضي، بدأت المخططات الإسرائيلية ترسم ملامح ومعالم هذا الشرق وفق خطط وضعت بشكلٍ محكمٍة وتبنتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وسعت إلى تطبيقها على أرض الواقع من خلال رعايتها لاتفاقيات عديدة بين العرب والإسرائيليين جاءت تحت مسمّيات "اتفاقيات سلام" كان الهدف منها هو فرض هوية جديدة على أبناء الأمة العربية تتلاشى فيها أو تضيع المرجعية العربية لصالح وعاء فضفاض تمت تسميته بـ "الشرق أوسط الكبير" أحياناً وبـ "الشرق الأوسط الجديد" والذي لم يكن فهمه إلاعلى أنه تمهيد لحوادث قادمة واتفاقيات جديدة تشير بوضوح إلى أن انها مصممة على إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية لدول الشرق الأوسط بشكل يقيم قواعد جديدة، ويعيد تشكيل المنطقة بالشكل الذي ينسجم مع الأهداف الأميركية والإسرائيلية لحماية كيانها الهزيل ويكون بديلاًعن الخريطة التي وضعت في بداية القرن الماضي، والذي ظهر علائم فشله في الآونة الأخيرة بسبب التحولات والتقلبات الكبيرة التي حدثت في المنطقة والذي كانت "ترمي إلى تقسيم البلاد العربية، وفق العرق والدين والمذهب، متستراً بستار الديمقراطية وحقوقالإنسان، ونشر ثقافة السلام، وحفظ حقوق الأقليات، في إطار من مبادئ العولمة التي تتستر أيضاً بالمحافظة على الهويات الوطنية، ولا تفصح عن مراميها الاقتصادية وسيطرة الشركات العابرة للقارات. والمشروعان كانا مرتبطين متداخلان يهدفان إلى الإبقاء على دول العالم الثالث أسواقاً للرأسمالية الغربية، وهذا كان يتطلب إعاقة عجلة الإنتاج والاكتفاء الذاتي، وإلهاء الشعوب بقضايا جانبية، تحارب بعضها بعضاً باسم الدين والعرق والمذهب، وهذا ما حدث في الفترة الماضية على ان لا تنتهي إلا بانتهاء قدراتها وإمكانياتها وثرواتها ومواردها الطبيعية والبشرية فيها"وأصبح ربما أكثر حساسية وتأثراً بأي تطورات عالمية أو إقليمية أو دولية؛ إلا أن سلسلة الأحداث والقضايا التي فرضت، في الآونة الأخيرة، نفسها على الشرق الأوسط استدعت مزيداً من التحولات الاستراتيجية والتكتيكية في إدراك الشرق الأوسط ذاته للفاعلين الدوليين، وإدراك هؤلاء الفاعلين لأهمية هذه المنطقة وسعيهم إلى تعزيز النفوذ والاستئثار بموطئ قدم فيها يمكنهم من الإسهام في اللعبة الدولية بين مختلف أطراف النظام الدولي الجديد يفرضوا أنفسهم فيها، وجعلت الاقتراب منه والتنافس عليه أمراً جديراً بالاهتمام وخاصة بعد التطورات الأخيرة والمتمثلة في صعود التنافس الصيني الروسي على أجندة المنطقة؛ بالإضافة إلى ما نتج عن التراجع الأمريكي على المستوى العسكري؛ وأخيراً ظهور فواعل دولية جديدة، كما أن الهدف النهائي للورقة هو الوصول إلى رؤية مستقبلية للشرق الأوسط في ظل الصراعات الدائرة حوله.

لاشك أن لتراجع اكثر الانظمة في أرجاءالشرق الأوسط عن سياساتها السابقة التي كانت تعتمد الانكفاء للولايات المتحدة الامريكية المتواصل في المنطقة و التحولات الجيوسياسية الناجمة عن ذلك كانت من الأسباب المباشرة لفشل مخطط " الشرق الاوسط الجديد " ومن هنا سعت الإدارات الأميركية ولا سيما إدارتَي ترامب وبايدن، الى التراجع عن الكثير من موارد عملها لانه اخذت ترتطم بجدران ارادات شعوب المنطقة اولاً وأدت الى خفض الالتزامات العسكرية الأميركية بسبب الضغط الشعبي الداخلي ثانياً بعد فشلها في العراق وافغانستان وسورية من ارضاخ الشعوب كما فشلت سابقا في فيتنام و في كثير من البلدان الاخرى ولكن احتفظت بقضية مكافحة الإرهاب كذباً باعتبارها من الأولويات الأميركية الراسخة في المنطقة، ونتيجةً لذلك، تراجع النفوذ الأميركي في الشرقالأوسط، وأصبحت الولايات المتحدة أكثر نعومة وتقبّلًا لوجود هؤلاء الشركاء الجدد من خلال التحركات المكثفة و المكوكية المستمرة لوزير خارجيتها أنتوني بلينكن السعودية والصين وبلدان أخرى للتقرب إليهم، طالما أنهم يدعمون أولوياتها الأساسية. لكن ذلك أفسح المجال أمام دول كبرى مثل الصين وروسيا، وقوى إقليمية مثل إيران وتركيا والسعودية وسائر دول الخليج لتعزيز نفوذها في المنطقة، انطلاقًا من قناعتها الراسخة بأن مصالحها القومية تمتدّ أبعد من حدودها الوطنية.

***

عبد الخالق الفلاح – باحث واعلامي

لو سألني أحد عن أكثر العرب ميلاً للتسالم وأبعدهم عن التنازع لَمَا اخترت غير السودان. لا أقصد بطبيعة الحال كل فرد في هذا البلد، ولا كل فرد في غيره. إنما أشير الى السمة العامة التي نطلقها على البلد كمجموع، من دون خشية الاتهام بالمبالغة او التفريط. أظن أن كثيراً من القراء يوافقني في هذا.

مع ذلك، فإن هذا البلد ينزلق الآن نحو حرب أهلية، لا سمح الله.

هل الميل للتسالم مجرد صبغة خارجية؟ هل الذي أمامنا واقع لا نعرف تفاصيله: مجتمعات كثيرة بعضها خشن وبعضها لين، بعضها ظاهر وبعضها مجهول؟

هذا سؤال يتعلق بطبائع المجتمعات. وهي -كما نعرف- ليست صفات تنتقل عبر الجينات، من الآباء إلى الأبناء، كما اعتقد كتاب الأزمنة القديمة، بل هي انعكاس للعقل الجمعي أو الذهنية العامة، أي محصلة التفاعل المتواصل بين مستخلصات التجربة التاريخية والتوجيه الثقافي أو الديني، إضافةً إلى تأثيرات الواقع المعيش، لا سيما الوضع الاقتصادي والسياسي.

حسنٌ... لو افترضنا أن الذهنية العامة تتشكل بتأثير عوامل كثيرة، فما هذه العوامل، وما نصيب كل منها في تكوينها النهائي؟ هذا السؤال ضروري كي نفكر في أهداف المعالجة وكيفيتها.

أعلم أن بعضنا سيبادر بتوجيه اللوم إلى التراث ورواته ودعاته. ولعله يندد بتقصيرهم في حث الناس على التسالم ونبذ العنف. وفقاً لهذا الرأي، فالميل إلى المسالمة أو العنف حالة ذهنية، واعية أو عفوية، قابلة للتعديل بواسطة التوجيه والإرشاد. البعض الآخر سيختار الاتجاه المعاكس، فيكرر القول المنسوب لأبي ذر الغفاري «عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج في الناس شاهراً سيفه». وهذا يربط الميول العنفية بالتوتر النفسي المتصل بالفقر المدقع. أي إن الميل إلى العنف تعبيرٌ عن ضعف سيطرة العقل على المشاعر. ثمة فريق سيربط التوتر بالانقسام الطبقي، لا سيما جمود الحراك الطبقي وفشل الشريحة المتعلمة في إنهاء التصنيف القسري ضمن الطبقة الدنيا.

والحق أن هذه جميعاً احتمالات واردة. لكن يصعب تحديد أي منها كمؤثر تام. إن السوداني مشهور بالميل إلى المسالمة واللين. لكنّ دراسات اجتماعية تُظهر أن السودانيين يختزنون -على المستوى الفردي– ميلاً قوياً للمنازعة. في نهاية 2017 مثلاً أظهرت إحدى الدراسات أن 60 في المائة من السودانيين يفكرون في الهجرة، وهي نسبة تتجاوز حتى البلدان المنخرطة فعلياً في نزاع داخلي، مثل اليمن والأراضي الفلسطينية وليبيا. ولاحظت الدراسة أن نحو نصف الذين يفكرون في الهجرة، لا يمانعون من السفر من دون وثائق رسمية، بعبارة أخرى فهم غير متحفظين إزاء مغامرة ربما تؤدي بهم الى السجن أو الموت، كما حصل تكراراً لقوارب المهاجرين عبر البحر المتوسط، والمتسللين عبر الحدود الشمالية الغربية إلى ليبيا.

هذا النوع من التفكير لا يعبّر عن «عقل جمعي» بل عن شعور فردي بالإحباط واليأس. لكنَّ المشكلة أن هذا الشعور ينتشر بين مئات الآلاف، لا سيما الشباب، بحيث يتحول تدريجياً إلى ظاهرة عامة، يمكن أن تغيّر الصورة اللينة التي ذكرتها سابقاً، أو على الأقل تشكل ظاهرة فرعية موازية لها.

ما يحدث اليوم في السودان من عنف متصاعد، قد يكون ثمرة لتفاقم الشعور الفردي بالإحباط. وإذا صح هذا الاحتمال، فإن البلد مقبل على انهيار تام للأمن الداخلي، وتفاقم الاعتداءات على الأملاك الشخصية والعامة، بشكل غير مسبوق.

الفارق بين التحولات النفسية العامة والفردية، أن المجتمع يحافظ في الحالة الأولى على قدر من التضامن بين الجميع، بحيث لا يعتدي أحد على الأملاك الخاصة للآخرين. أما في الحالة الثانية فإن الانفلات الأخلاقي يجعل الفرد متجرداً من أي قيد، لا يردعه سوى الخوف من السلاح المقابل.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

(اسباب الانتشار النووي: سياسة احكام النفوذ والسيطرة على ثروات ومقدرات العالم)

عندما انقسم العالم في الحرب الباردة الى كتلتين ايديولوجيتين متصارعتين على سطح كوكب الارض، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ بسنوات قليلة؛ كان هم الاتحاد السوفيتي هو امتلاك السلاح النووي في اسرع وقت، وكان له ما اراد. السؤال المهم هنا؛ هو ما الاسباب التي جعلت الاتحاد السوفيتي يهتم جدا، في تسريع عملية امتلاك السلاح النووي؟؛ هو تخليق حالة من توازن الرعب المتبادل. في السنوات التالية اهتمت الدول الكبرى الاخرى؛ بريطانيا وفرنسا بتسريع ايضا عملية امتلاكها للسلاح النووي؛ وايضا كان لهما ما ارادا. في التالي اي في السنوات التالية صار العالم فيه ما كان والى الآن؛ يسمى النادي النووي المكون من الاتحاد السوفيتي وامريكا وفرنسا وبريطانيا والصين، اي القوى الدولية العظمى والكبرى. بعد سنوات قليلة انضم لهم الكيان الاسرائيلي، من دون ان يعلن او تعلن انها دولة نووية. في العقد الاخير من القرن العشرين صارتا؛ كل من الهند وباكستان دولتين نوويتين. بالنسبة الى الدول الثلاث الاخيرة؛ كان سعيها الى امتلاك السلاح النووي؛ هو حصولها اي الدول الثلاث الاخيرة؛ على التفوق الكاسح عسكريا؛ باستخدامه في هز هراوة التهديد الكارثي عندما تتعرض الى تهديد وجودي. أما بالنسبة الى الدول العظمى والكبرى في  آن واحد؛ هو بسط السيطرة والنفوذ؛ كطريق للنهب وسلب إرادات دول وشعوب العالم الثالث. الاتحاد السوفيتي في السنوات التي اعقبت الحرب الكونية العظمى؛ سيطر سياسيا وعسكريا وايديولوجيا على شرق اوروبا، عبر ما كان حينها يسمى المنظومة الاشتراكية، ودرعها حلف وارسو، في مواجهة مع حلف شمال الاطلسي؛ عبر او من خلال منظومة المعسكر الرأسمالي، أو معسكر العالم الحر كما كان حينها والى الآن يسمي هذا المعسكر ذاتها واهدافه. الحلف الأخير ظل قائما الى الآن، على الرغم من انتهاء التهديد الوجودي الذي كان حينها يمثله وجود الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشرقية، وجدار صدها؛ حلف وارسوا. بدءا ان السعي بامتلاك السلاح النووي الفتاك والكارثي من قبل الولايات المتحدة الامريكية؛ هو التفرد به؛ كي تسيطر على اي مخارج تتقاطع معها من قبل المنافسين لها على ساحات النفود ومصادرة إرادات الغير، وليس الدفاع عن جغرافيتها وسيادتها. عندما استخدمت امريكا او جربت سلاحها الكارثي هذا على اليابان بحجة العمل على تسريع او وضع نهاية سريعة لهذه الحرب، هذه الحجة او الفرية دحضها تماما الواقع على الارض، فاليابان كانت في الطريق الى توقيع اتفاق انهاء الحرب؛ إنما امريكا ارادت ان تجرب هذا السلاح هذا اولا وثانيا اجبار اليابان على توقيع وثيقة الاستسلام، التي حتما كانت تختلف في بنودها عن وثيقة اتفاق انهاء الحرب. اعتقد جازما ان سعي القوى العظمى بدءا الى حيازة او امتلاك السلاح النووي كان والى الآن؛ الغاية منه؛ ان يكون لها اي القوى العظمى؛ مقعد رصين وثابت، ومستقر ومهاب ومرعب على منصة القيادة العالمية للشؤون الدولية، اي ان يكون لها صوتا مسموعا في صناعة القرارات الدولية على حساب إرادات بقية الشعوب على ظهر هذه المعمورة. ان هذا الصراع اي صراع القوى العظمى استمر حتى هذه اللحظات من تاريخ الكون الذي يشهد الآن ومنذ سنوات قليلة تحولا كونيا ربما سيغير وجه العالم وشكل الشراكات والتعاون، ومراكز القوى التي سوف تساهم في صناعة هيكل جديد للعالم. في الحرب في اوكرانيا التي تشتعل اوراها من اكثر من سنة؛ كانت حجة المسؤولون الروس التي اعلنوها او ساقوها الى العالم؛ هو ان اوكرانيا صارت قاعدة للولايات المتحدة الامريكية، وبالنتيجة هي قاعدة للناتو؛ مما يعني ان حلف الناتو او للحقيقة الواقعية هي قاعدة لأمريكا، اي قاعدة للسلاح النووي الضارب والاستراتيجي؛ مما يهدد بالسلاح النووي العاصمة الروسية وبقية اراضي روسيا؛ لذا، قامت روسيا بالغزو والاحتلال لأراضي اوكرانيا؛ لمنع هذا التهديد المستقبلي. أما حجة امريكا والاتحاد الاوروبي هو منع روسيا بوتين من اعادة الى الوجود؛ امجاد روسيا القيصرية. أما الحقيقة الواقعية والموضوعية؛ هي اي الحرب في اوكرانيا؛ صراع نفوذ ليس الا. الاتحاد الروسي ومعها او معه الصين ولو بطريقة خفية ومستترة؛ تريدان وضع نهاية لتحكم الغرب والولايات المتحدة حصريا على مقدرا ت دول العالم او على النظام الدولي طبقا للقواعد الامريكية ومعايرها؛ حتى يتم لهما او يتم فسح الطريق واسعا لهما او لنفوذهما. من الجهة الثانية امريكا ودول الاتحاد الاوربي المعقب لها، اي لأمريكا، اجبارا وليس طوعا؛ بحكم شبكة معقدة جدا، من العلاقات العسكرية والاقتصادية وما إليهما، تقع في الصدارة من هذه العلاقات هي المظلة النووية الامريكية لحماية دول اوروبا من اي هجوم نووي روسي، لأن دول الاتحاد الاوروبي مع انها دول تمتلك السلاح النووي لكن ليس بقدرة روسيا لناحية حجمها وقوتها التدميرية وادوات نقلها. هذا الصراع على النفوذ بين القوى الدولية المتنافسة او المتحاربة بالإنابة وبالوكلاء؛ ما الذي نتج عنها اي عن هذا الصراع؟ نتج عنه حكما واقعيا وموضوعيا؛ هو تعبيد الطريق للانتشار النووي في المنطقة العربية وفي جوارها وفي بقية مناطق العالم التي لم تكن حتى هذه اللحظة دول نووية او انها لم تفكر حتى الآن بامتلاك ناصية التطور النووي وليس بالضرورة امتلاك السلاح النووي، إنما امتلاك العتبة النووية؛ يمنحها القدرة تماما وفي اي ظرف وفي اي زمان، أذا ارادت او ان الظروف تغيرت؛ بامتلاك السلاح النووي. الحرب في اوكرانيا، والتي هي في الاول والأخير؛ صراع او حرب نفوذ على ارض اوكرانيا ووقودها الشعب الاوكراني، بينما الحقيقة هي حرب بين روسيا وامريكا، وليس بين روسيا وحلف الناتو، لأن الكثير من دول حلف الناتو، والمقصود هنا هم الاوربيون الذين يريدون حلا لهذه الحرب من خلال طاولة المفاوضات، لو تركوا يتصرفون طبقا لمصالحهم من دون المطرقة الامريكية المسلطة على رؤوسهم، طبقا لمصالح امريكا، التي تتركز على الابقاء على سيطرتها ونفوذها على العالم، التي يهددها الثنائي الروسي الصيني. في هذه الحرب يعلن كلا الطرفين المتصارعين امريكا وروسيا؛ استعراضا وتموضعا وانتشارا ومناورات في الاماكن المرشحة للحرب، ان تم الانزلاق إليها؛ قوة اسلحتهم النووية وقوة وسرعة ايصالها الى جغرافية الخصم؛ وهو تهديد او للكبح المتبادل من الدولتين النوويتين، واللتان تمتلكان لوحدهما 90% من مخزون السلاح النووي في العالم. كان من نتيجة انشغال امريكا في الحرب في اوكرانيا؛ تغير قواعد اللعبة في الساحة الدولية تغيرا حادا، وفي المقدمة من الساحة الدولية؛ هو اللعبة في ساحة دول المنطقة العربية وجوارها. ايران استثمرت هذه الحرب استثمارا منتجا بالكامل؛ لذا، اصرت على ان الاتفاق النووي الذي تم ابرامه بينها وبين الدول العظمى زاد المانيا لم يعد قائما او لم يعد له وجود؛ لأن التطورات الاقليمية والدولية، قد عبرت ضفته الى الضفة الاخرى، بالإضافة الى ان زمنه، اصبح قريبا تقريبا من انتهائه، واكدت انه من الضروري التفاوض على اتفاق جديد؛ طبقا لشروطها، التي تتركز على اولا ان يكون مرحليا وجزئيا بعد ان كانت قد رفضته في السابق عندما طرحته امريكا، وثانيا ان تحتفظ بكل مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% وثالثا ان يكون او تكون برامجها العسكرية الاخرى خارج هذا الاتفاق الذي يجري الحديث عن قرب توقيعه بين ايران وامريكا. اسرائيل تهدد ايران بضرب او بالقضاء على برنامج ايران النووي. من وجهة نظري المتواضعة ان اسرائيل لن تنفذ ما تهدد به على الاطلاق.. في خضم هذه التطورات والتغييرات والتحولات، صار لزاما على الدول العربية، وفي اول هذه الدول العربية، هي السعودية؛ التي او ان قيادتها تدرك تماما ماذا يعني ان تمتلك ايران دورة الوقود النووي، يعني وفي اهم ما يعني؛ هو قدرتها ان ارادت ذات يوم ان تصنع وبسرعة السلاح النووي.. طبقا لهذه المخرجات؛ سعت السعودية وهي تسعى الى الآن وبقوة على امتلاك برنامج نووي للأغراض السلمية. من المعروف وكما يقول اصحاب الاختصاص ان امتلاك دورة وقود نووي لتشغيل او لتوليد الطاقة الكهربائية؛ مقدمة او طريق سهل وسالك الى صناعة السلاح النووي ان ارادت الدولة التي امتلكت دورة الوقود النووي. السؤال المهم هنا في الذي يخص البرنامج السعودي او ما تخطط السعودية على امتلاكه، كاملا وتاما سعوديا خالصا، ومن الطبيعي بمساعدة دولة تمتلك هذه التقنية، بنقلها او توطينها على الارض السعودية. اعتقد ان امريكا سوف تماطل في هذا الموضوع، او انها لن تساعد في النهاية السعودية في اقامة برنامجها هذا؛ مما يدفع السعودية الى الاستعانة بالصين، وان هذا الامر سوف لن يطول كثيرا. ان هذا الانتشار النووي لا ينحصر فقط بالسعودية، بل هناك دول اخرى في الجوار الاسلامي. في اول او في مقدمة هذه الدول؛ تركيا التي قال رئيسها قبل سنوات قليلة؛ ان تركيا عازمة على اقامة برنامج نووي تركي لتوليد الطاقة الكهربائية، وتركيا ليس بحاجة الى طلب الاذن من احد. وفعلا تم او يجري العمل على بناء محطة نووية لتوليد الطاقة الكهربائية بمساعدة روسيا، بالإضافة الى مصر وايضا بمساعدة روسيا. انه امرا طبيعيا ان تسعى الدول على امتلاك محطات نووية لتوليد الطاقة الكهربائية. لكن طبيعة الاوضاع الدولية سواء في المنطقة العربية او في جوارها، او في بقية اصقاع الكرة الارضية، في الوقت الحاضر او في العالم المتعدد الاقطاب المستقبلي، وما اقصده هنا هو المستقبل الرقيب وليس البعيد؛ سيكون هناك صراع تنافسي، اقتصاديا وسياسيا وتجاريا وعسكريا، والأخير لجهة حيازة عوامل القوة للمحافظة على المصالح وردع من يتجاوز عليها؛ في ظل التسارع او المسابقة على انضمام هذه الدولة لبرنامج هذه الدولة العظمى او الى تلك الدولة العظمى. في الختام اقول ان الانتشار النووي ليس سببه هو سعي دول العلم الثالث على حيازته، او حيازة العتبة إليه، بل هو الدول العظمى والكبرى هي السبب في الانتشار النووي بدءا وتاليا والى الآن. جميع الدول العظمى والكبرى، تحرص على زيادة ترسانتها النووية او العمل على الاكتفاء بما لديها كروسيا وامريكا، إنما تطوير قدراتها اي الاسلحة النووية التدميرية ودقتها وادوات ايصالها والى اراضي الخصوم. الصين تسعى او تسابق الزمن للوصول بترسانتها النووية الى ما هو موجود في ترسانة امريكا وروسيا؛ حتى تكون قادرة على الردع او الكبح في اي صراع او حرب مستقبلية. في هذه الحالة لا توجد اي ضمانة او اي وسائل او موانع اخلاقية او اعتبارية او انسانية او دينية؛ لعدم اقدام دول العتبة النووية على صناعة السلاح النووي ان احتاجت إليه، او صارت الظروف ملائمة لامتلاكه، لمنحها القوة والجبروت في اقليمها وفي الساحة الدولية.. من نافلة القول ان اذكر هنا؛ امتلاك كوريا الشمالية للسلاح النووي والاصرار على الاحتفاظ به، كوسيلة ردع للتهديد الامريكي لها او لنظامها.

***

مزهر جبر الساعدي

هي الأولى من بعد 15 سنة، أختتم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الى روسيا، زيارة له بدعوة رسمية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استغرقت ثلاثة أيام، وكانت، حضر خلالها منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي 23، والمشاركة في منتدى الأعمال الروسي الجزائري، والتقى بكامل قادة روسيا - رئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين، ورئيس مجلس الاتحاد فالنتينا ماتفينكو ورئيس مجلس دوما الدولة فياتشيسلاف فولودين، ودشن الرئيس الجزائري، نصبا تذكاريا لمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر، في مدينة موسكو الروسية.

واهمية اللقاء بين الرئيسين، انعكست بشكل كبير على حفاوة الاستقبال التي أقيمت للرئيس الجزائري، والتي أقامها الرئيس الروسي في واحدة من اهم قاعات الكريملين، وهي قاعة سان جورج، وتأكيد بوتين خلال الجزء الأول من المحادثات بشكل ضيق، أهمية تلك الزيارة، ووصف الجزائر بأنها أحد شركاء روسيا الرئيسيين في العالم العربي، بعدها عقد أيضا اجتماع في شكل موسع، بحضور وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أيضًا، ما ترك انطباعا لدى المراقبين، الى ما يشير أن هذا اللقاء لم يكن بعيدًا عن مجرد مناقشة التعاون الاقتصادي، بل ان الامر يتعلق بالتعاون العسكري بشكل خاص بين البلدين.

وبعد محادثات ضيقة وممتدة، وقع بوتين وتبون إعلانًا بشأن تعميق الشراكة الاستراتيجية، وتتحدث الوثيقة عن أشياء كثيرة: من مكافحة تزوير التاريخ إلى التعاون في مجال التكنولوجيا النووية، ووقعت وزارتا الخارجية اتفاقية تعاون في مجال الاتصال الجماهيري، وزارة الثقافة - بشأن الشراكة للسنوات المقبلة، وتم اعتماد مذكرات تفاهم وتعاون بين وزارة البيئة الروسية، ووزارة الهيدروليكا في الجزائر، وبين وزارتي العدل في كلا البلدين.

والنتيجة الرئيسية للزيارة الحالية هي إعلان الشراكة الاستراتيجية العميقة الذي وقعه الرؤساء، والذي، بحسب ميخائيل ميشوستين، سيمثل انتقال التعاون الروسي الجزائري إلى مستوى نوعي جديد، حيث تغطي الوثيقة 16 مجالاً، بما في ذلك السياسة والتجارة والاقتصاد والجمارك والمالية والمصرفية والطاقة واستخدام باطن الأرض والتعاون العسكري التقني ومكافحة الإرهاب والجريمة، كما واتفقت روسيا والجزائر على عدم الصداقة ضد بعضهما البعض، واتفق رئيسا روسيا والجزائر على رفع مستوى العلاقات إلى شراكة إستراتيجية متعمقة في الاقتصاد، والتركيز على توسيع التعاون في جميع المجالات، وليس فقط في المجال العسكري.

وخلال المفاوضات أعربت موسكو عن استعدادها للمشاركة في مشاريع مشتركة في الجزائر، "بما في ذلك تلك المتعلقة بالاستخدام غير الطاقي للتقنيات النووية - على سبيل المثال، في مجال الطب أو في مجال الزراعة"، وقال الرئيس بوتين " ناقشنا أيضا التعاون في المجال العسكري التقني "، كما تنفتح آفاق جيدة للتعاون التجاري في صناعة السيارات والنقل والهندسة الزراعية، وأضاف الرئيس الروسي ان "الجانب الروسي مستعد ليس فقط لتوريد المعدات وتنظيم خدمات ما بعد البيع، ولكن أيضا لتوطين الإنتاج في الجزائر وتدريب المتخصصين الجزائريين المتخصصين".

أما الرئيس الجزائري، فهو الاخر اكد أهمية الزيارة، التي تأتي كرسالة " استمرارا لدعم الجزائر لروسيا "، رغم الضغوط الدولية التي تمارس عليها، فان العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وموسكو على مدى 60 عاما، كفيلة بان تصد هذه الضغوط، وقال تبون ان هذه الضغوط " لا يمكن أن تؤثر أبدًا على علاقاتنا"، وانه من بين الأولويات، خص تبون دخول الجمهورية إلى البريكس (قدمت طلبًا في نوفمبر 2022)، والتسويات بالعملات الوطنية والوضع في ليبيا - "إنها صديقة لروسيا والجزائر، لذلك نريد دائمًا الاستقرار في هذا" دولة"، ووعد تبون بتعزيز التعاون متبادل المنفعة في جميع المجالات، وطلب من المستثمرين الروس الأنتباه للجزائر، حيث تم خلق مناخ ملائم للعلاقات التجارية، وحسب قوله، كانت المحادثات في الكرملين صريحة وودية، وتتطابق وجهات نظر البلدين في جميع القضايا تقريبًا.

وفي المجال الاقتصادي فان الجانبين عبرا عن اهتمامهما الكبير بتعزيز التعاون، وقال وزير التنمية الاقتصادية مكسيم ريشيتنيكوف في المنتدى "نحن مهتمون للغاية بإبرام اتفاقية للتجارة الحرة للسلع مع الجزائر"، كالصناعة والطاقة والجيولوجيا واستخدام باطن الأرض والنقل والخدمات اللوجستية، وحدد المجالات الممكنة لتوسيع التعاون، وأكد الوزير أهمية الارتقاء بالتفاعل إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، وللقيام بذلك، تحتاج إلى "إعداد مدفوعات متبادلة" و"تجارة آمنة من قرارات دول ثالثة".

ووفقا للمحللين إن مثل هذا الحجم من الأسلحة المشتراة، يجعل الجزائر الشريك العسكري الرئيسي لموسكو في القارة الأفريقية، ويعمل بوتين على تعزيز هذا التعاون، واجتماع رئيسي الدولتين عزز نفوذ روسيا ليس فقط في إفريقيا، ولكن أيضًا في جامعة الدول العربية وحتى في البحر الأبيض المتوسط، كما يعتقد ليونيد ريشيتنيكوف، اللفتنانت جنرال جهاز المخابرات الخارجية في الاتحاد الروسي، كما وتحتل الجزائر المرتبة الثالثة بعد مصر والمغرب، من بين الشركاء التجاريين الرائدين لروسيا في إفريقيا، كما تعد الجزائر ثالث مستورد للأسلحة الروسية بعد الصين والهند، وبعد بدء العملية الخاصة في أوكرانيا، تعرضت البلاد لضغط دبلوماسي من الغرب، يطالبها بقطع العلاقات مع روسيا، لكن الجزائر لم تفعل ذلك، وتقدمت أيضًا بطلب للانضمام إلى البريكس في نوفمبر 2022.

واتفق معه ستانيسلاف ميتراخوفيتش، الخبير البارز في الصندوق الوطني لأمن الطاقة، والمحاضر في الجامعة المالية التابعة لحكومة الاتحاد الروسي، الذي أشار إلى أن أوروبا تحاول بنشاط التزود من الجزائر بالغاز كبديل للغاز الروسي، ومع ذلك، يعمل بوتين على توسيع قدرة روسيا على التأثير في سوق الطاقة، فالجزائر هي واحدة من أكبر موردي الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، والسياسيون الأوروبيون يحاولون إقناعها بزيادة إمدادات الغاز، ومع ذلك، يمكن لروسيا، بالتعاون مع هذا البلد العربي، الدفاع عن أفكارها حول "لعبة الغاز"، والتأثير على تكلفة الموارد، " ودولنا تتعاون في أوبك بلس ومنتدى ناقلات الغاز، وهناك أيضا خطط لبناء منشآت نووية في الجزائر".

وأكد أليكسي زودين، كبير المحاضرين في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية التابع لوزارة الشؤون الخارجية في الاتحاد الروسي، أن بوتين التقى رئيس الجزائر في سياق انضمام البلاد المرتقب إلى البريكس، وعلى حد قوله، فإن الرئيس الروسي وجه ضربة حساسة لدول غير صديقة، فهذا الاجتماع له سياق سياسي عالمي، حيث يتزايد أعين أمام الجميع، دور دول البريكس في الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية، وتسعى الجزائر إلى اتباع طريق التنمية السيادية، وهذا المسار غير مقبول للغرب والولايات المتحدة، ولكن على الرغم من الضغوط، فإن العلاقات بين موسكو والجزائر تزداد قوة .

بسبب تقليص الجزائر للإمدادات إلى السوق الإسبانية، لموقفها الداعم للمغرب حول قضية الصحراء الغربية، نقلت الجزائر هذه الكميات إلى إيطاليا، مما سمح للأخيرة أن تعلن في عام 2022 أنها اتفقت مع الجزائر على "استبدال الغاز الروسي"، لكن لا توجد زيادة في إمدادات الغاز عبر خطوط الأنابيب من الجزائر إلى السوق الأوروبية ككل، أما بالنسبة للغاز الطبيعي المسال الجزائري، فستعتمد آفاقه طويلة المدى أيضًا على بيئة الأسعار في أوروبا والأسواق البديلة، وربما على الاتفاقيات بين روسيا والجزائر في إطار منتدى الدول المصدرة للغاز.

وفي ظل الظروف الحالية، يمكن لروسيا في المستقبل أن تعرض على الجزائر، إن لم يكن تقسيمًا كاملًا للأسواق، التنسيق في مسائل اتجاهات التصدير ذات الأولوية، والتصدي لمحاولات الدول الغربية لإدخال آليات للحد من أسعار الغاز، ومكافحة التمييز ضد الغاز، من قبل السياسيين الأوروبيين كمصدر للطاقة، كما ان روسيا لديها مقترحات للجزائر بشأن الطاقة النووية والزراعة، بالإضافة إلى ذلك، دعمت روسيا والاتحاد السوفيتي في وقت سابق الجزائر في القضية الحساسة المتعلقة بالصحراء الغربية، لذلك الزيارة جاءت أيضا لتأكيد الموقف الروسي تجاه هذه القضية.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

بعد قطيعة استمرت لأكثر من اثني عشر عاما،  وبعد صمود الدولة السورية في وجه ما كان يخطط لها من إثارة فتنة وحرب أهلية و تدمير الدولة والمجتمع، وبالرغم مما لحق بها من خراب ودمار، وبالرغم من مشاركة دول عربية في الحرب والعدوان بشكل مباشر أو من خلال تمويل الجماعات الإرهابية المعادية للنظام -اعترافات حمد بن جاسم وزير خارجية قطر السابق – بدأت الدولة السورية باستعادة توازنها وعلاقاتها مع دول الجوار كما عادت الشهر الماضي لجامعة الدول العربية وهي التي كانت من مؤسسي الجامعة عام 1945 و أهم اقطابها، وهو عود أحمد لأن صمودها كشف مؤامرة ما يسمى الربيع العربي وقطع الطريق على تنفيذ كامل أهدافها بإسقاط الدولة السورية وتجزئتها.

سيقول قائل كيف تتحدث عن الدولة السورية بهذه اللغة وهي التي يحكمها نظام دكتاتوري طائفي معاد للديمقراطية وللحريات وواجه التحركات الشعبية في بداياتها بالقوة والعنف دون استجابة لمطالبها، وكيف تتجاهل آلاف القتلى والجرحى وملايين اللاجئين بسبب هذه الحرب، وهل تنسى مواقفها المعادية للثورة الفلسطينية ورئيسها أبو عمار منذ الحرب الأهلية في لبنان ووقوفها إلى جانب القوات المسيحية التي ارتكبت مجزرة تل الزعتر وتحالفت مع إسرائيل في مواجهة قوات الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية، وهل تنسى دور سوريا في الانشقاق داخل حركة فتح عام 1983 وقصف مخيمي البداوي ونهر البارد بالمدفعية، وهل تنسى وقوفها إلى جانب قوات التحالف بقيادة أمريكا في عدوانه على العراق عام 1991 ثم صمتها على احتلال العراق 2003، وكيف نغفر لسوريا تحالفها مع إيران المعادية للعرب الخ.

الذاكرة ما زالت تختزن كل ما سبق ولكن، تصدي الدولة السورية لأخطر مؤامرة على الأمة العربية وعلى القضية الفلسطينية وعدم استسلامها للجماعات الإسلاموية الإرهابية وللتدخلات التركية والأمريكية تسجل كوقفة صمود تستحق الاحترام حتى وإن كان صمود الدولة لصالح النظام والرئيس الأسد.

كشف صمود سوريا كل الأكاذيب التي روج لها عرابو فوضى الربيع العربي والتي تزعم أن ما جرى في سوريا ثورة شعبية للمطالبة بالديمقراطية والحريات، فكيف تكون ثورة من أجل الديمقراطية وقد ركب موجتها جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الدينية المتطرفة كتنظيم داعش والنصرة وغيرها؟ وكيف يمكن أن نصدق أن دولا خليجية تدعم الثورة السورية وتعادي النظام من منطلق معاداتها للدكتاتورية والاستبداد كما صرح مؤخرا وزير خارجية قطر قبيل عودة سوريا للجامعة العربية؟ وهل دول الخليج وتركيا وأمريكا وإسرائيل وجماعة الإخوان المسلمين وداعش والنصرة أنظمة ديمقراطية أو حريصة عليها وتدخلت لهذا السبب؟

نعم نحترم ونقدر القوى السورية الديمقراطية التي كانت تطالب بالديمقراطية وترفض سلطة الطائفة الواحدة، ونترحم على أرواح الشهداء الذين سقطوا في الأيام الأولى للثورة، ولكن هل كانت الأمور ستستقر في سوريا لو تجاوب الأسد مع مطالبهم؟

لو رجعنا إلى الأيام الأولى لاندلاع فوضى ما يسمى الربيع العربي ورأينا كيف تم سرقة ثورة الشباب من طرف قوى إسلاموية وأخرى غير وطنية ذات ارتباطات خارجية هدفها الرئيس هو تدمير الدولة ونشر الفوضى، وحتى عندما تنازل بعض الزعماء عن السلطة لم يتوقف هذا المخطط التأمري.

فبعد أيام من بداية الحراك الشعبي في تونس هرب الرئيس زين العابدين بن علي يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011 ولكن استمرت الفوضى وما زالت مستمرة حتى الآن، وبعد فترة عصيبة من الحراك الشعبي في مصر أو ثورة 25 يناير 2011 تنازل الرئيس حسني مبارك عن السلطة  يوم 11 فبراير ولكن استمرت الفوضى والعنف المسلح بين الجيش وجماعات دينية، حتى بعد الانتخابات التي فاز فيها جماعة الإخوان المسلمين لم يستقر لهم الأمر إلا لعام واحد حيث خرج الشعب مجددا للشارع في ثورة 30 يونيو 2013وعزلت القوات المسلحة الرئيس المنتخب محمد مرسي في الثالث من يونيو، واستقر الأمر نسبيا.

أما ما جرى في ليبيا فهو أكثر مأساوية ففي 15 فبراير 2011 انطلقت الثورة من مدينة بنغازي، وامتدت لتصل إلى طرابلس وفي 20 أكتوبر تم قتل الرئيس معمر القذافي بغارة من حلف الأطلسي، وما بعد ذلك استمر الصراع والحرب الأهلية إلى اليوم وتم تقسيم ليبيا. ونفس الفوضى والحرب الأهلية جرت في اليمن.

انطلاقا مما سبق فلا يمكن لأي رئيس أو ملك وهو يتابع ما يجري في البلدان المجاورة أن يتخلى عن السلطة ويترك الأمر للجماعات والدول التي تقف خلف فوضى (الربيع العربي). مع تعاطفنا مع قوى المعارضة الوطنية والديمقراطية إلا أنها كانت الطرف الأضعف في المعسكر المعادي للنظام وكثير من قادة هذه المعارضة انسحبوا من تحالف المعارضة السورية عندما اكتشفوا ما يحاك لسوريا من خراب وفوضى.

وأخيرا، وحتى مع افتراض صحة التسريبات التي تقول بأن المملكة السعودية كانت وراء عودة سوريا للجامعة العربية وقبل ذلك عودة العلاقات السعودية الإيرانية وذلك بموافقة ضمنية أمريكية يكون مقابلها تطبيع علاقات المملكة مع إسرائيل، بالغم من ذلك فإن   عودة سوريا للجامعة العربية وتحسين علاقاتها مع الدول العربية وحتى مع تركيا يعتبر خطوة في طريق طويل لاستعادة سوريا لكل أراضيها حيث تتواجد على أراضيها قوات تركية وأمريكية وإيرانية وروسية، كما أنه خطوة نحو استعادة النظام الإقليمي العربي لعافيته والتفرغ لمواجهة التحديات الكبيرة التي ما زالت تواجه الأمة العربية سواء من طرف إسرائيل أو دول الجوار كإيران وتركيا وإثيوبيا، أيضا مواجهة تبعات ما يجري في السودان.

***

د. إبراهيم ابراش

في المثقف اليوم