آراء

آراء

هي الأولى من بعد 15 سنة، أختتم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الى روسيا، زيارة له بدعوة رسمية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استغرقت ثلاثة أيام، وكانت، حضر خلالها منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي 23، والمشاركة في منتدى الأعمال الروسي الجزائري، والتقى بكامل قادة روسيا - رئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين، ورئيس مجلس الاتحاد فالنتينا ماتفينكو ورئيس مجلس دوما الدولة فياتشيسلاف فولودين، ودشن الرئيس الجزائري، نصبا تذكاريا لمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر، في مدينة موسكو الروسية.

واهمية اللقاء بين الرئيسين، انعكست بشكل كبير على حفاوة الاستقبال التي أقيمت للرئيس الجزائري، والتي أقامها الرئيس الروسي في واحدة من اهم قاعات الكريملين، وهي قاعة سان جورج، وتأكيد بوتين خلال الجزء الأول من المحادثات بشكل ضيق، أهمية تلك الزيارة، ووصف الجزائر بأنها أحد شركاء روسيا الرئيسيين في العالم العربي، بعدها عقد أيضا اجتماع في شكل موسع، بحضور وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أيضًا، ما ترك انطباعا لدى المراقبين، الى ما يشير أن هذا اللقاء لم يكن بعيدًا عن مجرد مناقشة التعاون الاقتصادي، بل ان الامر يتعلق بالتعاون العسكري بشكل خاص بين البلدين.

وبعد محادثات ضيقة وممتدة، وقع بوتين وتبون إعلانًا بشأن تعميق الشراكة الاستراتيجية، وتتحدث الوثيقة عن أشياء كثيرة: من مكافحة تزوير التاريخ إلى التعاون في مجال التكنولوجيا النووية، ووقعت وزارتا الخارجية اتفاقية تعاون في مجال الاتصال الجماهيري، وزارة الثقافة - بشأن الشراكة للسنوات المقبلة، وتم اعتماد مذكرات تفاهم وتعاون بين وزارة البيئة الروسية، ووزارة الهيدروليكا في الجزائر، وبين وزارتي العدل في كلا البلدين.

والنتيجة الرئيسية للزيارة الحالية هي إعلان الشراكة الاستراتيجية العميقة الذي وقعه الرؤساء، والذي، بحسب ميخائيل ميشوستين، سيمثل انتقال التعاون الروسي الجزائري إلى مستوى نوعي جديد، حيث تغطي الوثيقة 16 مجالاً، بما في ذلك السياسة والتجارة والاقتصاد والجمارك والمالية والمصرفية والطاقة واستخدام باطن الأرض والتعاون العسكري التقني ومكافحة الإرهاب والجريمة، كما واتفقت روسيا والجزائر على عدم الصداقة ضد بعضهما البعض، واتفق رئيسا روسيا والجزائر على رفع مستوى العلاقات إلى شراكة إستراتيجية متعمقة في الاقتصاد، والتركيز على توسيع التعاون في جميع المجالات، وليس فقط في المجال العسكري.

وخلال المفاوضات أعربت موسكو عن استعدادها للمشاركة في مشاريع مشتركة في الجزائر، "بما في ذلك تلك المتعلقة بالاستخدام غير الطاقي للتقنيات النووية - على سبيل المثال، في مجال الطب أو في مجال الزراعة"، وقال الرئيس بوتين " ناقشنا أيضا التعاون في المجال العسكري التقني "، كما تنفتح آفاق جيدة للتعاون التجاري في صناعة السيارات والنقل والهندسة الزراعية، وأضاف الرئيس الروسي ان "الجانب الروسي مستعد ليس فقط لتوريد المعدات وتنظيم خدمات ما بعد البيع، ولكن أيضا لتوطين الإنتاج في الجزائر وتدريب المتخصصين الجزائريين المتخصصين".

أما الرئيس الجزائري، فهو الاخر اكد أهمية الزيارة، التي تأتي كرسالة " استمرارا لدعم الجزائر لروسيا "، رغم الضغوط الدولية التي تمارس عليها، فان العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وموسكو على مدى 60 عاما، كفيلة بان تصد هذه الضغوط، وقال تبون ان هذه الضغوط " لا يمكن أن تؤثر أبدًا على علاقاتنا"، وانه من بين الأولويات، خص تبون دخول الجمهورية إلى البريكس (قدمت طلبًا في نوفمبر 2022)، والتسويات بالعملات الوطنية والوضع في ليبيا - "إنها صديقة لروسيا والجزائر، لذلك نريد دائمًا الاستقرار في هذا" دولة"، ووعد تبون بتعزيز التعاون متبادل المنفعة في جميع المجالات، وطلب من المستثمرين الروس الأنتباه للجزائر، حيث تم خلق مناخ ملائم للعلاقات التجارية، وحسب قوله، كانت المحادثات في الكرملين صريحة وودية، وتتطابق وجهات نظر البلدين في جميع القضايا تقريبًا.

وفي المجال الاقتصادي فان الجانبين عبرا عن اهتمامهما الكبير بتعزيز التعاون، وقال وزير التنمية الاقتصادية مكسيم ريشيتنيكوف في المنتدى "نحن مهتمون للغاية بإبرام اتفاقية للتجارة الحرة للسلع مع الجزائر"، كالصناعة والطاقة والجيولوجيا واستخدام باطن الأرض والنقل والخدمات اللوجستية، وحدد المجالات الممكنة لتوسيع التعاون، وأكد الوزير أهمية الارتقاء بالتفاعل إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، وللقيام بذلك، تحتاج إلى "إعداد مدفوعات متبادلة" و"تجارة آمنة من قرارات دول ثالثة".

ووفقا للمحللين إن مثل هذا الحجم من الأسلحة المشتراة، يجعل الجزائر الشريك العسكري الرئيسي لموسكو في القارة الأفريقية، ويعمل بوتين على تعزيز هذا التعاون، واجتماع رئيسي الدولتين عزز نفوذ روسيا ليس فقط في إفريقيا، ولكن أيضًا في جامعة الدول العربية وحتى في البحر الأبيض المتوسط، كما يعتقد ليونيد ريشيتنيكوف، اللفتنانت جنرال جهاز المخابرات الخارجية في الاتحاد الروسي، كما وتحتل الجزائر المرتبة الثالثة بعد مصر والمغرب، من بين الشركاء التجاريين الرائدين لروسيا في إفريقيا، كما تعد الجزائر ثالث مستورد للأسلحة الروسية بعد الصين والهند، وبعد بدء العملية الخاصة في أوكرانيا، تعرضت البلاد لضغط دبلوماسي من الغرب، يطالبها بقطع العلاقات مع روسيا، لكن الجزائر لم تفعل ذلك، وتقدمت أيضًا بطلب للانضمام إلى البريكس في نوفمبر 2022.

واتفق معه ستانيسلاف ميتراخوفيتش، الخبير البارز في الصندوق الوطني لأمن الطاقة، والمحاضر في الجامعة المالية التابعة لحكومة الاتحاد الروسي، الذي أشار إلى أن أوروبا تحاول بنشاط التزود من الجزائر بالغاز كبديل للغاز الروسي، ومع ذلك، يعمل بوتين على توسيع قدرة روسيا على التأثير في سوق الطاقة، فالجزائر هي واحدة من أكبر موردي الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، والسياسيون الأوروبيون يحاولون إقناعها بزيادة إمدادات الغاز، ومع ذلك، يمكن لروسيا، بالتعاون مع هذا البلد العربي، الدفاع عن أفكارها حول "لعبة الغاز"، والتأثير على تكلفة الموارد، " ودولنا تتعاون في أوبك بلس ومنتدى ناقلات الغاز، وهناك أيضا خطط لبناء منشآت نووية في الجزائر".

وأكد أليكسي زودين، كبير المحاضرين في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية التابع لوزارة الشؤون الخارجية في الاتحاد الروسي، أن بوتين التقى رئيس الجزائر في سياق انضمام البلاد المرتقب إلى البريكس، وعلى حد قوله، فإن الرئيس الروسي وجه ضربة حساسة لدول غير صديقة، فهذا الاجتماع له سياق سياسي عالمي، حيث يتزايد أعين أمام الجميع، دور دول البريكس في الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية، وتسعى الجزائر إلى اتباع طريق التنمية السيادية، وهذا المسار غير مقبول للغرب والولايات المتحدة، ولكن على الرغم من الضغوط، فإن العلاقات بين موسكو والجزائر تزداد قوة .

بسبب تقليص الجزائر للإمدادات إلى السوق الإسبانية، لموقفها الداعم للمغرب حول قضية الصحراء الغربية، نقلت الجزائر هذه الكميات إلى إيطاليا، مما سمح للأخيرة أن تعلن في عام 2022 أنها اتفقت مع الجزائر على "استبدال الغاز الروسي"، لكن لا توجد زيادة في إمدادات الغاز عبر خطوط الأنابيب من الجزائر إلى السوق الأوروبية ككل، أما بالنسبة للغاز الطبيعي المسال الجزائري، فستعتمد آفاقه طويلة المدى أيضًا على بيئة الأسعار في أوروبا والأسواق البديلة، وربما على الاتفاقيات بين روسيا والجزائر في إطار منتدى الدول المصدرة للغاز.

وفي ظل الظروف الحالية، يمكن لروسيا في المستقبل أن تعرض على الجزائر، إن لم يكن تقسيمًا كاملًا للأسواق، التنسيق في مسائل اتجاهات التصدير ذات الأولوية، والتصدي لمحاولات الدول الغربية لإدخال آليات للحد من أسعار الغاز، ومكافحة التمييز ضد الغاز، من قبل السياسيين الأوروبيين كمصدر للطاقة، كما ان روسيا لديها مقترحات للجزائر بشأن الطاقة النووية والزراعة، بالإضافة إلى ذلك، دعمت روسيا والاتحاد السوفيتي في وقت سابق الجزائر في القضية الحساسة المتعلقة بالصحراء الغربية، لذلك الزيارة جاءت أيضا لتأكيد الموقف الروسي تجاه هذه القضية.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

بعد قطيعة استمرت لأكثر من اثني عشر عاما،  وبعد صمود الدولة السورية في وجه ما كان يخطط لها من إثارة فتنة وحرب أهلية و تدمير الدولة والمجتمع، وبالرغم مما لحق بها من خراب ودمار، وبالرغم من مشاركة دول عربية في الحرب والعدوان بشكل مباشر أو من خلال تمويل الجماعات الإرهابية المعادية للنظام -اعترافات حمد بن جاسم وزير خارجية قطر السابق – بدأت الدولة السورية باستعادة توازنها وعلاقاتها مع دول الجوار كما عادت الشهر الماضي لجامعة الدول العربية وهي التي كانت من مؤسسي الجامعة عام 1945 و أهم اقطابها، وهو عود أحمد لأن صمودها كشف مؤامرة ما يسمى الربيع العربي وقطع الطريق على تنفيذ كامل أهدافها بإسقاط الدولة السورية وتجزئتها.

سيقول قائل كيف تتحدث عن الدولة السورية بهذه اللغة وهي التي يحكمها نظام دكتاتوري طائفي معاد للديمقراطية وللحريات وواجه التحركات الشعبية في بداياتها بالقوة والعنف دون استجابة لمطالبها، وكيف تتجاهل آلاف القتلى والجرحى وملايين اللاجئين بسبب هذه الحرب، وهل تنسى مواقفها المعادية للثورة الفلسطينية ورئيسها أبو عمار منذ الحرب الأهلية في لبنان ووقوفها إلى جانب القوات المسيحية التي ارتكبت مجزرة تل الزعتر وتحالفت مع إسرائيل في مواجهة قوات الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية، وهل تنسى دور سوريا في الانشقاق داخل حركة فتح عام 1983 وقصف مخيمي البداوي ونهر البارد بالمدفعية، وهل تنسى وقوفها إلى جانب قوات التحالف بقيادة أمريكا في عدوانه على العراق عام 1991 ثم صمتها على احتلال العراق 2003، وكيف نغفر لسوريا تحالفها مع إيران المعادية للعرب الخ.

الذاكرة ما زالت تختزن كل ما سبق ولكن، تصدي الدولة السورية لأخطر مؤامرة على الأمة العربية وعلى القضية الفلسطينية وعدم استسلامها للجماعات الإسلاموية الإرهابية وللتدخلات التركية والأمريكية تسجل كوقفة صمود تستحق الاحترام حتى وإن كان صمود الدولة لصالح النظام والرئيس الأسد.

كشف صمود سوريا كل الأكاذيب التي روج لها عرابو فوضى الربيع العربي والتي تزعم أن ما جرى في سوريا ثورة شعبية للمطالبة بالديمقراطية والحريات، فكيف تكون ثورة من أجل الديمقراطية وقد ركب موجتها جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الدينية المتطرفة كتنظيم داعش والنصرة وغيرها؟ وكيف يمكن أن نصدق أن دولا خليجية تدعم الثورة السورية وتعادي النظام من منطلق معاداتها للدكتاتورية والاستبداد كما صرح مؤخرا وزير خارجية قطر قبيل عودة سوريا للجامعة العربية؟ وهل دول الخليج وتركيا وأمريكا وإسرائيل وجماعة الإخوان المسلمين وداعش والنصرة أنظمة ديمقراطية أو حريصة عليها وتدخلت لهذا السبب؟

نعم نحترم ونقدر القوى السورية الديمقراطية التي كانت تطالب بالديمقراطية وترفض سلطة الطائفة الواحدة، ونترحم على أرواح الشهداء الذين سقطوا في الأيام الأولى للثورة، ولكن هل كانت الأمور ستستقر في سوريا لو تجاوب الأسد مع مطالبهم؟

لو رجعنا إلى الأيام الأولى لاندلاع فوضى ما يسمى الربيع العربي ورأينا كيف تم سرقة ثورة الشباب من طرف قوى إسلاموية وأخرى غير وطنية ذات ارتباطات خارجية هدفها الرئيس هو تدمير الدولة ونشر الفوضى، وحتى عندما تنازل بعض الزعماء عن السلطة لم يتوقف هذا المخطط التأمري.

فبعد أيام من بداية الحراك الشعبي في تونس هرب الرئيس زين العابدين بن علي يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011 ولكن استمرت الفوضى وما زالت مستمرة حتى الآن، وبعد فترة عصيبة من الحراك الشعبي في مصر أو ثورة 25 يناير 2011 تنازل الرئيس حسني مبارك عن السلطة  يوم 11 فبراير ولكن استمرت الفوضى والعنف المسلح بين الجيش وجماعات دينية، حتى بعد الانتخابات التي فاز فيها جماعة الإخوان المسلمين لم يستقر لهم الأمر إلا لعام واحد حيث خرج الشعب مجددا للشارع في ثورة 30 يونيو 2013وعزلت القوات المسلحة الرئيس المنتخب محمد مرسي في الثالث من يونيو، واستقر الأمر نسبيا.

أما ما جرى في ليبيا فهو أكثر مأساوية ففي 15 فبراير 2011 انطلقت الثورة من مدينة بنغازي، وامتدت لتصل إلى طرابلس وفي 20 أكتوبر تم قتل الرئيس معمر القذافي بغارة من حلف الأطلسي، وما بعد ذلك استمر الصراع والحرب الأهلية إلى اليوم وتم تقسيم ليبيا. ونفس الفوضى والحرب الأهلية جرت في اليمن.

انطلاقا مما سبق فلا يمكن لأي رئيس أو ملك وهو يتابع ما يجري في البلدان المجاورة أن يتخلى عن السلطة ويترك الأمر للجماعات والدول التي تقف خلف فوضى (الربيع العربي). مع تعاطفنا مع قوى المعارضة الوطنية والديمقراطية إلا أنها كانت الطرف الأضعف في المعسكر المعادي للنظام وكثير من قادة هذه المعارضة انسحبوا من تحالف المعارضة السورية عندما اكتشفوا ما يحاك لسوريا من خراب وفوضى.

وأخيرا، وحتى مع افتراض صحة التسريبات التي تقول بأن المملكة السعودية كانت وراء عودة سوريا للجامعة العربية وقبل ذلك عودة العلاقات السعودية الإيرانية وذلك بموافقة ضمنية أمريكية يكون مقابلها تطبيع علاقات المملكة مع إسرائيل، بالغم من ذلك فإن   عودة سوريا للجامعة العربية وتحسين علاقاتها مع الدول العربية وحتى مع تركيا يعتبر خطوة في طريق طويل لاستعادة سوريا لكل أراضيها حيث تتواجد على أراضيها قوات تركية وأمريكية وإيرانية وروسية، كما أنه خطوة نحو استعادة النظام الإقليمي العربي لعافيته والتفرغ لمواجهة التحديات الكبيرة التي ما زالت تواجه الأمة العربية سواء من طرف إسرائيل أو دول الجوار كإيران وتركيا وإثيوبيا، أيضا مواجهة تبعات ما يجري في السودان.

***

د. إبراهيم ابراش

قال سيرجي دروبيشيفسكي، مدير الأبحاث في معهد غيدار - موسكو(-Moscow Gaidar Institute)، إن الوضع المستقر الحالي في الاقتصاد الروسي كان نتيجة لسياسة روسيا الإتحادية الٍطويلة الأجل المتمثلة في تقليل الاعتماد على العمليات الخارجية وخلق الدعم من الموارد الداخلية.

في 4 مايو/ مايس 2023، عقد اجتماع عمل بين رئيس الاتحاد الروسي فلاديمير بوتين ورئيس وزارة التنمية الاقتصادية مكسيم ريشيتنيكوف. أبلغ رئيس وزارة التنمية الاقتصادية عن الوضع المستقر للاقتصاد الروسي، مؤكدا أن المؤشرات الاقتصادية للاتحاد الروسي تبين أنها أفضل من مؤشرات الدول الغربية. وهكذا، أظهر العام 2022 التكيف الناجح للأعمال الروسية مع الظروف المتغيرة.

وقال سيرجي دروبيشيفسكي: «بعد أن نجا الاقتصاد الروسي في  العام 2022، استعد لمزيد من التطوير من خلال استخدام العوامل الداخلية، فضلا عن الاستفادة القصوى من الفرصة لتوسيع وجوده في الأسواق الخارجية في البلدان الصديقة والمحايدة، على الرغم من كل الجهود التي يبذلها عدد من الدول لعزل وطرد البضائع الروسية من السوق العالمية».

وتابع الخبير أن النتائج الأولية للربع الأول من العام 2023 متفائلة لبلدنا. يقدر الانخفاض بنقطة مئوية واحدة فقط، وبالتالي، إذا نجحت في جميع الأرباع الأخرى من هذا العام، فقد تصل القيم النهائية لنمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 1-1.5٪، كما تنبأت وزارة التنمية الاقتصادية في الاتحاد الروسي.

"يتأثر التضخم السنوي الحالي (2.6٪) إلى حد كبير بفترة الانكماش الطويلة في العام الماضي، لذلك بحلول نهاية العام من المتوقع زيادة قيم التضخم السنوي إلى 6-6.5٪، ولكن على أي حال هذا انخفاض بأكثر من مرتين مقارنة بالعام الماضي"، يعتقد سيرجي دروبيشيفسكي.

وشدد على أنه لا ينبغي لنا أن ننسى الاتجاهات التضخمية العالمية، وبالتالي فإن مستوى 6٪ هو مستوى «طبيعي» لنمو الأسعار للعديد من الاقتصادات المتقدمة في العام 2023. ولأول مرة في التاريخ، من المرجح أن تكون روسيا دولة ذات تضخم أقل من المتوسط العالمي مقارنة بمجموعة من البلدان ذات معدلات التضخم المرتفعة.

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

الأكاديمية العربية في الدنمارك

تشاندران نير Chandran Nair

المدير التنفيذي ومؤسس المعهد العالمي من أجل الغد [GIFT]

ترجمها عن الأنكليزية: يحيى علوان

***

ثمةَ مؤشراتٌ رئيسة 5 توضحُ كيف يتغير العالم، وأنه يجب على الغرب أن يتعامل مع حقيقة أنه لم يعد قادرًا على فرض "قيادته" على العالم كما كان يفعل سابقاً.

إن النظام الدولي ما بعد الغربي متعدد الأقطاب في أُفولٍ، آخذ إلى زوال، في حين يكافح العالم مع الآثار المترتبة على هذا التحول في السلطة، وتتشكل أسس تقديراتٍ لتحوُّلٍ هائلٍ. سوف يتحدى هذا التحوّل المعتقدات والهياكل الراسخة التي حافظت على الهيمنة الغربية على العالم على مدى مئات من السنين الماضية، وكشف على طول الخط طبيعة استحقاق الغرب المتصور لقيادة نظام التراتب العالمي. ستكون النتيجة النهائية إعادة تقييم مهمة للعلاقات الدولية كما عرفناها حتى الآن.

هذا التحول الهائل سيكون محمولاً بخمس مؤشرات رئيسة، ستُجبر الدول الغربية على مواجهة المستقبل والتكيف معه حيث تَجب مشاركة "القوة" مع البقية في عالم متعدد الأقطاب. إن الفشل في التعرف على هذه المؤشرات أو محاولة مقاومتها بقوة، قد يشكل خطراً كبيراً ليس فقط على الغرب نفسه، ولكن أيضًا على الاستقرار العالمي. ومع ذلك، يمكن تجنب النزاعات المستقبلية إذا تم النظر إلى فترة التغيير هذه على أنها فرصة لبناء عالم أكثر إنصافًا، وليس أزمة تهدد الامتيازات المتطاولة على حقوق الآخرين وسيادتهم، والراسخة في ذهنية "الغرب".

خمسة مؤشرات تستدعي التأمل

إن المستقبل الذي ينتظر الغرب - الانتقال السلس نحو التعددية القطبية أو فترة عدم الاستقرار والصراع المحتمل - سيعتمد إلى حد كبير على كيفية استجابة صُنّاع السياسة للمؤشرات الخمسة التالية:

الأول: هو تفكك رواية التاريخ حتى الآن. لقد مارس الغرب، عبر تاريخه الاستعماري، وأتقن التفسير الانتقائي وسرد الأحداث، واختار تصوير نفسه على أنه مُنشئ الحضارة الحديثة وقوة إرشادية خيّرة. هذا يتغير الآن. لقد كسرت تقنيات المعلومات، مثل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، احتكار المعلومات والتاريخ الذي كانت تملكه في السابق مؤسسات حراسة البوابات الغربية (شركات الإعلام والجامعات ودور النشر... وغير ذلك). نتيجة لذلك، يدرك الناس في جميع أنحاء العالم أن التاريخ لم يعد مقصورًا على التفسير الغربي - بما في ذلك إستهجان أعماله "الخيرية"!

فقد كان أحد المكونات المهمة في ذلك هو فشل الغرب المتكرر في الاعتراف بماضيه المشين. على الرغم من تضخيم الأخطاء المتصورة للآخرين . فقد إلتزم الغرب الصمت بشأن تأريخه البغيض، مثل تدمير الرواد الأمريكيين الأوائل لثقافات السكان المحليين الأصليين، أو الاستغلال الأوروبي للقارة الأفريقية، أو معاملة أستراليا للشعوب الأصلية- الأبروجينز-. إن معالجة هذه الأحداث التاريخية مهمة بشكل خاص لأنها تؤثر على السلوك الحالي.أنَّ الدول الغربية تواجه أيضًا مشاكل في الاعتراف بالأخطاء والنوايا المعاصرة.

المؤشر الثاني: هو إعادة تقييم النظام الدولي "المستند إلى القواعد". قد لا يحب صانعو السياسة في واشنطن سماعه، لكن هذا المفهوم غدا موضع الكثير من السخرية في جميع أنحاء العالم ويُنظر إليه على نطاق واسع على أنه أداة يستخدمها الغرب للسيطرة على الشؤون العالمية والحفاظ على هيمنته. هناك استياء كبير يتنامى ضد الدول الغربية نظرًا للانتهاك المتكرر لقواعدها الخاصة، مما يعني أن شرعية هذا النظام أصبحت موضع تساؤل على الرغم من جوانبه الإيجابية.

وتتزامن مع هذا الإحباط المتزايد حقيقة أن توزيع القوة عبر المزيد من الدول يغير النظام العالمي الحالي ويخلق فرصًا وتحديات جديدة. لقد احتلت الصين مكانة أكثر بروزًا، حيث قدمت المنافع العامة العالمية مثل صنع السلام ومعالجة تغير المناخ بطريقة لا ترغب الدول الغربية أو لا تستطيع القيام بها. وبالمثل، بدأت الهند في التأكيد على حقوقها، شأنها في ذلك شأن الدول الصغيرة الأخرى، مثل الإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا...

ومع تحديد المزيد من الدول لمساراتها في القرن الحادي والعشرين، يجب على الغرب أن يدرك أن ميزان القوى الدولي قد تغير! ولا يمكنه الاستمرار في فرض إرادته على الآخرين - إن صعود الصين ودول أخرى دليل على ذلك-. على الغرب أن يتصالح مع هذا الواقع الجديد وأن يدرك أن هناك حاجة إلى نهج جديد وأكثر براغماتية ومتعدد الأقطاب، حيث تنتهج الدول سياسات خارجية ملتزمة بالتعايش، تحدوها مصالحها الخاصة بدلاً من الانحياز إلى "جانب واحد" "أو الآخر.

ثالثًا: سقط القناع عن عمليات "حفظ السلام" الغربية، على الرغم من تصوير نفسها على أنها الضامن للأمن العالمي، فإن الكثير من دول العالم ينظر الآن إلى الولايات المتحدة - وأوروبا إلى حد أقل-، على أنهما يستفيدان من الحروب، بدلاً من الاهتمام بتعزيز السلام الحقيقي. إن المجمع الصناعي العسكري الغربي – وخاصة في الولايات المتحدة - قوي للغاية لدرجة أنه باتَ معروفًا الآن أنه يقود السياسة الخارجية للولايات المتحدة إلى الحد الذي يؤدي إلى استمرار الصراعات للاستفادة بالتالي من الحروب.

تقود الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو، حالياً زيادة هائلة في الإنفاق العسكري العالمي، حيث تنفق أمريكا على "الدفاع" أكثر مما تنفقه الدول العشر التالية في الناتو مجتمعة. كما أنه من المعروف أيضًا أن ما يقرب من نصف ميزانية البنتاغون يذهب إلى متعاقدين من القطاع الخاص كل عام، ويتبرع المجمع الصناعي العسكري بملايين الدولارات للتنافس داخل الكونجرس الأمريكي، مما أدى إلى الاستيلاء على الدولة وزيادة كبيرة في ميزانيات الدفاع.

لقد أدركت بقية العالم أنه لا يمكن الوثوق بالغرب وحده لقيادة جهود السلام العالمية، خاصة إذا كان جزء كبير من اقتصاداته موجهًا للاستفادة من الصراعات والحروب. مقابل ذلك، يحدث تغيير إيجابي، إذ توسطت الصين في اتفاقيات سلام رائدة - بين المملكة العربية السعودية وإيران، على سبيل المثال – إضافة إلى أن زعماء العالم مثل إندونيسيا جوكو ويدودو، وناريندرا مودي في الهند، والبرازيلي لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، يساهمون في السعي لفض النزاعات الحديثة بصورة سلمية مُرْضِيَة.

المؤشر الرابع: يجري حالياً سعيٌ حثيثٌ للإطاحة بالبنية المالية الغربية الفوقية. إن استخدام الغرب لقوته المالية على نطاق واسع لتحقيق مكاسب وأغراض جيو- سياسية ليس سرًا كبيرًا - يتحدث صانعو السياسة والخبراء علنًا عن "تسليح التمويل" وفرض عقوبات على الدول التي لا تمتثل للنوايا الغربية. وبالمثل، فإن قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على تجميد وحتى مصادرة احتياطيات الدول ذات السيادة - أفغانستان وفنزويلا وروسيا - تسببت في حدوث موجات من الصدمة في جميع أنحاء العالم.

نظراً لذلك ولسجل الغرب الخاص من الجشع المالي وسوء التصرف - الذي أدى إلى أزمات مدمرة مثل الأزمة المالية 2007-2008 والانهيار الأخير لبنك "وادي السيليكون"Silicon valley Bank، الذي كانت له أصداء عالمية – مما أدى إلى عدم الثقة في الغرب ورفضه للهياكل والبنى المالية وهو ما يتنامى من جديد، عبر جهود تجري الآن لتفكيك الامتياز الباهظ الممنوح للولايات المتحدة من خلال عملتها.

إن إلغاء "الدولرة"- نسبة إلى الدولار الأمريكي – يحدث بصورة متزايدة، إذ انخفضت حصة العملة من الاحتياطيات العالمية إلى 47 في المائة العام الماضي، مقابل 73 في المائة في عام 2001. يضاف إلى ذلك، تبحث البلدان عن بدائل لنظام سويفتSWFT، والذي تم استخدامه أيضًا لصالح الدول الغربية، على أساس العقوبات، وبالتالي أزعج غالبية دول العالم. ومع إكتساب البلدان ذات العملات المستقرة تأثيرًا، يظهر نظام اقتصادي متعدد الأقطاب يعيد تشكيل التحالفات الجيو - سياسية والدبلوماسية الاقتصادية وتوازن القوى داخل المؤسسات الدولية، قد يمنح هذا التغيير الدول النامية مرونة أكبر في إدارة عملاتها وسياساتها النقدية ويحدُّ من قدرة الغرب على فرض عقوبات من جانب واحد. علاوة على ذلك، تجاوزت دول البريكس مؤخرًا مجموعة الدول السبع من حيث الناتج الإجمالي المحلي، مما يشير إلى إعادة توزيع القوة الاقتصادية ويشيرُ إلى مستقبل من التعاون في التجارة والاستثمار والبنية التحتية والمساعدة التنموية.

خامساً: وأخيراً، هناك الانهيار الملحوظ في مصداقية الصحافة الغربية. يأتي هذا في منعطف حرج، حيث أدت أوجه القصور المتكررة في السنوات القليلة الماضية إلى زيادة الوعي العالمي بدور الإعلام الغربي في إدامة الجوانب المفضلة للغرب في النظام العالمي الحالي - غالبًا على حساب الدول الأخرى.

على سبيل المثال، أدى تقريع الصين المستمر في عناوين الأخبار الغربية إلى تكريس رواية سلبية، بل مثيرة للخوف عن بكين باعتبارها تهديدًا لمواطنيها والعالم بأسره. لقد تم حشد السياقات الجيو- سياسية لهونج كونج و تايوان، على الرغم من تعقيدها، بشكل خاص وانتقائي لدفع رواية "نحن ضدهم"، بدلاً من تشجيع التفاهم بين الغرب والصين.

كذلك، فإن التغطية الأحادية الجانب بشكل كبير للنزاع الأوكراني تتجاهل بانتظام التعقيدات الجيو - سياسية الوطنية والإقليمية في العلاقة الروسية - الأوكرانية، طويلة الأمد وتاريخ توسع الناتو في أوروبا.كما يعد الإفتقار إلى التقارير الواقعية حول تفجير نورد ستريم، الذي يعتقد الكثيرون أنَّ منْ ارتكبه هو "الغرب" - مع تقارير لدعم هذا الادعاء – كل ذلك أحدث فجوة صارخة ساهمت في انعدام الثقة بوسائل الإعلام الغربية في كل من الغرب والقراء على حد سواء. فبعد أشهر فقط، اعترفت الصحافة الغربية بهدوء بالذنب الغربي المحتمل، أو على الأقل المعرفة به!

علاوة على ذلك، أدت التغطية غير الكافية والمتحيزة للنزاعات غير الغربية، مثل تلك الموجودة في اليمن وميانمار وفلسطين، إلى اتهامات عالمية بالإهمال والتحيز وحتى العنصرية.

فِكرةٌ للتأمُّل

تحتاج الحكومات الغربية، التي تواصل حتى الآن، إنكار صدى للتواصل مع أصدقائها في جميع أنحاء العالم وإدراك ما هو واضح للجميع باستثناء أنفسهم: أن تُدرك بأن العالم ليس كما كان في حقبة ما بعد الحرب الباردة. لقد انتهت الطرق القديمة، والغرب ببساطة لا يملك القوة السياسية والمالية، ناهيك عن الشرعية الدولية، كما فعل في السابق! إذ يجب عليها - الدول الغربية - أن تتكيف مع هذه البيئة الدولية المتغيرة، بدلاً من الإصرار بعناد على العمل كـ"المعتاد"! إن عدم القيام بذلك سيجعل العالم مكانًا أكثر خطورة ويقوض مصداقية وتأثير الغرب أكثر.

***

قال الرئيس الصيني انه من الواجب دوليا الاعتراف الكامل في دولة فلسطين ك "عضو" كامل الاهلية والصلاحية في الأمم المتحدة، وهذا الموقف يختلف ويتعارض مع الموقف الأوروبي والأمريكي وبقية حلفاء النظام الطاغوتي الربوي العالمي في التعامل مع قضية فلسطين المحتلة.

نستطيع ان نربط ذلك مع الالتزام الشعبي العربي وأيضا الشعوب الصينية في رفض الشذوذ الجنسي وموجة نشر اللوطية وهدم الاسرة والغاء دور الأب وخلط الانساب والأعراق والأفكار النيوليبرالية الحديثة الهادمة لكل الأديان السماوية والقيم الشرقية.

بينما الصهاينة وحركتهم الدولية المرتبطة بهم ومن ورائهم النظام الطاغوتي الربوي يقومون بالترويج ونشر هذه الانحرافات وذلك السقوط ويفرضونها ضمن موجة عالمية قذرة عفنة في كل الدول التي تكون تحت سيطرتهم وهذه المسألة فيها تناقض وديالكتيك صيني صهيوني نستطيع نحن العرب الانطلاق منه لصناعة تحالف اكبر قوة وارتباط مصلحي مستحكم واشد يفيدنا قوميا والتجربة السورية العربية خير مثال حيث دعم القطب الامبراطوري الصيني القادم الدولة السورية في صراعها مع حلف الناتو والصهاينة واتباعهم ومن وظفوهم واستخدموهم اثناء الازمة السورية , حيث لم يكن هناك "غدر" صيني ولا "طعن" في الظهر ولا "تخلى" ولا "استغناء" كما يفعل ذلك الامريكان والاوربيين مع ما يسمون انفسهم "حلفاء الغرب" الذي يرميهم كالأحذية القديمة المستهلكة بعد ان يستخدمهم.

علينا ان نعرف ان ما بين الحلف الطاغوتي الربوي العالمي والحركة الصهيونية أكبر مما يتخيله المتصهينين العرب الذين هم ليسوا فقط خونة للعروبة ومتآمرين ضد الاسلام بل هم يعيشون الجهل المعرفي ولا يقدمون قراءة حقيقية للواقع من باب السذاجة الفكرية التي يعيشونها او من باب العمالة المأجورة والوضع الخياني الذي يمارسونه حيث يردحون بما يتم برمجتهم عليه ك "جواسيس" و"خدم" للأجنبي.

ان الاعلام الغربي المملوك صهيونيا يتحرك في الترويج بأن لا فائدة من أي حالة انتقال امبراطورية من قطب واحد الى عالم متعدد الأقطاب !؟ وهناك تقليل وتسخيف متعمد لما تقوم به الصين وكذلك روسيا في العالم من الناحية السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية وهذا الاعلام الغوبلزي الدعائي المملوك صهيونيا يقوم بذلك لصناعة استمرار لحالة عقلية الهزيمة والاستسلام والتي أيضا يقوم المتصهينين العرب الخونة بأعادة تقديم مثل هذا الخطاب الإعلامي الدعائي المزيف لكي يستهلكه السذج والحمقى بدون دراسة وتدقيق واستعمال العقل في معرفة ما وراء اللعبة.

علينا نحن العرب ان نعلم: ان رأس المال والاعلام في الامبراطوريات القادمة للسيطرة مثل الصين وروسيا يتحكم بهما العنصر الوطني هناك، وليسوا من الذين يأخذون اوامرهم وتوجيهاتهم من عصابات الكيان العنصري الصهيوني.

وأيضا نحن لا" نقول ان الصين وروسيا هم حالة ملائكية قادمة لتخدم قضايانا العربية والإسلامية كجمعية خيرية بدون مقابل طلبا للأجر والثواب !؟ ، ولكن هم لديهم مصالح وأيضا علاقات مع الصهاينة تحكمها الاستفادة وماذا سيترتب عليها من أمور، وهذه علاقة مد وجزر ومرتبطة مع تطورات المنطقة وتقلباتها وأيضا بمن يملك الحصة الأقوى من النفوذ والسيطرة ومن لديه مشروع نهضوي تنموي اداري أعمق وأكبر مرتبط بالصعود الحضاري الفردي والمجتمعي ضمن مؤسسات الدولة، هنا قد يتخلى الروس والصينيين عن علاقاتهم المصلحية مع الصهاينة لصالح المشروع العربي.

اذن ما نريد ان نؤكد عليه ان الحالة الصينية والروسية مختلفة عن الغرب الذي ارتباطه مع الكيان الصهيوني وحركتهم الدولية هو ارتباط ك "تشابك شرايين الدم" وك "الهواء في رئة الانسان" حيث ان المصلحة الانتفاعية ليست هي الوحيدة المرتبطة بالرغبة في استمرار وجود الكيان الصهيوني العنصري في الحياة السرطانية على ارض دولة فلسطين العربية المحتلة.

ان العلاقة التجارية بين روسيا والصين وما بين الصهاينة هي علاقة مالية بحتة ليس لها علاقة بالدين او القومية او مختصة ب "الالتزام الفكري الأيديولوجي" اذا صح التعبير وعلينا ان نقر ونعترف ان مشكلتنا ك "عرب" اننا لم نقدم مشروع كامل متكامل له ابعاد مصلحية تجعلنا اكثر أهمية واقوي نفوذا في العالم بل اننا تخلينا عن أي دور الا الاستسلام والقبول في الهزيمة , والنظام العربي الرسمي اصبح غارقا في عبادة الشخصيات او في الهوس في البقاء في السلطة وسرقة موارد الدولة ومعه غرق الشعب العربي في مشاكله المعيشية واحباطه العميق مع ما يشاهده من فقدان مشروع للنهضة وأيضا جزء من الشعب العربي مع هذه المشاكل المعيشية لم يرتقي معرفيا وثقافيا لحالة من الوعي والبصيرة تخرجه من حالة الاستحمار الذاتي التي يعيشها والتي تجعله لقمة سهلة امام أي اثارات إعلامية او ترويج دعائي موجه وهذا الامر لا نلوم عليه شعبنا العربي فقط لأن تلك المسألة منتوج عدة عوامل ومنها الحكم القومي الطوراني التركي ومنها دخول الاستشراق الأوروبي لصناعة حالة استعبادية ترث ما بعد سقوط الدولة العثمانية وجاء بعد الاستعباد الأوروبي انشاء الكيان الصهيوني والذي اخذ يلعب على مشاكل المجتمع العربي بنجاح من خلال اختراقه لنقاط الضعف وأيضا من خلال سياسة النفس الطويل ولنا في تخطيطه لفصل السودان وصناعة الأرضية لذلك المثال وأيضا تأسيسيه لحرب المياه والسيطرة على الواقع العربي وإركاعه من خلال التعطيش ومنها انطلقت مشاريع سدود وادي النيل وأيضا مشارع جنوب شرق الاناضول التي تقوم بها الدولة العنصرية الطورانية التركية حليفة الصهاينة.

وايضا للأسف الشديد ان هناك حالة عربية تم تشكيلها في الوعي الروسي والصيني في إدارات وزارات الخارجية ومراكز التفكير وأيضا في الجامعات ومواقع الدبلوماسية عندهم، نحن نقول ان هناك قناعة لديهم تقول التالي: ان هناك تابعية عربية للحلف الطاغوتي الربوي العالمي وليس هناك استقلال في القرار واتخاذه، وهذا ما يخلق "قلق" لديهم وقناعة ان العرب "ملعب" بدون شخصية استقلالية وليس لديهم شيئا ليقدموهن الا ما يؤمرهم به الحلف الطاغوتي الربوي العالمي.

ان علينا الاقرار ان خوف ك "هذا" يعيشه الروس والصينيون هو خوف " "مشروع" ونحن نتفهمه بكل بساطة لأنهم كما ذكرنا يتحركون مصلحيا بما يفيدهم وطنيا وبما يخدم مشاريعهم التنموية الحضارية الخاصة بهم، ونحن العرب عندما فقدنا مشروعنا القومي المستقل فلذلك ضعنا خارج التاريخ، فلم يعد لدينا شيء لنقدمه للعالم من حولنا وأيضا للأقطاب الإمبراطورية القادمة للسيطرة والدخول في وأقع التحكم الدولي وسط تراجع منظومة الحلف الطاغوتي الربوي العالمي.

فلنتحرك في تفصيل المسألة علميا إذا صح التعبير ولنأخذ الفرق بين الارتباطات المختلفة ضمن قراءة ساعية للكشف ولصناعة قناعة تؤكد ما قلناه وسنأخذ الجمهورية الشعبية الصينية ك "مثال" وسنحاول اثبات ان هناك فرق بين الصين والحلف الطبقي الربوي العالمي بما يتعلق بعلاقتهم مع الصهاينة، وهذا ضمن ثلاثة محاور رئيسية:

المحور الأول:

هو ان الحركة الصهيونية تتحكم في الاقتصاد في الغرب لذلك هذا التحكم والسيطرة الاقتصادية مرتبطة مع استمرار الضخ المالي والدعم للكيان العنصري السرطاني المقام على ارض دولة فلسطين المحتلة، لأن رأس المال الغربي واقع تحت السيطرة والتحكم اليهودي، على العكس من "رأس المال الصيني"

المحور الثاني:

هو ان الديانة المسيحية وهي الأكثر انتشارا داخل الولايات المتحدة الامريكية حيث هناك اعتقاد واسع انه ضمن واجبهم الديني هو مساعدة الكيان الصهيوني واستمرار وجوده، وان استمرار وجود العالم مرتبط مع استمرار بقاء هذا الكيان الأمني الإداري العسكري في الحياة على ارض دولة فلسطين المحتلة، لذلك هناك اعتقاد عند هؤلاء الطائفة من اتباع الديانة المسيحية انهم ملزمين "دينيا" بهذا الدعم، اذن ليست المصلحة والمنفعة هي فقط الحاكمة في العلاقة مع الصين.

يعرف الباحث الدكتور يوسف الحسن «المسيحية الصهيونية» في كتابه «البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي» بأنها «مجموعة المعتقدات الصهيونية المنتشرة بين مسيحيين، بخاصة بين قيادات وأتباع كنائس بروتستانتية، تهدف إلى تأييد قيام دولة يهودية في فلسطين بوصفها حقاً تاريخياً ودينياً لليهود، ودعمها بشكل مباشر وغير مباشر باعتبار أن عودة اليهود إلى الأرض الموعودة - فلسطين - هي برهان على صدق التوراة، وعلى اكتمال الزمان وعودة المسيح ثانية، وحجر الزاوية في الدعم الشديد لهؤلاء المسيحيين لإسرائيل هو الصلة بين «دولة إسرائيل» المعاصرة وإسرائيل التوراة، لذلك أُطلق على هذه الاتجاهات الصهيونية في الحركة الأصولية اسم الصهيونية المسيحية».

يقول الأب ديفيد نويهاوس اليسوعى في ندوة عقدت في كنيسة السريان الأرثوذكس في العاصمة الأردنية عمان: «المصطلح حديث نسبيًا، لكنه يشير إلى نوع من الفكر المسيحي الذي هو أقدم من الصهيونية، ويمكن أن يوجد خاصة في عدة كنائس غير تقليدية، بالتحديد في المناطق الانجلوساكسونية «أمريكا وبريطانيا» والعالم الأوروبي الشمالي «هولندا وإسكندنافيا»، وانتشرت في القرن التاسع عشر، وبينما تطورت الصهيونية بشكلها العام كأيديولوجية سياسية اجتماعية في الأساس، فإن المسيحية الصهيونية هي أيديولوجية دينية بحتة».

ويذكر الأستاذ مدحت صفوت في دراسة له حول هذا الموضوع التالي:

"تتعدد أسماء ومصطلحات «المسيحية الصهيونية»، منها: الأُصولية اليمينية، والألفية التدبيرية، والإنجيلية المتشددة، ويتبعها كنائس وفرق عديدة داخل الولايات المتحدة وخارجها، أبرزها شهود يهوا، والطائفة البيوريتانية، والحركة المونتانية، ومؤتمر القيادة المسيحية الوطنية من أجل إسرائيل، وفرقة المجيئيين، والسبتيون، والخمسينية، ومؤسسة جبل المعبد، والميثوديست «الميثودية»، جماعة ميجا، فرسان الهيكل «المعبد»، واللوبى اليهودي الصهيوني، والمائدة المستديرة الدينية، والرابطة الأممية لمكافحة العنصرية، والائتلاف الأمريكي للقيم الأخلاقية، والحركة المونتانية التي ترجع إلى الكاهن مونتانوس الذى أعلن عن معمدانيته، مدعيًا أنه صوت الروح القدس، وحصوله تدبيرًا خاصًا، وتنبأ برجوع المسيح إلى الأرض خلال وقت قريب.

وتتعدد أيضا الشخصيات العامة الدينية والسياسية الداعمة أو المتبينة للرؤية المسيحية الصهيونية، في مقدمتهم القس جون مكدونالد، الذى طالما ردد «يا سفراء أمريكا انهضوا، واستعدوا لإسماع بشرى السعادة والخلاص لأبناء شعب منقذكم، الذين يعانون من الظلم، أرسلوا أبناءهم واستخدموا أموالهم في سبيل تحقيق الرسالة الإلهية»، قاصدًا نبوءة النبي يشعياهو، بعودة اليهود!

وتؤمن الشخصيات السياسية الصهيونية في الولايات المتحدة، أنها تساعد الله في مخططاته التوراتية الإنجيلية المقررة سلفاً لنهاية العالم!، كما ينتمى أغلبهم إلى «الطائفة التدبيرية»، التي ترى أن كل شيء من تدبير الله ومقدر سلفًا، وما على الإنسان إلا السعي لتنفيذ هذا المقدور، وأشهر قساوستها جيري فولويل، وجيمي سواجارت، والقس الشهر بات روبرتسون، وجيمي بيكر، وأورال روبرتس، كنيت كوبلاند، وريكس همبرد.

ويعتقد السياسيون الأمريكيون المتصهينون أن المسيح يأخذ بأيدهم، وأنهم يقودون معركة هرمجدون، التي ستقع في منطقة الشرق الأوسط!! ويصرح كثيرون منهم بالسبب الديني لدعم إسرائيل، الأمر الذي سبق أن ردده مثلا الرئيس الأمريكي ليندون جونسون «1963 -1973»، قائلًا أمام جمعية «أبناء العهد»: «إنني مستعد للدفاع عن إسرائيل تماماً كما يدافع جنودنا عن فيتنام. وإن بعضكم، إن لم يكن كلكم، لديكم روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلى تمامًا، لأن إيماني المسيحي ينبع منكم، وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي، تماماً مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر الحديث، من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد».

ويرى كثير من الباحثين أن عددًا من رؤساء الولايات المتحدة ينتمون عقائديًا وإيديولوجيًا إلى المسيحية الصهيونية، من بينهم: وودرو ويلسون «1913 - 1921»، وهاري ترومان «1945 - 1953» صاحب جريمة القنبلة النووية، ودوايت أيزنهاور «1953 - 1961»، وليندون جونسون «1963 - 1973»، وريتشارد نيكسون «1969 - 1974»، جيمي كارتر «1977 - 1981»، رونالد ريجان «1981 - 1988»، وعائلة بوش الأب والابن، وكذلك وزير الخارجية الأمريكي الحالي جون كيري، اليهودي الأصل، الذى كان يعد المكافح الأول عن أمن إسرائيل خلال العشرين عام التي قضاها في مجلس الشيوخ الأمريكي، وأكد مرارًا أنه لن يتنازل عن حق إسرائيل في العيش الآمن، وكتبت عنه جريدة جيروزلم بوست الصهيونية، أنه يظهر كل المعايير والاستطلاعات دعمًا مطلقًا للكيان. "

"تختلط المرامي والأهداف التي يسعى إليها «المسيحيون الصهاينة» بين دينية وسياسية، تتمثل الأخيرة في استمرار السياسات الاستعمارية ونهب ثروات الشرق وإبقاء الدول العربية دومًا تحت نيران المشكلات السياسية والعسكرية، واستنزاف طاقاتها في معارك بدلًا من التفرغ لبناء ذاتها، ودينيًا تعمل على تثبيت شرعية الكيان الإسرائيلي على أساس أنه تحقيق للنبوءات التوراتية، ودعم إعادة بناء الهيكل، والتعجيل بعودة المسيح!!

وتتفق الصهيونية مع اليمين الأمريكي في عدد من التقاطعات، منها: «أن كل مسيحي يجب أن يؤمن بالعودة الثانية للمسيح، وأن قيام إسرائيل واحتلال القدس هما إشارتان إلهيتان بقرب العودة الثانية للمسيح، وبناءً على ذلك، فإن جميع أشكال الدعم لإسرائيل ليس أمرًا اختيارًا، وإنما قضاء إلهى لأنه يؤيد ويُسرع قدوم المسيح، وبالتالي فإن كل من يقف ضد إسرائيل يعتبر عدوًا للمسيحية وعدوا لله بالذات»."

المحور الثالث:

هو استمرار الظاهرة البكائية اليهودية على ما يسمونه "مذابح الهولوكوست"، وعلى " الحلب المستمر المتواصل" لعقدة الذنب الاوربية الامريكية وتقصيرهم مع اليهود ؟! ويذكر الأستاذ حسني محلى بهذا المسألة التالي: "في 27 كانون الثاني/يناير من كلّ عام، يحيي العالم المتعاطف مع اليهود و"دولتهم" العنصرية "إسرائيل"، العنصرية وفق لجنة العفو الدولية في بيانها الذي أصدرته 2 شباط/فبراير 2022، اليوم العالمي لما يُسمى "الهولوكوست"، أي المحرقة النازية ضد اليهود.

كالعادة، وتحت الضغوط النفسية التي يتعرض لها كلّ من ينكر هذه المحرقة أو يشكّك فيها، استغلَّت الصهيونية العالمية هذه المناسبة لكسب المزيد من التأييد السياسي والتضامن العاطفي مع مقولاتها، وبالتالي مشاريعها الاستيطانية في فلسطين، كأنّ الذين "أحرقوا اليهود في غرف الغاز" هم الفلسطينيون، وليسوا الألمان، كما يقولون.

ولو تجاهلنا ما قامت به النازية الهتلرية ضد الغجر والشيوعيين وأصحاب العاهات الجسدية والنفسية، ومواطني بولندا من السلاف أيضاً، وهو ما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن مليون منهم، فما علينا إلا أن نعترف للصّهيونية العالمية بنجاحها الباهر في قصة المحرقة منذ بدايتها، وهي طرف فيها أساساً، إذ حقّقت من خلال قصّة المحرقة مكاسب مادية وسياسية وأيديولوجية ساعدتها على تحقيق الحلم اليهودي لإقامة "الدولة اليهودية" في "أرض الميعاد" فلسطين، "بعد أن خيّرت يهود أوروبا" بين البقاء في أوطانهم والموت في غرف الغاز النازية أو الهجرة فوراً إلى فلسطين والعيش في نعيم بين أشقائهم اليهود من جميع أنحاء العالم قرب حائط المبكى".

وهذا ما تؤكده الباحثة لميس اندوني حيث تكتب الاتي:" احتكار الألم كمفهوم عنصري يلتحف بادّعاء إنسانيٍّ مزيف سلوك توظفه كل الأنظمة الاستعمارية والعنصرية، وإلا، كيف يمكن تبرير ارتكاب المجازر ونهب الشعوب؟ لا عجب أنه في صلب تكوين المشروع الصهيوني والممارسات الإسرائيلية، فالمستوطن أحق بالأرض، لأنه يعشق الخضرة، والمستوطن أحقّ بالمياه لأنه يفهم ضرورة الاستحمام ولا بأس من سحب مياه القرى الفلسطينية إلى المستوطنات لإقامة برك السباحة، ولا مساواة في الاحتياجات ولا في الفرح ولا في الألم.

احتكار الألم من أهم أسلحة المشروع الصهيوني وإسرائيل. صحيحٌ أن ردّة الفعل على جريمة المحرقة تستدعي ضمان عدم تكرارها، وهو الشعار الذي جرى رفعه بعد الحرب العالمية الثانية، لكن المنظمات الصهيونية تبنّته لتبرير كل الجرائم التي ارتُكبت لإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ولضمان استمرار توسّعها، وأصبح شعارا لضمان صمت العالم."

اذن هذه الثلاثية من المحاور ليس لها وجود داخل القطب الإمبراطوري الصيني إذا صح التعبير حيث ينظرون لمنطقتنا من باب مصالح تجارية واستفادة مالية وموقع ضمن خطتهم لأعادة رسم طرق التجارة البحرية والبرية للتجارة الدولية والتي منطقتنا جزء أساسي منها، وأيضا هذه الطرق التجارية الجديدة تضرب الخطوط التجارية القديمة المرسومة ضمن المصالح الانجلوساكسونية الاطلسية إذا صح التعبير مع مواقع التحكم والسيطرة البريطانية الامريكية القديمة والتي تم تجديدها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

ان الإمبراطورية الصينية تبحث عن "شريك" أفضل لهم ومن يقدم لها عروض خدمية مريحة تلبى مصالحهم وخطط امبراطوريتهم الناهضة للتواجد والوجد في عالم متعدد الأقطاب وهي ليست لديها أي من المحاور الثلاثة الموجودة عند الحلف الطاغوتي الربوي العالمي، الذي لا يستطيع الفكاك والهروب من الحركة الصهيونية العالمية او تجاهلها حتى لو كان هناك ضرر مباشر عليهم ك "بلدان " ودول" و"مجتمعات.

ويؤكد ذلك الباحث توفيق سلام حيث يقول: " يقدّم نهج الصين الآخذ في التطور لمحة عن الأسلوب الذي تنتهجه لتعزيز مصالحها مع بلدان العالم المختلفة. فهي تعتمد في علاقاتها الخارجية على عدد من الأبعاد المترابطة أهمها: أولاً، إعطاء الأولوية للمصالح الصينية المباشرة والمحددة بدقة وتأمينها، وثانيًا محاولة تسهيل حل النزاعات، وثالثًا السعي لتحقيق أهداف استراتيجية طويلة المدى.

فالصين تركز على تأمين مصالحها الخاصة، أي الحماية المادية لاستثماراتها، وهي في ذلك تتوقع تعاون شركائها ودعمهم للمصالح الأمنية الصينية"

" وتوظف سياستها الخارجية لخدمة أهدافها الداخلية المتمثلة في النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والسياسي والتقدم العلمي والتكنولوجي وحماية الأمن القومي. وتنظر إلى احتدام الصراع والهيمنة الأمريكية على العالم بالأخطار المهددة لها، التي تقوض مصالحها في ظل سياسة القطب الواحد، في مواجهة المنافسين، من خلال فرض قراراتها على حلفائها بمهاجمة الخصم أو فرض شروط على منتجاته الاقتصادية، أو تقنياته"

"تهتم الصين بمنطقة الخليج بشقيه العربي والإيراني، حيث تستورد ما يقرب من 60 في المائة من إمدادات الطاقة وتحتاج إلى الاطمئنان لحضور ترتيبات أمنية تحول دون تهديد شبكات النفط والغاز الطبيعي ودون تهديد تجارتهما. كما أن اهتمام السياسة الخارجية الصينية بعموم الشرق الأوسط وبالقارة الإفريقية يعود إلى أولوية التبادل التجاري والاستثمارات والمساعدات التنموية بين الصين وبين المنطقتين اللتين فيهما أسواق واسعة، ومواد خام هائلة ونقص بالغ في البنى التحتية الأساسية وشبكات المواصلات والنقل والاتصالات، ولا تحصلان على الكثير من الاستثمارات الغربية.

فالصين لا تنظر إلى في سياستها الخارجية كمجال لفرض انحيازها الأيديولوجية على الآخرين بتصنيفات الصديق والعدو، أو بالربط بين التجارة والاستثمار وتقديم المساعدات التنموية، وبين الاستجابة إلى شروط سياسية أو اقتصادية بعينها، أو برهن العلاقات الجيدة مع دول إقليم معين بحضور علاقات سلام وتعاون بين تلك الدول وبعضها البعض. وتقدم منطقة الخليج على وجه خاص ومنطقة الشرق الأوسط في العموم أمثلة واضحة على غياب المشروطية عن السياسات الصينية.

فالأولوية الكبرى هي تحفيز النمو الاقتصادي في الداخل من خلال زيادة التبادل التجاري مع جميع دول العالم وزيادة الاستثمارات الموجهة إلى البنى التحتية في دول الجنوب. ذلك أن الصين صارت الشريك التجاري الأول لجميع دول المنطقتين، وتستورد احتياجاتها من الطاقة من إيران والسعودية وروسيا ودول إفريقية. ولها اتفاقات تعاون استراتيجي وشراكات واسعة مع إيران والسعودية، وكذلك مع إسرائيل وتركيا دون أن تلتفت إلى طبيعة العلاقات بين تلك الدول وبعضها البعض. وسياستها هي أقرب ما تكون إلى ما يشار إليه أحيانًا في أدبيات العلاقات الدولية بسياسة "الخيمة الكبيرة" التي تعني بناء التحالفات وزيادة التجارة والاستثمار وتقديم المساعدات مع دول الجوار، والدول في المناطق الهامة لمصالحها دون النظر لانحيازات ايديولوجية، أو لاعتبارات سياسية. وفيما يخص الشرق الأوسط، فإن الصين لم تأت إلى المنطقة كقوة غزو واحتلال على عكس ما فعلت القوى الاستعمارية الأوروبية في الماضي البعيد"

ولا يعني ذلك غياب العلاقة بين الكيان الصهيوني والصين؟ فهم تجار وامبراطورية مصلحية فهم من بنوا ميناء حيفا في فلسطين المحتلة وأيضا كما تذكر الباحثة تمارا حداد "الصين واسرائيل العلاقة بينهما قوية بالتحديد في المنحى الاقتصادية وتصدير البضائع الصينية وغيرها لمناطق السلطة الفلسطينية أو ادخالها لغزة كون اسرائيل المسيطر الوحيد على المعابر التجارية ناهيك عن تصديرها لمنطقة الشرق الاوسط، وكما ان الصين غير معنية بتضييق العلاقة مع اسرائيل حيث يتواجد داخل الكيان الصهيوني قواعد استخباراتية لتجميع المعلومات عن منطقة الشرق الاوسط وبالتحديد منطقة البحر الاحمر وأفريقيا والصين معنية تماماً في تلك المعلومات وبالتحديد أن الصين تملك قواعد عسكرية في البحر الاحمر قبالة الصومال وغيرها الأمر الذي بحاجة لتنسيق أمني وعسكري واقتصادي بين الصين واسرائيل."

ولكن نحن نقول ان شكل العلاقة مختلف وليس ذوو ارتباط عضوي دموي إذا صح التعبير وليست مصارين وامعاء الصهاينة متداخلة مع مصارين وامعاء الصينين كما هو حاصل مع الغرب.

اذن علينا نحن العرب ان نتحرك ب "مشروعنا العربي النهضوي" الذي يؤمن بالوحدة العربية المبنية على أساس علمي واقعي يرتبط بتعزيز الإدارات والنظام وحكم القانون وأيضا التنسيق العربي المشترك والتضامن بين الدول بما يخدم الأنظمة الرسمية والشعوب العربية التي تعيش حاليا في هذه الأقطار المنقسمة حسب تفصال مصالح بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية لما بعد الحرب العالمية الاولي وهذه المصالح حاليا ستختلف وتتعارض مع الأقطاب الدولية القادمة للتحكم في المشهد الدولي , فاذا لم يسبق "عرب سايس بيكو" اذا صح التعبير انفسهم فأن خارطة جديدة مبنية على مصالح الأقطاب الدوليين الجدد ستعيد انشاء دول جديدة ومواقع حكم مستحدثة نفس ما حصل بعد انهيار الدولة العثمانية, فالأفضل ان يستبق النظام الرسمي العربي ذلك قبل ان لا يطبر طيره كما يقول المثل الكويتي الشعبي , لذلك الوحدة العربية هي قدر "مصلحي" وليست اختيار "عاطفي".

وضمن هذه الاجواء علينا ان نعيد التذكير في نشاطات مركز دراسات الوحدة العربية المكثفة بقيادة المرحوم الدكتور خير الدين حسيب والذي اجتمعت معه بالعام 2010 ومرة أخرى في العام 2011 وكان ضمن نقاشاتنا هذا الموضوع بالذات وما قام به المركز من نشاطات.

وذكر لي الدكتور خير الدين حسيب انه المركز يعمل على هذه المسالة بشكل مكثف وهنا اجد من المناسب ان اقتبس فقرات مهمة من المشروع النهضوي العربي كما جاء في الكتيب المهم الذي اهداني إياه المرحوم الدكتور خير الدين حسيب لكي اطلع عليه وابدي ملاحظاتي عليه والنصوص التالية من هذا الكتيب المعنون ب "المشروع النهضوي العربي نداء المستقبل" حيث يذكر الاتي : "عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد على المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثُها ومناقشاتُها – على مدار أربعة أيام – القضايا النهضوية الست التي تشكل أهداف المشروع وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدُّد الحضاري."

"وشكَّل المركز، عقب الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع " و"لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله على هذا المشروع، على مشاركة التيارات الفكرية كافة في إنجازه (من قوميين وإسلاميين ويساريين وليبراليين) حتى يأتي ممثِّلاً لنظرةَ الأطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه مشروعاً للأمة جمعاء لا لفريقٍ منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركاً في المراحل كافة: من إعداد المقترحات والتصورات، إلى فرق العمل التي ناقشت المخطط وأقرَّته، إلى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، إلى أعضاء لجنة الصياغة وفريق التحرير. وها هو المركز يطرح “المشروع النهضوي العربي” في صورته النهائية على الأمة، واثقاً من أنه سوف يكون دافعاً قوياً لنضالها من أجل تجسيد أهدافه الستة في الواقع العربي، وناظماً فعّالاً لهذا النضال."

هذا المشروع المكتوب امر جيد ومجهود مهم يمثل خارطة طريق "ابتدائية" يستطيع النظام الرسمي العربي ان يستخدمها وان يتحرك على الأقل بأي نقطة من النقاط التي اثارها والتي تمثل مساحة مشتركة اتفق عليها مجموعة مهمة من الكتاب والمثقفين العرب من مختلف الاتجاهات والتيارات الذين ادوا ما عليهم من "رسالة الكلمة" اذا صح التعبير , ولكن هي صرخة في الوادي لن تكون الا رسالة منسية في التاريخ ما لم تتحرك في خط التطبيق والحركة الواقعية في التنفيذ وهذا دور من لديهم مواقع السلطة والحكم والقرار في النظام الرسمي العربي الذين اذا لم يصحوا من غفلتهم فأن سايس بيكو الجديد القادم مع "تعدد الأقطاب" لن يتركهم نائمين بل سيوقظهم مع ما سيتم تأسيسه من دول ومواقع للحكم جديدة على كل منطقتنا العربية , فالأفضل لهم كما ذكرنا بالأعلى ان يتغدوا قبل ان يتعشى بهم الأقطاب الدولية الجديدة.

ان علينا ك "عرب" ان ننطلق من مواقع قوتنا لكي ننهض ونعيش دورنا الحضاري المطلوب منا في هذا العالم , اما الاستسلام وثقافة الهزيمة والانغلاق , فأنها لم تنفعنا بشيء منذ وفاة المرحوم جمال عبد الناصر "الشخص" , والانقلاب على مشروعه التغييري في الواقع العربي , ان على النظام الرسمي العربي ان يصحى من نومه وغيبوبته قبل ان يتم إخراجه بحكم الواقع من معادلات الحكم والسيطرة والقرار ,و هذا الخروج حتمي مع عالم متعدد الأقطاب القادم لكل العالم لكي يغير ما فيه من قواعد اللعبة , وعلي شعبنا العربي ان يغير ما في نفسه لكي يغير المجتمع من حوله وان يتحرك في صناعة شخصيته العربية القومية من خلال ثقافة قرأنية حركية عاقلة تصنع له شخصيته الثقافية والمعرفية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ ومن القران الكريم يستلهم التجربة والقدوة والنموذج الذي يعطيه الدافع الذاتي لكي يخرج من الاستحمار الشيطاني ليعيش النباهة القرأنية الاصيلة لما تقدمه الآيات من إعادة صناعة الانسان العربي المسلم , وليس هناك مستحيل ما دام لنا عقل يفكر وجسد ينبض بالحياة وأيضا الرغبة في التغيير وإعادة الساعة الى التوقيت العربي الإسلامي بعيدا عن الحلف الطاغوتي الربوي العالمي وبعيدا عن أي اقطاب دولية أخرى , فليكن لنا مشروعنا العربي المستقل وليكن لنا قرارنا النابع من مصالحنا وعند ذلك فأننا سنكون احرار "مستقلين" في الموقف وأصحاب رأي وقيمة معرفية ننطلق كالسيل الجارف لأعادة صناعة حضارتنا العربية الإسلامية من جديد.

***

د.عادل رضا

طبيب استشاري باطنية وغدد صماء وسكري

كاتب في الشئوون العربية والاسلامية

معركة وادي المقطع 17 جوان 1835 فيها أطاح الأمير عبد القادر بالجنرال تريزل

لم يكن الهدف المركزي للأمير عبد القادر هو المجد العسكري، وإنما كان بناء دولة جديدة على أطلال البايلك العثماني، دولة جزائرية حديثة برؤية معاصرة متفتحة، لم يكن الأمير عبد القادر بالرجل العادي، بل كان يفكر بعمق ويطلق العنان لفكره إلى الأعلى فكان مفكرا تنويريا، إلا أن خصومه وأعداؤه لم يستوعبوا تقدم فكره التنويري المرحلة التي كانت تعيشها الجزائر آنذاك رسم فيها طريقا لمن يأتي بعده، فراحوا يطعنون فيه ويوجهون له تهمة الانتماء للماسونية بغية إجهاض مشروعه في بناء الدولة الجزائرية

المتتبع لمسيرة الأمير عبد القادر الجزائر يقف على أن الرجل أول من وضع الأسس الأولى لدولة جزائرية حديثة، فتحت تأثير القوى التهديمية القوية التي كانت تهز المجتمع الجزائري ومقاومة بعض الأرستقراطيات القبلية والطرق الدينية لمنطق المركزية الحكومية التي بادر بها الأمير، وكذلك بسبب تخلي سلطات المغرب عنه، رغم ذلك تحقق المشروع، كانت دولة الأمير عبد القادر لها إسلاميتها وأسسها القانونية ومظاهرها الأخلاقية وعصريتها، تقول الكتابات أن بيعة العروش والقبائل للأمير عبد القادر تمت في الثالث عشر من رمضان سنة ثمان وأربعين ومائتي وألف (1248)، وجرت بوثائق صدرت من زعماء غريس، فقبل الأمير عبد القادر بيعتهم، ونهض لجمع كلمتهم نهوض الزعيم، وقد ركز الأمير عبد القادر على مؤسسة الجيش، من خلال صناعة الأسلحة والمعدات الحربية، ولم يهدا له بال حتى يطرد الاستعمار من أرضه، كما أسس في تلمسان مصنعا للمدافع، وكان له مصنعا للسلاح في مليانة، فكان القائد الأعلى في مقاومة المستعمر، وفي تنوير الجيل من الشباب المسلم، وغرس فيه ثقافة المرابطة، وإعداده الإعداد الجيد لتحمل المسؤوليات الجسام.

من قال ان الرجل الذي ينتهي نسبه إلى شجرة أهل البيت يتخلى عن دينه وينتمي إلى الماسونية، فالأمير عبد القادر يرجع نسبه إلى محمد بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن فاطمة الزهراء بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجة الإمام علي بن أبي طالب بن عمّ الرسول، كان أجداده يقطنون المدينة المنورة وأول من هاجر منهم هو إدريس الأكبر الذي صار سلطان المغرب وشيد مدينة فاس، فتطور نسله وتفرق ابناؤه، إلى أن وصلت عائلته في غريس قرب مدينة معسكر، ولكونه كان جديرا بالثقة والتقدير اتجهت إليه كلمة العلماء والأعيان لتحمله مسؤولية الجهاد، حيث وتمت مبايعته في يوم 27 من نوفمبر عام 1832 ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، واستمرت هده المقاومة حتى عام 1847، ظهر فيها الأمير عبد القادر رجل حرب وسياسة وحكمة ورجل ثقافة وأدب ورجل دين، واجه الاستعمار وجيشه بصبر وثبات رغم خيانة بعض الأنظمة العربية خشية على عروشها من بطش فرنسا .

أعد الأمير عبد القادر في إطار مواجهته الاستعمار الفرنسي، جيشا شبه منظم من متطوعي القبائل ومن أتباعه تجاوز 50 ألف رجل من المشاة، وأكثر من 2000 من الفرسان وبعض قطع المدفعية، ونجح في العديد من المعارك، في حنق النطاح الأولى والثانية وبرج العين عام 1832 في الغرب الجزائري، كان لها صدى كبير على الرأي العام الفرنسي، وأجبر العدو على إبرام اتفاقية مع الأمير عبد القادر اعترف فيها الفرنسيون بسيادة دولة الأمير عبد القادر في إقليمها، مما سمحت للأمير من تنظيم جيشه وتعيين عدة ولاة له على الولايات الداخلية، ولكن سلطته وصلت إلى أقصى الجنوب الأغواط وأقصى الشرق سطيف، لم تمر سنة الهدنة بسلام، حيث وصلت جيوش عسكرية من وراء البحر يقودها جنرالات، وبدأوا في تحريض شيوخ القبائل بالمال للتمرد على دولة الأمير عبد القادر، الأمر الذي أرغم الأمير على العودة إلى الحرب على الفرنسيين، فانتصر في عدة معارك منها معركة وادي المقطع قرب سيق في 17 جوان 1835، ألحق فيها بالجنرال تريزل trezil، شرّ هزيمة، وأصاب من قواته ما يفوق 700 عسكري، ثم كانت واقعة " التافنة" التي انهزم فيها الجنرال بيجو وجيوشه، لم تقبل فرنسا بهذه الهزيمة، حيث شكلت قوة عسكرية كبيرة قصد القضاء على دولة الأمير وطرده إلى المغرب، وإتمام غزو الجنوب الجزائري، بعد أن دخلت جيوشها قسنطينة عام 1937 وسيطرت على أغلب مناطق الشرق الجزائري، وعرف ما سمي بممارسة الأرض المحروقة، واستمر تكالب الاستعمار على دولة الأمير ووضع نهاية له، حيث هاجمت التخوم التي كان يقوم عليها جيشه، فانسحب إلى الونشريس وأنشا عاصمة “الزمالة” عام 1841 ثم هاجمته في 16 ماي 1843 بتاغيت جنوب بوغار، استشهد كثير من المجاهدين.

يؤكد المؤرخون أن إمارة الأمير عبد القادر بن محي الدين كانت شرعية ومعقولة، وقد بين الأمير عبد القادر في أكثر من مناسبة لأتباعه الذين بايعوه بالإمارة قائلا لهم: "إذا كنت قد رضيت بالإمارة، فإنما ليكون لي حق السير في الطليعة والسير بكم في المعارك في سبيل الله"، فقد قبل الأمير عبد القادر الإمارة في وقت الشدة والضيق قصد رفع الظلم على الجزائريين ودفعا للفساد وإرهاب الاستعمار الفرنسي، والإمارة عنده تعني الطاعة لله والجهاد من أجل إحياء راية الإسلام وهي مهمة ليست سهلة، ولكن إيمان الرجل بدينه ووطنه مكنه من توحيد القبائل في الغرب، وتأديب الخونة الذين تعاونوا مع الاستعمار، فزاد حقد فرنسا على الأمير عبد القادر وهو يؤسس جيشا قويا، حيث تراءى لها أن الإنتصار عليه بالسلاح أمر صعب وبعيد المنال، فلجأت إلى الدسّ والمؤامرات بمساعدة الخونة الذين تنكروا لوطنهم وأصبحوا يؤيدون فرنسا، وبواسطة الجنرال بيجو بدأت فرنسا تلاحق الأمير عبد القادر في مكان محصور من الصحراء حتى تجبره على الاستسلام، فأرسل بيجو فرقة خاصة بزيّ مناضلين جزائريين وأدخل فيها عدد من الخونة المؤيدين للحكام الفرنسيين والمناوئين للأمير عبد القادر، وتمكنوا من خداع الأمير الذي ظن أن الفرقة جاءت لمساعدته.

ولما انكشفت حقيقتهم كانت المقاومة غير مجدية لأن الأمير ومن معه لم يكونوا مسلحين وهم يستقبلون الإخوة المزيفون، وفي معركة "الزمالة" أحاط الفرنسيون بالمدينة واستولوا على ممتلكات الأمير ومن معه، كانت هذه المعركة بداية نهاية الأمير عبد القادر الذي اضطر للاستسلام بعدما رأى القبائل تتناحر وسط نيران فرنسا، ونار سلطان مراكش الذي خذله، سلم الأمير عبد القادر نفسه لفرنسا وفق شروط وهي أن يحمل متاعه وأسرته إلى عكة أو الإسكندرية، وألا تتعرض فرنسا لمن يريد السفر من الضباط والعساكر معه، وأن الذي يبقى بالوطن من الجزائريين يكون أمينا على نفسه وماله، وكان له ما أراد، وقد سلم الأمير عبد القادر سيفه هدية للدوق دومال قائلا: إني أحسب هذا شرفا قدم لفرنسا، ورغم ذلك وقع الأمير عبد القادر في فخ الخيانة من جديد، ففرنسا لم تعمل بما تم الإتفاق عليه، حيث كانت سنة 1848 السنة التي تقلص فيها ظل الأمير عبد القادر من وجهة نظر فرنسية.

رغم استسلام الأمير عبد القادر للجيش الفرنسي من أجل حقن دماء الجزائريين وإنقاذهم من الهلاك وإعلان نهاية معركته في 1847م، لم تتوقف "المسيرة" بل ظلت مستمرة، وخلفا لأبيهم، فقد حمل أبناء الأمير عبد القادر (عبد المالك وعبد الكريم) راية الجهاد ضد الإستعمار الفرنسي، انطلاقا من المغرب الأقصى، والأمير عبد المالك الجزائري هو الابن الثاني قبل الأخير للأمير عبد القادر الذي ولد بدمشق سنة 1285ه/ 1868م بعد تم نفي العائلة، فكان مستقرها بسوريا، وفيها وجهت له تهمة الانتماء إلى الماسونية، وتعريض صورته لحملات التشويه، لكن الأقلام التي دافعت عن الأمير عبد القادر ورفعت عنه التهمة كانت قليلة جدا، تشير بعض الكتابات أن الكولونيل وليام تشرشل صاحب كتاب "حياة عبد القادر"، هو من روج لهذه الدعاية، حيث انتشرت وأذاعها مفكرون عرب، كأمثال جرجي زيدا، فما كان على الحركة الماسونية إلا أن تستغل هذه الدعاية لصالحها، وتستثمر في الأحداث التي وقعت في سوريا عام 1860م على خلفية إنقاذه 15 ألف مسيحي في دمشق من أجل القضاء على الطائفية، فبثت سمومها بأن الأمير عبد القادر انتسب لمحافلها.

حدث ذلك بعد وفاة الأمير عبد القادر، ولو كان على قيد الحياة لكان رده عنيفا، لكن صوت ليبي أطلق العنان لقلمه ليرد على هذه الادعاءات الكاذبة، فلم ينصر الأمير عبد القادر وحده، بل نصر الشعب الجزائري كله، إنه المؤرخ والمفكر علي الصلابي الذي تحدث عن التجربة الماسونية في مقال مطول نشر بموقع الجزيرة، وقال أنها (اي التجربة الماسونية) لم تقف عند اتهام الأمير عبد القادر بالانتماء لها، بل هي جزء من الحركة الاستعمارية الفرنسية، كما ذكر بعض الأسماء التي تحدثت عن المؤامرة التي حيكت خيوطها ضد الأمير علد القادر الجزائري، ورغم تأسيس مؤسسة تحمل اسمه، تمنينا لو قامت هذه المؤسسة بمبادرة ترد فيها على فرنسا وحلفائها من الماسونيين والصهاينة وترفع التهمة عن الأمير عبد القادر وتفضح كل من اساء لهذا المقاوم سواء في الداخل او الخارج.

كانت لنا مساهمة يسيرة في ذكر خصال الأمير عبد القادر وعائلته في كتابنا الأخير الذي حمل عنوان: "أنثروبولوجيا الجزائر وصراع الهوية والوطنية" وخصّصنا له محورا كاملا تحت عنوان: " في دولة الأمير عبد القادر" (و تستمرّ المسيرة)، عندما قرر الأمير عبد القادر تنفيذ وصية والده محي الدين حين عقد له اللواء وأمره بأن يقاوم بكل ما أوتي من قوة، وقد كلفه أبوه أن يكون على رأس جيش عرمرم ليواجه العدو في واقعة برج رأس الطين، ودامت المعارك أياما وكان النصر حليفه، وحظي بمبايعة الجزائريين له، وفي مقدمتهم أعيان غريس وشرفائها وعلمائها، وهي القبيلة التي ينتسب إليها الأمير عبد القادر، كما بايعته القبائل المجاورة، وأفهموه أن الوطن بحاجة ماسة لمن يدافع عنه، واستجاب الأمير عبد القادر لدعوة أبيه وقال له: (أنا لها أنا لها)، وخيّم القوم عند شجرة "الدردرة" وهي شجرة عظيمة كان يجتمع إليها الأعيان للشورى كلما دعا الأمر إلى ذلك، وبايعوه ولقبه أبوه بناصر الدين.

كما تحدثنا عن علاقته بالمغرب عندما شيّد جدهم إدريس الأكبر مدينة فاس وأصبح سلطانا عليها وكيف انقلب عليه أحمد باي وأصبح يراه العدو اللدود إلى غاية استسلامه، كان ذلك في 27 ديسمبر 1847 وبحضور الدوق دومال الحاكم العام الجديد في الغزوات، وتم التوقيع على وثيقة التسليم بعد 17 عاما من المقاومة والمعاناة ضد أكبر دولة اوروبية مسيحية وصليبية، وحمل الأمير عبد القادر أسيرا إلى فرنسا حتى عام 1852 ثم إلى دمشق التي توفي بها، وقد عرف الأمير عبد القادر الجزائر بمواقفه النبيلة والمشرفة، فقد كان لا يعترف بقانون سوى القرآن الكريم ولن يكون مرشده غير القرآن الكريم إلى حد أنه صرح أن لو أن أخاه الشقيق قد أحل دمه بمخالفة القرآن لمات، لقد تفطن الأمير عبد القادر بذكائه وتجربته وإخلاصه لدينه ولوطنه في جهاد ضد الإستعمار الفرنسي الصليبي أن أهم عامل من عوامل فَلاحه في جهاده ضد العدوّ هو وحدة الشعب الجزائري ودعم الإخوة في الداخل والأشقاء العرب والمسلمين في الخارج، ثم ياتي قائل أو كاتب يشوّه مسيرة هذا المقاوم وينعته بالماسوني، وتلك هي قمة الخيانة للتاريخ.

***

علجية عيش

بلا شك ولا ريب ولا جدال أن ليبيا شأنها في ذلك شأن كل الدول التي مرت بحروب أهلية قاسية ونزاعات إجتماعية عميقة ودورات متعاقبة من العنف، ولم تستطع تجاوز سنوات الجمر والألام إلا عبر بناء جسر مصالحة حقيقية وعميقة تجب ما قبلها، مصالحة شجاعة تسمو على الضغائن ويتجمع فيها الكل بلا إستثناء تحت مظلة الوطن .إن تحقيق المصالحة الحقيقية والعميقة والوطنية الشاملة في ليبيا يتطلب جهودًا كبيرة من جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الحكومات والمجتمع المدني والقيادات السياسية والعسكرية والدينية والاجتماعية. وفيما يلي بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها لتحقيق المصالحة الشاملة في ليبيا:

1- الحوار والتفاوض: يجب على جميع الأطراف المعنية الجلوس معًا للتفاوض على القضايا الحساسة والمتعلقة بالمصالحة الوطنية وتجاوز الخلافات التي تعيق السلام والاستقرار في البلاد. ويتطلب ذلك الاستماع لجميع  الأطراف ومحاولة فهم مواقفهم وتوجيههم نحو الحلول الوطنية.

2- العفو العام: يمكن تحقيق المصالحة الوطنية من خلال العفو العام، الذي يتيح للأطراف المتحاربة والمتنازعة فرصة لتجاوز الماضي والبدء من جديد في بناء مستقبل مشترك. ويجب أن يكون العفو العام مرتبطًا بتحقيق العدالة وتعويض الضحايا.

3- العدالة الانتقالية: يجب على الأطراف المعنية أن تعمل على إحداث تغيير جذري في نظام العدالة وتحقيق العدالة الانتقالية، والتي تهدف إلى معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبتها الأطراف المتحاربة في الماضي، وتحديد مسؤولية الجناة ومحاسبتهم.

4- التعويض والإعادة وعودة المهجرين والنازحين: يجب على الأطراف المعنية العمل على تعويض الضحايا وإعادة الممتلكات التي تمت سرقتها أو تدميرها خلال النزاعات السابقة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال توفير الدعم المالي والموارد اللازمة للضحايا وتطبيق قوانين الإعادة والتعويض. أيضاً يجب العمل على إتاحة الظروف وتهيئة الأوضاع لعودة النازحين عن مدنهم وقراهم إلى ديارهم ، وكذلك ضرورة تسهيل عودة المهجرين خارج الوطن إلى ليبيا.

5- الإصلاحات السياسية: يجب على الأطراف المعنية العمل على إحداث إصلاحات سياسية جذرية، من خلال تحقيق الديمقراطية والحكم الرشيد وإدارة البلاد بطريقة شفافة ومسؤولة، وتوفير الفرص الاقتصادية والاجتماعية لجميع المواطنين دون تمييز.

6- الدعم الدولي: يمكن للدول الأخرى أن تلعب دورًا مهمًا في تحقيق المصالحة الشاملة في ليبيا، من خلال تقديم الدعم السياسي والمالي والتقني للأطراف المعنية والمساعدة في تسهيل الحوار والتفاوض. كما يمكن للدول الأخرى تقديم الدعم للعدالة الانتقالية والإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تساعد في بناء مستقبل مشترك لليبيا، وذلك بعيداً عن التدخلات الخارجية غير العادلة وغير الحيادية والتي تنطوي على أغراض براغماتية ، والتي من بين أدواتها تأجيج النزاعات والحروب.

إن تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة في ليبيا يتطلب الصبر والتفاني والتعاون من جميع الأطراف المعنية، وكذلك فإن تحقيق هذه المصالحة الشاملة ليس بالأمر الصعب فهناك تجارب مصالحة عالمية جرت في ظروف أسوأ من ذلك ،وقد يستغرق الأمر وقتًا طويلا تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة بشكل كامل. والتي تتطلب أيضاً تضحيات وتنازلات، ولكن إذا تم تبني هذه الخطوات وإدراك الأهمية الحقيقية للمصالحة الشاملة، فإنه يمكن تحقيق الاستقرار والسلام الدائم في البلاد والحفاظ على وحدة الوطن وتعزيز النمو الاقتصادي والسلم الاجتماعي للشعب الليبي.

***

د.ابوبكر خليفة أبوبكر

كاتب راي وباحث وأكاديمي ليبي

الاجتماع أو المؤتمر بين دول الخليج العربي وأمريكا، الذي انتهى في الثامن من يونيو 2023؛ صدر عنه بيان مشترك خليجي أمريكي. في هذا البيان تمت دعوة إيران إلى التجاوب مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والإشادة بإعادة العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية، إضافة إلى ملفات أخرى تطرق لها البيان. المؤتمر في حد ذاته يؤكد أن العلاقات بين أمريكا ودول الخليج العربي، لم تزل تستند إلى قواعد قوية وراسخة وإن شابها في الفترة الأخيرة بعض الفتور وبالذات بين أمريكا بايدن والمملكة العربية السعودية.

كما أن ملف التطبيع مع إسرائيل، وإن لم يتطرق له البيان، إلا أنه كان في صلب هذه المؤتمر؛ استنادا إلى التصريحات الصحافية لوزيري خارجية السعودية وأمريكا. وزير الخارجية السعودي في المؤتمر الصحافي مع نظيره الأمريكي؛ وصف التطبيع مع إسرائيل بأنه مهم ومفيد جدا لجميع دول المنطقة، لكن لا يمكن لهذا التطبيع أن يتحول إلى واقع، إلا بإيجاد طريق سلمي لحل قضية الشعب الفلسطيني، ومسار لحل الدولتين، ولم يقل إقامة دولة ذات سيادة للفلسطينيين، بل مسارا لحل الدولتين.. ولم يذكر الوزير السعودي؛ المبادرة العربية، وهي مبادرة سعودية وضعها المرحوم الملك عبدالله؛ كقاعدة وأساس لا حياد عنهما في وضع حل للصراع العربي الإسرائيلي.

البيان الخليجي الأمريكي أشار إلى عملية التطبيع العربي مع النظام السوري؛ مبينا أن على النظام السوري أن يفي بالالتزامات التي تعهد بها، كشرط للتطبيع العربي معه وأضاف، خطوة مقابل خطوة. ما هي هذه الالتزامات؟ لم يقلها، أو لم يكشف عنها، ما يجعل المتابع العربي؛ يطرح الأسئلة عن هذه الالتزامات المطلوبة داخل ملف مغلق بإحكام. من الجانب الثاني وصف الوزير السعودي البرنامج النووي السلمي السعودي؛ بأنه ليس سرا، بل هو معروف للجميع، وأن السعودية ترغب بالعمل على هذا البرنامج مع الشركاء الأمريكيين. كما أن العلاقات الاقتصادية مع الصين ستشهد تطورا، إضافة إلى الشراكة مع الشريك الأمريكي، التي لم تزل قوية حتى الآن. وهي إشارة واضحة، وإن لم يفصح الوزير عنها بما فيه الكفاية؛ إلى أنها رهينة بتطورات المستقبل. المملكة العربية السعودية عازمة على تطوير برنامج نووي سلمي، بدورة وقود كاملة، أي أنها هي من تعمل على إنتاج دورة الوقود النووي، كي يكون في مستوى البرنامج النووي الإيراني، الذي تطور كثيرا مؤخرا، هنا نقطة الخلاف الأمريكي السعودي، حسبما تداولته مؤخرا الصحافة، سواء الروسية أو غيرها. الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لتطوير برنامج نووي سعودي، أسوة بالبرنامج النووي الإماراتي، إنما بإشراف أمريكي، ودورة الوقود النووي أمريكية، وهذا ما ترفضه المملكة العربية السعودية. المسؤولون السعوديون يدركون جيدا؛ تأثير اللوبيات اليهودية على صناعة القرار في أمريكا، بالإضافة إلى دول أخرى في الغرب، وحتى في روسيا؛ لذلك تعمل السعودية على تهدئة مجموعات الضغط هذه، منظمة إيباك مثلا؛ بالتجسير بين حافتي؛ الاطمئنان الإسرائيلي إلى أمنها، الذي تريد له أن يكون مستداما، والخوف من المجهول وتقلبات الزمان؛ بالتطبيع في المستقبل القريب مع إسرائيل، إنما بشروط ومقايضات.. السعودية تريد من أمريكا بايدن التي تعمل كما يقول وزير خارجيتها؛ على التسريع بعملية التطبيع بين السعودية وإسرائيل؛ إقامة أو العمل مع السعودية على تطوير برنامج نووي سلمي بدورة وقود كاملة مع الشريك الأمريكي، وإن امتنعت ستكون المملكة مضطرة إلى الاستعانة بالصين في هذا المجال، أو روسيا. كما أن الشرط الثاني لهذا التطبيع هو تزويد أو بيع السعودية طائرات أمريكية متطورة، أف 35. من السابق لأوانه التنبؤ بالاتفاق أو عدمه بينهما. ومن وجهة نظري أن أمريكا بايدن لن ترضخ للمطالب أو الشروط السعودية، إنما ستستمر بالضغط على الجانب السعودي، حتى يطبع مع إسرائيل. وزير خارجية أمريكا بعد انتهاء المؤتمر الأمريكي الخليجي، وبعد اجتماعه مع الأمير محمد بن سلمان؛ اتصل بنتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، حسب موقع أكسيوس الأمريكي، وأبلغ الاول الأخير ما دار بينه وبين الأمير محمد بن سلمان حول عملية التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وأن أمريكا ملتزمة بأمن إسرائيل. كما أن عملية التطبيع بين إسرائيل ودول المنطقة العربية، حسب الموقع أعلاه؛ ستفتح مجالات رحبة وواسعة أمام التطور الإسرائيلي والاندماج في المنطقة. الأمير محمد بن سلمان يتقن اللعبة تماما؛ باستخدام جميع أوراق الضغط التي هي في حوزة السعودية في مجال الطاقة وغيرها، وقد استخدمها فعلا في الأشهر الأخيرة؛ في كسر الإرادة الأمريكية الحالية، بالتعاون الفعال في حقل الطاقة، في سوق النفط، إنتاجا وتسعيرا مع روسيا؛ ونجح بدرجة كبيرة جدا. في النهاية ستكون هناك عملية تطبيع بين السعودية وإسرائيل. في الوقت ذاته وفي تزامن، ربما؛ ستتم الاستعانة بالصين لتطوير برنامج نووي سعودي، بدل الاستعانة بروسيا، وكذلك في تطوير القدرات السعودية في إنتاج الصواريخ وفي غيره. على الرغم من أن إسرائيل لا ترغب في أن تطور السعودية، أو اي دولة أخرى في الخليج العربي، أو في المنطقة العربية عموما؛ قدراتها العسكرية والعلمية، لكنها مع هذا ومع عملية التطبيع معها ستكون مضطرة إلى المجاراة أو الصمت، أو الاعتراض الخافت الخجول، في أكثر التوقعات حدوثا كردود فعل إسرائيلية على التوجه السعودي أو العربي بشكل عام في تطوير القدرات العسكرية والنووية والعلمية؛ لأنها تعلم أن التطبيع ينهي آفاق تهديد وجودها مستقبلا؛ ما يجعل خشيتها من تطورات المستقبل تتراجع بالكامل، أو في أعلى درجات الخوف؛ يكون اعتراضها ضعيفا، بما لا يشكل حاجزا أو مطبات على طريق التوجه العسكري والعلمي السعودي على جميع صعد التطور والتمكَين. إنها لعبة على حساب الشعب الفلسطيني، وإن قيل خلاف هذا، مهما كانت قوته، لا يغير من الواقع أمرا صار مقضيا، من وجهة نظر وتخطيط هؤلاء اللاعبين، وليس لجهة الواقع الموضوعي، الذي تتحكم في مخارجه ومداخله إرادة الشعب الفلسطيني، الذي لم يتخلَ عن ثوابت وطنيته، وتمسكه بأرضه، خلال أكثر من ثلاثة أرباع القرن وإلى الآن. الصحافة العربية والصحافة العبرية، نقلت في اليوم ذاته، الذي أعلن فيه البيان الأمريكي الخليجي؛ عن اجتماع بين الفصائل الفلسطينية، لتتدارس في القاهرة عمن يكون بديل السيد عباس رئيس السلطة الفلسطينية، والبديل كما نقلت هذه الصحافة هو محمد دحلان، رئيس التيار الإصلاحي داخل حركة فتح. لأن السيد عباس رئيس السلطة الفلسطينية، فقد شرعيته منذ عام 2009، فلم تجر انتخابات. حجتها في ترشيح السيد محمد دحلان هو انه يتمتع بعلاقات جيدة داخل فلسطين وفي المحيط العربي والخارجي، إضافة، كما تقول الصحافة إنه قادر على إدارة التفاوض مع إسرائيل، بسبب المقبولية التي يتمتع بها في إسرائيل؛ كشريك تفاوضي مقبول لديها. وكأن إسرائيل لم تتفاوض مع الفلسطينيين خلال أكثر من ثلاثة عقود منذ اتفاقات أوسلو، ولم يتم الاتفاق على إقامة دولة فلسطين، على العكس من هذا؛ تم ابتلاع القسم الأكبر من الضفة الغربية بالمستوطنات، في الحقيقة أن جميع اتفاقات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل؛ مصر والأردن والإمارات والبحرين والمغرب، كانت تتضمن التعهد أو الالتزام الإسرائيلي مقابل التطبيع معها؛ على التفاوض مع الفلسطينيين على الطريقة التي بها يتم أو تنتهي بإقامة دولة لهم، ولكنها لم تكن أكثر من عملية تخدير ليس إلا، هدف التخطيط الإسرائيلي منها؛ استثمار الزمن لصالح توسعها الاستيطاني، وأقصد هنا ابتلاع كل القدس، والجزء الاهم من الضفة الغربية الذي تتوافر فيه؛ المياه الجوفية. هذه التحركات تطرح الكثير من علامات الاستفهام والأسئلة عن الذي يدور خلف الأكمة العربية، إن جاز لي هذا التوصيف لما تتعرض له المنطقة العربية، وقضية فلسطين تحديدا؛ من خطط مستقبلية يشوبها الغموض والضبابية، مع انها مغلفة بغلاف التطور والتنمية، الذي هو بانتظار الشعوب العربية؟! اعتقد جازما أن الصراع ليس صراعا فلسطينيا إسرائيليا، بل هو صراع عربي إسرائيلي، وهذا ما يؤكده جميع ما جرى ويجري حتى الآن في المنطقة العربية، وحتى في جوارها الإسلامي، لثلاثة ارباع القرن. إسرائيل أولا وأخيرا كيان إمبريالي في قلب المنطقة العربية؛ يتولى تنفيذ المهام الجيواستراتيجية للمصالح الأمريكية والغربية، التي يراد لها أن تكون مستدامة. مؤخرا في تصريح لوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، أكد فيها أن وجود إسرائيل وامن إسرائيل مهم استراتيجيا للمصالح الأمريكية في منطقة الشرق الاوسط.

***

مزهر جبر الساعدي

هذه الجملة "موسكو تنتظر"، أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، والذي حضره أيضا رئيس دول الأمارات العربية المتحدة الشيخ محد بن زايد آل نهيان، والرئيس الجزائري المتواجد في روسيا في زيارة رسمية استغرقت أربعة أيام، والذي وصف نظيره الروسي، بأنه صديق للعالم كله مثل الجزائر، وتواجدهم أكد بأن كل الضغوطات الامريكية تجاه الدول العربية لم تثنيهم عن التواجد في روسيا، وهو ما كشف عنه أيضا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مقابلة مع قناة (RT العربية)، عن تعرض دول الخليج لضغوط غربية لمنع تطور علاقاتها مع روسيا، وأكد أن هذه الضغوط لم تثمر، وباءت بالفشل.

وبلهجة واثقة، اكد الرئيس الروسي في كلمته في المنتدى، ان روسيا كانت وستبقى لاعبا على الساحة الدولية، وأن الدول الغربية التي لم ترغب في حوار روسيا، لكنها ستفعل، وأن موسكو تنتظر متى، وحول ماذا ستتحدث معهم، وقال "فيما يتعلق بما إذا كنا بحاجة إلى الحوار معهم أم لا، أكرر مرة أخرى، أننا لم نرفض هذا الحوار، هم الذين قرروا مقاطعتنا"، مضيفا في الوقت نفسه "إذا كانوا لا يريدون التحدث فلا داعي لذلك، لكنهم سيريدون الحديث معنا، وستنظر روسيا في متى، وحول ماذا ستتحدث معهم".

ويرى بوتين ان " الشركاء " هم الذين تخلوا بشكل رسمي عن التسوية السلمية، وهم من وقعوا الاتفاقيات وصرحوا علنا بأنهم كانوا يخادعون، وان استخدام روسيا لقواتها المسلحة هو لوقف هذه الحرب، التي أخذ البريء فيها بجريرة المذنب، ورغم ان الغرب يبذل قصارى جهده لـإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا في ساحة المعركة، لكن هذه محاولات محكوم عليها بالفشل، وقال " اننا وضعنا صوب أعيننا تدمير الآلة العسكرية الأوكرانية والقضاء على النازية " .

والتغيرات التي يشهدها كل أنحاء العالم وكافة القطاعات الأساسية، كما يراها الرئيس بوتين، هي عميقة وجذرية ولا رجعة فيها، وأضاف ان "النظام القبيح للاستعمار الجديد في جوهره قد زال وجوده، ونظام العالم متعدد الأقطاب يتعزز، معتبرا ذلك "عملية حتمية"، وأكد بوتين أن روسيا كانت وستبقى لاعبا على الساحة الدولية، وان لدى روسيا بعض الأعداء إلى جانب الأصدقاء، وهؤلاء تعودوا على الهيمنة والاستغلال، ولا يرغبون في أن تكون لدى الدول الأخرى أنظمة بنكية ولا يرغبون بأي منافسة، ويكبحون مراكز التنمية والتطور، مشيرا إلى أن موسكو ستساعد في البرامج الغذائية للدول الإفريقية التي تعاني من الفقر.

وتفاخر الرئيس الروسي بما تقدمه الصناعة العسكرية في بلاده في ظل هذه الظروف الصعبة، وشدد انه على الرغم من ان الغرب بذل قصارى جهده لألحاق هزيمة استراتيجية بروسيا في ساحة المعركة، لكن كل الأسلحة في أوكرانيا تأتيهم من الخارج، ولن يستمر هذا الأمر للأبد، ولكن " مصانعنا تعمل ليل نهار، ولدينا احتياطي كبير من الأسلحة والذخيرة "، وان خسائر الجانب الأوكراني للجانب الروسي تبلغ 1 إلى 10، ووزارة الدفاع الروسية ستكشف عن الأرقام، لكن الأكيد أنه لا يوجد أي نجاح للجانب الأوكراني .

وفي الجانب الاقتصادي، جاءت كلمات الرئيس الروسي "مخيبة " للآمال الغربية، الذي يحاول بكل صوره واعلامه " المزيف " بان يعطي الصورة الغير حقيقية عن الواقع الاقتصادي في روسيا، وكشف بوتين، ان شدة العقوبات الغربية كانت في الربع الثاني من العام الماضي 2022، والذي كان الأصعب بالنسبة لروسيا، بعدها تطورت الأمور بسرعة واليوم الناتج المحلي زاد بنسبة 3.3% في أبريل الماضي، ومؤشرات الصناعات التحويلية بلغ 2.9% والتضخم في روسيا الآن أقل بكثير من دول في الغرب، وهو عند 2.2% في سابقة تاريخية، وان التضخم في روسيا الآن أقل بكثير من دول عديدة في الغرب ودول الاتحاد الأوروبي، وهو عند 2.2% في سابقة تاريخية.

وحول تأثيرات " مغادرة " الشركات الغربية الأسواق الروسية، وبيع أصولها، اكد الرئيس الروسي، بان روسيا لم تطرد أحد من أسواقها، ولكن كان الاعتماد دائما على إتاحة الفرصة في الاختيار ودراسة الأسواق، وكل العلامات التجارية التي تبيع بضائعها هنا، هي بضائع روسية بعلامة تجارية أجنبية، لهذا لم يتوقف الإنتاج، ولكن تغيرت العلامة التجارية فحسب، وان هناك 90 ألف مبادرة للحصول على علامات تجارية، والطلب الآن هو عدم السماح بعودة الشركات الغربية .

واهتمت روسيا بشكل كبير في تطوير وسائل النقل، خصوصا وان السكك الحديدية سهلت من وجهة نظر الرئيس الروسي، الوصول إلى الشرق الأقصى، وقللت من أزمة السير، وسهلت الوصول إلى دول آسيا، كما وغيرت الحكومة من برنامج بناء السفن، حيث ضمن إطار هذا البرنامج في عام 2023-2027، يخطط بناء أكثر من 2600 سفينة جديدة، إضافة إلى بناء سفن للأسطول البحري الشمالي، وحوالي 34 مليون طن زادت في هذا العام، وسوف تزيد أضعافا في العام القادم، ما يدل على أهمية تطوير هذه الطرق من المواصلات، في غضون ذلك قامت روسيا أيضا بتطوير شبكات الاتصال، تم مد حوالي 300 ألف كيلومتر من خطوط الاتصالات، وتم توصيل الإنترنت لخمسة ملايين مستخدم إضافي العام الماضي .

وفي ظل هذه الظروف نشطت أيضا السياحة الداخلية، وزادت بشكل ملحوظ، ففي 2022 زادت إلى 16.7%، ما يمثل 10 ملايين شخص كانوا يقومون برحلات داخل البلاد، الامر الذي سيسهم حتما في تطوير قطاع السياحة، وكذلك ضرورة زيادة العمل عن بعد، لا سيما في الأقاليم التي يصعب الوصول إليه، وقد رفع حسب قول بوتين مؤشر القيمة المتوسطة للدخل ليصل إلى 6.3% ليصل إلى 18.5% في العام 2024 ليكون أعلى من نسبة التضخم في البلاد.

وشدد الرئيس الروسي أيضا على ان الدول الرائدة التي لا تخضع للضغوطات الغربية، فقد زاد حجم التعاملات معها، والآن أصبحت الأسواق الاقتصادية تعمل بشكل أكبر مقارنة بالتغيرات السياسية، وان النظام الاستعماري القديم بدأ يزول لصالح عالم متعدد القطبية، مشيرا الى ان لدى روسيا بعض الأعداء إلى جانب الأصدقاء، وهؤلاء تعودوا على الهيمنة والاستغلال، ولا يرغبون في أن تكون لدى الدول الأخرى أنظمة بنكية ولا يرغبون بأي منافسة، ويكبحون مراكز التنمية والتطور، ولفت إلى أن السلطات الروسية تطور آليات جديدة للحسابات الحسابات العابرة للحدود، وفتح حسابات للشركات الأجنبية، وقال إن "التغيرات في العالم تحمل طبيعة جذرية لذلك يجب المضي قدما، نحتاج إلى سياسة اقتصادية استباقية"، وأن حوالي 90% من التجارة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (روسيا، بيلاروس، كازاخستان، أرمينيا، قرغيزستان) تتم بالعملة الروسية الروبل.

ان جني الأموال في روسيا وإيداعها في حسابات أجنبية بات أمر غير مقبول وفقا للرئيس الروسي، لأنه برأيه لم يكن أحد يفكر في أن انتهاكات قوانين الملكية في الغرب ستصل إلى هذا الحد، وهذا يعيدنا للقرون الوسطى، لأنها سرقة بعينها، ولا تفسر غير ذلك، وطالب بوتين مجلس الوزراء الروسي، بالإسراع بإعادة الأصول الروسية في الصناعات الرئيسية إلى الولاية القضائية المحلية، واقترح في الوقت نفسه عفوا عن الانتهاكات القسرية للعملة، والتي ارتكبت خلال فترة التجميد، لإن اقتصاد المبادرات يتطلب زيادة القدرات الصناعية وتعزيز البنى التحتية واستخدام التقنيات الحديثة، وبناء مجالات صناعية جديدة، وحتى تلك القطاعات التي لم تظهر سابقا فلديها الآن فرصة، وهو ما يتطلبه اقتصاد المبادرات، وضرورة تطوير وتحديث آليات التصدير لتكون أكثر مرونة وسهولة لقطاع الأعمال، وقال "نحن اليوم نخرج إلى أسواق صديقة، نحتاج أن نتكيف معها من خلال ضمان وتأمين البضائع، ودعم المنتجين والمصدرين، وإعطائهم مزيدا من الضمانات".

***

بقلم: الدكتور كريم المظفر

إيران تهدد أفغانستان بالحرب إذا لم تطلق مياه سد كجكي على نهر هلمند، أفغانستان ترد: صححوا معلوماتكم وحسنوا ألفاظكم! فما تفاصيل هذا الملف ولماذا ترفض إيران وتركيا الإقرار بحقوق العراق المائية فيما يلتزم العراق الصمت على تجاوزات تركيا وإيران الفادحة؟ قبل أسابيع هدد الرئيس الإيراني حكومة حركة طالبان في أفغانستان بقوله: "لن نسمح بانتهاك حقوق شعبنا، خذوا كلامي على محمل الجدّ حتى لا تعاتبوا لاحقاً". الرد الأفغاني جاء سريعا على لسان رئاسة الحكومة ونصه: "على المسؤولين الإيرانيين تصحيح معلوماتهم حول مياه نهر هلمند والتعبير عن مواقفهم من خلال استخدام ألفاظ وتعابير مناسبة".

* إيران أكدت أنها "تحتفظ بحقها في اتخاذ التدابير اللازمة"، وشددت على أن "عدم تنفيذ أفغانستان للمعاهدة وعدم توفير حقّ ماء نهر هيرمند / هلمند وإصدار بيانات سياسية دون إجراء عملي أمر غير مقبول بأي حال من الأحوال" وفعلا وقعت اشتباكات مسلحة بين الطرفين سقط فيها قتلى وجرحى يوم 27 أيار من العام الجاري.

* سفير إيران لدى كابول والمبعوث الإيراني الخاص في شؤون أفغانستان، حسن كاظمي قمي قال: "إذا ثبت أنه يوجد الماء في السد وحركة طالبان تمنع إطلاقه نحو إيران، بينما تعترف نفسها بهذا الحق وفقاً لمعاهدة الماء بين البلدين، فسيتوجب عليها تحملُ المسؤولية". ولكن ذبيح الله مجاهد الناطق باسم الحكومة الأفغانية قال إنَّ "سد كجَكي يقع على بعد 700 كيلومتر من الحدود الإيرانية، وعلى طول هذا الطريق هناك ثلاث ولايات، وحتى إذا تم إطلاق كل المياه الموجودة خلف سد كجكي، فلن يصل منها شيء إلى إيران".

* الخلاصة هي أن إيران دولة مستقلة وهي تدافع بقوة عن حقوق شعبها، وتطالب بتطبيق المعاهدة مع الطرف الآخر وهذا أمر يحسب لها ويؤكد وطنيتها، فحسب هذه المعاهدة التي وقّعتها أفغانستان وإيران لحل مشكلة المياه في عام 1973، تمنح أفغانستان لإيران 26 مترا مكعبا من المياه في الثانية الواحدة، وعلى هذا الأساس يتدفق إلى إيران سنويا 820 مليون متر مكعب من المياه. وتقول إيران إنها خسرت العام الماضي 4 ملايين متر مكعب من المياه. وهنا تبدو حكومة أفغانستان مستقلة أيضا وهي تدافع عن حقوق شعبها ومتقيدة بالاتفاقية مع إيران إنْ صح ما تقوله عن كمية المياه القليلة بسبب الجفاف خلف السد المذكور، وهي محقة في رفضها للتدخل الإيراني في شؤونها السيادية الداخلية إذا لم تكن الاتفاقية تص على عمليات مراقبة وكشف!

في تقرير آخر نقرأ أن الخلاف الحالي يعود إلى شروط تقنية يتضمنها الاتفاق الذي ينص على أن لإيران حقاً في الحصول على 850 مليون متر مكعب من نهر هلمند "في العام المائي الطبيعي"، أي تكون نسبة الأمطار فيه طبيعية وتملأ النهر الذي يسع لـ ستة مليارات ونصف المليار متر مكعب من المياه، فإذا امتلأ يصبح لإيران حق في الحصول على حصتها من النهر وإذا لم يمتلئ فلن يكون لها حق المطالبة في الحصة المتفق عليها. تتشبث حكومة طالبان بهذا الشرط، وتقول حالياً إن نسبة المياه في النهر لم تبلغ ستة مليارات متر مكعب ونصف، وتدعي أنه إن حصل هذا فسيلتزمون بحق إيران ولكن طهران تؤكد على ضرورة تأييد هذا الادعاء من قبل خبراء إيرانيين، وهذا ما لم توافق عليه طالبان حتى الآن وتعتبره تدخلا في شؤونها السيادية.

* مقارنة بالعراق وحكومة التابعة والمسيرة من قبل السفيرة الأميركية رومانوسكي والتي يقودها ويسيرها لصوص المال العام فالوضع مختلف تماما؛ فإيران حرمت العراق من سبعة مليارات متر مكعب من المياه سنويا باعتراف معاون وزير الزراعة الإيراني آنذاك، علي مراد أكبري. ومع العراق، قطعت إيران مياه أكثر من أربعين رافدا ونهرا تصب في نهري دجلة وشط العرب جنوبا وفقد الشط ثلث مياهه بعد أن قطعت السلطات الإيرانية مياه نهر الكارون عنه، وغيرت مجراه ومصبه، ونقلت جزءا كبيرا من مياهه إلى أصفهان عبر نهر "زايندة رود" وسط احتجاجات غاضبة من أهالي الأهواز لحرمانهم أيضا من مياه نهر يجري في أرضهم.

ومع العراق فإيران لا تنكر عدوانها المائي وتتحجج بالجفاف وقلة المياه فيها، وترفض حتى المفاوضات لتقاسم الضرر أو لتطبيق اتفاقية الجزائر 1975 والتي توجب عليها اقتسام مياه عدد من الأنهار المشتركة بالمناصفة مع العراق (حسب فيديو حديث وكيل وزارة الخارجية السابق محمد الحاج حمود الدقيقة 33 وما بعدها)، وهذه المعاهدة المجحفة بحقوق العراقيين والتي تنازل فيها النظام السابق عن نصف شط العرب لإيران وتتمسك بها إيران أشد التمسك، ولكنها لا تنفذ حقوق العراق الواردة فيها حول مياه الأنهار المشتركة!

أما مع تركيا فالعراق ليس له الحق حتى في مياه أنهاره المحتجزة خلف السدود التركية وهي بالمئات وليس بالعشرات، وفي المقابل فهو يضخ لتركيا سنويا عشرين مليار دولار تقريبا مقابل السلع والغذاء الذي يستورده لتغذية شعبه بعد أن تم تدمير الزراعة والصناعة العراقيتين وبدأت أنهار العراق بالزوال التدريجي إضافة الى ما تقبضه تركيا من عائدات النفط العراقي المار في أراضيها، ومع كل ذلك ترفض تركيا عقد اتفاقية دولية لتقاسم المياه مع العراق لأن فيه دولة فاقدة السيادة والاستقلال والقرار! إليكم هذا الدليل: قال محمد الحاج حمود وكيل وزير الخارجية العراقية السابق في المصدر الفيديو السابق الدقيقة 45: "سنة 2008 جرت مفاوضات مع الجانب الإيراني وتم تشكيل عدة لجان حول شط العرب وأخرى للحدود البرية وثالثة الانهار المشتركة وأخرى الزيارات.. ولكن لجنة المياه اجتمعت اجتماعين ثم توقف نشاطها لأن الجانب الإيراني رفض الاستمرار في الحضور حتى اليوم. لماذا؟ لأنه كما قيل دولة مستقلة وذات سيادة وأفعل ما أشاء "بكيفي"!

وما يزال موقف الحكومات العراقية على ما هو عليه منذ 2008 وحتى هذا اليوم فهل هي حقا حكومات عراقية أم معادية للعراق وشعبه؟ سؤال نافل لا يحتاج إلى إجابة بل إلى معجزة في زمن اللامعجزات!

* * *

علاء اللامي – كاتب عراقي

.......................

* رابط الفيديو الدقيقة 33 وما بعدها:

https://www.youtube.com/watch?v=adLP6R9u1Ts&ab_channel=AlsharqiyaTube

لا شك أن النظام السوري لجأ لقمع المظاهرات ضده بعنف ووحشية لكن مع هذا فإن خيار الذهاب إلى حرب أهلية لم يكن قرار النظام وحده، كانت هناك قوى لم تستسهل فقط اللجوء إلى السلاح بل دفعت باتجاه ذلك معتبرة أن العسكرة وما تلاها من حرب هي الطريق الأفضل "لتحقيق مصالحها" أي لفرض وصايتها وسلطتها.. كانت شهوة السلطة أقوى بكثير من أية مقاربة منطقية للواقع ففي الحروب لا يكفي أن تبادر خصمك بإطلاق النار أو بالهجوم، فليس من المنطقي أبدًا أن تبدأ حربا" ستخسرها بلا شك.. من المرعب أن نصادف قوة سياسية تفكر بهذه الطريقة أو لا تقيم أي وزن لخسائر الناس العاديين لتصل إلى أهدافها.. لا شك أن القوى التي دفعت أو ساهمت بالدفع نحو عسكرة الثورة وتحويلها من مظاهرات واحتجاجات مدنية إلى مواجهات مسلحة كانت لها حسابات متناقضة، البعض اعتقد أن الخارج سيسارع للتدخل والإطاحة بالنظام لصالحها ولم تر في العسكرة أكثر من محفز ومبرر لهذا التدخل، هؤلاء كانوا أساسًا من السياسيين الذين شكلوا مؤسسات المعارضة الرسمية، وآخرون رأوا في العسكرة الخطة الأمثل بل الوحيدة التي يمكنهم من خلالها تحقيق أهدافهم أو الوصول إلى السلطة.. لكن وخلافًا لما وعد به قادة الفصائل المسلحة السوريين الثائرين على النظام لم يقم هؤلاء بحمايتهم بل ما حدث كان العكس، لقد احتمت الفصائل المسلحة بالسوريين من اقصف النظام ثم داعميه في وقت لاحق.. تعرضت المناطق المحررة أو الخارجة عن سيطرة النظام لعقوبات جماعية وقصف يومي افتقر للدقة على الأقل حتى التدخل الروسي المباشر في وقت متأخر وكان واضحًا منذ البداية أن القوى التي واجهت النظام بالسلاح لا تملك الرد على هذه الإجراءات العقابية الجماعية.. أكثر من ذلك، لم تفعل تلك القوى ومن كان يدعمها ما يلزم للإطاحة بالنظام الأمر الذي كان ممكنًا في لحظات عدة قبل إنقلاب ميزان القوى مع ذلك التدخل الروسي المباشر.. قبل ذلك لم يمكن لتدخل الآلاف من مقاتلي حزب الله والميليشيات الشيعية التي دربتها ومولتها إيران ليقلب تلك الموازين أكثر من مجرد إنقاذ رأس النظام وتحقيق بعض الانتصارات المحلية التي ساهمت، مع غياب خطة حقيقية للإطاحة بالنظام إلى جانب الاقتتال والتنافس بين قادة الفصائل المسلحة في تثبيت مؤقت لسيطرة القوى على الأرض.. وخلافًا للمظاهرات وبقية أشكال الاحتجاج الجماهيري كانت العسكرة تعني فقط سيطرة أمراء الحرب في كل مكان وانفلات الهمجية وأيضًا تكلفة بشرية ومادية هائلة دفعت ثمنها أساسًا المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام.. وأيضًا ليس صحيحًا أن العسكرة هي الرد الوحيد الممكن على القمع، لقد تعرض الثوار الايرانيون والعراقيون والبحرانيون والسودانيون، هذا في السنوات الأخيرة فقط عدا عن تجارب ثورية سابقة أخرى لا حصر لها، لقمع همجي وقتل المئات بل الآلاف منهم دون أن يلجئوا للسلاح للدفاع عن أنفسهم ومحاولة الإطاحة بالنظام الذي يقمعهم بكل تلك الهمجية، بكل الأحوال لم يكن من الممكن إسقاط تلك الأنظمة عبر اللجوء للسلاح أو حتى التقليل من خسائر الجماهير الثائرة.. رغم كل ذلك لا توجد أية رغبة حتى في الاعتراف والاعتذار للجماهير التي استخدمت وقودًا للمحرقة رغمًا عن أنفها، لا يرغب الإسلاميون بالاعتراف بأخطائهم ولا بمسؤوليتهم ولا بدورهم في هذه المحرقة، ويشاركهم في هذا من اعتقد أن هؤلاء سيقومون بتخليصهم من النظام بينما سيبقى من الممكن التحكم بهم وبأمراء الحرب عبر قوة ونفوذ الخارج المادية والعسكرية التي اعتقدوا أنها ستلعب لصالحهم في نهاية المطاف.. لا يقر هؤلاء بالطريقة الساذجة والاعتباطية ولا الاستبدادية التي اقتيدت فيها الجماهير خاصة الثائرة نحو تلك المحرقة التي لم يكن من الصعب التنبؤ بوقوعها دون تفكير أو تخطيط وبالتأكيد دون استشارتها وموافقتها، وكان تحويل السوريين خاصةً الثائرين منهم إلى لاجئين آخر خطوة في مسار طويل حولهم إلى منفعلين سلبيين وعاجزين عن أي فعل بعد أن صودر صوتهم وصودرت إرادتهم وبدلًا من أن يحرر السوريون أنفسهم بأنفسهم كما كان يفترض أصبحوا مضطرين للاعتماد على غيرهم من سادة العالم والإقليم وأغنيائه ليس فقط للتخلص من النظام وغيره من أمراء الحرب بل حتى في أبسط تفاصيل حياتهم ومعيشتهم..

***

مازن كم الماز

لتفسير ما يحدث في بريطانيا لا بد من الاسترشاد بمقولة نسبت لعمرو ابن العاص قالها في واقعة الصَّمْت: بأن "الأيام دول.. والحرب سجال" أي أن دورةَ التاريخِ قدرٌ محتومٌ ولا تخضعَ لإرادة الأقوى.

لذلك لا بد من العودة في عمق التاريخ حتى عام 1947 حينما أقدمت بريطانيا على تقسيم الهند في حرب الاستقلال الهندية الباكستانية وذلك وفق مصالحها كدولة استعمارية وامبراطورية كانت لا تغيب عنها الشمس، إذْ نهبت المستعمرات وحاولت تغطية الحقيقة الساطعة بغربال مُرَقَّع.

لكنّ دورة التاريخ كان لها أن تُدْخِلَ المشهدَ البريطانيّ المتخم بالمشاكل، في فنتازيات المقارنة ما بين الحاضر البريطاني المتأزم، وزمن الاستعمار البريطاني للهند، حيث كانت النتيجة وخيمة على الضحية المكبلة بالأصفاد، من حيث سرقة موارد الهند وهدرها والتنكيل بشعبها المغبون.

وحينما أوشكت ثورة غاندي أن تحقق أهدافها، أقدمت بريطانيا على غرس أسفين بين طوائف الهند بتقسيم البلاد طائفياً- مثلما فعلت في فلسطين عام ثمانية وأربعين حينما غرست الكيان الإسرائيلي في قلب الوطن العربي بعد أن حولته إلى أقطار متصارعة-.

إنها مقارنة بين المملكة المتحدة ما قبل الجلاء من مستعمراتها وخاصة الهند، وبعده، وصولاً إلى انحسار نفوذها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي منذ 16 أغسطس 2017، وذلك من خلال ما توالى عليها من أزمات متفاقمة، بسبب السياسة البريطانية الخاطئة بزج البلاد في أتون صراعات إقليمة عمياء. كالحرب الأوكرانية، إلى جانب الدعوات الأوسكتلندية الانفصالية التي لو شاءت لها الأقدار أن تنجح؛ لانفرطت وحدة المملكة المتحدة، ذات السيادة والتي تتكون من أربع دول فردية، هي: إنجلترا وأسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية.

فبعد 76 عاماً من حرب الاستقلال الهندية التي أدت إلى نتيجتين متعارضتين تجلت الأولى بإعلان استقلال الهند من نير الاستعمار البريطاني بموافقة بريطانية بموجب قانون برلمان المملكة المتحدة، أما الثانية فدور بريطانيا بتقسيم الهند الموحدة إلى الهند والباكستان.. وبالتالي تغيير جغرافية الهند وفق المصالح البريطانية التي كانت قد تضررت عقب الثورة.. معتمدة في ذلك على سياسة "فرق تسد".. ومن ثم إدامة الصراع الهندي الباكستاني البيني بإذكاء الصراع الجيوسياسي من خلال ترسيخ الخلاف الهندي الباكستاني حول كشمير، وشمول التقسيم مقاطعتين، وهما البنغال والبنجاب، على أساس الأغلبيتين الحاكمتين المسلمة وغير المسلمة.

وقد واجهه الزعيم الهندي الروحي المهانتا غاندي المشروع البريطاني ما تسبب باغتياله.

وعليه فقد تساءل كثيرون حول تورط المخابرات البريطانية حينذاك في اغتيال أيقونة الهند، غاندي على يد هندوسي متطرف ممن كانوا يعارضون إصراره على إرساء مبدأ احترام حقوق المسلمين والمنبوذين المنتهكة في الهند آنذاك.

فخسرت الهند والباكستان هذا الزعيم الذي قاد بحركته السلمية وطنه الهند نحو الاستقلال من الاستعمار البريطاني لوقوفه في وجه مشروع تقسيم الهند من خلال دفاعه عن الأقلية الإسلامية ومناصرته للمنبوذين، ليبدأ بعد ذلك في حركته التحررية التي مارس فيها جميع أساليب سياسة العصيان المدني أو اللاعنف؛ ليجبر في الأخير بريطانيا العظمى على إعلان الجلاء عن الهند في يونيو 1948.

واصطحب الإنجليز بمعيتهم أنصارهم من المهاجرين الهنود والباكستانيين إلى بريطانيا حماية لهم.

ومن بين أولئك كان أجداد بعض من يتحكم اليوم بمصير بريطانيا من خلال صلاحياتهم السياسية ومواقعهم الحزبية.

أنا أقصد هنا رئيس وزراء بريطانيا الحالي ريشي سوناك -من حزب المحافظين- وهو هندوسي من أصول هندية، وخصمه البريطاني المسلم حمزة يوسف رئيس وزراء أوسكتلندا الذي يناكفه من خلال الدعوة للاستفتاء في إقليم الشمال بغية الانفصال عن المملكة الأم بعد أن جفَّ ضرعها.

فما أشبه الماضي بالحاضر ولكن مع تبدل الأدوار.. إنها دورة التاريخ التي لا تنتظر من يغير عجلتها التي تديرها عاصفة السببية المحتومة.

مؤخراً قال رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إنه "يتطلع للعمل" مع حمزة يوسف، والذي تم انتخابه كوزير أول في اسكتلندا.

إلا أن سوناك رفض دعوة يوسف إلى إجراء استفتاء حول انفصال اسكوتلندا عن المملكة المتحدة داعياً إلى تركيز الجهود في التنمية والتصدي للتضخم.

وكان الاستقلاليون الإسكتلنديون قد اختاروا حمزة يوسف لخلافة نيكولا ستورجن في زعامة الحزب وبالتالي رئاسة الوزراء يوم الأربعاء 29 مارس العام الجاري بعد تعيينه بأمر ملكي وأدائه اليمين أمام المحكمة العليا الاسكتلندية، حيث وعد أنصاره وفق برنامج الحزب الوطني الاسكتلندي (يسار)، بقيادة إسكتلندا لتحقيق الاستقلال "في هذا الجيل" دون أن يحقق شيئاً يذكر سوى ما طرأ من زيادة في نسبة المؤيدين لهذا الخيار.

فبحسب استطلاع للرأي أجراه معهد يوغوف في 13مارس 2023 فانّ 46% من الذين استطلعت آراؤهم أبدوا تأييدهم للاستقلال، مقابل 50% الشهر الماضي.

اي أن النسبة تنامت حيث شهدت فرقاً إيجابياً مقداره 4% في غضون شهرين، بالإضافة إلى نسبة 5% قياساً إلى نتائج الاستفتاء الذي نظم في 2014، حيث صوت آنذاك 45% من الاسكتلنديين لصالح الاستقلال.

وقضية الاستقلال أعيد إطلاقها بسبب بريكست بشكل خاص لأن 62% من الاسكتلنديين عارضوا خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، ورأى الحزب الوطني الاسكتلندي في قطيعته مع لندن وسيلةً للعودة الى الاتحاد الاوروبي.

هذا صراع يزداد احتداماً، فيما تترقب بقية الأقاليم وخاصة إيرلندا الشمالية نتائج أي استفتاء محتمل، يكون من شأنه لو كتب له النجاح، أن يرسخ لتوجهات إقليمية انفصالية قد تؤدي لكارثة تقسيم المملكة المتحدة.

من هنا يتساءل كثيرون عن جدوى تمسك بريطانيا برفض دعوات أسكتلندا الانفصالية في الوقت الذي تذكي فيه نيرانها في روسيا! وذلك من خلال دعمها المفتوح للطرف الأوكراني ضد روسيا الاتحادية في الحرب الأوكرانية الطاحنة.

أضف إلى ذلك الجدوى من رفض بريطانيا منذ مارس 2022 مناقشة أمن أوروبا مع روسيا على مبدأ "وحدة الأمن" حماية لوحدة الاتحاد الروسي، وفق رؤية بوتين، ما تسبب بنشوب الحرب الأوكرانية الطاحنة.

ناهيك عن دعم بريطانيا المستمر لتفتيت المجزأ في فلسطين من خلال دعمها لكيان الاحتلال الإسرائيلي، مع انها كانت صاحبة وعد بلفور المشؤوم. فالأيام دول. ودورة التاريخ لا تخضع لأمزجة الكبار إذا ما تعطلت مراكبهم في عرض البحر اللجي.

***

بقلم: بكر السباتين

14 يونيو 2023

ما يجري من تطورات في ساحة المعركة لعملية الروسية العسكرية الخاصة، هي إيجابية في مجملها بالنسبة للاتحاد الروسي، وهذه التطورات، فندت كل " التخرصات " التي يحاول الغرب، اللعب من خلالها لتشويه الانتصارات الروسية المتحققة على كافة المحاور، وبالطبع فإن الوضع العام وكما قال الرئيس الروسي خلال لقاءه بمراسلي الحرب، انه وفقًا لوزارة الدفاع، فإن روسيا لا تحتاج حاليًا إلى تعبئة إضافية، ومثل هذا القول يفند وبشكل قاطع الإدعاءت الغربية .

فمنذ كانون الثاني (يناير)، جددت القوات المسلحة للاتحاد الروسي مواردها، بأكثر من 150 ألف جندي بموجب العقد، وتطوع 6000 آخرين، واعترف بوتين "حتى بشكل غير متوقع بالنسبة لي: بعد كل شيء، تطوع 156 ألف شخص"، وفي حديثه عن التناوب المحتمل، أشار إلى أنه في يوم من الأيام سيكون من الضروري إعادة الأشخاص الذين تم حشدهم تدريجياً من منطقة العمليات الخاصة إلى ديارهم.

ويتردد عند الشخصيات العامة الكثير من الهمسات والحاجة الماسة إلى جمع مليون أو مليونين آخرين، لكن الرئيس بوتين أوضح ان ذلك طبعا يعتمد على ما تريده العملية الخاصة، ولكن اعتمادًا على الأهداف التي "وضعناها لأنفسنا"، يجب حل قضايا التعبئة، ولكن لا توجد مثل هذه الحاجة اليوم، في الوقت نفسه، القيادة العسكرية تؤكد أنهم لا يخططون لإرسال مجندين إلى منطقة NVO، لأن هذا ليس ضروريًا.

أن ما يحدث الآن في أوكرانيا لا يلائم روسيا أبدا، وأشار بوتين إلى أن الغرب يستخدم أوكرانيا في زعزعة الأوضاع في روسيا، وكذلك، فإن الغرب يحاول هز روسيا طوال الوقت، لأنه لا أحد يحتاج إلى دولة لديها مثل هذه الإمكانات، مؤكد في الوقت نفسه ا أن موسكو لم يكن لها أي ضلوع في الأحداث في دونباس عام 2014، ولكن "تم إجبارنا على الدفاع عن أنفسنا"، موضحا أن كل ما فعلوه كان من منطلق زعزعة الاستقرار في روسيا، ويواصلون أفعالهم، لماذا؟، لأنها (روسيا) دولة كبيرة جدا، ولا يريدون لدولة بهذا الحجم في أوروبا، في مثل هذا المكان، مع مثل هذه الإمكانات، وبالتدريج يحاول الجميع تقطيع" أوصالنا وتقسيمنا".

الرئيس الروسي قطع الشك باليقين، وهو يشير بكل ثقة إلى أن الهجوم المضاد للقوات المسلحة الأوكرانية، والذي بدأ في 4 يونيو ويستمر حتى يومنا هذا، قد فشل، وان الخسائر في صفوف الجيش الروسي أقل بعشر مرات من الخسائر في صفوف الجيش الأوكراني، ومن بين جميع الخسائر - وهم يقتربون من تقييم يمكن أن يسمى كارثيًا من حيث الأفراد - فإن هيكلهم لهذه الخسائر غير موات بالنسبة لهم، كما، إن دبابات "ليوبارد" الألمانية ومركبات "برادلي"أمريكية الصنع، التي تستخدمها أوكرانيا، تحترق بشكل ممتاز، وتنفجر ذخيرتها بداخلها، واكد بوتين حق بلاده واحتفاظها بحق استخدام ذخائر اليورانيوم المنضب، وقد تقوم بذلك ردا على استخدامها من طرف نظام كييف، وقال "لدينا الكثير من هذه الذخيرة، مع اليورانيوم المنضب، وإذا استخدمتها قوات نظام كييف، فإننا نحتفظ أيضا بالحق في استخدام نفس الذخيرة".

ووفقا للبيانات الروسية فان خسائر القوات الأوكرانية في إطار الهجوم المضاد تتراوح بين 25 و30% من حجم المعدات العسكرية التي تم تسليمها إليهم من الغرب، وقوات كييف كما أوضح الرئيس بوتين، فقدت 160 دبابة و360 مركبة مدرعة، ووصفها بانها تقترب من الكارثة، مشيرا إلى أن العدو لم يحرز أي نجاح في الهجوم المضاد، وانه من أجل إنهاء الصراع، وكما يشدد الرئيس الروسي، يجب على الغرب التوقف عن إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، والاشارة إلى أنه لا أحد، بما في ذلك الولايات المتحدة، يمكن أن ينتصر في حالة نشوب حرب عالمية ثالثة، وعلى حد قوله، فإن الولايات المتحدة تتظاهر بأنها ليست خائفة من تصاعد الأزمة، ولكن في الواقع، لا يرغب الكثير من الأمريكيين في جلب الأشياء إلى صراع عالمي.

ان أهداف العملية العسكرية في أوكرانيا، في المنظور الروسي، تتغير وفقًا للوضع الحالي، لكنها تظل كما هي بشكل عام، ويؤكد بوتين، "لقد بدأوا هذه الحرب، ونحن نحاول وقفها، لكن علينا أن نفعل ذلك بمساعدة القوات المسلحة"، وتنبأ في الوقت نفسه، باختفاء وشيك للمجمع الصناعي العسكري في أوكرانيا، لأنه" لا ينتج أي شيء - "يتم إحضار كل شيء إليهم".

وحذر الرئيس الروسي، من أن روسيا، وفي حال استمرار قصف مناطقها، ستنظر في مسألة إنشاء "منطقة عازلة" على أراضي أوكرانيا، وعلى مسافة تجعل من المستحيل بلوغ "أراضينا منها"، وفي معرض أجابته عن سؤال حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه روسيا هذه المرة، قائلا، "سيعتمد ذلك على الوضع في نهاية الهجوم المضاد الأوكراني ن، ولدينا خططا ذات طبيعة مختلفة".

وطبعا أسئلة كثيرة لدى العديد من المراقبين وحتى الناس البسطاء، عن أسباب ترك الحدود الروسية مع أوكرانيا وتحديدا في مقاطعة بيلغورود، والتي تسمح " بالمخربين "، في تنظيم هجمات بين الفينة والأخرى، والتي أصبحت أكثر تكرارا في الآونة الأخيرة، اعترف الرئيس بوتين بصعوبتها في بعض الأحيان، لكنها برأيه مهمة قابلة للحل، وأوضح الرئيس أن الهجمات على المناطق الحدودية مرتبطة "بشكل أساسي بالرغبة في تحويل جزء من القوات الروسية ووسائلها إلى هذا الجانب، لسحب جزء من الوحدات من تلك المناطق التي تعتبر الأهم والأكثر أهمية، لتخفيف القبضة الروسية على المناطق التي تتواجد فيها القوات المسلحة الروسية .

والحديث عن العملية الروسية الخاصة لا يمكن ان يكون بمعزل عن الجريمة الإرهابية في محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، فقد أكد فلاديمير بوتين أن مسؤولية الانفجار تقع على عاتق كييف التي أصابت عمدا محطة الطاقة الكهرومائية بصواريخ HIMARS، واعرب في الوقت نفسه عن أسفه لأن تدمير محطة الطاقة الكهرومائية أحبط الهجوم المضاد الأوكراني في هذا المكان، وقال - لسوء الحظ - لماذا؟ لأنه سيكون من الأفضل لو كانوا يتقدمون هناك، وكان من الأفضل للروس، لأن الهجوم هناك سيكون سيئًا للغاية، ولكن منذ حدوث مثل هذا التسرب، وبناءً عليه، لم يحدث الهجوم، وتعمل الآن وزارة حالات الطوارئ الروسية، والسلطات العسكرية والمحلية بنشاط لإزالة عواقب الدمار .

والحديث عن القتال وتطوراته، لا يمنع من الحديث أيضا عن السلام، الذي تنشده روسيا، برأي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن بلاده لم ترفض أبدا إجراء أي مفاوضات قد تؤدي إلى تسوية سلمية للوضع في أوكرانيا، وقال "أولا، لم نرفض ذلك أبدا، لقد قلت هذا بالفعل ألف مرة، لم نرفض أبدا إجراء أي مفاوضات يمكن أن تؤدي إلى تسوية سلمية للوضع، لطالما تحدثنا عن هذا مرارا وتكرارا"، وأشار إلى أنه خلال المحادثات بين روسيا وأوكرانيا في اسطنبول، تم بالفعل إعداد وثيقة.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

نشر الكاتب أمير طاهري مقالاً في صحيفة «الشّرق الأوسط» الغراء تحت عنوان «العراق وطهران... أوهام»، (9/6/2023). تعرض فيه لتسمية العراق وبغداد، وجعلهما فارسيتين، بينما كان يتحدث عن الوضع الرَّاهن. ورد في مقاله الآتي، وأتوخى حسن النّية فيما طرح: «كلمة العراق، التي تعني الأراضي المنخفضة، هي نفسها من أصل فارسي. بغداد عطية الله، هي أيضاً كلمة فارسية، بينما كانت بابل وطيسفون، قرب بغداد اليوم، عاصمتين للإمبراطوريات الفارسية المتعاقبة لأكثر من 1000 سنة». أقول: إذا كان الكاتب يُقدم نفسه كاتب رأي فهذه المعلومة ليست رأياً، إنما تاريخ يحتاج إلى بحث ودراسة.

نعم، اشتقّت المعاجم العربية تسمية العراق من عروق الشَّجر، أو لأنه يقع على شاطئي دجلة والفرات، وقيل: مِن إيراك، كان ذلك قبل أن تُكشف آثار العراق القديمة، ويظهر اسم أوروك أو الوركاء العاصمة الشّهيرة في ملحمة جلجامش، جنوب العِراق، ولا أظن أنَّ السيطرة الساسانية أو الفرثية، وكل مَن نطق بالفارسيَّة، قد أدرك الوركاء وجلجامش.

لذا شكّك المؤرخ الجغرافي البريطانيّ كي لسترنغ (ت: 1933)، ونبه إلى إشكالية استخدام تسمية «العراق»، قال: «كيف جرى استعمال هذا الاسم في العهود السَّالفة، فأمرٌ يعتريه الشَّك، فلعله يمثل اسماً قديماً ضاع الآن، أو أنه أُريد به في الأصل عن هذا المعنى. وكان العرب يسمون السهل الرُّسوبي بأرض السَّواد، واتسع مدلول كلمة السّواد حتى صارت هي العراق، لفظتين مترادفتين في الغالب» (بلدان الخلافة الشرقية).

وجد الباحثون هذا الاسم القديم منحوتاً من اسم أوروك أو الوركاء، مدينة جلجامش، وهذا ما ذهب إليه البحاثة الآثاريّ طه باقر (ت: 1984): «وإنه -أي العراق- مشتق من كلمة تعني المستوطن، ولفظها أوروك أو أنوك، وهي الكلمة التي سُميت بها المدينة الشَّهيرة الوركاء... وفي العهد الكشي، في منتصف الألف الثَّاني قبل الميلاد، وجاء فيها اسم إقليم على هيئة إيريقا، الذي صار الأصل العربي لبلاد بابل أو لكلمة العراق»، (الآلوسي، اسم العراق)، وسالم الآلوسي بحّاثة معروف، رد في كتابه «اسم العراق» على محاولات تجاهله. على أيّ حال، لماذا يُحار بأصل اسم العراق، والأرض كان اسمها (أوروك)، أو(إيريقا)، وليس هناك مانع من تبدل: الهمزة إلى عين، والقاف إلى كاف؟!

أما عن اسم بغداد، فأفاد الباحثان القديران بشير فرنسيس وكوركيس عواد بأنَّ أصل التَّسمية آرامي، وتعني مدينة الضأن أو الغنم. وأفادا أيضاً: ورد الاسم في العصر البابلي والآشوري «بغدادو» و«بغدادي» أو «خودادو». وأن مدينة قريبة من بغداد الحالية وإقليماً أيضاً كانا يُعرفان بمثل هذا الاسم في العصر البابلي (هامش بلدان الخلافة الإسلامية. أُصول أسماء الأمكنة العراقية، مجلة سومر 1952).

وفي اسمها أيضاً قال الخبير في اللغات القديمة يوسف متي: تسمية بغداد آرامية سريانية: باغ تعني البيت، وداد تعني الخيط، أو غنم، أو نسيج العنكبوت. فبغداد: (بيت الخيط)، أو (بيت الغنم)، أو (بيت العنكبوت). و(باغ) تعني أيضاً بالآرامية السِّريانية «جُنينة، بحر، بَطيحة، سعد». كان أبو جعفر المنصور(ت: 158هـ) قد شيَّد عاصمته الجديدة على موقع قرية تُعرف باسم بغداد منذ أيام حمورابي، وسماها «مدينة السَّلام» تيمناً بالجنة، كأنه فهم معنى اسمها في لغة أهل بابل، ألا وهي البستان أو الجُنينة (محاضرة في مقر اتحاد أدباء العراق).

إنّ تسمية المدن العراقيّة، والتي تبدأ بحرف الباء الآراميّة، وتعني البيث أو البيت، كثيرة، وما زالت «بعقوبا: بيت المفتش، وباعذرى: بيت العماد، وباعشيقا: بيت المظلومين، وباصيدا: بيت الصَّيد، والبصرة: بيت الجداول، وباخمرا، وباجسرا وغيرها»، فيا عجبي لماذا تكون بغداد وحدها فارسيَّة؟ طوال السيطرة الفارسيّة على العراق، والتي حسبها الكاتب بألف عام، ولستُ في محل مناقشة هذا الرقم، ظلت لغة العراق الآراميَّة، بدليل أن الفارسيَّة لم تكن لغة منافسة، كي تسمَّى الأمكنة بها.

أُعلن شديد أسفي أن يصل بنا الحال لنكون مدافعين عن تاريخ بلاد حكمت المشارق والمغارب ولم تحنّ إلى عصر الإمبراطوريات، وإلا ألم يكن اسم إيران نفسها «عراق العجم»، كي يكون اسما بغداد والعراق فارسيين، كأن الفرس عندما غزوا العراق لم تكن لمدن هذه الأرض أسماء، انتظرت حتَّى يأتي الفُرس ليسموها؟!

ما كان هذا النِّقاش مطروحاً بشدة إلا بعد (2003)، يومها ظهرت كتابات كثيرة، وليست لي تسميتها بالآراء، لأن الرَّأي عادةً يستند إلى دراية أو رواية، فماذا نقول لمَن كتب نافياً اسم العراق نفسه، حتَّى اضطررت إلى جمع ما قاله شعراء الجاهلية والإسلام فيه؟ حينها حسبتُ نفسي أُعيد اكتشاف المكتشَف، لكن فعلتُ ذلك على مضض. فالانهيار الذي حصل لم يعانِ منه العراقيّ في حياته، إنما عانى منه العراق نفسه مِن الطّعن بوجوده، وإلا ما حاجتنا إلى إثبات أنّ العراق كيان واسم قديم؟ وهل تحتاج بغداد إلى البحث في اسمها، وتأكيد عراقته وعراقيته، لولا إخضاعها، مدينةً واسماً، للجدل، البعيد عن الحقّ؟

***

د. رشيد الخيون

تستمر الحرب المختلطة ضد روسيا وبيلاروسيا التي اندلعت خلال العام الماضي في اكتساب الزخم، ولم تعد الدول الغربية تخجل من التحدث مباشرة عن رغبتها في "هزيمة" الاتحاد الروسي، على طول الطريق لفرض سيطرتها على شريكها في دولة الاتحاد، وللقيام بذلك، اليوم لا يتم استخدام الوضع في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية فحسب، بل يتم أيضًا استخدام أدوات أخرى مختلفة، بما في ذلك المعارضة البيلاروسية والروسية الهاربة.

وفي الأشهر الأخيرة، تحول الحلفاء الغربيون تمامًا، إلى تشجيع الأنشطة الإرهابية على أراضي البلدين، وبدأوا أيضًا يتحدثون عن غزو مباشر لبيلاروسيا، وكل هذا يجعل مينسك وموسكو تستجيبان بشكل أكثر نشاطًا لما يحدث حولهما، وتم الإعلان مرة أخرى عن خطورة الوضع حول دولة الاتحاد في اجتماعات أمناء مجالس الأمن للدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) التي عقدت في الفترة من 7 إلى 8 يونيو في مينسك، وكان هناك حدثان لهما أهمية خاصة في فهم ما يحدث اليوم والخطوات التي تخطط بيلاروسيا وروسيا لاتخاذها في المستقبل، هما  مفاوضات بين رئيسي مجلسي الأمن البيلاروسي والروسي ألكسندر فولفوفيتش ونيكولاي باتروشيف، وكذلك اجتماع ألكسندر لوكاشينكو مع مجلس الأمن، ورؤساء منظمات دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وفي العاصمة البيلاروسية بدأوا بالفعل في الاستعداد لعدوان خارجي محتمل من دول الناتو وأوكرانيا.

وأجمع باتروشيف وفولفوفيتش وعلى وجه الخصوص بالإجماع على أن الدول الغربية شنت حربًا هجينة حقيقية ضد روسيا وبيلاروسيا، والتي أصبحت أكثر وأكثر خطورة مع كل يوم جديد،  وكما أشار فولفوفيتش، فإن ما يحدث حول دولة الاتحاد "يتطلب خطوات فورية واتخاذ قرارات سريعة، ومينسك وموسكو "تستجيبان بالفعل لهذه التحديات، وكذلك تتوصلان إلى إجماع في المجال الأمني"، ويشارك الاتحاد الروسي، وفقًا لتصريحات باتروشيف، موقفًا مشابهًا، والذي يعتبر بيلاروسيا أقرب حليف وشريك استراتيجي لها، وأشار رئيس مجلس الأمن الروسي إلى أن السياسيين الغربيين يتحدثون بصراحة عن خططهم لمينسك وموسكو، لأنهم "لا يحتاجون إلى روسيا قوية"، ويريدون "إما تفكيك أو تصفيتها من أجل إدارة الأراضي الأوراسية، ضخ الموارد "، في الوقت نفسه، أشار إلى أن خطط الغرب لبيلاروسيا واضحة أيضًا اليوم، وهذا هو تنفيذ لثورة ملونة ، وجلب حكومة دمية مسيطر عليها إلى السلطة، فقد فشل الغرب في تنفيذ انقلاب في مينسك في عام 2020، لكن واشنطن وأتباعها لم تتخلوا عن خططهم "، شدد، مكررًا في الواقع كل ما تحدثت عنه السلطات البيلاروسية خلال السنوات الماضية.

وعقد اجتماع الرئيس  ألكسندر لوكاشينكو في 8 تموز / يوليو مع أمناء مجالس الأمن في الدول الأعضاء في UEC بنفس الروح تقريبًا، حيث لم يحد الزعيم البيلاروسي، على عكس فولفوفيتش، من اتهاماته المباشرة للغرب والنظام الحاكم في كييف، بالإضافة إلى الكلمات التقليدية بالفعل حول ضغوط العقوبات، ورغبة الدول الغربية في إسقاط اقتصادات روسيا وبيلاروسيا، واستخدام أوكرانيا كأداة لحرب مختلطة، وأشياء أخرى، أشار لوكاشينكا إلى تفاصيل مهمة أخرى، ووفقًا له، فإن كل ما يحدث اليوم في المنطقة يتم فقط لمصلحة الولايات المتحدة، التي تستخدم دمياتها، مثل بولندا، لإضعاف ليس فقط دولة الاتحاد، ولكن أيضًا الاتحاد الأوروبي، وهذا، وفقًا لرئيس بيلاروسيا، ليس سوى جزء من خطة واشنطن واسعة النطاق لمحاربة منافسيها الرئيسيين في مواجهة الصين وروسيا.

للوهلة الأولى، كانت الأحداث التي وقعت في مينسك تقليدية تمامًا، حيث كانت روسيا البيضاء وروسيا تتحدثان منذ سنوات عن العدوان الذي أطلقه الغرب ضدهما، والذي سينتشر عاجلاً أم آجلاً إلى الفضاء الأوراسي بأكمله، ومع ذلك، ينبغي للمرء أن يأخذ في الاعتبار حقيقة أن مثل هذه الحرب الهجينة المفتوحة ضد موسكو ومينسك لم يتم شنها من قبل، وفي هذه الحالة، لا نتحدث فقط عن الضخ المستمر لأوكرانيا بالأسلحة والمحاولات المستمرة لزعزعة الوضع حول كل من دولة الاتحاد وداخلها، ولكن أيضًا عن التشكيل المستمر لصورة المركز "العالمي للشر "من روسيا البيضاء وروسيا في الساحة الدولية،  كما تصور الغرب، يجب أن يقلل هذا من دعم مينسك وموسكو بين أعضاء المجتمع الدولي، وبالتالي، زيادة الضغط عليهم مع كل العواقب المترتبة على ذلك، حتى الموافقة على غزو عسكري، وإذا كان نشاط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد وصل تقريبًا إلى حدوده فيما يتعلق بالاتحاد الروسي، والتي تلوح بعدها الحرب العالمية الثالثة، فإن العدوان الهجين ضد بيلاروسيا بدأ يكتسب الزخم اليوم.

وعلى وجه الخصوص، أصبحت الدول أكثر نشاطًا على الساحة الدولية، تطالب بنفس المسؤولية تجاه مينسك مثل موسكو فيما يتعلق بإجراء عملية عسكرية خاصة (SVO) في أوكرانيا، وعلى سبيل المثال، في أوائل يونيو، أرسل وزير الخارجية الليتواني غابريليوس لاندسبيرجيس، رسالة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم أحمد خان، يطالبها بتقييم دور بيلاروسيا في مساعدة روسيا على تنفيذ JMD وتقديمها إلى العدالة،  في الوقت نفسه، حُرمت مينسك فجأة من فرصة أن تصبح عضوًا غير دائم في مجلس الأمن الدولي، على الرغم من أنه كان أحد المتنافسين الرئيسيين، وبدلاً منها، تم اختيار سلوفينيا بأغلبية الأصوات لهذا المنصب، والتي حتى نهاية عام 2021 لم تكن ستقدم طلبها على الإطلاق، مع الأخذ في الاعتبار، حقيقة أن السلطات السلوفينية تعتمد اعتمادًا تامًا على بروكسل، وأن الدولة نفسها عضو في الناتو، فليس من الصعب تخمين سبب هذا "النشاط" لجمهورية البلقان هذه، ومن هو في الواقع وراء انتخابها لمجلس الأمن الدولي.

بالإضافة إلى ذلك، يخطط الغرب اليوم لتوجيه ضربة كبيرة أخرى إلى بيلاروسيا على الساحة الدولية، ففي 6 يونيو، أصبح معروفا أن الاتحاد الأوروبي، في إطار عمل منظمة العمل الدولية (ILO)، أيد مشروع قرار ينص على تدابير للتأثير على مينسك، من أجل إجبارها على الامتثال لعدد من الشروط الموضوعة  إلى الأمام من قبل العالم الغربي، ومن بين أمور أخرى، في الوثيقة، تمت دعوة جميع الحكومات وممثلي أصحاب العمل والعمال في الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية، وهم 187 دولة في العالم، إلى إعادة النظر في العلاقات مع السلطات البيلاروسية،  بالإضافة إلى ذلك، يوصى المدير العام لمنظمة العمل الدولية، بإبلاغ المنظمات الدولية، بضرورة وقف التعاون مع مسؤول مينسك.

ويجب ألا ننسى أنه في الأشهر الأخيرة كان هناك المزيد والمزيد من الحديث عن الحاجة إلى تغيير السلطة في بيلاروسيا، وحتى تنظيم غزو عسكري لأراضيها، وهذا، على سبيل المثال، تم الإعلان عنه في نهاية شهر مايو من قبل نائب وزير الدفاع الوطني البولندي السابق، الجنرال فالديمار سكشيبتشاك، الذي قال إن وارسو تستعد بالفعل لانقلاب عسكري في بيلاروسيا، وستدعم العملية العسكرية لتغيير نظام الرئيس الكسندر لوكاشينكو، وكذلك التصريح الأخير للأمين العام السابق لحلف الناتو أندرس راسموسن، بأنه في حالة أنه "إذا لم يتمكن الناتو من الاتفاق على مسار واضح لأوكرانيا، فهناك احتمال واضح بأن بعض الدول قد تتخذ إجراءات بشأن كل حالة على حدة على أساس الحالة "، بما في ذلك بما في ذلك إمكانية نشر القوات على الأرض، فإن الوضع في بيلاروسيا يصبح خطيرًا للغاية،  علاوة على ذلك، لم تعد وارسو اليوم تختبئ، وتستعد للعمليات الهجومية وتنتظر فقط اللحظة المناسبة لبدءها، وفي سياق الحرب المختلطة التي تتكشف ضد دولة الاتحاد، يمكن أن يحدث هذا في أي لحظة، وكواحدة من الذرائع، قد يستخدم الغرب تصرفات المعارضة البيلاروسية الهاربة، والمسلحين الذين يقاتلون الآن إلى جانب نظام كييف، علاوة على ذلك، فإن هؤلاء لا يخفون رغبتهم في "العودة" إلى بيلاروسيا على متن دبابات.

إن تكثيف الهجمات المختلطة على بيلاروسيا، والتي لم تصل بعد إلى غزو مباشر وما زالت تقتصر على تدابير التأثير السياسي والاقتصادي والإعلامي، هي التي أجبرت مينسك الرسمية على تكثيف إجراءاتها لضمان الأمن القومي،  ودعوة شركائها إلى توسيع التعاون في مجال الدفاع ومقاومة الضغط الخارجي، وتم الإعلان عن هذا الأخير، على وجه الخصوص، في مينسك خلال قمة رؤساء مجالس الأمن في دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي.

ووفقًا للوكاشينكو، مثل بيلاروسيا، أصبحت جميع دول المنطقة اليوم عرضة للمعلومات والعمليات النفسية من الخارج، وبالتالي يجب على الجميع إيلاء اهتمام خاص لهذه المشكلة،   كما حث الزعيم البيلاروسي، على تحسين نظام الاستجابة للأزمات في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، والبدء في تطوير استراتيجية جديدة للأمن الجماعي للمنظمة للفترة حتى عام 2035، بالإضافة إلى كل شيء، يرى لوكاشينكا أنه من الضروري إجراء مراجعة شاملة للإطار التعاقدي والقانوني للمنظمة ودولة الاتحاد، وبدء العمل اليوم على "تنسيق النهج ووضع مقترحات مناسبة فيما يتعلق بالهيكل الأمني المستقبلي لقارة أوراسيا".

في الواقع الجيوسياسي الحالي، ومع الأخذ في الاعتبار التهديد المتزايد لأمن بيلاروسيا، لم تعد كلمات القيادة البيلاروسية،  تبدو وكأنها تحذير بسيط، ويشهدون على أن مينسك تستعد بقوة ، وبقوة لصد العدوان الخارجي، وتأمل في الحصول على مساعدة ليس فقط من روسيا، ولكن أيضًا من شركاء آخرين في التكامل الأوروبي الآسيوي، في الوقت نفسه، لا ينبغي للمرء أن يفترض أن السياسة العدائية للغرب لا تُعارض إلا على مستوى الكلمات والنداءات في العاصمة البيلاروسية، فسلطات الجمهورية تدرك  جيدًا أن التهديدات المختلطة قد تتطور إلى عدوان مفتوح،  إما من الناتو أو أوكرانيا أو كليهما في نفس الوقت،  لذلك، تواصل مينسك بذل كل ما في وسعها، إذا لزم الأمر، لصد أي معتد محتمل بشكل مستقل، وللقيام بذلك، تصل أسلحة روسية جديدة إلى البلاد، ويتم الحفاظ على وجود التجمع الإقليمي لقوات الأمن العام التي تم نشرها العام الماضي، ويتم إجراء العديد من التدريبات العسكرية والدورات التدريبية، بما في ذلك كجزء من تشكيل ميليشيا شعبية، والتشريع يتغير تدريجياً، ويجهز البلاد لأكثر التطورات سلبية، وكل هذا يشير إلى أن السلطات البيلاروسية تأخذ التهديد الخارجي على محمل الجد واليوم لا تعتبر الهجوم المختلط على البلاد إلا بمثابة "استطلاع ساري المفعول"، والذي قد يتبعه غزو حقيقي.

***

بقلم : الدكتور كريم المظفر

مجلة فورين أفيرز شؤون خارجية

بقلم: مايكل نايتس

إعداد وترجمة د. جواد بشارة

***

مقاربة تشرح لماذا لا يكون العراق الهادئ عراقًا مستقرًا تلقائيًا. تقوم الميليشيات المدعومة من إيران بتجريد الدولة من أصولها وإفراغ الخزانة، وتخترق جميع الوكالات الرئيسية وتحاول إنهاء حرية التعبير. يمكننا القول إن وكلاء إيران المدججين بالسلاح أستولوا على السلطة في بغداد ودمروا الدولة القائمة قبل سنة 2003 وبمساعدة الغزو الأمريكي للعراق.

للوهلة الأولى، يبدو أن العراق قد حقق بعض الاستقرار. أخيرًا، أصبح للبلاد حكومة فاعلة بعد عام من الفراغ السياسي. انخفض العنف الإرهابي إلى أدنى مستوى له منذ الغزو الأمريكي عام 2003. حتى الميليشيات المدعومة من إيران - التي كانت مصدر توتر طويل مع واشنطن - قللت بشكل كبير من هجماتها على المواقع الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية. في خطاب ألقاه في 4 مايو في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أرجع مستشار الأمن القومي جيك سوليفان الانخفاض في الهجمات على المصالح الأمريكية إلى استراتيجية أمريكية قائمة على "الركيزتين التوأمين الردع والدبلوماسية".

كما أوضح خطاب سوليفان، بأن فريق الأمن القومي للرئيس جو بايدن يرى أن هدوء الشرق الأوسط هو غاية في حد ذاته، بما في ذلك العراق. على الرغم من أن سوليفان كان سريعًا في إضافة أنه "لم يكن يرفع علم النصر على العراق" وأن الولايات المتحدة لا يزال لديها "برنامج مكثف" لتعزيز استقلال بغداد عن هيمنة طهران، إلا أن المقياس الحقيقي لنجاحها كان واضحًا وهو تهدئة التوترات بين الولايات المتحدة والميليشيات المدعومة من إيران والتي تهيمن على الحكومة العراقية. يعتقد البيت الأبيض أن خفض التصعيد الإقليمي ضروري للسماح للولايات المتحدة بالتركيز على منافستها مع الصين. لكن في العراق، يعد هذا النهج بأن يكون له تكاليف طويلة الأجل: يستغل حلفاء طهران رغبة الولايات المتحدة في الهدوء لزعزعة استقرار سياستها.

قد يبدو العراق هادئاً، لكن المظاهر قد تكون خادعة. في الواقع، تدخل البلاد مرحلة خطيرة بشكل خاص: فقد اكتسب حلفاء إيران سيطرة غير مسبوقة على البرلمان العراقي والسلطة القضائية والتنفيذية، وهم يتلاعبون بسرعة بالنظام السياسي لصالحهم وينهبون الدولة من مواردها. موقف واشنطن المتهاون تجاه هذه الأحداث يهيئها للمشاركة المكلفة في وقت لاحق. العراق هو ثالث أكبر منتج للنفط في العالم وبلد يمكن أن يؤدي انهياره إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط بأكمله من خلال انتشار اللاجئين والإرهاب. لم تكن المنافسة بين القوى العظمى أبدًا ذريعة لدرء التهديدات التي تواجه البلاد - ولا ينبغي أن تكون كذلك الآن.

انتصار الميليشيات:

لقد مر العراق بالعديد من الأوقات المظلمة منذ عام 2003، ولكن يمكن القول إن أياً منها لم يكن ميئوساً منه مثل الحاضر. نعم، لدى العراق حكومة يقودها رئيس الوزراء محمد السوداني تحت قيادة تحالف إدارة الدولة الذي يضم الأكراد والسنة والإطار التنسيقي، وهذا الأخير هو كتلة سياسية متحالفة بشكل وثيق مع إيران. لكن هذا فقط لأن الفائز الحقيقي في انتخابات أكتوبر 2021، الحركة الشعبوية لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، أي التيار الصدري، غادر البرلمان في يونيو 2022. اتخذ الصدريون هذه الخطوة بعد مناورة القضاء، الذي يسيطر عليه قادة التيار المدعوم من إيران. وأحزاب. الميليشيات، التي غيرت قواعد تشكيل الحكومة لصالح حلفاء طهران بذريعة توفر الثلثين داخل البرلمان لكي يمكن اختيار رئيس الجمهورية وتعيين رئيس لملس الوزراء، وبالتالي خلق الظروف المناسبة لنشوء الثلث المُعطّل، الذي قاده نوري المالكي. وتبعاً لذلك، أصبحت نتيجة الانتخابات موضع نقاش وكوفيء الخاسرون بالنصر، حتى بعد قيامهم بأعمال شغب لإبطال النتائج وأطلقوا طائرات مسيرة على منزل رئيس الوزراء السابق الكاظمي.

إن احتكار الإطار التنسيقي اللاحق لجميع فروع الحكومة العراقية لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد بعد عام 2003. إنه يحكم بمستوى من السلطة المطلقة التي لم يشهدها العراق منذ أيام صدام حسين. فالسوداني في نظر الكثيرين مجرد دمية: في حين أن رئيس الوزراء هو ليس مدير قطاع عام متمرس وعامل مجتهد، فهو لا يقود العراق إلا بتأييد ودعم من شمال البلاد حيث يتمركز الأكراد، وغربه حيث يتواجد أغلبية السنة. ويتم إدانته علانية من قبل حلفاء طهران في بغداد. القوى الحقيقية هي ثلاثة أمراء حرب، كل منهم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بإيران، على رأس الإطار التنسيقي: الإرهابي حسب تصنيف الولايات المتحدة قيس الخزعلي، وهو قائد ميليشيا عصائب أهل الحق الذي دربته إيران. ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي، رئيس حزب الدعوة وكتلة دولة القانون. وقائد منظمة بدر الإيرانية هادي العامري.

لسنوات عديدة، كان هؤلاء السياسيون الثلاثة مقيدين جزئياً من قبل خليط من المعارضين. خلال الاحتلال الأمريكي من عام 2003 إلى عام 2011 ومرة أخرى خلال الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من 2014 إلى 2019، عملت واشنطن، ولكن ليس بجدية كافية، لمنع الميليشيات من الاستيلاء على الكثير من أدوات سلطة الدولة. كما عمل المتظاهرون العراقيون على ضبط قوة الجماعات المدعومة من إيران - أسقطت احتجاجاتهم الجماهيرية في عام 2019 رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي تسيطر عليه الميليشيات. وفي الانتخابات الأخيرة في العراق، حاول الصدر حشد أغلبية دينية ومتعددة الأعراق لتشكيل حكومة استبعدت الإطار التنسيقي لكنه فشل..

اليوم، انهارت جميع مصادر المعارضة هذه. حيث فشل رهان الصدر الانتخابي بسبب تدخل القضاء وانحيازه لخصومه في إلإطار التنسيقي وحركته الآن خارج السلطة وتداوي جراحها. كما أن الميليشيات المدعومة من إيران ليس لديها ما تخشاه من ضغط المتظاهرين الشباب وإحباطهم. وفي الوقت نفسه، فإن الولايات المتحدة مشتتة بسبب صراعها الجيوسياسي مع الصين وقد قلّصت أهدافها إلى مجرد تخفيف التوترات في الشرق الأوسط، بغض النظر عن التكلفة طويلة الأجل للمصالح الأمريكية في المنطقة.

تزوير النظام:

إن تداعيات سيطرة الإطار التنسيقي على الحكومة العراقية واضحة بالفعل. تتمتع الكتلة الآن بتفويض مطلق لتعزيز السيطرة المطلقة على البلاد، ونهب موارد الدولة العراقية وقمع الأصوات المعارضة. ولا يظهر صعوده أي علامات على التراجع: يهيمن الإطار التنسيقي الآن على مجلس الوزراء ويسيطر على البرلمان حتى الانتخابات المقبلة المقررة في أكتوبر 2025.

والأهم من ذلك أن التنظيم يوجه تصرفات القضاء إلى حد لم نشهده منذ سقوط صدام. القاضي فائق زيدان هو رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق، وهو حليف مقرب لأمراء الحرب القائمين على رأس الإطار التنسيقي. تحت قيادته، تدخلت المحكمة العراقية العليا بشكل حاسم في سياسات البلاد لتكريس قوة الميليشيات. و عندما تم دعم الإطار التنسيقي لعرقلة فوز الصدر في انتخابات 2021، غيرت المحكمة قواعد تشكيل الحكومة، وحكمت بأن الصدر بحاجة إلى أغلبية الثلثين في البرلمان، وليس الأغلبية البسيطة، لتشكيل الحكومة.

يستخدم الإطار التنسيقي أيضًا سلطته غير المقيدة لدمج نفسه في مؤسسات الدولة العراقية الأخرى. أصبح جهاز المخابرات الوطني العراقي ومطار بغداد وهيئات مكافحة الفساد والمراكز الجمركية جميعها تحت سيطرة الجماعة منذ أكتوبر / تشرين الأول 2022. كانت مؤسسات الدولة العراقية مثل هذه تتعثر بالفعل وتهدد هذه الإجراءات بمزيد من تآكلها.

تستخدم الجماعات المدعومة من إيران نفوذها المتزايد داخل هذه المؤسسات لتكثيف جهودها لإسكات خصومها المحليين. على سبيل المثال، بعد تولي السيطرة على هيئة تنظيم وسائل الإعلام العراقية، وهيئة الاتصالات والإعلام، في كانون الثاني (يناير)، وضعوا خططًا لإدخال لوائح صارمة للمحتوى الرقمي تعد بتضييق الخناق على حرية التعبير للعراقيين. اللوائح، التي تتطلب من المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي الانتقال إلى المجالات المملوكة للحكومة العراقية وتتضمن تعريفات غامضة للمحتوى غير المناسب أو غير اللائق الذي سيتم استخدامه لتبرير الرقابة، وهي الإجراءات التي أثارت انتقادات من المنظمات الدولية لانتهاكها الدستور العراقي.

أخيرًا، ينهب الإطار التنسيقي موارد الدولة العراقية لمصلحته السياسية. لقد أنشأت الجماعات المدعومة من إيران شركة مملوكة للدولة تعمل بنشاط على توحيد أصول الدولة، باستخدام نفس النهج الذي اتبعه فيلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني. علاوة على ذلك، أشرفت هذه الجماعات على التوسع الهائل في ميزانية العراق في محاولة لشراء الدعم الشعبي أثناء تعزيز سلطتها.

قرية من الدولة:

لطالما سعى السياسيون من ميليشيات الإطار التنسيقي للسيطرة على شركة يمكنها تجميع الأراضي الحكومية وغيرها من الأصول العامة. ونموذجهم لهذا الجهد هو تكتل خاتم الأنبياء التابع للحرس الثوري الإيراني، والذي اكتسب نفوذاً اقتصادياً وسياسياً واسعاً. في إيران من خلال الفوز بأكثر من 1200 عقد بناء، بقيمة تزيد عن 50 مليار دولار، منذ تشكيلها في عام 1990. تم إدراج خاتم الأنبياء من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي كامتداد تجاري لـ الحرس الثوري الإيراني.

كلما حان الوقت لاختيار رئيس وزراء جديد في السنوات الأخيرة، سألت الميليشيات المدعومة من إيران كل من المرشحين المختارين عما إذا كانوا سيدعمون إنشاء شركة على هذا المنوال. في عام 2018، قال رئيس الوزراء عادل عبد المهدي نعم وحصل على دعم الميليشيات لترشيحه لرئاسة الوزراء، لكن الحكومة الأمريكية منعت الشركة من التشكيل. عندما تولى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي منصب رئيس الوزراء البديل لمنتصف المدة في عام 2020، كان لديه الدعم السياسي لرفض السماح للشركة بالتشكل، ثم رفض مرة أخرى في عام 2022 عندما عرض حلفاء طهران عليه كجائزة ليحصل على تمديد. أربع سنوات فترة ولاية ثانية. أخيرًا، شقت الميليشيات المدعومة من إيران طريقها تحت قيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، خلف الكاظمي، الذي أعلن في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 عن إنشاء "الشركة العامة للبناء والعقود الهندسية والميكانيكية والزراعية والصناعية". تم تسمية الشركة على اسم الإرهابي حسب التصنيف الأمريكي، أبو مهدي المهندس، الذي قُتل في غارة جوية أمريكية في يناير 2020 برفقة القائد الإيراني قاسم سليماني. لكن هذه المرة لم تفعل الولايات المتحدة شيئًا.

لم تكن هناك منظمة مثل شركة المهندس العامة موجودة من قبل في العراق. كما ورد في نظامها الأساسي، فإن الشركة مملوكة رسميًا لقوات الحشد الشعبي، وهو جيش الاحتياط العراقي الذي ظهر أثناء القتال ضد داعش ويقوده هيئة التنسيق وغيرها. تفويضها غير محدود فعليًا: يمكنها العمل في أي قطاع، كما يوحي اسمها الكامل، وهي في الأساس حاوية فارغة يمكن للميليشيات المدعومة من إيران من خلالها تعزيز سيطرتها على الاقتصاد العراقي. يمكن للشركة الجديدة، الفريدة من نوعها بالنسبة للشركات العراقية المملوكة للدولة، الحصول على أراضٍ مجانية ورأس مال حكومي ومؤسسات مملوكة للدولة، ويمكنها القيام بأعمال البناء والهدم دون موافقة مجلس الوزراء أو البرلمان.

في ديسمبر 2022، بعد وقت قصير من إنشائها، حصلت شركة المهندس العامة على 1.2 مليون فدان من الأراضي الحكومية على طول الحدود العراقية السعودية مجانًا. تم الإعلان عن هذا الاستحواذ في وسائل الإعلام لكنه لم يمر بأي من الروتين المعتاد الذي يصاحب مثل هذه المشاريع. من المفترض أن يكون المشروع لغرس الأشجار والزراعة، ولكن لإعطاء فكرة عن الحجم، فإن المساحة التي يغطيها تبلغ نصف مساحة لبنان وأكثر من 50 مرة من أكبر مشروع زراعي مخطط له في تاريخ. العراق. تقع الأرض أيضًا في موقع استراتيجي في منطقة أطلقت منها الميليشيات العراقية طائرات بدون طيار على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في عدة مناسبات منذ عام 2019. وفي ما قد يكون أول مثال على الاستيلاء على الأراضي الحضرية في العراق،

إن النمو المستمر لشركة المهندس العامة سيكون بمثابة ضربة للعراق. كما أنه سيحبط الآمال الأمريكية في المستقبل الاقتصادي للبلاد. في 31 أيار (مايو)، أبلغت السفيرة باربرا ليف، كبيرة مسؤولي وزارة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ أن "الحيوية الاقتصادية تتجلى لأول مرة حقًا" في العراق اليوم. سيتم خنق هذه الإمكانات في مهدها إذا تمكنت الميليشيات القوية من استخدام قوتها الاقتصادية الجديدة للسيطرة على أي صناعة واعدة، وفرض عقود حكومية وإحالتها على نفسها وتخويف المستثمرين الأجانب.

سرقة البنك:

كما تستخدم الميليشيات المدعومة من إيران عائدات الدولة لتعزيز قبضتها على السلطة. تعتبر مسودة الموازنة الأولى للحكومة بقيادة الإطار التنسيقي الأكبر في تاريخ العراق، حيث تقترح أنفاق 152 مليار دولار، بزيادة حوالي 50٪ عن آخر موازنة عراقية مصرح بها لعام 2021. وتلتزم الحكومة بالحفاظ على هذا المستوى من الإنفاق لثلاثة أعوام. متتالية.، أي حتى انتخابات أكتوبر 2025.

هذا المستوى من الإنفاق غير المسؤول يتجاهل تحذيرات الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي دعت العراق إلى تقليص قطاعه العام المتضخم. يحاول الإطار التنسيقي شراء النوايا الحسنة للفصائل السياسية العراقية و إسكاتها من خلال الإنفاق غير المستدام، بما في ذلك خلق ما لا يقل عن 701 ألف وظيفة حكومية جديدة، وزيادة بنسبة 17٪ في عدد الموظفين الحكوميين في عام واحد. على سبيل المثال، من المتوقع أن ينمو الحشد الشعبي من 122،000 إلى 238،000 عضو مدفوع الأجر، بزيادة 95٪ في عدد الميليشيات التي تمولها الدولة في بلد يشهد أدنى مستويات العنف منذ عقدين.

من خلال إثقال كاهل الدولة بالتزامات الأجور، يضع الإطار التنسيقي الأساس لعدم الاستقرار في المستقبل. حتى بأسعار النفط الحالية، التي تدور حول 75 دولارًا للبرميل، فإن هذا المستوى من الإنفاق سيقضي على معظم احتياطيات العراق البالغة 115 مليار دولار في نصف عقد. إذا انخفضت أسعار النفط، فإن بغداد ستفلس بشكل أسرع. عندما وجدت بغداد نفسها في ضائقة مالية رهيبة في عام 2014، سارع العالم إلى حشد الدعم للعراق حيث كان البلد حيويًا في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية. لكن الحكومة العراقية لا تستطيع الاعتماد على مثل هذا السخاء في المستقبل. في 31 مايو، أطلق صندوق النقد الدولي ناقوس الخطر بتوقعه أن العراق سيواجه "مخاطر حرجة على استقرار الاقتصاد الكلي" في السنوات القادمة. ببساطة، هذا يعني التخلف عن السداد للمواطنين والمستثمرين، والتضخم والاحتجاجات وخدمة الديون الخارجية والداخلية الخ أي العمل وفق المثل القائل،افعل الكثير بالقليل.

بالنسبة للولايات المتحدة، قد يكون الهدوء الظاهر في العراق هو الهدوء الذي يسبق العاصفة. ليست هذه هي المرة الأولى التي تعتقد فيها واشنطن أنها على طريق الاستقرار في العراق: فبعد انتخابات 2010 التي شهدت إعادة تعيين المالكي لولاية ثانية كارثية، حاولت الولايات المتحدة غسل يديها من البلاد. في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، تمكنت الأحزاب المدعومة من إيران من التلاعب بعملية تشكيل الحكومة لصالحها، وبالتالي أضعفت سلطة بغداد من خلال الفساد ونفوذ الميليشيات والمحسوبية السياسية. بعد انسحاب الجيش الأمريكي في ديسمبر 2011، بدا العراق هادئًا، لكن أسسه السياسية والاجتماعية كانت متعفنة من الداخل. بعد عامين ونصف، عادت الولايات المتحدة إلى العراق لشن حرب دموية بعد سيطرة داعش على ثلث البلاد.

من غير المرجح أن يكون الحد المؤقت من وقوع الهجمات الوخيمة على المنشآت الدبلوماسية الأمريكية المدرعة هو المقياس الأساسي لنجاح واشنطن في العراق. تم تشييد المواقع الدبلوماسية الأمريكية شديدة التحصين بتكلفة كبيرة على وجه التحديد لتمكين الدبلوماسيين الأمريكيين من الدفاع عن المصالح والقيم الأمريكية بغض النظر عن مضايقات العدو.

لا تحتاج الولايات المتحدة إلى إرسال قوات أو مليارات الدولارات للمساعدة في عكس الاتجاهات الخطيرة في العراق. لا يزال بإمكان القدرات المالية والاستخباراتية الأمريكية أن يكون لها تأثير كبير على تصرفات المسؤولين العراقيين، وكثير منهم لديهم طموحات ومصالح سياسية أعلى في التجارة والمصارف الدولية. على سبيل المثال، وفقًا لمصادر دبلوماسية أمريكية، شعر فائق زيدان بقلق عميق عندما أرسل ثلاثة أعضاء من الكونجرس الأمريكي خطابًا إلى بايدن في فبراير حددوا فيه فائق زيدان كهدف محتمل للعقوبات. يجب على الولايات المتحدة استخدام نفوذ مثل هذا - بشكل خاص أولاً - للإشارة إلى القلق بشأن حالة النظام القضائي العراقي وقادته الرئيسيين.

هناك خطر حقيقي من أن العراق سيصبح نوعًا من الديكتاتورية القضائية، حيث تأتي الحكومات وتذهب، لكن القضاء هو هراوة دائمة تمارسها الميليشيات المدعومة من إيران. لدى المسؤولين الأمريكيين معلومات استخباراتية لا مثيل لها حول الاتصالات والمصالح المالية للمسؤولين الفاسدين في العراق، وعليهم استخدام هذه المعلومات بشكل متكرر لإصدار تحذيرات خاصة موجّهة للمسؤولين في بغداد لتغيير سلوكهم.

قد يكون الهدوء الظاهر في العراق هو الهدوء الذي يسبق العاصفة:

يجب على الولايات المتحدة أيضًا أن تفي بوعدها بدعم القيم الأمريكية للديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق. في خطابه في مايو، أكد سوليفان أن دعم القيم الأمريكية هو أحد الركائز الخمس لسياسة إدارة بايدن في الشرق الأوسط. في العراق اليوم، يعني ذلك ضرورة التراجع عن القيود الصارمة التي فرضتها بغداد على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والصحافة الاستقصائية، والهجاء السياسي، وتهديد الصحفيين والإعلاميين بالقتل والخطف والتغييب القسري، فهذه كلها علامات مميزة لدكتاتورية في طور التكوين.

يجب على واشنطن دعم الصحافة الاستقصائية والمساعدة في حماية هذه الجهود بمساعيها الحميدة. يمكن للولايات المتحدة أيضًا استخدام قدراتها الاستخباراتية. تشكيل فرق بحث محترفة للعثور على الأموال المخبأة في الخارج من قبل المسؤولين الفاسدين وإعادة هذه الأموال إلى العراق. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد ذلك أيضًا السلطات العراقية على القبض على الجناة الحقيقيين وراء اختلاس 2.5 مليار دولار "سرقة القرن"، حيث أفرغ المسؤولون المرتبطون بالإطار التنسيقي حساب ضرائب للحكومة العراقية عن طريق سرقة مدبّرة ووثائق مزورة وكتابة مئات الشيكات والفواتير بأنفسهم. إذا كانت الولايات المتحدة تريد حقًا دولة عراقية مستقلة وذات سيادة وعاملة اقتصاديًا، فيجب عليها أن تقود وتدعم التحقيقات للعثور على الأموال المسروقة واستعادتها للعراق - وليس مجرد معرفة مثل هذه الحالات عندما تتصدر عناوين الصحف..

على سبيل الاستعجال، يجب على الولايات المتحدة أن تعمل على عزل شركة المهندس العامة عن الاقتصاد العراقي قبل أن تلوث المشهد الاستثماري في البلاد. تمثل الشركة محاولة لتجريد أصول دولة صناعية كبرى من أجل المنفعة المالية للإرهابيين الذين حددتهم الولايات المتحدة ومنتهكي حقوق الإنسان، والذين هم المستفيدون الرئيسيون من الشركة. يُحسب للحكومة الأمريكية أن شركة المهندس العامة تخضع بالفعل للتدقيق من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية ومكتب المنسق العالمي لمكافحة الفساد في الولايات المتحدة، ولكن يجب أن ينعكس هذا في العقوبات المحددة.

يمكن للولايات المتحدة أن تضع نفسها على الجانب الصحيح من التاريخ في العراق إذا استمرت في التراجع بقوة ضد أسوأ تجاوزات الميليشيات التي تقف وراء الحكومة الحالية. حتى في خضم تنافسها مع الصين والحرب في أوكرانيا، لا يزال بإمكان واشنطن استخدام صوتها الفريد وقدراتها المالية والاستخباراتية لإضعاف القوى المناهضة للديمقراطية وإعطاء الشباب العراقيين والإصلاحيين ومحققو مكافحة الفساد فرصة للدفاع عن الديمقراطية الهشة التي لا تزال قائمة.أو موجودة - بالكاد - في العراق.

***

تراجع تام للأيديولوجيات لمصلحة اللعب والمناورة المرنيين في الساحة الدولية

مما لاشك فيه؛ ان البشرية عبر سفرها التاريخي؛ شهدت كما هائلا جدا، من التطورات والاحداث والحروب، والغزوات والاحتلالات بما يسود بالحبر آلاف الكتب. لاحقا بعد عدة قرون، تحديدا في القرنين التاسع عشر، والقرن العشرين، وبالذات في القرن العشرين؛ كان الاساس فيها، اي في هذه التطورات العميقة التي انتجتها او صنعتها الاحداث والحروب، صراع الأيديولوجيات التي رسمت للدول والشعوب ايضا؛ طريقها على الصعد كافة. من الطبيعي قبل عصر الأيديولوجيات كانت الاطماع بالاستيلاء على ارضي الدول او الشعوب التي ليس في قدرتها الدفاع عن نفسها وعن ارضها وعن شعوبها، من قبل الامبراطوريات المتصارعة فيما بينها على توسعة امبراطورياتها على حساب الأخيرين من الشعوب، او على حساب الامبراطوريات الأخرى المحادده لها. ان هذه الأيديولوجيات، سواء الوضعية بشقيها اليساري والقومي او الديني، جميعها لعبت، دورا كبيرا جدا في صناعة الاحداث التاريخية الكبرى، وايضا الحروب والنزاعات، والتي احدثت التحولات التاريخية الكبرى والعميقة، في اكثر من مكان في المعمورة. ان هذه الأيديولوجيات سواء ما كان منها، او ما هي تستند على الفكر اليساري، اي الافكار الماركسية كأداة للتحليل الاقتصادي والسياسي، او الافكار القومية او حتى غيرهما؛ التي تعتمد على الأيديولوجية كبوصلة عمل وخارطة طريق في عملها السياسي والاقتصادي والثقافي؛ هي التي رسمت شكل النظام العالمي الحالي، الذي يشهد موته السريري، بانتظار موته التام في المقبل من الزمن، حتى يفسح او يترك الساحة الدولية؛ لنظام حديث يحل محله. لقد وصل النظام العالمي الى شكله الحالي عبر حريين عالمتين مدمرتين، وبعدهما الحرب الباردة ومن ثم تاليا بعد سنوات؛ عالم القطب الواحد، اي التسييد الأمريكي على الكرة الارضية. هذا النظام الامريكي الذي جلس على كرسي قيادة العالم او النظام العالمي، طبقا للقواعد والمعايير الدولية التي وضعتها الولايات المتحدة، كبديل عن النظام العالمي الذي تعمل وفق معاييره وقواعده، الامم المتحدة ومجلس الامن التابع لها. خلال هذين الحربين العالميتين ومن ثم الحرب الباردة، وقبل عقدين؛ بروز عالم القطب الواحد، الذي فسح المجال واسعا من دون حسيب او رقيب الى التغول الامريكي، اي الي التفرد الامريكي بمصائر العالم لمدة اكثر من عقدين من الزمن الذي انقضى. كانت الامبراطورية الامريكية التي تفردت بمصير دول العالم في ذلك الوقت، قد غزت واحتلت دولتين هما افغانستان والعراق، وتركت في الدولتين الدمار والخراب، وآلاف القتلى، وآلاف اخرى تعاني حتى الساعة من تفشي امراض السرطان، بسبب ما كانت امريكا قد استخدمته من اسلحة محرمة دوليا في احتلال هاتين الدولتين، وبالذات لجهة التحديد الحصري؛ في احتلالها للعراق. لم يتم مساءلتها، لا من المجتمع الدولي ولا من ضحايا الشعبين؛ عن ما خربته ودمرته في حربيها، وهما، وبكل تأكيد حربين عبثيتين، أو انهما حربين اردتا امريكا بهما؛ ان ترسخ تجذر وتوسع هيمنتها على دول وشعوب الكرة الأرضية؛ إنما تداعياتهما ونتائجهما جاءت على القيض تماما، اي التأكل الواسع والعميق من جرف نفوذها وهيمنتها. أما لماذا لم يتم مساءلة الولايات المتحدة عن جرائمها في هذين الحربين من المجتمع الدولي؟ الجواب وبكل بساطة؛ انها دولة عظمى تمتلك ترسانة من السلاح النووي؛ لا احد في امكانه التوجه لها ولسمؤوليها بالسؤال عن ما فعلوا من خراب ودمار وهلاك للبشر والشجر والماء والارض. بالعودة الى الأيديولوجيات التي كانت، سواء الاشتراكية التي تراجعت بصورة جلية جدا خلال العقدين الماضيين، حتى اختفت الى حد ما من الخطابات السياسية والثقافية والأدبية اي جرى تهميشها الى حد كبير جدا، او الرأسمالية بشكلها الامبريالي العتيق، او بموجباتها الاقتصادية والتجارية والسياسية والثقافية القديمة، التي تم تغييرها كليا وتحويل الخطابات عنها، السياسية والاقتصادية والثقافية والأدبية الى خطابات تتبنى الليبرالية الحداثوية، والتي هي في جوهر خطاباتها تلك؛ هو تسويق للإمبريالية الحداثوية العابرة للحدود والجنسيات. أما الأيديولوجية القومية فقد تراجعت كثيرا هي الأخرى، حتى بات الحديث عنها او خطاباتها ضربا من ضروب الهرطقة. وبرز في المقابل؛ الاسلام السياسي في العقد الأخير او لجهة الواقع المتحرك على الارض خلال العقدين الماضيين، والذي يعاني الآن كثيرا، وانسداد جميع طرق النجاح له كمنظومة حكم في دول الربيع العربي. مما يؤذن بأفوله قريبا، وتراجعه كثيرا عن الفعل المنتج في المشهد السياسي. أن الليبرالية الحديثة التي تريد او يريد المروجون لها؛ ان تتحكم في حركة دول العالم على جميع الصعد. اعتقد او من وجهة نظري المتواضعة، الليبرالية الحداثوية، هي الأخرى سوف تتراجع في المقبل من الزمن، وهو اي هذا التراجع، على اي حال، ليس بعيدا من الآن. ان الليبرالية الحديثة هي بحد ذاتها؛ ايديولوجية مع انها ترفض العمل بالأيديولوجيات في تناقض صارخ على صعيد الطرح الفكري وعلى صعيد الاهداف، والنتائج، وسلم الاوليات. الغرب وفي المقدمة من هذا الغرب، الولايات المتحدة التي تعتبر واقعيا وعمليا وانتاجا هي رأس الحربة في هذه الأيديولوجية الليبرالية الحداثوية المؤطرة بأطر امبريالية، أو ان الاصح والادق، الامبريالية قاعدة انطلاقها، ومحتواها ومضمونها وخطاباتها السياسية والثقافية والاقتصادية ؛ لا يتورعون كثيرا، أو لجهة الدقة الموضوعية؛ الولايات المتحدة الأمريكية، لا تتورع كثيرا او لا تتأخر كثيرا في استخدام القوة سواء القوة الناعمة او الاقتصادية او الغزو والاحتلال او غير هذا من التدخلات؛ في احداث التغييرات في البلد الذي يريدون ان يغيروا او تريد امريكا، ان تغير؛ نظامه السياسي بنظام بديل موالي لها، وتاليا هذا النظام البديل، بحكم الضرورة الحتمية الناتجة عن صناعة قوة عوامل فعل التغيير ومفاعيله؛ يكون تابعا لها. وكي يتم استدامة هذه التبعية لها، اي لأمريكا؛  يتم اعادة صياغة النظام الاقتصادي والتجاري والمالي والثقافي والسياسي، وحتى الأدبي، والأخير بصورة غير مباشرة، بغسيل العقل والدماغ من خلال الاشهار والنشر المترجم، الواسع النطاق؛ لدوريات ثقافية وادبية، قصدية، وذات تأثير فعال على العواطف والنفوس بما تمتلك من قوة عاطفية وعقلية للأحداث والشخوص وبلاغة اللغة؛ في اختيارات منتخبة. (ان هذا لا يعني عدم التفاعل الادبي والثقافي بين شعوب المعمورة، بل ان العكس هو الصحيح تماما؛ إنما الرفض هنا للاستثمار التخادمي بين قوى النفوذ الدولية العظمى ومراكز فعلها ومفاعيلها الثقافية والادبية التي تصنعها وتمولها الشركات الامبريالية الكبرى؛ في التأثير على ثقافة الشعوب المستهدفة، بعزلها عن ارثها الثقافي والحضاري..) ان الولايات المتحدة؛ ترمي او تهدف من وراء ذلك، ان تجعل من هذا البلد ونظامه البديل الجديد، طبقا لنظامها اي النظام الاقتصادي الامريكي والسياسي والثقافي والمالي، وما يتبع كل هذا، أو ينتج عنه من توجهات.. حتى يتم بهذا الطريقة؛ التحكم المستقبلي بمخرجات هذا النظام الجديد الموالي لهم او لها، اي للأمريكيين او لأمريكا لا فرق. ان اعادة تشكيل النظام الدولي، او تبديل النظام الحالي بنظام دولي جديد؛ ما هو الا بنتيجة التطور التاريخي الذي تشهد البشرية؛ اولى او بدايات ارهاصاته، التي سوف لا محال تدفع باتجاه نظام عالمي ليس لأي دولة واحدة لوحدها سلطان عليه. كما ان الأيديولوجيات سوف لن تكون هي من تحدد افاق الشراكات والتحالفات والتعاون بين دول وشعوب كوكب الارض هذا، كما كان يجري في القرن العشرين وحتى الى حد ما العقدين الاوليين من القرن الحالي، بمعنى اكثر دقة وتحديدا؛ سوف يمنح إرادة شعوب الارض فرصة ذهبية في اختيار انظمتها السياسية، كما انه سوف يتيح فرص واسعة امام انظمة الدول حرية الاختيار او اختيار الشراكات او التعاون بينها وبين الدول الأخرى. ان النظم العالمية تقريبا، ربما جميع الانظمة السياسية في دول العالم، وايضا الشعوب على ظهر كوكبنا؛ لم تعد تأخذ في الاعتبار، الأيديولوجية التي يعتمد عليها النظام السياسي في بلد ما في العالم؛ المحددات الفكرية التي من الواجب الأيديولوجي ان تفرض على هذا النظام مساحات الشراكة او التحالف او التعاون مع الدول الأخرى وبالذات الدول العظمى والكبرى. ان هذا التوجه لا ينطبق فقط على دول العالم الثالث بل هو ينطبق تماما حتى على الدول العظمى والكبرى. ان دول العالم بدأت بشكل جلي وواضح ترسم سياساتها وشراكاتها وتحالفاتها على ما تمليه عليها مصالحها، التكتيكية والاستراتيجية، بصرف النظر عن ما تؤمن به من افكار حتى وان تقاطعت تقاطعا صارخا هذه الافكار مع افكار الدولة الأخرى التي تسعى الى بناء شراكات معها. في السنوات الأخيرة؛ صارت الأيديولوجيات ليس لها وجود او اي تأثير في رسم سياسة اغلب الانظمة السياسية في دول العالم، التي تؤمن بأيديولوجية ما اي انها تضعها على رف الاهمال في تعاملها مع الدول العالم وبالذات حين يكون التعامل او الشراكات او التحالفات او التعاون بين دولة من العالم الثالث ودولة عظمى او كبرى، وحتى فيما بين دول العالم الثالث. ان هذا النظام، اقصد اي نظام لدولة ما في العالم الذي يؤمن بتلك الافكار او بهذه الافكار التي يجعل منها بحكم الضرورة والحاجة الملزمة للبقاء على رأس الحكم والسلطة؛ مادة للتثقيف الداخلي ولكسب المريدين والموالين ليس الا، وليس لتحديد شكل العلاقة مع اي دولة اخرى، نظامها مبني على أيديولوجية، تتقاطع كليا لناحية الأيديولوجية التي حددت شكل هذا النظام. لقد قيل قديما؛ لا توجد صداقات دائمة بل مصالح دائمة. هذا امر مفروغ منه ومعروف في كل مراحل السفر التاريخي للبشرية. لكن في الوقت الحاضر، وما فرضته التطورات التاريخية، وما انتجه العقل البشري من ثورة معلوماتية، قاد الى ان لا توجد صداقات او شراكات او تعاون او تحالفات تحددها او ترسم الطريق إليها؛ الأيديولوجيات، بل ان من يحددها هي المصالح في الوقت الحاضر، بمعنى ان الأيديولوجية التي كانت في زمن ما هي من تحدد العلاقات بين الدول وربما حتى شعوب تلك الدول، لم يعد لها وجود في السياسة الدولية الحالية، استجابة للتطورات التاريخية، وتدفق ووصول المعلومة بالثانية الى ابعد ركن من الكرة الارضية؛ الذي لا يمكن لأي دولة مهما بلغت من القوة والقدرة على ايقاف حركته في التطور وانتاج الجديد. هذا من جانب اما من الجانب الثاني، وهذا الجانب لا يقل اهمية من تراجع الأيديولوجيات لصالح البرغماتية واللعب المرن والمناورة في تنظيم العلاقات بين الدول وايضا بين الشعوب؛ هي الثورة المعلوماتية التي انتجت او صنعت او عمقت الحس الانساني المرهف للعدالة في مقابل حجم الظلم الذي تعرضت له وتتعرض حتى الساعة؛ الكثير من الشعوب في اكثر من مكان في الكرة الارضية؛ سواء من أنظمة حكم مستبدة، او من الغزو والاحتلال. نلاحظ في السنوات الأخيرة ان هذه الأنظمة المستبدة، على الرغم من رسوخ سيطرتها على مقاليد الحكم، لكنها بدأت تواجه إرادة الشعوب، التي لم ينجح التغلغل الامريكي في نسيجها الثقافي والسياسي والادبي؛ في حرفها عن طريق مصالحها لصالح المصلحة والنفوذ الأمريكي الذي تريد له امريكا الاستدامة. لذا تستمر إرادة الشعوب بالرفض لأنظمة الاستبداد السائرة في فلك المستغل الامريكي لها ولثرواتها، والمعارضة لطبيعة حكمها؛ مما قاد وسوف يقود اكثر في المقبل من الزمن الى ان تهتز ركائز انظمتها؛ مما يفضي أما ان تقوم انظمة الاستبداد هذه الى التغيير بما يتناسب مع مستلزمات هذا العصر؛ من حرية وديمقراطية حقيقية، واستقلال وسيادة كاملة لا جرح فيها ولا نقص، وهذا هو الأمر البعيد الاحتمال لطبيعة هذه الأنظمة؛ او ان التطور التاريخي للبشرية سوف يتجاوزها كثيرا؛ عندها يصبح انهيارها وسقوطها امرا حتميا؛ بهبة جماهيرية وليس بالانقلابات العسكرية التي لم يعد لها وجود لناحية الفعل في احداث التغيير او بالسيطرة على الحكم، في ظل هذا التغير الكوني العميق والجذري الذي لعبت الآن وسوف تعلب إرادة الأنسان فيه؛ الدور المركزي في صناعة الرأي والاحداث.. بعيدا عن قيود الأيديولوجيات وشروطها ودروبها..

***

مزهر جبر الساعدي

لم يفاجأ أحد بردود الافعال الغربية كالعادة، فنباح الغرب وأوكرانيا، سمع في كل باب، يُزعم أن روسيا هي التي "فجرت سد محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، مما تسبب في كارثة بيئية" - ، في وقت كل المعطيات والحقائق تشير إلى عكس ذلك، فالسؤال المهم بالتأكيد، لماذا تحتاج روسيا إلى تفجير سد لإغراق ضفاف نهر دنيبر (خاصة الجانب الأيسر، الذي يخضع لسيطرتها)، وهدم حقول الألغام والتحصينات المقامة هناك، على خط دفاع القوات الروسية مع مجرى مائي، ولكن حتى لو كان هناك فجأة رجل مجنون يأمر بالفيضان، فلماذا في هذه الحالة تدمير السد؟ يكفي فقط فتح البوابات إلى أقصى حد، بحيث يكون التأثير في النهاية هو نفسه، لكن كييف لم تتمكن من فتح الصمامات، لأن السد ومحطة الطاقة الكهرومائية كانا يتحكم فيهما الجانب الروسي، لهذا السبب لم يتبق لديه سوى خيار واحد، وهو تدمير السد، واحداث الفيضان .

روسيا حذرت مرارًا وتكرارًا ، من احتمال قيام الجانب الأوكراني بتدمير محطة كاخوفكا للطاقة الكهرومائية، ووزعت وثيقة رسمية لمجلس الأمن الدولي، بمذكرة من البعثة الدائمة حول خطط نظام كييف لتدمير محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، علاوة على ذلك، بالعودة إلى عام 2022، أعلنت قيادة القوات المسلحة الأوكرانية صراحةً عن خطط لتدمير Kakhovskaya HPP، ثم قام الجيش الأوكراني بضربة تجريبية من MLRS HIMARS الأمريكية على أحد أقفال سد Kakhovka ، من أجل إحداث ثقب فيه ومعرفة مقدار ارتفاع المياه في نهر Dnieper ، ووفقا للمندوب الروسي في مجلس الامن فاسيلي نيبينزيا، فإن دعوات موسكو للأمين العام للأمم المتحدة لبذل كل ما في وسعه لمنع هذه الجريمة المروعة لم تؤخذ بعين الاعتبار بشكل صحيح.

وبعيدا عن التكهنات التي يجب ان نضعها جانبًا، هناك فرص، وهناك منطق لأفعال السبب والنتيجة، وهناك فائدة، ومن أي موقع لا يبدو ولا تحاول تحليل ما حدث، فإنه يشير بأي حال إلى الشخص الذي رتب هذه الكارثة، هي كييف، فلعدة أيام، زادت كييف بشكل كبير من تصريف المياه في DneproGES، مما تسبب في ارتفاع المياه في خزان Kakhovka، لكن في سد محطة كاخوفكا للطاقة الكهرومائية، لم يتمكن الموظفين الروس من زيادة تصريف المياه من الخزان ، لأنهم كانوا يتعرضون باستمرار لإطلاق النار من الجانب الأوكراني، ليس ذلك فحسب، نتيجة لمثل هذه الإجراءات في أوكرانيا، زاد ضغط المياه بالقرب من نوفايا كاخوفكا على السد والسد، الأمر الذي قد يتسبب في حد ذاته في تدمير الانهيار الأرضي للسد، حتى بدون وصول MLRS فوق السد، وكان - الجانب الأوكراني، قد أطلق "ألدر" فوق السد، ويروج الأتراك الآن، بشكل عام، للنسخة القائلة، بأن السد قد تعرض لهجوم من قبل قوارب كاميكازي غير المأهولة.

وتشير القراءة الروسية للحدث، الى انه كان للتخريب هدفان على الأقل ن الأول، جذب أقصى قدر من الاهتمام لإعادة تجميع وحدات القوات المسلحة لأوكرانيا، فضلاً عن إلحاق أكبر قدر من الضرر الإنساني بسكان المناطق المتاخمة لـ HPP"، و لم تستبعد الدبلوماسية الروسية أن كييف في أفعالها يمكن أن تسترشد أيضًا بالرغبة في تنظيم استفزاز ضمنيًا ضد محطة زابوروجيه للطاقة النووية، وكذلك الانتقام من سكان شبه جزيرة القرم، وتركهم بلا ماء، وإن "انفجار محطة الطاقة الكهرومائية أدى بالفعل إلى كارثة بيئية - فقد غمرت الفيضانات عشرات المستوطنات الواقعة أسفل مجرى نهر دنيبر، وخزان كاخوفكا وقناة القرم الشمالية التي تزود شبه جزيرة القرم بالمياه، أصبحت ضحلة". .

ونلفت الانتباه إلى مؤشرات حملة تضليل منسقة، كانت قد بدأت حول الوضع مع تقويض سد محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، وفي القصص التي وزعتها وسائل الإعلام الغربية، ينصب التركيز الرئيسي على اتهام موسكو بتفجير السد، وهذه التصريحات تتماشى مع روح المنطق الخاطئ الذي ينسب إلى روسيا، والقصف الذاتي لمحطة الطاقة النووية Zaporizhzhya أو تقويض تيار Nord ومن هذه" الاستنتاجات "ينفث الفصام، ففي الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، سارعوا حقًا إلى إلقاء اللوم كله على روسيا في تفجير محطة كاخوفكا لتوليد الطاقة الكهرومائية، ومع ذلك، وبعد مرور بعض الوقت، أصبح الخطاب أكثر تحفظًا، ومن الممكن أن يكون المراقبون قد تلقوا معلومات إضافية، أو أنهم اقتربوا من تحليل الحادث بعناية أكبر، حتى وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي قال، إن من السابق لأوانه إعطاء "أي تقييم ذي مغزى للتفاصيل".

وبعده، أشار المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي إلى أن الولايات المتحدة لا يمكنها تأكيد تورط روسيا فيما حدث في محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، وفي النهاية، حتى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، في مقابلة مع بيلد، أُجبر على الاعتراف بأن كييف ليس لديها الفرصة الآن لجمع الأدلة على تورط موسكو في كارثة محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، في الوقت نفسه، انتقد الرئيس الأوكراني الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر لرد فعلهما على المأساة، وبحسب قوله، فإن أكبر المنظمات الدولية إما لم تستجب لطلب كييف للمساعدة، أو رفضت "بعبارات دبلوماسية" وقال الرئيس الأوكراني "لم نتلق ردا، أنا مصدوم".

اذن حصل زيلينسكي الان على الحجة القوية بعدم الذهاب إلى "الهجوم المضاد" الذي يطلبه الغرب منه، والذي لا يريده هو، ولا جنرالات القوات المسلحة الأوكرانية، بما في ذلك القائد العام زلوجني - وأعمال الإنقاذ لا بد ان تنفذ، فبالنسبة لحقيقة أن الزراعة قد دمرت الآن فعليًا في منطقة خيرسون، حيث يعانى المزارعون في منطقتي زابوروجيه و دنيبرو بيتروفسك من خسائر فادحة، وأصبح الكثير من الناس بلا مأوى - بعد كل شيء، فقد كان الأشخاص الجادون في كييف مقتنعين منذ فترة طويلة بأنهم لن يكون قادرًا على الاحتفاظ بهذه الأراضي، وبالتالي السماح للعدو بـ "حرق الأرض"، كما كانت تمارس القوات المسلحة الأوكرانية منذ فترة طويلة، واليوم فقد ظهر ظرف مهم لكييف - ظهر كائن عملاق، يمكن أن يطلب من الغرب الكثير من المال مقابله، ولا يُستبعد على الإطلاق أن يعاني Dnieper HPP من نفس مصير Kakhovskaya HPP، عندما يكون Zelensky محاصرا تمامًا مع Zaporozhye .

لسنا خبراء كي نقيم الوضع في محطة كاخوفسكايا، ولكن نسترشد بمقولة الكولونيل ألكسندر ستافير، الذي لديه سنوات عديدة من الخبرة العملية في هذا الاتجاه بالذات، " إلحاق الضرر بجيش العدو وليس بممتلكات العدو بأي وسيلة "، ومن هذه النقطة بالإمكان تحليل الوضع، فمن حيث المبدأ، شاهد الجميع بالفعل لقطات للمياه تتدفق عبر قمة السد، وهذه حقيقة مهمة جدًا وهي أنه يمر عبر القمة، عن طريق الفائض، وليس عن طريق التدفق عبر الأقفال المفتوحة، وبدأ فيضان الجزر، الضفة اليسرى، والضفة اليمنى جزئيًا، وبشكل عام، ما يحدث بالضبط عندما ينكسر السد، كل ذلك وفق قوانين الفيزياء، فحتى الآن، لم تعد محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية موجودة، فقد جرفت بالفعل، وما سيحدث بعد ذلك هو قضية منفصلة تمامًا.

وتتوقع وزارة السياسة الزراعية الأوكرانية، أنه ونتيجة تدمير محطة كاخوفكا للطاقة الكهرومائية، قد تتحول الحقول في جنوب أوكرانيا إلى صحارى العام المقبل. 94 % من أنظمة الري في خيرسون، 74٪ - في زابوروجيه و 30٪ - في مناطق دنيبروبيتروفسك قد تبقى بدون ماء، ومن حيث المبدأ، يمكن القول إن المذنب الأساس هو الجانب الاوكراني، فمن الواضح أن الجسم قد تضرر نتيجة الأعمال العدائية من قبل القوات الأوكرانية (على الأرجح) ، خاصةً أن الجانب الأوكراني نجح في ذلك، حيث قصف باستمرار محطة الطاقة الكهرومائية على مدار العام .

روسيا في هذا الحادث أيضا، تصر على إثبات كل ظروف هجوم كييف على Kakhovskaya HPP  "، ولكن إنه لأمر محير للغاية أن ترفض الأمانة العامة للأمم المتحدة في كل مرة إدانة هجمات نظام كييف، متذرعة بنقص المعلومات، مثل قصف القوات المسلحة الأوكرانية لمحطة الطاقة النووية في زابوروجيه، على سبيل المثال، وعلى الرغم من ذلك شدد فاسيلي نيبينزيا على أنه من الواضح للجميع من أي جانب يأتون "، ودعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى "تقديم تقييم موضوعي للأعمال الإرهابية لنظام كييف وإدانتها".

مع تفجير سد كاخوفسكايا، ستكون لكييف القدرة على تأخير استمرار هجومها الذي وعدت الغرب به، الذي تأخر طويلًا، وصرف انتباه الغرب عن طريق الشروع، على سبيل المثال، في تحقيق دولي، كما كان الحال في عام 2014، عندما أسقطت أوكرانيا طائرة من طراز Boeing MH17 في سماء دونباس، ورفض كييف ونظرتها بشكل سلبي إلى اقتراحات إنشاء لجنة دولية متخصصة بمشاركة خبراء روس واوكران، ومنها مبادرة الرئيس التركي رجب طيب ردوغان، يجعل من كييف في موقع المتهم الرئيس، ولكن لا أحد يتجرأ على قول ذلك خوفا من اغضاب عجوز البيت الأبيض .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

الدستور العراقي على علاته، يقر، بأن "الشعب مصدر السلطات"، والمشرعون الطائفيون يتبجحون بأنهم ملتزمون بمبادئه دون مواربة!!. لكن إذا كان الشعب حقا، مصدر السلطات، ونعني "التشريعية والتنفيذية" ولا نستثني "القضائية"، فلماذا لم يع هؤلاء المشرعون ضجر الشعب على مدى عشرين عاما من سوء الأوضاع وتراكمها على جميع المساحات والصعد؟. وإن كان الدستور مجموعة أحكام في العرف المدني، الفيصل، لإحلال السلم الأهلي وإعلاء شأن العدل والمساواة وضمان حقوق الناس مهما اختلفت انتماءاتهم ومللهم. فمن أعطى أصحاب السلطتين (التشريعية والتنفيذية) حق شرعنة استثناءات دستورية لخدمة مصالحهم، بأي حال لا تتناسب مع المصالح العامة للمواطنين، خذ مثلا: مسألة الرواتب الضخمة التي يتقاضاها منتسبو السلطات الثلاث وما يحيطها من دوائر وأحزاب وموظفين وهميين، فضلا عن تعدد وتنوع الامتيازات والمكافآت، أموال وعقارات وقصور وسيارات وحمايات إلخ. فيما يعاني عامة الشعب من ردع وقهر وجوع وعراء وبطالة وأمراض لا طائل منها. ولأن الدستور مليء بالتناقضات والكثير من مواده قابلة للتأويل والتجيير، فسهلا على مافيات السياسية وأحزابها المتسلطة الالتفاف على القوانين الدستورية الملتبسة بما يخدم مصالحها الطائفية والحزبية. الخطير، أن هذه الطبقة الساقطة سياسيا وأخلاقيا قد جعلت من ممارساتها اللاقانونية أمرا طبيعيا للاستئثار بالسلطة دون منازع.

مؤخرا رفع الستار عن عرض الفصل الجديد من مشهد دراما العراق وسط هرج ومرج مثير للغاية... إذ تنصلت أحزاب الإطار التنسيقي عن اتفاقها مع الحزب الديمقراطي الكردستاني (مسعود البرزاني) دون أن يعرف أحد مضامين ذلك الاتفاق وما تمت مقايضته لإتمام صفقة تشكيل (حكومة السوداني) بعد انسحاب الصدر عن المشهد السياسي. وهناك اتفاق آخر قد تم بين رئيس الوزراء محمد السوداني والكرد. أدى كلا الاتفاقين إلى تداعيات أنتجت تأجيل المفاوضات بشأن مشروع قانون الموازنة العراقية لعام 2023 وسط خلافات شديدة بين العديد من الأطراف. وكان نائب رئيس البرلمان قد قام بتعليق عمل اللجنة المالية بالهيئة التشريعية "البرلمان" بسبب مخالفات قانونية وغموض في مضامين الاتفاقات المشتركة بين كل من "الإطار التنسيقي" و"مسعود برزاني" من جهة و(السوداني الحكومة الفيدرالية العراقية) و(برزاني حكومة إقليم كردستان العراق شبه المستقل) من جهة ثانية. سببت حدوث خلافات عميقة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين (البارتي والاتحاد) الحاكمين في إقليم كردستان العراق.

الجدير بالذكر أن حكومة (السوداني) الاتحادية كانت قد أرسلت في منتصف مارس آذار مشروع ميزانية ثلاث سنوات إلى البرلمان، تشكل مؤشرا بأن الحكومة مستمرة لثلاث سنوات دون قيام انتخابات مبكرة في هذا العام. وقامت في أوائل أبريل/ نيسان بتوقيع اتفاقية مع حكومة إقليم كردستان بشأن استئناف صادرات النفط إلى تركيا، ومشروع قانون الميزانية العراقية، ومناقشات جديدة بشأن قانون نفط وغاز اتحادي جديد.

فإذا كان الدستور العراقي، يؤكد، بأن الشعب مصدر السلطات، أفلا من حق المواطنين معرفة ما يدور في الدهاليز من أمور سياسية واتفاقات وعقود تستنزف الدولة وتعرض مصالح الأمة للخطر. إذ لا يسمح الدستور لأي جهة حزبوية أو مجتمعية التجاوز على مسؤوليات الحكومة المركزية الحصرية، كما لا يسمح لأي طرف أو حزب مصادرة الدولة في إطار مفهوم الدولة كمؤسسة لها اعتباراتها القانونية. فما الذي استوجب عدم كشف مضامين اتفاقات في غاية الخطورة في شأن عام (من اختصاص الدولة وحكومتها المركزية حصرا)؟. بل لماذا سمحت المؤسسة التشريعية والقضائية لأحزاب شعبوية لا رقابة أو سلطة عليها عقد اتفاقات فيما بينها، تمس أمن الدولة ومصالحها العليا بمعزل عن الشعب وعلمه؟. في الدولة الديمقراطية المدنية التي يسودها القانون والرقابة والمحاسبة، لا يستطيع أي مسؤول مهما كان منصبه وتحت أي ذريعة كانت، التجاوز على المبادئ والأساسيات المتعلقة "باستقلال الدولة وسيادتها" ومنها استقرارها المجتمعي، السياسي والاقتصادي، وان حدث سيعتبر خرقا اعتباريا لمؤسسات الدولة وخيانة عظمى لشأن عام يعاقب عليه بلا رحمة ولا يقبل المساومة أمام القانون!.

أما في بلد كالعراق يعاني من ازدواجية المعايير وأوضاع سياسية معقدة ونظام حكم طائفي راديكالي، ودستور مركب سلب الدولة ومؤسساتها كل أساسياتها الشرعية والقانونية والإدارية. اشتد الصراع بين طرفين متناقضين في المواقف والممارسات والمناهج والرؤى: بين قوى اللادولة "طبقة شللية طائفية شوفينية"، وسلطة الدولة الضعيفة، حتى أصبح مفتوحا على كل الاحتمالات. فالأولى تقوض الدولة بكل ما تملكه من قوة، فيما الثانية مسحوقة لا تمتلك وسائل الردع الحرفية والسياسية والمؤسساتية بشكل جعل هيبة الدولة في أتون المجهول وعرضة للجدل الجماهيري.

إن تصاعد الصراع من جديد بين الأطراف السياسية بسبب أزمة تمرير قانون الموازنة الأخير، من شأنه أن يفضي إلى مخاطر حقيقية على الدولة والمجتمع. فالموازنة يشوبها الكثير من الغموض والتستر القانوني والدستوري، ومضامين الاتفاقين مجهولة. فيما الأموال المالية التي يفترض أن تصرف للمحافظات والوزارات لتنفيذ مشاريعها، توزع كـ (هبات) على الأحزاب التي تتقلد وزارات عبر لجانها الاقتصادية وفقا لمبدأ المحاصصة التوافقي. لكن على ما يبدو أن قادة "الإطار" متخوفون من انقلاب السوداني عليهم وضياع المرجو إن لم يعجلوا بأي ثمن إقرار الموازنة التي انكشفت أسرارها قبل إقرارها. فعلى سبيل المثال: في الوقت الذي تفرض الحكومة رسوما خانقة على العراقيين، يحصد الكرد 20 % من الموازنة لثلاث محافظات، وهو ما يعادل حصة 6 محافظات جنوب العراق. فيما تحصل الأمانة العامة لمجلس الوزراء على 920 مليار دينار عام 2023 في حين كانت 186 مليار دينار عام 2021، مع أن عمل الأمانة لا يتعدى متابعة قرارات مجلس الوزراء، ولا يعلم أحد لماذا هذه المبالغ الطائلة؟. أما حصة وزارة الخارجية من الميزانية عام 2021 (363 مليار دينار)، زادت عام 2023 بمعدل مرتين ونصف (837 مليار دينار). ووفقا لما تسرب مؤخرا، فإن مخصصات مكتب رئيس الوزراء قد ارتفع بمعدل أكثر من 15 ضعفا، من 76 مليار دينار عام 2021 إلى 229 مليار عام 2023، زائد 990 مليار دينار لمكاتب تابعة لرئيس الوزراء. علما من أن 85 % من الواردات المالية السنوية للدولة تذهب لجيوب الأحزاب الحاكمة و15 % فقط يذهب لخزانة الدولة العراقية،، ومن هالمال حمل جمال!!.

***

عصام الياسري 

جهود مكثفة في القاهرة لتثبيت الوضع القائم في قطاع غزة بعد التزام حركة حماس والفصائل الفلسطينية بهدنة طويلة المدى، ومع تقديرنا لذوي النوايا الحسنة لبعض المشاركين في هذه المفاوضات، إلا أنه في سياق تحكيم العقل والمنطق في قضيتنا الوطنية نطرح التساؤلات التالية: هل الهدنة الآن بعد فشل عملية التسوية وتكثيف إسرائيل لعمليات الاستيطان والتهويد وتدنيس الأقصى... تخدم القضية الوطنية؟ وهل خرجت غزة عن سياقها الوطني وانتهى دورها المقاوِم؟ وهل دويلة غزة التي خططت لها إسرائيل حتى قبل سيطرة حماس على غزة تستحق كل هذا الثمن الفادح، من تدمير المشروع الوطني والانقسام السياسي والمجتمعي وأكثر من سبعة حروب مدمرة على القطاع أدت بحياة أكثر من أربعة آلاف شهيد وآلاف الجرحى والأسرى وحصار القطاع بالإضافة الى إبعاد الأنظار عما يجري في الضفة والقدس لأن الهدنة كما تريدها إسرائيل تتضمن وقف العمليات العسكرية لحركة حماس في الضفة وداخل 48؟ 

في تبرير بعض قادة حماس لالتزامها بالهدنة وعدم المشاركة في المواجهتين الأخيرتين يتحدثون عن الواقعية السياسية وتحكيم العقل في موضوع الحرب وحرصهم على أرواح المواطنين وهذا كلام صحيح ولكن، إن كانت عقلانية وواقعية فلماذا الآن بعد سيطرة حماس على القطاع واستقرار الأمر لها بموافقة إسرائيل؟ بينما كانت ترفض كل الدعوات من القيادة الفلسطينية، في عهد أبو عمار وفي عهد أبو مازن، التي كانت تترجاها بالقبول بهدنة ولو مؤقتة؟

فهل قبل سيطرة حماس على القطاع كانت المقاومة، من خلال إطلاق الصواريخ من غزة وبناء الأنفاق التي كلفت مئات ملايين الدولارات وطنية ومشروعة ومقدسة والآن بعد سيطرتها على القطاع والتزامها بالهدنة أصبحت المقاومة مشبوهة وغير وطنية وفي غير مصلحة الشعب في غزة وتغطي على جرائم الاحتلال في الضفة والقدس الخ؟! وبعد أن أوقفت حماس إطلاق الصواريخ انطلاقا من قطاع غزة فما هو دور ووظيفة حماس وفصائل المقاومة في غزة بالنضال الوطني بشكل عام؟ أيضا ماذا لو توقفت المنحة القطرية ومنحة الشؤون الاجتماعية وأوقفت إسرائيل دخول العمال من القطاع وكل أشكال التمويل المرتبطة بمعادلة (الأمن مقابل الاقتصاد، فهل سيعود إطلاق الصواريخ والارباك الليلي؟ وكيف سيفسر العالم ذلك؟

قد يبدو هذه التساؤلات مستفزة بالنسبة للبعض لكونها يثير شكوكا حول هدنة (توافقت) عليها الفصائل الفلسطينية وحول الهدف من وراء المنحة القطرية ودخول العمال من القطاع لإسرائيل، وقد يقول قائل لماذا تشكك بالهدنة، وهل أتريد أن تستمر إسرائيل بقتل الفلسطينيين وتدمير بيوتهم في قطاع غزة؟ ولن تعوز الذين باتوا اليوم من اشد الداعين للهدنة والتهدئة مع العدو الأدلة والبراهين من النصوص الدينية وحتى من القانون الدولي والشرعية الدولية لدعم موقفهم من الهدنة بعد أن كانوا يكفِّرون ويخَوِّنون الداعين لها سابقا.

منذ بداية وجود السلطة وعندما كانت المفاوضات تجري بجدية وكانت إسرائيل تتعرض لضغوط دولية لتنفيذ بنود التسوية والانسحاب من بعض الأراضي المحتلة، كان الرئيس الراحل أبو عمار يناشد فصائل المقاومة بالالتزام بهدنة مؤقتة دون أن يسئ الرئيس للمقاومة أو يخونها ولم ينزع سلاحها، بل كان يناشد الفصائل بالتهدئة حتى لا تستغل إسرائيل عمليات المقاومة وخصوصا العمليات داخل أراضي 48 لتتهرب مما عليها من استحقاقات.

لم يكن يحلو لفصائل المقاومة وخصوصا حركة حماس القيام بعملياتها إلا عندما تكون المفاوضات وصلت لمرحلة حاسمة مطلوب فيها من إسرائيل الانسحاب من أراضي فلسطينية أو إزالة حواجز، وكان رد إسرائيل على هذه العمليات وقف المفاوضات والتوجه للرأي العام العالمي و الدول التي ترعى عملية السلام باكية شاكية بأن الفلسطينيين لا يريدون السلام وأن أمنها مهدد وأن أبو عمار غير صادق أو غير قادر على ضبط الأمور الخ، ولا تكتفي إسرائيل بتهربها مما عليها من التزامات بل تقوم ببناء الجدار العنصري تحت ذريعة حماية أمنها وتزرع أراضي الضفة بالحواجز وتكثيف عمليات الاستيطان والتهويد وتدمر مقرات السلطة الوطنية، وهي تعلم أن الذين قاموا بالعمليات الفدائية من خصوم السلطة!.

وعندما جاء الرئيس أبو مازن ناشد فصائل المقاومة الالتزام بتهدئة مؤقتة وبشروط مشرفة حتى لا تستعمل إسرائيل الصواريخ التي تنطلق من غزة كذرائع لتدمير ما تبقى من مؤسسات ومراكز السلطة وحتى لا توظفها لبناء مزيد من المستوطنات، ولم تستجب له الفصائل التي كانت تطلق أحيانا صواريخ لا تصيب هدفا ولا تُوّقِع مقتلا بالعد، فقط للتخريب على جهود الرئيس أبو مازن واستجلاب أموال من جهات خارجية معنية بإفشال عملية التسوية و لإحراج الرئيس وإظهاره بمظهر الضعيف، ومع ذلك لم يأمر الرئيس أبو مازن بجمع سلاح المقاومة أو اعتقال مجاهدين وكان أقصى ما قاله إنها صواريخ عبثية، وفعلا كانت، وبعد سيطرة حماس على غزة رفض الرئيس أبو مازن أي صدام مسلح ضدها كما ندد بكل عدوان إسرائيلي على غزة.

لم تستمع حركة حماس وبقية الفصائل المسلحة للرئيس أبو مازن كما لم تستمع من قبل للرئيس أبو عمار، وعندما كانت تضطر للرد على  الضغوط  الداخلية والخارجية التي تطالبها بالقبول بالهدنة كانت تضع شروطا كالقول بأنها مستعدة للالتزام بهدنة لمدة خمسة عشر عاما ولكن بعد انسحاب إسرائيل من كامل الأراضي المحتلة عام 67 وإطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين، وكانت تعتبر أن الهدنة مع عدو يحتل الأرض ويدنس المقدسات نوعا من الخيانة ،خيانة الوطن وخيانة دماء الشهداء، وما زالت شعاراتهم بهذا الخصوص مكتوبة على الجدران وموثقة في وسائط التواصل الاجتماعي، فما الذي جرى وصيَّر الحال إلى عكسه؟.

لم تكن سيطرة حركة حماس على قطاع غزة مجرد انقلاب على السلطة وعلى منظمة التحرير والمشروع الوطني ومشروع التسوية بل كان أيضا انقلابا على فكر ونهج المقاومة بمفهومها الوطني وعلى شعارات حركة حماس ذاتها، وبقدرة قادر باتت الهدنة مصلحة وطنية، واغرب ما في هذه الهدنة أنها ملزمة لفصائل المقاومة وغير ملزمة لإسرائيل، وأصبح ناطقون باسم حركات المقاومة يقولون إن فصائل المقاومة ستلتزم بالهدنة ما دامت إسرائيل لا تعتدي على قطاع غزة! وكأن هدف الفصائل فقط الدفاع عن القطاع ولا يعنيهم ما يجري في بقية فلسطين!

وهنا نتساءل بعد 16 سنة من سيطرة حماس على القطاع، هل بات قطاع غزة كيانا مستقلا قائما بذاته وبالتالي يجوز له الاتفاق على هدنة مع إسرائيل بمعزل عما يجري في الضفة والقدس ولا نريد القول بما يجري في فلسطين 48 التي قامت حركات المقاومة أصلا لتحريرها؟ أليست الضفة والقدس أراضي محتلة والعدوان متواصل هناك بشكل أبشع مما يجري في غزة؟ وهل حلت غزة محل فلسطين؟ وهل خرجت غزة من ساحة المواجهة مع العدو وهي التي كانت تاريخيا شوكة في خاصرة العدو؟.

ما يجري في قطاع غزة مخطط مرسوم يخدم مصلحة إسرائيل وقد سبق أن تحدثنا عنه مطولا - يمكن الرجوع لكتابنا (صناعة الانقسام النكبة الفلسطينية الثانية– دار الجندي للنشر والتوزيع، القدس 2015) وطبعة أخرى عن منشورات الزمن في الرباط المغرب، وطبعة ثالثة عن دار الكلمة في غزة - مخطط يريد اختزال فلسطين بغزة وإنهاء الحالة الوطنية النضالية في الضفة الغربية وغزة، ونخشى أن تؤدي الهدنة لترسيم حدود بين غزة وإسرائيل وبالتالي إخراج قطاع غزة من ساحة العمل الوطني.

إن أية هدنة مع إسرائيل يجب أن تكون في إطار استراتيجية وطنية شمولية وأن تشمل الضفة وغزة، بمعنى أن التزام فصائل المقاومة بالهدنة يقابله وقف الاستيطان في الضفة والقدس ووقف الاعتداءات على المسجد الأقصى مع وجود أفق لحل سياسي عادل، وفي حالة عدم التزام إسرائيل بوقف عدوانها في الضفة وغزة تتحرر فصائل المقاومة من الهدنة.

لو كان هذا الثمن الباهظ مقابل قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في قطاع غزة لكان من الممكن التفكير بالأمر، ولكن وحتى الآن الأمر يتعلق فقط بسلطة ناقصة السيادة ومحاصرة تحكمها حركة حماس، أما أن يصل الأمر لدولة أو دويلة ذات سيادة تتحكم في البحر والجو وفي المعابر فهذا ما لن تقدمه إسرائيل لحماس أو لغيرها إلا بأثمان ستكون أكبر وأخطر مما تم تقديمه حتى الآن وسيؤخذ الثمن من القدس والأقصى والضفة.

وأخيرا، المفاوضات التي تجري في القاهرة منذ أيام ليس من أجل المصالحة والوحدة الوطنية بل لتثبيت هدنة ستكرس الانقسام وتمهد الطريق لدويلة غزة. بموافقة كل الفضائل في قطاع غزة بما فيها تنظيم حركة فتح وتقاسم مغانم السلطة في القطاع بين فصائل غزة، وبالتالي إخراج غزة عن سياقها الوطني، وكل الحديث عن مصالحة وطنية شاملة مجرد ذر الرماد في العيون.

***

د. ابراهيم أبراش

دائما ما يتداول بين أوساط مقاتلي تنظيم داعش شعار (دولة الإسلام باقية وتتمدد) حيث يعتقد هؤلاء بأن الغلبة لا محالة، سوف تكون لدولتهم،  وأن عليهم واجب الإعداد بشكل متقن وناجز لفتوحات قادمة تتوسع فيها دولتهم وتمتد حسب ما عرضته خارطتهم التي سربوها إلى الإعلام عند نجاحهم في احتلال مدينة الموصل عام 2014. حيث ضمت في حدودها السوداء، ليس فقط الدول العربية والإسلامية، وإنما أجزاء من أوربا.

هوس انتشار وتوسع تنظيم الدولة الإسلامية وبقائها ورسوخ كيانها بحدود معترف بها دوليا،يشكل الطابع الغالب على تفكير قادة التنظيم، لذا استعاروا بعضا من سيرة الدولة العثمانية، لتتماثل معها صيرورة دولتهم المستقبلية. وكانت واحدة من تلك الاستعارات تجنيد الأطفال .

فالدولة العثمانية وعلى عهد الخليفة أورخان الأول 1324 م اختارت هذا الأسلوب لبناء جيش قوي جبار. وبني ذلك الجيش على أسس عقائدية ووفق الطريقة الصوفية الإسلامية البكتاشية، وكان ملهمهم بداية الأمر، في العزم والقوة والشجاعة الأمام علي بن أبي طالب. وبالتماثل مع شجاعته سحق هذا الجيش الذي سمي بالانكشاري من وقف بالضد من الدولة العليه.

كان هذا الجيش العرمرم يتألف من أسرى الحروب أو من يختطفهم جيش الدولة العثمانية من أطفال وصبيان العوائل المسيحية في البلقان. حيث تجرى لهم عمليات غسل دماغ لقطع صلتهم السابقة بأهلهم، ويربون في معسكرات خاصة على وفق التعاليم الإسلامية، ويغدق عليهم بالعطايا والرتب، وتكون حياتهم بنسق عسكري ومهنتهم الوحيدة هي الحرب.

مع مرور الوقت تغولت قوتهم وسطوتهم وباتوا قوة كاسحة يحسب لها ألف حساب داخل الدولة العثمانية ، وراحوا يتدخلون في شؤون السلطة ويزجون أنفسهم في السياسة العليا لها، مما ارهب الخليفة العثماني، فقرر السلطان محمود الثاني في حزيران من عام 1826 القضاء على تمردهم والتخلص منهم، فأبيدوا بمعركة سميت بواقعة الخيرية، ألغي إثرها نظام تجنيد الانكشارية.

قامت فكرة تجنيد الأطفال على مبدأ تنشئة أجيال تتوارث ثقافة العنف وتتشرب بنمط من التعامل الاجتماعي المشحون بالقسوة والسلوك الإجرامي. فعملية اختطاف الأطفال من قبل تنظيم داعش و تدريبهم و زجهم في عمليات القتل وخوض المعارك. ما كانت لتعني عند قادة التنظيم ولا يجدون فيها ما يخدش الحياء أو الضمير الإنساني، وهم غير معنيين بالمواثيق والعهود وأطر القوانين والأعراف الدولية الخاصة بحماية الأطفال، وضرورة إبعادهم عن مناطق النزاع. بل كان التنظيم يجهد لخلق جيل من المقاتلين قساة لا رحمة ولا شفقة في قلوبهم، تعدم لديهم المشاعر والعواطف الإنسانية لكثرة ما يشاهدونه من فضائع قتل وسفك دماء، لترسخ في أذهانهم  بعد كل تلك الوقائع المرعبة، مشاعر العدوانية والرغبة الدائمة بارتكاب الجريمة، والتلذذ برؤية الدم لطمأنة النفس بوجودها وبقائها وتعاليها على الآخرين، وفي الوقت نفسه طمأنة عوامل الخوف الكامنة بالنفس من الأخر الذي يشكل تهديدا دائما، لتكون النتائج المستقبلية نشوء جيل من وحوش كاسرة لا هم لها أو لا علاقة لها بالبشر الأسوياء سوى تركيبة الجسد الخارجية.

احتسبت داعش عند الكثيرين بناءً على طبيعة مناهجها الفكرية أو أيدلوجيتها الدينية على بعض المذاهب الإسلامية السنية، وبدورها دائما ما كانت ولازالت تروج إعلاميا عن علاقة وطيدة تربطها بالسنة النبوية المحمدية، لا بل يصر قادتها على أن فكرهم يتماثل بجميع حيثياته مع السنن التي جاء بها القرآن والنبي محمد، حتى وإن أنكر الآخرون عليها ذلك.

دائما ما راودت فكرة استغلال الأطفال وزجهم في النازعات والحروب عقول البعض من الأحزاب والسياسيين والحكام الدكتاتوريين وشاهدنا ذلك بأسطع صوره على عهد الزعيم الايطالي الفاشي بينيتو آندريا موسليني وحليفه الزعيم النازي أدولف هتلر. ولم تكن الرؤية في بناء جيل من القساة والقتلة لزجهم في المعارك السياسية، لبعيدة عن مناهج وأفكار حزب البعث،فعلى نمط هذه التعاليم ولأجل أن يعتاد الطفل على سلوك القسوة والقوة والجرأة وينزع عن فؤاده الخوف، وضعت سلطة الدكتاتور صدام حسين لمجاميع الأطفال من الذين أطلقت عليهم تسمية طلائع البعث، قواعد تدريب تشمل تعلم فنون القتال واستخدام السلاح. ثم طبق إثر ذلك نهجٌ جديدٌ في جميع مدارس العراق أثناء وبعد حرب الخليج الأولى، حيث يرافق رفع العلم في اليوم الدراسي الأول من كل أسبوع إطلاق رصاص من بندقية كلاشنكوف، والغرض من ذلك، وحسب فهم قيادة الحزب، جعل الطلاب يعتادون سماع دوي الإطلاقات النارية وعندها تقوى عزائمهم وتذهب عن قلوبهم الرهبة، ويكونون دائما على استعداد لمواجهة أعداء الثورة والحزب. أما الطفولة والسلام والأمن فليس لها في الحسبان مكان، ولن تكون كوابح أمام هذا الهوس المجنون، وغير معنية بالخسارات القادمة في مستقبل تلك الأجيال، لابل تتقدم في أهميتها لتكون حاضرة  في خيال صناع القرار حول ضرورة الاستعداد لمواجهة العدو المفترض .

للوقوف بالضد من هذا العمل المشين الذي ارتكبته داعش وقبلها سلطة حزب البعث بتوظيف الأطفال وزجهم في النزاعات، أقامت الحكومة العراقية على عهد رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي يوم 15 من شهر حزيران في العام 2015 في بغداد مؤتمرا تحت شعار مناهضة تجنيد الأطفال وزجهم في العمليات العسكرية، وقد ألقى السيد العبادي كلمة في ذلك المؤتمر، أعتبر فيها ما تقوم به داعش بحق الأطفال، جرائم ضد الإنسانية، ولم تراع في عملها هذا القيم والأعراف الدولية بعدم استغلال الأطفال في العمليات العسكرية. وبدوره حذر وزير العمل والشؤون الاجتماعية السيد محمد شياع السوداني (رئيس الوزراء الحالي) من مخاطر وانعكاس تجنيد الأطفال وانخراطهم في المعارك، على مستقبل الأجيال في المنطقة والعراق بالذات، مؤكدا على أن هذه الأعمال خارج الأطر القانونية الإنسانية، ومنافية للمعاهدات الدولية. وصدرت عن المؤتمر مجموعة من التوصيات من ضمنها اعتبار ما تقوم به داعش ضربا من عمليات وجرائم إبادة ضد الإنسانية، ودعت التوصيات أيضا إلى وضع مزيد من التدابير التي تسهم في حماية الأطفال والحد من استغلالهم من قبل العناصر الإرهابية وضرورة تبني نهج التثقيف والتعليم في إطار التعايش السلمي ونشر قيم المحبة والسلام.

جاء المؤتمر وقتذاك التفاته نبيلة وشجاعة من الحكومة العراقية لكشف خطر وجريمة إشراك الأطفال في النزاعات وزجهم في مواقف مشحونة بالعنف والقسوة ومناظر الدم . وقدم المؤتمر توصيات للسلطة التشريعية بإصدار قانون يحد أو يمنع مثل هذه الممارسات المضرة بحياة الطفل. وكان من المؤمل أن تنفذ توصيات المؤتمر بإيجاد أرضية جادة لوضع أسس تشريعات قانونية لتعامل حقيقي يضمن الحفاظ على حياة الأطفال ويبعدهم كليا عن عوامل ومواقع الصراع ويبعد عنهم جميع أنواع العنف والقسوة، ويتم إرساء اطر

عامة بتدابير علمية عقلانية، تمكن الطفل من العيش بحياة سوية، يتمتع فيها بحماية خاصة

تتيح نموه البدني والعقلي والروحي والاجتماعي نموا طبيعيا سليما، وأن تكون مصلحته في مقدمة الاعتبارات في سن القوانين والتشريعات. ومنحه فرصة ضبط الانفعالات وتنمية مواهبه وقدراته وميوله واتجاهاته السلمية الحضرية بعيدا عن الغل والكراهية.

ولكن ما حدث منذ عهد المؤتمر ولحد الآن جاء عكس هذا، لا بل بالضد من ما أعلن في المؤتمر، حين ظهرت في وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي أفلام يظهر فيها رجال دين وقادة فصائل وحتى تربويون، يشرفون على تدريب مجاميع من الأطفال على السلاح، استعدادا لزجهم وتهيئتهم لمعارك ربما تندلع مستقبلا مع خصوم للطائفة أو بسبب صراع سياسي. وأخذت تنتشر وفي العديد من مدن العراق ، تجمعات  منظمة كانت أم عشوائية، يزج فيها الصبيان دون السن القانوني للتدريب على حمل السلاح، دون اعتبارات أخلاقية وإنسانية،وبعيدا عن أي علاقة بالعهود والمواثيق المناهضة لتجنيد الأطفال وزجهم في الحروب.

وفي مشهد أخر أكثر إيلاما وبشاعة، نشاهد الأطفال والصبيان يشاركون بالترغيب كان أو بالإكراه في عمليات تبكيت للذات وتكفير عن ذنوب لاعلاقة لهم فيها، جرت وقائعها في التاريخ البعيد. حيث نشاهد صبيانا وبأعمار متدنية يقومون بممارسة التعذيب الجسدي والنفسي في عمليات جلد وشطب للجسد بالآلات الحادة. وترافق تلك الطقوس إثارة للغرائز العدوانية عبر إخضاع الطفل لعملية إلغاء العقل والذات، والمشاركة في حشد جماهيري يستسيغ مناظر الدم ويألف معها العنف والقسوة. وقد تجاوزت تلك الطقوس في البعض منها حدود العنف المنفلت والوحشية لتشمل تعذيب للأطفال بأعمار لا تتجاوز سنوات الرضاعة، يظهر فيها الأب أو الأم بوجوه باشة وروح رضية وهم يحتضنون أو يرفعون طفلهم المضرج بالدماء دون خوف من رادع أو مساءلة .

في تلك المشاهد المؤلمة لا بل المفزعة يتعرض الطفل إلى عملية ممنهجة لتنشئته وفق سياقات ذات طابع خاص يتم فيها تطويعه نفسيا وجسديا، ليكون جزءا من مجموع غاضب منفعل متوتر ومتطوع دائم للهجوم والوقوف كخصم وند لعدو افتراضي أو حقيقي للطائفة أو الجماعة. وكل ذلك يجري كنشاط مدروس ومعد بعيدا عن مساءلة أو منع من أي جهة سلطوية كانت أم دينية أو مجتمعية.ولم نشاهد أي اهتمام حكومي أو مجتمعي فاعل، يقف بوجه تلك الهمجية التي تغولت ممارساتها اجتماعيا ودينيا، مع شح ظاهر لا بل معدوم في مناهج وتعاليم وسلوك تشاركي مجتمعي يحاول إبعاد هؤلاء الأطفال عن مثل تلك التجمعات الانفعالية المضرة والمسيئة للطفولة ومنع مستغليهم من ممارسة تلك الافعال البعيدة عن روح الإنسانية ومفاهيم التحضر والعقلانية.

ومن الواجب على السلطة وصناع القرار السياسي والديني والمجتمعي والتربوي خلق فرص تبعد الأطفال كليا عن العنف واستخدام الألفاظ القاسية والتطير وروح القسوة، وتعمل على  تغذيتهم بثقافة السلم المجتمعي وزجهم في التعليم النافع وتدريبهم على الثقة بالنفس والقدرة على فعل الخير والحرية في أبداء الرأي ومنحهم مشاعر الأمان والطمأنينة وتدريبهم  على المشاركة الفاعلة بالحياة الحضارية والقبول بالخلاف الفكري.لتكون تراتيبية المجتمع ناجحة في وضع سليم ومعافى يحبذ روح التفاهم وحرية الرأي ويبحث بشكل دائم عن خيارات السلام ويستنكر أساليب العنف والقسوة في حل المشاكل والعقد المجتمعية والسياسية. 

***

فرات المحسن

تصدر اسم الجندي المصري محمد صلاح إبراهيم منفذ "الهجوم الحدودي" مع إسرائيل حديث رواد منصات التواصل الاجتماعي، بعد كشف عدد من وسائل إعلام إسرائيلية ومصرية بعض التفاصيل عن هويته، حيث قالت هيئة البث الإسرائيلية إن مصر تسلمت جثمان محمد صلاح إبراهيم، الجندي من حرس الحدود الذي قتل ثلاثة جنود إسرائيليين، وقتل في اشتباك بعد عبوره الحدود بين مصر وإسرائيل، ونشرت هيئة البث الإسرائيلية صورة للجندي المصري، وقالت إنه يخدم في قوات حرس الحدود المصرية وينحدر من منطقة عين شمس في محافظة القاهرة.

قالت وسائل إعلام مصرية إن الجندي المصري محمد صلاح تم دفن جثمانه في قرية العمار بمحافظة القليوبية، وسط إجراءات أمنية "مشددة"، لمنع تنظيم جنازة له واقتصار الدفن على عدد قليل من أفراد عائلته، وقد دفن وكأنه عريس، جسده إلى التراب، وحفل زفافه في الواقع الافتراضي بين العرب. هذا الجندي المصري منفذ عملية الحدود التي أردّ فيها ثلاثة جنود إسرائيليين وأصاب اثنين، نال من التفاعل بين العرب ما يجعل إسرائيل مرتعدة الفرائس، ليس من العملية والاختراق الأمني بقدر خوفها من عقلية تنفيذ العملية والتفاعل العربي الكبير ما فعله الجندي.

فما كانت تخشاه في فلسطين وتسميه عملية الذئاب المنفردة..  يبدو أنه كابوس يطاردها اليوم على حدودها مع مصر،  لأن الجندي محمد صلاح إبراهيم ذو الثالثة والعشرين عاما كان يخدم عسكريا في منطقة سيناء وهو من أبناء عين شمس، وبحسب ما عرف عنه من محيطه لا توجد له انتماءات متشددة ويتمتع بالهدوء والسيرة الطبية،ورغم تقديم مصر العملية على أنها جراء خروج عملية مطاردة تجار مخدرات عن السيطرة.

ووفق المعلومات المنشورة على نت العربية كان الجندي القتيل يقيم مع أسرته المكونة من والدته وشقيقين في شقة بمنطقة عين شمس شرق القاهرة، ويعمل "فني ألوميتال" ونجارا للإنفاق على أسرته بعد وفاة والده في حادث سير، كما تبين أنه لم يكمل تعليمه واكتفى بالحصول على الشهادة الإعدادية.

إلا أن إسرائيل التي استعجلت الأحكام أيضا قبل التحقيقات مالت في تصريحاتها الرسمية لاعتبار العملية تخريبية، ما يعني بأنها مخطط لها من الجندي الذي إن كان نفذ عمليته من تلقاء نفسه، لكنه كان ذاهبا ليقتل الجنود الإسرائيليين وفق مخطط محكم ومع سبق الإصرار والترصد.

إذ اعتمدت إسرائيل على ما وجد في حقيبة الجندي من سكاكين كوماندوز وذخيرة إلى جانب نسخة من المصحف الشريف قيل أن يتم تداول آخر ما كتبه الجندي المصري على حسابه في فيسبوك " اللهم كما أصحلت الصالحين أصلحني واجعلني منهم.

وبعيدا عن الإعلانات الرسمية المصرية الإسرائيلية حول التحقيق المشترك في الحادثة، ربما سيكون من المفيد أكثر تقديم قراءة تحليلية لما تناولته التقارير الإعلامية العبرية حول التخوف الكبير داخل الدوائر الأمنية الإسرائيلية من أن يكون منفذ عملية الحدود المصرية تفذ العملية من تلقاء.

ولمن لا يعرف معني هذا فإنه يعني ربما فاتحة عمليات ذئاب منفردة قد تضرب إسرائيل ولكن هذه المرة من جهة مصر،  ورغم أن عملية محمد صلاح إبراهيم ليست الأولى من نوعها، إذ سبقتا عمليتان قبل عشرات السنين للجنديان سليمان خاطر وأيمن حسن، واليوم يتكرر ما فعله الجندي محمد صلاح إبراهيم، لكن في ظروف أخطر وأدق وأكثر حساسية، ولا أدل على هذا من تزامن استمرار الإعلام الإسرائيلي مع كشف المعلومات تباعا ولحظة بلحظة.

بينما يبدو الإعلام المصري الذي ينقل البيانات الرسمية حذرا جدا وهادئا في محاولة لعدم تبني فكرة تعمد الجندي محمد صلاح إبراهيم للعملية وتحوله لذئب منفرد، ليأخذ الإعلام الرسمي خطوة عن المزاج الشعبي على مواقع التواصل التي ضجت بخبر عملية الجندي محمد صلاح إبراهيم مع وصفه بالبطل من خلال أصول عدة، وهو ما سيزيد الرعب في إسرائيل، مع مخاوف انتشار عقلية الذئاب المنفردة وأكثر.

وهي الذهنية التي يضرب بها فلسطينيون إسرائيل بين الفينة والفينة، حيث لا تسبق أية تحذيرات استخباراتية – إسرائيلية العملية الفلسطينية داخل العمق الإسرائيلي، حتى أحدثت صدمة على جميع المستويات الرسمية داخل، لأن منفذي العمليات يشنون هجماتهم بشكل فردي دون أن يتبناهم فصيل، ودائما يسبقون الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، إذ لا زالت إسرائيل تتذكر جيدا أولى العمليات المنفردة في بئر السبع ما أدى إلى مقتل أربعة عشر إسرائيليا في مارس 2022، لتليها سلسة عمليات منفردة هزت تل أبيب.

كذلك يُذكر أن مصر كانت أوّل دولة عربيّة وقّعت معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1979، وغالبا ما تكون الحدود بين البلدين هادئة، لكنّها شهدت محاولات متكرّرة لتهريب مخدّرات، ما أدى إلى وقوع اشتباكات بالذخيرة الحيّة في السنوات الأخيرة بين المهربين والجنود الإسرائيليين المتمركزين على طول الحدود، غير أنه عام 2012، تبنّت مجموعة "أنصار بيت المقدس" هجوما على الحدود المصريّة الإسرائيليّة، أدى إلى مقتل جندي إسرائيلي.

واليوم ربما انتقلت إلى مصر عقلية الذئاب المنفردة، لتزيد الأرق والرعب بين صناع القرار في تل أبيب، ويتركون هذه الأجهزة تتلمس طريقها في الظلام في ظل سؤال رئيس مطروح باتت مهمة جهاز الموساد الأولى الإجابة عنه: هل الجندي محمد صلاح إبراهيم تصرف من تلقاء نفسه؟، أو أنه جزء أنه جزء من تنظيم مسلح ؟

فإن كان من تنظيم مسلح فتلك مصيبة، وإن كان قد تصرف من تلقاء نفسه، فالمصيبة أعظم، لأنه قد يكون باكورة عودة هجمات ينفذها أشخاص، وهنا ربما جنود مصريون بشكل منفرد، دون أن تربطهم علاقة واضحة بتنظيم ما.

ورغم أن الدافع قد يكون عقائديا، اجتماعيا، أو سياسيا إلا أن عدم ارتباط منفذ العملية بتنظيم يمكن مراقبته واختراقه وتدميره، يعني أن المنفذ سيكون غالبا شخصا عاديا لا يثير الريبة في تحركاته وسلوكه، وفي الحالة المصرية يبدو الأمر أعقد، لأنه قد يكون جنديا له القدرة على الوصول لهدفه على الحدود.

وبالتالي يمثل أي هجوم من ذئب منفرد خطرا أكبر من التنظيمات، لأن هذا التكتيك الجديد لا يمكن التنبؤ بحدوثه، حتى من أقوى الأجهزة الأمنية كفاءة فنيا وبشريا، ورغم ما يكرره المسئولون في مصر أو إسرائيل، أن هذه ربما تكون حالة استثنائية لا تمثل التعاون الأمني والعمل المشترك بين مصر أو إسرائيل  في حفظ الأمن على الحدود، إلا أن ما ينتظر هذه الحدود سيكون أكبر بكثير مما يتخيله الطرفان، في حال ثبت أن عقلية الذئاب المنفردة عادت إلى مصريين على الحدود.

***

أ. د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

المراجع

1-  قناة استيب نيوز: الجندي المصري.. هل يفتح أبواب "الذئاب المنفردة" من حدود مصر على إسرائيل،: يوتيوب.

2-العربية نت: وسط حضور محدود..  دفن جثمان الجندي المصري بمسقط رأسه..

يقول الفيلسوف الألماني نيتشه: أضرب بالمطرقة وأنصت حتى تتأكد بأن الرنين أصبح أجوف.

منذ احتلاله عام 2003، تتصاعد الخلافات من حين لآخر بين القوى الظلامية الماسكة بالسلطة في أرض السواد، كما سميت في غابر العصور، لامتداد النخيل والأشجار وخضرة الزرع على طول البلاد وعرضها. اليوم لأن كثر لبس السواد فيها، على من سقطوا على يد عصابات ميليشياوية منظمة قامت بتنفيذ جرائم اغتيال سياسي مدفوعة الأجر بتحريض من بعض القوى السياسية بهدف تكميم الأفواه وإشاعة الخوف والفوضى كما تقتضيه مصالحهم الطائفية والفئوية والحزبية والإستمرار "بنهب كل شيء وخراب كل شيء" على حساب الأمن والاستقرار وإعادة إعمار البلد وتأمين مستقبل الأجيال القادمة.  

وفيما تنحدر الأمور نحو الأسوأ بسبب الخلافات (السياسية الطائفية القومية) التي نتجت بسبب قانون الميزانية الثلاثية "المثيرة للجدل"، التي أعدتها حكومة محمد شياع السوداني العتيدة وتحتمل إشارة إلى أن الحكومة مستمرة لثلاث سنوات قادمة دون إجراء انتخابات مبكرة خلال هذا العام. وترتفع أصوات الشرفاء في الداخل والخارج لتنفيذ ما تعهد به السوداني وبالدرجة الأساس تعهده بمحاربة الفساد ومن يقف ورائه دون تردد، وتقديم الخدمات وإصلاح الدولة ومؤسساتها وملاحقة القتلة والكشف عن من حرض لارتكابها لينالوا العقاب العادل؟. يظهر علينا عبر وسائل الإعلام المختلفة، بعض العراقيين من الوسط الإعلامي والسياسي والثقافي للدفاع عن الأحزاب المهيمنة على السلطة والدولة ومؤسساتها الرئيسية الثلاث "التشريعية والتنفيذية والقضائية"، لمصادرة حق الأغلبية من العراقيين عن التعبير عن الرأي. فيما تنحدر البلاد نحو سلوك فكري سياسي رديء المستوى وخطير على الحياة العامة ومصالح الدولة الجيوديموغرافية والاقتصادية والتنموية والبيئية، أيضا، على مستقبل المجتمعات العراقية ونموها البشري والمعيشي على مدى عقدين. انتهجته حكومات متعاقبة، تسيطر عليها الأحزاب الشيعية والسنية والكردية الماسكة بالسلطة ولها فيما بينها "إشكاليات عقائدية" متناحرة، لكن أهدافها مشتركة، خاصة فيما يتعلق الأمر بطبيعة الصراع حول مفهوم "هوية الدولة، والدولة الوطنية والانتماء المجتمعي" التي لا تضع لها هذه الأحزاب أية اعتبارات قيمية. مفهومها "الأيديولوجي الشعبوي" بهذا الجانب يرتكز على: إن الصراع بين عقيدتها السياسية "الإسلاموية ـ الشوفينية" على حد سواء، و "الدولة الوطنية"، لا يقتصر على منازعة الدولة لشرعيتها السياسية فحسب، بل يتجاوز التشكيك بهويتها الوطنية الجغرافية. بمعنى أنها لا تؤمن بمفهوم "الوطن" الموحد جيوديموغراقيا، إنما تفكيك الدولة على أساس "عرقي قومي"، أو على عقيدة "الدولة الإسلامية" التي لا تفصلها حدود وتخضع للخلافة الرشيدة أو ولاية الفقيه.

لا أظن أن مواقف هؤلاء المدافعين عن الطغمة السياسية الفاسدة، محض وجهات نظر، لا صلة لها بأي توجيه من داخل بعض المنظومات العقائدية. ولا أظنها بدافع الحرص والنزاهة، بعيدا عن حدود المصالح الذاتية، المادية والمعنوية. ليس الاعتراض على الاختلاف في وجهات النظر، إنما الاعتراض على جزئية السكوت على دمار الوطن وتمدد الظلم والطغيان واستبداد القوى الظلامية وتجاوزها على المبادئ العامة لحقوق المجتمع والدولة ومؤسساتها بشكل عام. والغريب إن أغلب الذين يتصدرون الدفاع عن أحزاب السلطة وشخوصها، هم من أولئك "المتأدلجين" الذين انخرطوا مع الحشر، وكان بعضهم عرابا للاحتلال ومبارك له في العديد من المحافل، وما زال "يلغف" بما فيه الكفاية من كل ثريد.

خارج المألوف الذي يتميز به هؤلاء القوم عن المثقف والإعلامي والسياسي الحقيقي تجاه المشروع الوطني وأهمية صناعة إنسان المستقبل وتطور المجتمع وبناء الدولة المدنية الحديثة والدفاع عنها. إنهم جعلوا موقعهم سبيلا في غير اتجاهه للوصول إلى هدف أناني "مادي وعيني بحت"، لكنه انتهازي منافق بالتأكيد. حتى أصبح منهجهم في مجال الفكر والإعلام، فيما يتعلق الأمر بالموقف من "مشروع الدولة ولا دولة" يشكل في أغلب الأحيان، موقفا منحازا ومخالفا للأعراف المهنية التي تتطلب الموضوعية والأمانة الحرفية البينية التي ينبغي أن تتوافق مع مفهوم الوطنية ولا يشكل نمطا يعج بالمتناقضات في مختلف الاتجاهات.

***

عصام الياسري

العراق تراكم لمكونات جوهرية رافدينية وليس قوميات ومذاهب طائفية

إن جوهرية العراق ليس القومية والطائفة، فهو مكونات عابرة ومتغيرة، فالعراق ليس تجمع بل كينونة ثقافية تراكمت تاريخياً وأدت إلى تكوين جوهره الخاص. وهو جوهر ثقافي تاريخي وليس قومي أو عرقي. لأنه تراكم في ظل مكونات جوهرية ثلاث هي حلقات تاريخية كبرى، وهي المرحلة الرافدينية، ثم العربية الإسلامية ثم العراقية.

والعراق في جوهره مكونات ترتقي في اغلبها في مصاف الرؤية الثقافية. والعراق أكبر واعظم واعرق من مجرد حداثة عابرة بمعايير الثقافة والمستقبل. اما مفهوم الأقلية فمن غير الجائز أن نطلقها على المكونات، ففي العراق لا توجد اقليات بالمعنى الضيق والمغلق، وهو واقع مرتبط بطبيعة الأقليات فيه، ومن الأفضل استعمال المكونات التاريخية والثقافية وليس كلمة الأقليات، وهو خلاف جوهري، لأن الأقلية هي بقايا، فالكلد آشور مكون عراقي وهم اصل أصوله، وجذر من جذوره. والتركمان مكون تاريخي وثقافي للعراق، والنصارى واليهود والإيزيدية والشبك والكاكائية، أما الأكراد فإنهم الأقلية الوحيدة في العراق، حديثة التكوين بمعايير الدولة والقومية، وضعيفة من حيث مكوناتها التاريخية والثقافية، أصولها من خارج العراق وتكونها العصري فيه، وقد صنعوا تاريخاً وهمياً عبر حفريات في كل شيء وليس في الدم، ويؤكد البروفسور ميثم الجنابي في كتابه (العراق حوار البدائل) ص100 (كون الأكراد أقليات متناثرة في دول الجوار، وبالأخص تركيا وإيران وسوريا وارمينيا وأذربيجان وقليل في فلسطين ومصر والدول الاسكندنافية!! والمقصود بهم أساساً في الدول الثلاث الأولى إلى جانب العراق. وهي حالة تجعل منهم معشر وليس قوماً ولا شعباً ولا قومية ولا أمه. من هنا فإن طابع الأقلية فيها جزئي وعابر بوصفه مكوناً محتملاً لارتقاء لاحق في قوم ثم شعب ثم قومية ثم أمة).

لذلك مما سبق نستطيع التوصل إلى أن مشكلة الأقلية في العراق لا ينبغي النظر إليها بمعايير الكمية أو الانتشار الجغرافي أو الدين أو العرق، بل بمعايير الاندماج ومستوى التصيّر التاريخي الثقافي في العراق. فالأقلية الوحيدة في العراق هي الأقلية الكردية، فمشكلة الأقلية ثقافية سياسية. والأكراد في العراق فقط اخذوا يتحولون إلى قوم لكنهم ليسوا قوماً موحداً بعد، بسبب ابتعادهم عن فكرة الاندماج مع الشعب العربي والازدهار العلمي والاجتماعي والثقافي.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

75 عاما من النكبة الفلسطينية ولكن فلسطين ستبقى عربية والاحتلال الاستيطاني الصهيوني الى الزوال.

يا عدوَّ الشّمس لكن لن أساوم

و إلى آخر نبض في عروقي سأقاوم

ربما تسلبني آاخر شِبر من ترابي

ربما تُطعم للسجن شبابي

ربما تسطو على ميراث جدي

من أثاث وأوان وخوابي

ربما تُحرق أشعاري وكتبي

ربما تطعم لحمي للكلاب

ربما تبقى على قريتنا كابوس رُعب

ياعدو الشمس لكن لن اساوم

وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم

سميح القاسم

شاعر المقاومة الفلسطينية

يعلمنا التاريخ الحديث أن الاستيطان لم يكتب له الخلود. و أن الشعوب لن تسكت عنه، بل تقاومه ولدينا أمثلة، ثورة الشعب الجزائري تحتاالإستيطان الفرنسي الذي دام 150 عاما، عملوا خلاله على فرنسة الشعب. ولكن الشعب الجزائري الذي بدء بثورته عام 1954 مستخدما أسلوب الكفاح المسلح تحت قيادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية، فقدم الشعب خلال فترة التحرير أكثر من مليون شهيد. حتى أعلن شارل ديغول عام 1962 سحب الجيش الفرنسي وأعلنت جبهة التحرير استقلال الجزائر وسميت (جمهورية الجزائر الشعبية الديمقراطية). ولا ننسى كيف أن الفرنسيين في استيطانهم في الجزائر دمروا هذا الشعب وقامو بتجاربهم للاسلحة النووية في الصحراء الجزائرية ومدى تأثيرها على البشر والطبيعة لسنوات.

اما البلد الآخر الذي انتزع الاستقلال من الاستيطان الإنكليزي، فهو جمهورية أفريقيا الجنوبية، بعد أن حكما البيض الانكليز في حكومات الابرتايد حوالي 250 عاما. وتعاملوا مع أصحاب الأرض من السود بتمييز عنصري. إلى أن قامت حركة تحرير جنوب افريقيا بزعامة نلسن ماندلا ورفاقه. وجرت انتخابات حرة فاز فيها حزب المؤتمر الوطني بقيادة نلسن ماندلا وكان له دور في طرح شعار التسامح بين أصحاب البلد والموستوطنين البيض. واليوم يعيش من البيض حوالي 4, 2 مليون متضامنين أ اخوة مع السواد الاعظم من الأفارقة، وانتهى عصر الاربتايد في هذا البلد.

ومن هذه المنطلقات الموضوعية في القرن العشرين بات النضال من أجل إنهاءآخر معقل للعنصرية في فلسطين المحتلة.

فلسطين البوصلة

بعد الحرب العالمية الأولى والتي اندلعت عام 1914 - 1918 والذي توج بانتصار الحلفاء، واندحار العثمانيين الذين كانوا يحتلون فلسطين. يومها كان سكان فلسطين من مسلمين ومسيحيين ويهود متعايشين بشكل إيجابي. وجاء وعد بلفور في رسالةأرسلها آرثر جيمس بلفور بتاريخ الثاني من نوفمبر عام 1917 إلى الصهيوني روتشيلد وفيها إشارة صريحة لموافقة الدولة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد سبق وعد بلفور أتفاق سايكس -بيكو الذي تم عام 1916.

وعندما وصل الغرباء من اليهود الصهاينة إلى ارض فلسطين العربية وصلت الهجرة ذروتها عام 1948 وسمي بعام النكبة. فهجّروا أبناء البلاد من ديارهم واستخدموا أساليب جرمية ومنها مجزرة دير ياسين التي ذهب ضحيتها الكثير من سكنة دير ياسين الفلسطينية. طُرحت القضية الفلسطينية أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وصدر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 قرار التقسيم والذي أحدث صدمة لدى الشعب الفلسطيني والقوى الوطنية والتقدمية في المنطقة العربية، وعلى سبيل المثال موقف الحزب الشيوعي العراقي بقيادة الرفيق الخالد يوسف سلمان يوسف (فهد) وهو مؤسس الحزب الشيوعي العراقي عام 1934 ,  وهو في السجن ومحكوم بالإعدام ورفاقه، فأرسل رسالة إلى الرفاق في التنظيم ضمّنها موقف الحزب ضد التقسيم، ودعا إلى رفع شعار (فلسطين العربية) يتعايش فيها المسلمون والمسحيون واليهود من أصحاب البلد، ولكن موقف السوفيت كان مع دفع الاحزاب الشيوعية والعمالية العالمية المنضوية تحت الكومنترن، إلى إقرار قرار تقسيم فلسطين، وذلك بإقامة دولتين؛ يهودية (إسرائيل) وأخرى عربية فلسطين. وبدء العرب حربهم. ولكن خيانة الأنظمة العربية لم تسمح للجيوش العربية بكسب المعركة، فانسحبت. وكان الجيش العراقي قد شارك في المعارك وترك في فلسطين شهداءه في مقبرة جنين.

وبقيت قضية فلسطين وتحريرها من الصهاينة تتفاعل في الحركات الوطنية بين اليسار والقوميين وطرحت شعارات تضمنية، ومنها شعار فلسطين؛ يحررها أبنائها، وأنشئ في العراق بعد ثورة تموز عام 1958 جيش التحرير الفلسطيني برعاية من الجيش العراقي وحتى في سورية.

وفي الأول من عام 1965 تم الإعلان عن حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، عندما تداعى عدد من الفلسطنيين ومنهم ياسر عرفات وخليل الوزير وابو إياد وآخرين.التي رفعت شعار التحرير والكفاح المسلح كطريق لنيل الحرية. ولاقت تأييداً من قبل القوى الوطنية والشعوب في الوطن العربي. وتطوع الشباب فيها. وبعد ذلك أصبح هناك عدد من المنظمات المقاومة ومنها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية القيادة العامة وجبهة النضال الفلسطيني، وجبة التحرير الفلسطينية والجبهةالعربية لتحرير فلسطين وقوات الصاعقة الفلسطينية واخيرا ظهرت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي.

وفي حرب الأيام الستة عام،1967 أقدمت دولة الكيان الصهيوني على شن العدوان على الجبهتين المصرية والسورية. وانتهت الحرب باحتلال سيناء وعبور القناة إلى الجهة الاخرى وتم تدمير القوة الجوية المصرية وهي جاثمة في المطارات. واحتُلّت هضبة الجولان السورية. وبدء عبد الناصر بإعادة تسليح الجيش المصري بعد عدوله عن الاستقالة، وطلب من السوفيت الموافقة على تزويد الجيش المصري بالطائرات والأسلحة، ووافق السوفييت. وشارك الهواري بومدين الرئيس الجزائري في دفع مبلغ من المال لتسليح الجيش المصري. وبعد وفاة جمال عبد الناصر وتبوء نائبه أنور السادات تحول إلى أمريكا وزار إسرائيل وأصبحت المصالحة والاعتراف والتفاوض مع إسرائيل، والتحقت بعده الأردن ومنظمة التحرير الفلسطنية.

ولكن القيادة الفلسطينية للمقاومة بكل منظماتها لازالت ملتزمة بقرارات قمة الخرطوم. وطرح جمال عبد الناصر في المؤتمر اللاءات الثلاث: لا تفاوض لا صلح لا إعتراف. وإسرائيل موغلة في عدوانها على المقاومة وتعمل من أجل القضاء عليها وهذا لم يتم.

و في عام 1982 صيفا قرر المحتل الاسرائيلي الحرب على الجنوب اللبناني لضرب تجمعات المقاومة الفلسطينية التي كانت تنطلق المقاومة من الجنوب، ووضع كل قواه العسكرية من طيران ودبابات ومشاة، وصدم بمقاومة شديدة وخاصةً في قلعة شقيف اللبنانية التي صمدت وقاومت. وعندما قام بحصار بيروت العاصمة، وكنت شاهد عيان على ذلك عندما وصلتُ بيروت قبل ساعات من الحصار على بيروت؛ انا كاتب هذه السطور،و كنت متطوعاً باسم الحزب الشيوعي العراقي كطبيب. وعملت مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في مشفى ميداني في المصيطبة. وبقيت لحين خروج المقاومة الفلسطينية.و شاهدت كيف أن المقاومة الفلسطينية أبلت مع المقاومة الوطنية اللبنانية بلاء حسناً، والتي تشكلت من الحزب الشيوعي اللبناني وحزب العمل الشيوعي والناصريين وحركة المرابطين وحركة امل. وقد خط البيان الأول لانطلاقها جورج حاوي سكرتير اللجنة المركزي للحزب الشيوعي اللبناني ومحسن ابراهيم من حزب العمل الشيوعي وقد تركت منظمة التحرير اسلحة ثقيلة بعد مفاوضات مع الموفد حبيب وجرى الاتفاق على خروج منظمة التحرير الفلسطنية وانسحاب جيش الاحتلال الاسرائيلي، بعد مقاومة باسلة لدخول جيش العدو إلى بيروت الغربية والضاحية وهزم نتيجة خسائره. وبهذا التاريخ المجيد لمقاومة استمرت وتطورت بإستخدام كل الأساليب منها السلمية والاعلامية، ففي جنوب لبنان ظهرت المقاومة المسلحة الإسلامية متمثلة بحزب الله، حتى طردت الاحتلال الاسرائيلي من الجنوب.

والمقاومة الفلسطنية هزمت كيان الاحتلال في قطاع غزة بضربات المقاومة، وفي الضفة الغربية لعبت مقاومة الشعب الأعزل دوراً مهما في التصدي لعمليات الاحتلال، وذلك في انتفاضة الحجارة الأولى والثانية. واليوم هناك مقاومة مسلحة ترد على عمليات الاحتلال التي يقوم بها، ومنها تهديم البيوت وانتزاع الأراضي من أصحابها وإقامة مستوطنات سكنية لليهود القادمين من اوربا.

أن التطور الحاصل اليوم في تصنيع السلاح ومنه الصواريخ البعيدة المدى التي تدكُّ المدن الإسرائيلية مثل يافا وتل أبيب وحتى وصلت إلى أطراف ديمونة حيث المفاعلات النووية، ماهو إلاّ إشارة تدل على أن النصر قريب، وخاصة عند تفكك الكيان الصهيوني في جيشه وكذلك الرعب والهلع الذي اصاب المستوطنين وهروبهم إلى الملاجئ. مما أحدث نقلة نوعية بوقف الهجرة الى إسرائيل والتفكير بالهجرة المعاكسة إلى الدول التي قدموا منها، والتظاهرات التي استمرت لأسابيع في تل أبيب ضد نتنياهو والقوانين الجديدة، وهذه الظاهرة الأولى من نوعها ضد نتنياهو رئيس الوزراء وحزب الليكود الاسرائيلي.

و مما تقدم نجد أن هناك مؤشرات تدلل على أن هذا الكيان العنصري الفاشي لن يدوم طويلا لأسباب منها:ــ

تفكك المجتمع الاسرائيلي بين الطوائف الدينية والمجتمعية وظهور معارضة شعبية في تظاهرات جرت وتجري في تل أبيب ضد خطط نتنياهو لتغير النظام القضائي والمظاهرات تجري أسبوعيا. وانضم عدد من قوات الاحتياط إلى المتظاهرين. وهذا مؤشر خطر يدلل على أن رئيس الوزراء مهدد بنهاية حكومته.

كما أن الاقتصاد الاسرائيلي والذي يعتمد على المساعدات المالية من الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك المملكة البريطانية المتحدة، أصبحت تشكل عجزا في الوضع الحالي وذلك بسبب ان الامبريالية اليوم تعاني من وضع اقتصادي يعتمد على المديونية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

كذلك اشتداد المقاومة الفلسطينية وأستخدام أسلوب الكفاح المسلح في الانتفاضة الأخيرة في مدن الضفة الغربية، بعد أن كانت الحجارة هي السلاح، وأصبح الان السلاح الفردي هو الكلاشنكوف والمسدس والسلاح الأبيض، من أجل وضع حد لإعتداءات المستوطنين والجيش الاسرائيلي، مما أربك سكان المستوطنات لخوفهم على حياتهم من المقاومين الفلسطنين. وأصبحوا يفكرون بالعودة إلى بلدانهم من حيث أتوا إلى فلسطين، أي الهجرة المعاكسة إنقاذاَ لحياتهم وعوائلهم.

كما أصبحت المقاومة في غزة وجنوب لبنان تملك من السلاح المتطور (الصواريخ) بعيدة المدى التي تصل إلى المدن في الأرض المحتلة مثل تل أبيب والقدس ويافا وحيفا والجليل وعسقلان وبئر السبع. ووصل مدى هذه الصواريخ إلى 75 كم و80 كم. وشاهد العالم هذه الصواريخ تتساقط فيدب الرعب في سكان المدن فيهرعون إلى الملاجئ، ولن تحميهم صواريخ الباتريوت.

إضافة إلى توقف الهجرة الى فلسطين من دول اوربا بسبب هذه الأوضاع غير المستقرة للعيش بسلام وأمان. بل على العكس أصبحت الهجرة المعاكسة أي العودة إلى بلدانهم للحفاظ على حياتهم.

ومن هنا يمكن أن نستنتج أن آخر دولة استيطان في العالم وهي دولة الكيان الصهيوني لن تكمل مئويتها، والنصر سيكون لفلسطين ولشعبها العربي،

وأخيرا استعير مقطع من نشيد ثوري: باسم الشعب الملحمة سنقولها أنت وأنا فلسطين والقدس ستبقى لنا.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

يبدو من جملة التصريحات الأمريكية الأخيرة والتطورات الإقليمية المتلاحقة، إلى أن الإدارة الأمريكية، تدفع الأوضاع السياسية في المنطقة للاصطفاف الأمني والسياسي ضد إيران، سواء شنت الولايات المتحدة الأمريكية حربا عليها أم لم تشن.. وبطبيعة الحال فإن هذه التصريحات ليست بعيدة عن رؤية أمريكا الإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، وبالذات بعد حرب تموز بين إسرائيل ولبنان.. إذ تبلورت الرؤية الأمريكية باتجاه صياغة الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط، بحيث تتحول إسرائيل إلى كيان طبيعي في المنطقة وله علاقات سياسية واقتصادية مع دول المنطقة، وتتحول إيران إلى العدو القادم في منطقة الشرق الأوسط. وما نود أن نثيره في هذا المقال، هو أن دول المنطقة مع وجود تحفظات سياسية على سياسات إيران في المنطقة، إلا أنه لا مصلحة لدول المنطقة للاصطفاف مع أمريكا في هذه المعركة، سواء كانت سياسية أم أمنية أم عسكرية.. المنطقة بأسرها لا تتحمل حربا جديدة، وعلى دول المنطقة أن تلتفت إلى هذه الحقيقة، ولا تنجرف وراء المشروع الأمريكي الذي سيكلف المنطقة الكثير من الأعباء على الصعد كافة.. فليس لدينا مصلحة في المنطقة، بعزل إيران أو التحريض عليها، أو خلق عداوة بيننا وبينها. و وجود ملفات عالقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، ينبغي أن لاتسوى على حساب منطقتنا وأمنها ومصالحها.. فنحن فضاء جغرا فوسياسي واستراتيجي، له مصالحة وحساباته،وينبغي أن تعمل أطراف المنطقة جميعا من أجل هذه المصالح.. فلنا مصالحنا الاقتصادية والسياسية مع أمريكا، كما لنا مصالحنا الاقتصادية والسياسية مع إيران. ومصلحتنا الاستراتيجية تقتضي تجنيب المنطقة بأسرها من أية مواجهة عسكرية، لأننا سندفع فاتورتها بشكل أو بآخر.. ونحن نعتقد إن أية مواجهة عسكرية بين أمريكا وإيران، ستلقي بظلالها السلبية والخطيرة على المنطقة. لذلك ينبغي أن تتبلور الجهود الدبلوماسية والسياسية لدول المنطقة، من أجل إزالة عناصر التوتر والتخفيف من احتمالات المواجهة العسكرية..

وهناك دروس وعبر عديدة مستفادة، من طبيعة التحولات والتطورات الدراماتيكية التي تجري في المنطقة اليوم. ولعل من أهل هذه الدروس هي: حينما يتخلى العرب عن قضاياهم المركزية لعوامل ذاتية أو موضوعية لا فرق على مستوى النتيجة والمحصلة النهائية. ستأتي أطراف إقليمية أو دولية أو هما معا لملء هذا الفراغ وحمل راية تلك القضايا المركزية. وبطيعة الحال وبصرف النظر عن دوافع هذه الأطراف فحمل هذه الراية وملء الفراغ، فإن هذا الجهد المبذول ستكون له انعكاسات استراتيجية وسياسية كثيرة على المنطقة. سواء على مستوى ميزان القوى أو قدرة هذه الأطراف على حماية مصالحها الاستراتيجية والسياسية في المنطقة.

وقصتنا نحن العرب مع إيران في هذه المنطقة خلال العقدين الماضيين، لاتخرج عن نطاق الدرس المذكور أعلاه.

فحينما تراخت الإرادة العربية تجاه القضية المركزية للعرب والمسلمين وهي القضية الفلسطينية، عملت إيران لاعتبارات عديدة على حمل هذه الراية، واستطاعت بفعل ذلك أن تحقق لها نفوذا مشهودا وواضحا في هذه الساحة المحورية في المنطقة. والتخلي العربي هنا لا يعني توقف الدعم المادي للفلسطينيين، وإنما غياب المشروع السياسي العربي المتكامل تجاه هذه القضية.

فكانت النتيجة الطبيعية لهذا الغياب غير المبرر، أن جاءت أطراف أو طرف واحد وبلور لمجاله الاستراتيجي رؤية ومشروع عمل على تنفيذه وترجمته إلى الواقع العربي خلال مدى زمني متوسط.

وما جرى في فلسطين جرى في العراق على نحو آخر. ففي الوقت الذي عملت الدول العربية جميعها للوقوف المطلق مع النظام العراقي دون ال عمل على فتح قنوات تواصل وتعاون مع المعارضة السياسية العراقية. فكانت النتيجة حين سقوط نظام صدام حسين، أن الدول العربية عبر أجهزتها المختلفة تفتقد للعلاقات السياسية المتميزة مع أقطاب المعارضة العراقية. في مقابل إيران والتي عملت عبر أجهزتها ومؤسساتها المختلفة، لنسج علاقات عميقة مع العديد من الأطراف السياسية العراقية، ووظفت في سبيل ذلك الكثير من الامكانات والقدرات.

وتوضحت النتيجة النهائية لكل ذلك بعد مرحلة سقوط نظام صدام حسين. حيث التراجع الملحوظ والنوعي للدول الع ربية في المشهد السياسي العراقي، والتزايد النوعي للتأثير الإيراني على هذا المشهد وخياراته الاستراتيجية والسياسية.

وبدل أن تقرأ هذه الحقيقة قراءة سياسية، تحفز الدول العربية لبلورة مشروع عربي متكامل تجاه الشأن العراقي بكل تفاصيله وشؤونه، حاولت بعض الدوائر أن تقرأه قراءة مذهبية، نمطية، تخفي حقيقة التقصير العربي الفادح تجاه قضايا مركزية وحيوية في المنطقة. ونحن هنا لا نود أن نتحدث عن دوافع إيران في ملء هذا الفراغ، أو ن س جعلاقات متميزة مع الشأني الفلسطيني والعراقي، وإنما نود القول : أن الدول بطبعها نزاعة لمراكمة مكاسبها السياسية والاستراتيجية وتقوية نفوذا في خارج حدودها وبالذات في المنطقة التي تشكل عمقا استراتيجيا لأمنها القومي.

أقول أن الدول بصرف النظر عن أيديولوجيتها ومشروعاتها الإقليمية، تتجه نحو حماية أمنها القومي وتطوير مصالحها في المنطقة التي تعيش فيها. ونحن هنا لا نتحدث عن دوافع إيران في ذلك، وإنما نتحدث لماذا غاب العرب كل هذه السنين عن هذه الملفات. الغياب الاستراتيجي والسياسي الحقيقي، وليس الدعم المادي الذي يفتقد الرؤية الاستراتيجية. لماذا لم تسعى الدول العربية على بناء علاقات سياسية متميزة مع حكام العراق الجدد، ولماذا لم تطور علاقاتها المتميزة مع الحركات الفلسطينية المختلفة. وينبغي أن ندرك أن التقصير العربي الواضح على هذا الصعيد هو الذي أدى بشكل أو بآخر إلى تعاظم النفوذ الس       ياسي لإيران. ونحن هنا نحذر من تلك الأقلام والآراء، التي تعمل على إخفاء هذه الحقيقة، والتأكيد على المسألة المذهبية كوسيلة لخلط الأوراق وإدخال المنطقة مجددا في نزاعات وصراعات لا تخدم الاستقرار السياسي لأوطاننا، ولا تخدم في ذات الوقت الأمن الاستراتيجي للمنطقة.

أقول ذلك من أجل أن أوضح حقيقة أخرى مرتبطة بهذا الموضوع، وهي : أن إيران كجغرافيا وكدولة ليست طارئة على منطقتنا، وإنما هي جزء أصيل من هذه المنطقة. ووجود خلافات سياسية أو استراتيجية مع خياراتها، لايعني تجاهلها أو التغافل عن حقيقة وجودها الأصيل في الم     نطقة. لذلك فهي ليست أسط      ولا حربيا متحركا في مياهنا الإقليمية وإنما هي أحد جيراننا. لذلك ينبغي أن نعمل وبالذات على ضوء التطورات السياسية الأخيرة، على فتح قنوات حوار مع الدولة الإيرانية. لأن غياب هذا الحوار وغياب التفاهم الاستراتيجي بين العرب وإيران في المنطقة، سيكلف الجميع الكثير من الخسائر على الصعد كافة.

ومن الضروري هنا القول: أن المنطقة بأسرها لا تتحمل مواجهات عسكرية جديدة، وليس من المنطقي أن تبدد ثروات المنطقة مجددا في حروب أو صدامات عبثية.

لذلك ومن أجل الروابط المشتركة التي تربطنا مع إيران، ومن أجل أمن منطقتنا واستقرارها السياسي، ومن أجل استمرار مشروعات التنمية الوطنية، ومن أجل الحفاظ على ثرواتنا الوطنية، ومن أجل إنهاء مشاكل المنطقة مع إيران، أقول من أجل كل ذلك نحن أحوج ما نكون اليوم وفي ظل هذا الصخب السياسي والإعلامي، أن نفكر ونعمل من أجل بلورة مبادرة سياسية عربية أو خليجية تستهدف فتح حوار جدي واستراتيجي مع إيران حول الموضوعات المشتركة بين الطرفين. وينبغي أن لا نندفع وراء المشروع الأمريكي على هذا الصعيد. فالولايات المتحدة الأمريكية ومن أجل مصالحها الاستراتيجية والحيوية، تعمل على توتير الأجواء وتضخيم الخطر الإيراني.

ولكن يبدو ومن خلال المعطيات السياسية المتوفرة، ليست لنا نحن الدول العربية وبالخصوص دول مجلس التعاون الخليجي، مصلحة في توتير علاقتنا مع إيران. بل على العكس من ذلك تماما. حيث أن مصلحة المنطقة الاستراتيجية، تتجسد في فتح قنوات حوار حقيقية مع إيران للتفاهم حول ملفات المنطقة الأساسية.

ومن حقنا كشعوب خليجية أن نقلق من طبيعة الأحداث وتداعياتها التي تعيشها المنطقة على أكثر من صعيد. ولعل من أهم الظواهر السياسية التي تزيد من قلقنا وهواجسنا هي الظواهر التالية:

. الأحداث المتسارعة في العراق، وطبيعة تطوراتها ومآلاتها، وهي أحداث وتطورات مفتوحة على كل الاحتمالات. وإن ما يجري في العراق يثير قلقنا في الخليج على أكثر من صعيد.

. القدرة النووية الإيرانية، وطبيعة التطورات الملازمة لها إقليميا ودوليا.

. نذر المواجهة والتصعيد بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران.

. ظاهرة الإرهاب والعنف التي تتغذى من أحداث العراق. وكثيرة هي المؤشرات على أن هذه الظاهرة لا زالت قائمة وقادرة على إرباك الأوضاع الأمنية في المنطقة.

ولكن كل هذه الظواهر، لا تؤسس لخيار التوتير والتصعيد في المنطقة. وإنما على العكس من ذلك تماما. حيث أن جميع هذه الملفات بحاجة إلى معالجة سياسية، لا يمكن تحقيقها بالمواجهة المفتوحة، بل بفتح قنوات حوار وتفاهم مع إيران.

فالأمن في منطقة الخليج، ولاعتبارات استراتيجية وإقليمية ودولية، هو أمن سياسي بامتياز. لذلك فإن تصعيد المواجهة بين أي طرف من أطراف المعادلة، هو ضد أمن واستقرار المنطقة. وإن تحويل المنطقة إلى ترسانة عسكرية متطورة، لا يخدم أمن المنطقة، بل يستنزف إمكاناتها وثرواتها. والمنطقة بأسرها بما فيها إيران أحوج ما تكون إلى توظيف إمكاناتها المالية في مشاريع البناء والتنمية، وليس شراء الأسلحة وتخزينها.

لهذا فإننا في المنطقة بحاجة إلى مقاربة سياسية جديدة في طبيعة تعاطينا مع التطورات السياسية القائمة في المنطقة. وهذه المقاربة قائمة على العناصر التالية :

.   رفض تطييف الأحداث السياسية المتشابكة، فهذا الاختلاف والتناقض، هو اختلاف وتناقض بين خيارات سياسية ومصالح حيوية، وليس بين طوائف ومذاهب.

ومن الضروري أن ندرك أن تطييف الصراع السياسي القائم في المنطقة اليوم، يضر باستقرار منطقتنا ويهددنا على أكثر من صعيد. ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن توتير المناخ المذهبي، لا يخدم إلا التوجهات المتطرفة التي لها مصالح وأجندة تختلف وتتناقض مع مصالح وأجندة الحكومات السياسية في المنطقة، وكذلك مع شعوب المنطقة التي تنشد الأمن والاستقرار.

فالتوتير الطائفي هو البيئة الفضلى، لكي يستمر المتطرفون في كسب الأنصار والقيام بعملياتهم الإرهابية. فتسعير النزعات الطائفية، لا يجلب أمنا، ولا ينهي مشاكل المنطقة، بل يزيدها تعقيدا وتشابكا وصعوبة. وإذا كانت هناك مخاوف من مشروعات إيران الإقليمية، ينبغي أن لا يتم التعامل مع هذه المخاوف بتأجيج المشاعر المذهبية في المنطقة. لأن هذا التأجيج يضر بنسيج المنطقة الاجتماعي والسياسي، قبل أن يضر غيرها على الصعد كافة. والشيعة في المنطقة هم مواطنون أصليون وتهمهم مصالح أوطانهم أولا وأخيرا.

.   صياغة مبادرة خليجية وتصور استراتيجي خليجي، يستهدف تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية مع إيران. فليس لنا مصلحة في معاداة إيران، ومشاكلنا معها ينبغي أن تعالج بالوسائل السياسية والدبلوماسية، وليس بالتصعيد الذي يحول المنطقة إلى ساحة للصراع الإقليمي والدولي. فالأمن فمنطقة الخليج، يحتاج إلى مشروع سياسي – خليجي، يزيد من فرص التفاهم، وليس إلى التصعيد الإعلامي والسياسي مع إيران أو غيرها.

وإننا هنا ندعو إلى بناء منظومة سياسية وأمنية خليجية، تشترك فيها إيران بوصفها دولة مطلة على الخليج. فالشراكة الاستراتيجية بيم كل الدول المطلة على الخليج، هو السبيل إلى ضمان أمن الخليج. وليس من مصلحتنا الآنية والمستقبلية أن ن تناغم مع دعوات التصعيد والمواجهة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.

وخلاصة القول : أن أحداث المنطقة متسارعة ومتشابكة، ولا يمكن الحفاظ على أمن المنطقة واستقرارها بالمزيد من الصدام والمواجهة، وإنما نحن بحاجة إلى مبادرة سياسية – دبلوماسية، تستهدف خلق إطار للحوار والتفاهم الاستراتيجي بين دول المنطقة وإيران.

- انتهى –

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

مالذي يحول بين الليبيين وتحقيق خطوات حقيقية خارج دوامة هذه المراحل الانتقالية التي أعقبت تداعي الدولة الليبية، وتحولها فعليا إلى إقليم ممزق متباعد، بفعل عوامل متعددة؟... وتظل معادلة تحقق الاستقرار في ليبيا ترتبط بنجاح العملية الديمقراطية حسب رؤية المجتمع الدولي، وذلك عبر إنتخابات رئاسية وبرلمانية، توحد المؤسسات وتسبغ الشرعية عليها وترسي أسس الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتوحد المؤسسة العسكرية والأمنية، ويمكن حصر معوقات الانتقال نحو الديمقراطية في ليبيا في النقاط التالية:

1/ عدم الوصول إلى توافق حقيقي:

حيث يؤدي عدم وجود التوافق في الآراء بين الجهات المجتمعية والسياسية الفاعلة في ليبيا حول إتجاه المستقبل السياسي والاقتصادي للبلد إلى أعاقة نجاح الانتقال إلى الديمقراطية، مابين سلطتين تنفيذيين وسلطتين تشريعيتين ومليشيات تتوزع في طول البلاد وعرضها مع مشروع مؤسسة عسكرية متعثر، وفي الكثير من الحالات يتضح إهتمام اللاعبين السياسيين بتوطيد سلطتهم أكثر من إهتمامهم ببناء المؤسسات الديمقراطية.

2/ التدخل الإقليمي والدولي:

بلا ريب ولا جدال يساهم التدخل الإقليمي والدولي بشكل كبير في ليبيا في إعاقة نجاح الانتقال الى الديمقراطية،حيث لعب هذا التدخل السافر أدواراً في كل أطوار الصراع ولم يزل، وحيث مازالت الجهات الخارجية القوية تسعى إلى التأثير على نتيجة التحولات السياسية، وغالباً ماتكون أكثر إهتماما بتعزيز مصالحها الخاصة بدلا من دعم القيم والممارسات الديمقراطية.

3/ الضعف المؤسسي:

أدى التشظي والانقسام السياسي ودورات العنف المتعاقبة في ليبيا الى ضعف المؤسسات، وبالتالي تقويض سيادة القانون، مما يجعل من الصعب إقامة ديمقراطية مستقرة، وغالباً مايكون الفساد أحد أعراض ضعف المؤسسات، ويؤدي كما في الحالة الليبية إلى تقويض ثقة الناس في العملية الديمقراطية.

4/ الإنقسامات القبلية والجهوية والعرقية:

حيث أدت هذه الانقسامات في ليبيا إلى تعميق الشرخ وتباعد الشقة بين أبناء الوطن الواحد، وبالتالي إلى عدم توافق في الآراء حول القيم والممارسات الديمقراطية، وفي الكثير من الأحيان أدت هذه الانقسامات إلى دورات من العنف والصراع الأهلي، الأمر الذي يزيد من صعوبة إقامة ديمقراطية مستقرة.

5/ ضعف المجتمع المدني:

بلاشك أن المجتمع المدني في ليبيا يتسم بالضعف الشديد، مما يجعل  من الصعب محاسبة المسؤولين الحكوميين وتعزيز القيم والممارسات الديمقراطية.  إن وجود مجتمع مدني قوي ضروري لنجاح الانتقال إلى الديمقراطية، حيث يمكن أن يوفر رقابة على سلطة الدولة ويساعد على ضمان استجابة الحكومة لاحتياجات مواطنيها.

9/ عدم تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة:

هذه المصالحة والتي تتطلب مجهودات كبيرة في الحالة الليبية، كما تتطلب وجود إرادة سياسية حقيقية لتحقيق هذا الهدف، ولإتخاذ هذه الخطوة الكبيرة، فإن الأمر بلاشك يتطلب ؛ من الأطراف المتنازعة الإقرار بالأخطاء الماضية والإعتراف بالمسؤولية عن الجرائم، كذلك على هذه الأطراف المتنازعة الإقرار بحقوق الجميع في الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، كما يجب أن تتم المساءلة القانونية للمسئولين عن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الفساد، كما يجب على الأطراف المتنازعة تقديم التعويضات للضحايا وعوائلهم، كما يجب على الأطراف المتنازعة العمل على إعادة بناء المؤسسات المدمرة في سبيل تحقيق الاستقرار والتنمية، على أن يتزامن كل ذلك مع تقديم الدعم الدولي الحقيقي والفاعل من قبل المجتمع الدولي  بدعم لاشائبة أو شبهة فيه  لعملية المصالحة الوطنية الشاملة، عبر تقديم المساعدات المالية والتقنية، والدعم السياسي والدبلوماسي.

***

د. أبوبكر خليفة أبوبكر

كاتب وأكاديمي ليبي

وكأنه مكتوب على الشعب الفلسطيني العربي المسلم أن يدفع من أرضه ودماء شهدائه وعذابات أسراه وجرحاه والمشتتون في أصقاع الأرض ثمن انتمائه العروبي والإسلامي، ومع ذلك وبالرغم من فداحة الثمن الذي دفعه ما زال متمسكاً بعروبته ومعتزاً بإسلامه ومدافعاً عن مقدساته. وما يعزز صموده والتزامه بانتمائه العربي أن كل ما تعرض له تتحمل مسؤوليته أنظمة حكم ونخب فاسدة وليس الشعوب العربية التي ما زالت تؤمن بعدالة القضية الفلسطينية وتقف الى جانب الشعب الفلسطيني.

قبل أقل من شهر وتحديداً في 15 مايو أحيا الفلسطينيون ذكرى النكبة حيث أدت هزيمة الجيوش العربية أمام العصابات الصهيونية إلى تشريد غالبية الشعب وقيام دولة الكيان الصهيوني على مساحة 78% من أرض فلسطين، وهذه الأيام يستحضر الشعب الفلسطيني ذكرى النكسة أو هزيمة أخرى، حرب حزيران 1967، التي أضاعت بقية فلسطين بالإضافة الى أراضي عربية أخرى.

بالرغم من هاتين الهزيمتين استنهض الشعب الفلسطيني قواه وفجر ثورة تحرر وطني في منتصف ستينيات القرن الماضي على أمل أن تنجده الأنظمة العربية وتعوضه عما سببته له من مصائب في حروبها السابقة، إلا أن الأمور سارت على عكس ما كان مأمولاً واستمرت غالبية الأنظمة في خيانتها بل وتآمرها على القضية الوطنية الفلسطينية.

فبعد خمس سنوات من انطلاق الثورة الفلسطينية وقعت أحداث أيلول الأسود في الأردن عام 1970 وتعرضت الثورة الفلسطينية لعملية تصفية على يد الجيش الأردني، ولم تحرك الأنظمة العربية ساكناً إلا بتدخلات للوساطة قام بها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر قبل أيام من وفاته نجحت في إخراج القائد أبو عمار ومجموعة من القيادات من الأردن إلا أنها لم توقف المجزرة حتى تم تصفية الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن وما تبقى من مسلحين انتقلوا لسوريا ولبنان.

وخلال تفجر الحرب الأهلية في لبنان مجدداً عام 1974 حيت وقفت الثورة الفلسطينية الى جانب القوى الوطنية اللبنانية في مواجهة قوى مسيحية متحالفة مع إسرائيل لم تقف الدول العربية موقف المتفرج فقط بل أرسلت سوريا قواتها لدعم القوى المسيحية ودخلت قواتها في مواجهات شرسة مع القوى الوطنية اللبنانية وقوات الثورة الفلسطينية، بالرغم من المجازر التي تم ارتكابها في مخيم تل الزعتر والقتل على الهوية الخ.

وفي عام 1982 قام الجيش الإسرائيلي بهجوم واسع على جنوب لبنان ثم امتد للعاصمة بيروت حيث قام باحتلالها وهو أول احتلال لعاصمة عربية تم خلالها تدمير كثير من البنى التحتية وقتل  وجرح آلاف المواطنين من فلسطينيين ولبنانيين، ودافعت قوات الثورة الفلسطينية متحالفة مع القوى الوطنية لمدة 88 يوماً، وكانت قوات سورية مرابطة في لبنان ولكنها لم تحرك ساكناً، ولم تتحرك الحكومات العربية إلا كوساطة فاشلة إلى أن تدخلت الإدارة الأمريكية وأرسلت مبعوثاً عنها وهو فيليب حبيب و توصل لتفاهمات لخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، حتى مجازر صبرا وشاتيلا لم تحرك لا الأنظمة ولا الشعوب العربية، والمظاهرة الوحيدة التي خرجت كانت في تل أبيب من إسرائيليين معارضين لشارون وحربه على لبنان.

وخلال حرب الخليج الثانية 1991 تم اتهام الرئيس ياسر عرفات والفلسطينيين عموماً بمساندة صدام حسين وتأييدهم احتلاله للعراق، وهي اتهامات غير صحيحة وكان الهدف منها استكمال مخطط التآمر على الثورة الفلسطينية وحصارها مالياً وسياسيا لتطويعها لمخططات التسوية السياسية التي انطلقت بالفعل في مدريد  في أكتوبر من نفس العام، كما استغلت واشنطن وتل أبيب حصار منظمة التحرير وتواطؤ الأنظمة العربية لتمرير قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يلغي قرار سابق صدر عام 1975 يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.

وحتى بعد التزام منظمة التحرير بعملية التسوية السياسية و بالمبادرة العربية للسلام وتهرب إسرائيل منهما واستمرار العدوان الصهيوني ومشاريع الاستيطان واقتحام الأقصى الخ واصلت الأنظمة العربية صمتها بل وطبع بعضها مع إسرائيل قي موجة جديدة من التطبيع، ومن لم تطبع رسمياً تطبع بطرق أخرى لا تقل خطورة عن التطبيع الرسمي كما هو الأمر مع دولة قطر.

لا نبرئ الطبقة السياسية الفلسطينية من المسؤولية عما آلت اليه القضية، ولكن لو لم تتدخل الجيوش العربية عسكرياً وتنهزم أمام دولة الكيان ولو لم تتدخل الأنظمة العربية بالشأن الفلسطيني جاهدة لتجنيد وتوظيف فصائل وأحزاب لحدمة مشاريعها وأجندتها، ولو على أقل تقدير التزمت بتعهداتها وقراراتها في القمم العربية والإسلامية وبالمبادرة العربية للسلام، ما وصل خال القضية الفلسطينية وحال القدس الى هذا الوضع الخطير.

والسؤال ماذا بعد، وما الذي تخطط له الأنظمة العربية للشعب الفلسطيني بعد أن أفشل التطبيع مبادرتهم للسلام؟

***

ا. د. ابراهيم ابراش

حتى في سياستنا نختلف نحن العراقيين عن شعوب العالم الأخرى، فحزبنا لا يريد له شريكا في (الملك)، ومن لم يكن معنا فهو علينا، والسياسي عندنا يعتقد أنه وحيد الله العالِم بأسرار السياسة والكون، وكل الآخرين جهلة أميين، والوحيد الذي لا يعرف القراءة والكتابة والعزف على الربابة والأكل مع (الذئابة) لكنه ممكن أن يصبح لواءً في الجيش أو وزيراً سياديا للتحشيش أو شيخا للدراوش.

والأنكى من ذلك أن الشعب نفسه لا يعترض على ذلك، بل جاهد وناضل وقاتل لكي يصبح هذا السياسي بمركز الأفضلية، ويتبوأ المسؤولية، لكي يخدم (القضية) لا قضية شعب عانى الويلات، ووطن أدخله الحكام الأغبياء في عالم المتاهات، وإنما ليخدم حزبه أولا، والمخدوعين به ثانيا، تحت بواعث الطائفية والمناطقية والمذهبية والقومية، والأشد نكاية أن هذا الاعوجاج صار منهجا يتبعه السنة، والشيعة، والعرب، والأكراد، والمسيحيين، والرأسماليين، والشيوعيين، والعلمانيين وللاأدريين،  والملحدين، وحتى الموسيقيين والمغنين والعازفين، كل (يحضن) ليلاه، ولا يدري بالليالي السود التي تمر على البلاد والعباد.

ووفق توافق (الملاوصة) والمحاصصة صار من اللزوم أن يكون رئيس الجمهورية كرديا، ورئيس الوزراء شيعيا، ورئيس مجلس النواب سنيا، لا فرق بين أن يكون خائنا أو وطنيا، عميلا لدول الجوار أو صنميا. وبناء عليه يتم تقسيم حقائب الوزارات والسفارات والإدارات العامة والمناصب الهامة، والمواقع المربحة الجامعة و(أم الخبزة اللامة) دون التفات إلى الخبرة والكفاءة والممارسة والبرستيج (prestige)، يكفي أنه يعرف كيف يستخدم (الإبريج) (كلمة دارجة وأصلها إبريق).

بل يكفي لمن كان يشتغل بمنصب معاون سائق باص أجرة (سِكن) باللهجة الدارجة في خط سير علاوي الحلة/ الكاظمية أن يدير وزارات الخارجية والداخلية والاتصالات والنقل والسياحة والثقافة والآثار، وممكن أن ينجح في وزارة النفط أو وزارة المالية؛ ويتحكم بنسب المياه والأمطار بوقت واحد، وتملأ صوره الجرائد.

هذا حالنا منذ أن كان السلطان العثماني يتربع على خيرات بلدنا وينهبها باسم الدين، تؤيده الملايين، ونفسه في حقبة سيطرة أبو ناجي (الإنكليز) على مقاليد البلد، ولغاية عام 1921؛ تاريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة؛ التي لم تجد بين رجالها من كان يصلح أن يقودها، فاستوردت ملكا من دول الجوار، ومنه وصولا إلى عام 1958؛ الذي عرف بعام التحرير، ثم عام 1963، وبعده عام 1968، استمرارا إلى ما بعد طلة المتعجرف الهمام ذو الوجه القبيح العم سام عام 2003.

أما بعد 2003 فقد جمع السياسيون والنواب والحاكمون والمدراء العامون والمحافظون المقيمون والوافدون جميع خبائث تلك التواريخ، وأضافوا لها ما اكتسبوه من خبرة في بلاد الغربة، ومعاشرة العرجة والجربة، وحملوا شوكاتهم ليأكلوا الكعكة ولكنهم لم يعرفوا استخدامها لأنهم لا يجيدون فن (الأتاكيت) (The art of etiquette) ففضلوا الأكل بأيدهم، فهو أدسم وأهضم، يسمح للقمة أن تكون ملء الفم، أما الشعب فبقي طوال هذا التاريخ، ولغاية هذه الساعة ينتظر أن يشبعوا، ويكتفوا، عسى أن يتركوا له الفتات؛ وهو يعاني المأساة والويلات، ولكنهم كانوا يشغلونه عن المطالبة بحقوقه بـ(الكلاوات) والأناشيد الوطنية، وشعارات العروبية، والدروشة واللطميات، فعاش في سبات وخلَّف الصبيان والبنات، كل هذا في بلد علَّم العالم كله الثقافة و(الترافة) والشياكة والأناقة والقراءة والكتابة والعجلة والعزف على (الربابة).

بينما نجد في مكان آخر من زوايا العالم القصية دولة صغيرة فتية اسمها جمهورية موريشيوس، تزهو بحلة عروس، وهي مجموعة جزر تقع وسط المحيط الهندي، وتعرضت مثلنا للاحتلال الأجنبي، فاستعمرها الفرنسيون والبريطانيون، واستقلت عن بريطانيا عام 1968، يبلغ عدد سكانها 1,078,000 نسمة، وكانت قد انتقلت إلى النظام الرئاسي عام 1992.

فيها امرأة عالمة كبيرة أسمها أمينة غريب فقيم مواليد 1959، وهي مسلمة من أصول هندية، نالت دكتوراه الكيمياء العضوية بجامعة إكستر البريطانية وعادت إلى بلادها عام 1987. عينت رئيسة لجامعة موريشيوس وعميدة لكلية العلوم، واختيرت لتكون قائدة لأول مشروع بحث إقليمي لدراسة النباتات الطبية والعطرية من المحيط الهندي، بتمويل من الصندوق الأوروبي للتنمية ورعاية لجنة المحيط الهندي بين عامي 1987 و1992. ألفت أمينة فقيم أكثر من عشرين كتابا وثمانين بحثا في علوم الأحياء. وحصدت الكثير من الأوسمة والجوائز، منها جائزة لوريال من منظمة الأمم المتحدة للتريبة والعلوم والثقافة (اليونسكو) في أفريقيا والعالم العربي.

انتخبت رئيسة للمجلس الدولي للاتحاد العلمي المكتب الإقليمي لأفريقيا للمدة من عام 2011 ولغاية عام 2014، وعملت في مجلس البحوث بموريشيوس مديرة للبحوث 1995-1997، وعضوا منتدبا في المركز الدولي للبحث والابتكار.

لم تختر أمينة فقيم أن تعمل في السياسة، ولم تختر أن تكون رئيسة للبلاد بل وجدت نفسها مرشحة لمنصب الرئيس بعد أن أعلن رئيس الوزراء أنيرود جوغنوث أن البلاد تريد شخصا لا علاقة له بالسياسة وله مصداقية محلية ودولية لقيادتها. ولذا قرر البرلمان بالإجماع في حزيران 2015 تعيينها بمنصب رئيس البلاد، التي يشكل المسلون أقلية من سكانها لأن الأعم الأغلب من سكانها هم مسيحيون، فلم يعترض أحد منهم، ولم يطالب بتنحية الرئيسة المسلمة.!

والنتيجة أن بلادها بفضل وطنيتها وحكمتها وعلميتها وتفانيها في العمل، أصبحت إحدى أغنى دول أفريقيا، إذ يبلغ دخل الفرد فيها نحو 19600 دولار سنويا، بينما انسحقت الطبقة العراقية الوسطى وتحول المجتمع العراقي إلى طبقتين: سياسية كترفة إلى حد الإفراط، وجماهيرية معدمة إلى حد الإملاق، ولا زالت البلاد تقاد من قبل أكثر من رئيس وأكثر من رئيس مجلس وزراء وأكثر من رئيس مجلس نواب فضلا عن مئات الأحزاب التي جلبت لنا الويل والخراب وصادرت الشبابيك والأبواب، وإذا بقيت في السلطة سوف تنهب الماء والزرع والتراب.

***

الدكتور صالح الطائي

الدين هو الطاعة، وله معنيان دين ودَين. والدين نظام اعتقادي ايديولوجي تتمثل فيه الرؤية الكونية، ثقافي سلوكي ممارس، وهو امانة عند الأنسان كحياة وعدالة، وهو حزمة من السلوكيات والممارسات الاخلاقية في المجتمعات البشرية، ومجموعة نصوصه السماوية مقدسة، ومنها أرضي كما يعتقدون وجد منذ القِدم، ومع ذلك لا يوجد اجماع علمي الى اليوم حول التعريف العلمي للدين، ولا زال الدين اللغز المحير للوجود،

ودَين، ذمة من شخص لأخر مطلوب تسديده بوقت معين حسب التصديق والتوثيق الذي كتب فيه، العقد.

والانسان كحضارة وضع الله في ماضيه وحاضره ومستقبله درس عميق حين منحه الفكر في بحث مشاكله لاعادة النظر في كل ما قامت به الانسانية من تجارب الماضي، ليفتح له ابواب التفكير والتغيير، ومهد له بثورة فكرية تجعله يعيش بامان واطمئنان وكفاية وعدل فعلام ظلم الاخرين ان كان الحاكم يعتقد ويخاف الله، يقول الحق:"اما تخافون من ربكم يوما عبوسا قمطريرا (يوماً شديد البلاء)حتى اعد للظالمين عذابا اليما، فافرد له سورة خاصة من قرآنه ليحذره من ظلم الانسان الأخر،

الأسلام كدين جاء موحداً كما يقول التاريخ، لأنبياءِ ورسل قدر عددهم ب24 نبياً ورسولاً، بعقيدة واحدة هي الاسلام كما ذكر في النص المقدس، رغم أختلاف النصوص المقدسة من كتاب لأخر ومن نبي لأخر، وبازمان متباعدة، أولهم ابراهيم الذي قال:"وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، الانعام 79"، أي مجانباً للشرك مسلماً موحداً مستقيماً، وأخرهم محمد بن عبدالله:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً المائدة3 "، أي من نِعَم الله عليكم ان لا تحتاجون لاحد بعد ان دخلتم في الاستقامة والعدل (شرط التطبيق)، فأين انت ايها الانسان المكلف بالتطبيق من امر الله، تقتل وتنهب وتُفسد وتدعي الدين، واين الدين من هذا الانسان الشرير، الذي يفرق بين الأديان استجابة للمذهبية الوهمية التي لا يعترف بها الدين ولماذا لا ينتقم الدين من مذاهب التفريق ضمانا لأزليته.

اراد الله بالدين تحقيق الحق والعدل بين البشرفلا ظلم ولا ظالم بين المؤمنين، بتشريعات متعددة لكنها متساوية في التنفيذ ضمانا للعدل المطلق، بوصايا واحدة في كل الديانات، فهل يحق لنا ان نقسمه الى اديان بتشريعات مختلفة، واراء فقهية متضاربة في التشريع، وهي واحدة لاتفريق بينهم وبينها، وهل تم الالتزام بها؟ لا، فما فائدة دين نزل على من لم يؤمنوا به، ولم يستجيبوا له. فأصبحنا مفرقين أكثر من الذين لا دين لهم به يعتقدون،

فهل سنبقى نتعايش مع نظريات الوهم والتناقض مع الحقيقة "المهدي المنتظرمثلاً والوعد والوعيد "، ام تنفيذ ما يستحق منا له من تثبيت،.فهل تستحق السلطة ان تتخذ منه وسيلة للتفريق والأستيلاءعلى اموال الشعب بلا قانون؟ وهل من قسموه الى مذهبين "شيعة وسُنة " وتوابعهما جاؤونا بنص مكين، أم كانوا مفرقين من اجل خدمة السلطة لا الدين، لا بل اجزم انهم لم يؤمنوا به منذ بداية نزوله كدين بل تستروا به من اجل السلطة والمال ولا غير، كانوا انبياء الله مغفلين حينماعتقدوا انهم سيصنعون شعوبا تلتزم بشروط الدين، ياليتنا بقينا بلا دين ليكون القانون هو البديل ؟ كما عند الحضارات القديمة حضارة حمورابي مثالاً.

نعم، بعد وفاة صاحب الدعوة، تشعب الفقه الاسلامي الى تداخل في التفسير والتاويل، فظهرت المدارس المختلفة فكان من نتيجتها الانقسام الرأسي في الاسلام الذي استدعى ظهور المذهبين الرئيسيين اللذين نسبا الى الأمامين جعفر بن محمد الصادق (الشيعي) والامام ابو حنيفة النعمان (السني) تجاوزا على الحقيقة، فالاختلاف اساسه القياس حول مسألة فقهية لا مبادىء دين. حتى تكاثرت المذاهب الفرعية، في كل منهما ليحمل صفة احد هذين المذهبين حين نسبت المعتزلة للشيعة، المالكية والشافعية للسنة وهكذا، فكانت بداية الانقسام المدمر للعقيدة والمجتمع مما جر الى ظهور عشرات المذاهب فيما بعد التي ضيعت الاسلام والمجتمع معا، هذا الاسلام الذي جاء وهماً لحكم السلطة لاغيروالذي دمر مستقبل العرب والمسلمين بعد ان تجاوزا مبادئه في التطبيق، وسط هذا الضجيج الفقهي المتعارض كيف نفهم طبيعة العلاقة بين النهضة الفكرية للانسان وحكم الدين الذي به يعتقدون، ولا يعتقدون.

من هنا بدات عملية الاجتهادات الفكرية المختلفة في النص التي اخذت طابع السياسة السلطوية لا الدين حتى اصبح للقرآن اكثر من مائة تفسير كل منها له رأي في نصه المكين، حتى بدأ المتنورون اليوم يفكرون جديا ان يجدوا البديل عن العيش مع الدين،. بعد ان ضاع المنهج التاريخي لانماط العلاقة بين الفقيه والسلطان وفق المنظور المنهجي الذي يتوخى الدقة ومقاربة الحقيقة الى افق التوحيد في الهدف والغاية، بعد ان اصبح الدين امام الامتحان، ؟ومن يقرأ ما كتبه الكليني والشيخ المفيد والطوسي من جهة، وماكتبه الماوردي والغزالي من اخرى من أئمة المخرفين يجد ان ما توصف بحرية الاختيار عند المسلم قد انتهت واستبدلت بعصور التنكيل والملاحقة والاغتيال وضياع الحقوق كما نحن اليوم، فعن اي اسلام يتحدثون؟ اسلام المنتظرين، ام اسلام المتزمتين الفاسدين، من اهداء الدين؟

نقول لاصحاب المذاهب من المتزمتين، ان علم الاصول يبحث في العقيدة بايراد الحجج المنطقية وليست الشخصية الافتراضية، اي بضرورة استخدام الادلة العقلية المنطقية عند اصحاب المعرفة والطاعة، والمعرفة هي الاصل والطاعة هي الفرع، من هنا بدات معركة الاختلاف الذي شق الدين الاسلامي الى مذهبين هما " شيعي وسني " فحصل التباعد بينهما وبداية الضعف العام في العقيدة والدولة والى اليوم، من يقل لك ممكن ردم الاختلاف لا تلتفت اليه بعد ان اصبح الاختلاف عقيدة سلطوية بينهما، فكانت نظريات التزوير في العقيدة والدين، أساسه السلطة لا الدين، فلادين ولامذاهب صحيحة يمكن الاعتماد عليها في فلسفة الاديان اليوم، بعد ان أختلف التفسير، فاصبح الاسلام اسلامين بما قدم كل منهم من ادلة فقهية باطلة امام وحدة المسلمين؟ لذا لم تتقدم حضارياً دولة اسلامية واحدة عبر التاريخ مثل دول الحضارة الاخرى، لمجهولية الاعتقاد في الدين.

نعم، ورغم حملات التزوير المنظمة التي قادتها دول تدعي الاسلام والمسلمين كذباً وزوراً كما عند الامويين والعباسيين ومن جاء من بعدهم، لكن التراث النصي المقدس، بقي وسيبقى اقوى عوداً من جميع أولئك المزورين الذين لا زلنا نعتقد بهم خطئا انهم من أئمة الحديث، تراثنا الفكري الصحيح ينبع من عين صافية لا عشوة فيها ولا ظلام، وسيبقى شوكة في عيون المزورين، الذين قالوا وصدقناهم، ان الفكر الفلسفي في الاسلام صورة ظلية محنطة المعالم للفكر اليوناني القديم ومدارسه المختلفة، وان الفلسفة العربية لا تمتلك جدة ولا ابتكار، لهذا يريدون تبديلها بعلم العقيدة، عقيدتهم الوهمية، التي تتناقض وعقيدة الدين.

ومع هذه الحملة النكراء ورسوخ افكارها في اذهان الاغلبية من المسلمين.الا اننا لانفقد الامل في وجود من يستطيع القيام بالبحث والتدقيق في اصول التاريخ الاسلامي والمنهج الصحيح، لتصحيح ما يحتاج الى تصحيح ، وتصفية ما يحتاج الى تصفية مما شابه من عدم الدقة ، ومن سوق الاخبار على عواهنها مما أساء الى أمة الاسلام ووضعها في حرج التاريخ.

نقول ودون الخوض في متاهات الخطأ للفقه والفقهاء، ان النقد العلمي لمسيراتهم الوهمية التي تجنبت قيام الدليل لما يقولون في اثبات الحجة والنقيض، ان اثباتهما يعتمد على اظهار جوانب القوة والضعف في النص بحيث لا يعوز الباحثين سلامة الدليل عليه، والثانية تنهض على الفحص الخارجي، اي باثبات الاصل ببطلان النقيض، وهذا لم يحصل في تاريخنا الفلسفي المعد للتطبيق.

كيف لا والسنة النبوية كتبت بخمسة اقلام كل منها يخالف الاخر في النص والتفسير وهي:، السيرة النبوية لمحمد بن اسحاق (150ت هج)، ومغازي الرسول وسيرته لمحمد بن عمر الواقدي (ت207 هج)، سيرة الرسول لابن سعد (230 هج)، سيرة الرسول لابن هشام (ت218 هج)، وسيرة الرسول لموسى بن عقبة (ت141 هج) وسيرة الرسول لعبدالله الانصاري (ت 481)، وغالبيتهم مطعون بما كتبواوغير مرضي على عروضهم، لذا ادرجوا جميعاً تحت "نظرية الجرح والتعديل"، اي بيان العيوب والمديح جسب رأي الخلافة لا الدين، ولو قرأت لابن حجر العسقلاني الناقد الكبير(ت852 هج) وغيره من الفقهاء لدهشت لتلك القسوة والعنف الذي هوجم به كتاب السير ووصفهم بالمزورين، وهكذا لم يأتينا من النظرية الفقهية بكل توجهاتها الا، الضرر.

نعود لصلب الموضوع فنقول هل ان التشيع جاء بنص مقدس او برأي من الامام جعفر الصادق، والتسنن جاء برأي من الأمام ابي حنيفة النعمان، نتحداكم ان كتبتوا لنا نصا بذلك هم كتبوه بايديهم، مجرد نصوص نقلت عنهم بلا دليل، والتي خلفت لنا مشاكل الدين التي أنهت مجتمعاتنا الى ابد الابدين،

مدرسة الامام الصادق (ت148 هج) اول مدرسة اسلامية فقهية ولم تكن مدرسة خاصة بالمذهبية بل علمية ولاغير، ومن تلامذته المجتهدين هو ابو حنيفة النعمان (ت150 هج)، والخلاف بينهما كان على نظرية القياس التي ايدها ابا حنيفة النعمان ورفضها الامام الصادق لكنهما لم يكونا مختلفين في الدين ابدا، يقول الامام الصادق:"يشرفنا ان يكون ابوحنيفة النعمان منا أهل البيت"انظر فقه الصادق.

اما الاختلاف في الخلاف الديني لم يكن ابدأ له من أصل، فالخلافة كانت ابتكارا منذ البداية، لكنها كانت بحاجة الى دراسة وتنظيم، كونها رئاسة الامة لذا كان الاختلاف عليها منذ البداية لانها كانت مسئولية كبرى تركت دون تحديد مدة او مدى سلطة، وهذاالشرط لم يُعمل به طيلة عهد الخلافة الاسلامية حتى السقوط عام 656 هج، ان هذه التجربة لا تتفق وطبيعة الاسلام وتقع كامل المسئولية على الفقهاء الذين اهملوا شرط تحديد شروطها طواعية للسلطة لا الدين - اين المنهج الدراسي الجديد الذي كتبته السلطة - وترك الخلافة دون شروط هي المصيبة الكبرى التي حالت دون ضبط نظام الحكم في الاسلام، لذا كل ما نقرؤه لمفكري الاسلام في الموضوعات السياسية عائم وغامض وغير مضبوط،

ومن وجهة نظري الشخصية اننا لم نعرف الفكر السياسي المقنن المنظم الا بعد ظهوره في الغرب واخذنا منه مع ان القرآن كان فيه الكثير من التجارب التي تعتبر اسساً كبيرة وسليمة جدا لوضع نظام قانوني سياسي محكم، لكن السلطة الحاكمة قد وقفت ضد النظام القانوني منذ البداية لحصر السلطة بيدها والى اليوم فوقعنا في منزلق الخطأ الذي اعتبره الفقها دين، وهوليس بقانون ولادين، وهذا الذي تطور الى الصراع السياسي بين بني امية وبني هاشم الذي منه انبثق الخلاف الديني الباطل الي سموه بخلاف السنة والشيعة في الدين والى اليوم.

واذاكانت الخلافة منذ البداية هي اساس الخلاف فمعنى ذلك ان الدين نحي جانبا من اجل السلطة ولم تكن للكفاءة نصيب فيها ابداً، وهكذا تطور الخلاف اليوم الى هذا الخلاف العميق السرمدي الذي شطر المسلمين الى شطرين ما كانت ان تقع لو التزم الجميع في النص دون تحريف، والا كيف تنال الخلافة بالوراثة وهي التي حددتها الشورى بمسئولية رئيسية من مسئوليات الحكم في الاسلام.اما ان الرسول حددها في بني هاشم -كما تقول الشيعة - فتلك احاديث موضوعة من اجل فرقة المسلمين، فالرسول لا يحق له ترك الشورى التي جاءت بنص غير قابل للتغيير، وهكذا حصدنا ثمارها الباطل اليوم.

نحن نمراليوم بازمة سياسية قاتلة فعلا لاننا لم نعتمد على رجال العلم من المدونيين للروايات بصدق الصادقين، حتى اننا التزمنا بالحديث المبهم الذي يقول: " يحل دم المسلم اذا كفر بعد اسلامه فيقتل، او رجل زنى بعد احصانه فيرجم، او رجل قتل نفسا بغير نفسٍ ففيما أقتل، انظر الطبري ج4 ص378.,هنا نسوا ايات وماملكت ايمانهم كلها، وتزوجوا النساء الاسيرات بدون عقد احصان وباعوهن في الاسواق خلافا لانسانية الانسان، وقتلوا واسروا اهل البلاد المفتوحة دون قانون لكنهم امام الحقيقة يصمتون، فأين الدين الذي به يتحججون، واخيرا اقول:

ان الفقهاء كلهم دون تمييز نسوا او تناسوا ان يضعوا شروطهم في الخلافة والسلطة والدين وهي:

ان الامة هي التي تختار رئيس السلطة وهي التي تعزله اذا لم ترضَ عنه.

ان تحدد الخلافة او الرئاسة بمدة معينة لا تتخطى الخمس سنوات ثم يعود الامر للامة.

لم تحدد سلطة الرئاسة شروط الحكم بعد اهمالهم لشرعيته الدينية، وعدم استطاعة الخلافة ان تحكم في كل القضايا او في بعضها لقصر نظرها في الفقه، وكيف يتم اختيار موظفيها الكبار وفق شرط الحق والعدل، وهنا كان مقتلنا عندما اهمل الفقهاء هذه التنظيمات الشورية التي ذكرت في النصوص.

ولازال حكامنا الى اليوم يخالفون.

نحن المخالفون، اما اصحاب الديانات الاخرى نعدهم من الكافرين كما ندعي خطئاً لا انهم هم الملتزمون، هكذا هي المقاييس عندنا، قصدنا في الحقيقة هو ان يعرف القارىء والمسلم حقيقة ما كتبه الفقهاء من تدليس ومفتريات والى اليوم، وهم يحكمون بالباطل، لكنهم ينتظرون المهدي المنتظر ليملأ الارض عدلا وهم الحاكمون الفاسدون فلم لا يعدلون ان كانوا من المؤمنين به حقا وحقيقة، نعم، انهم هم اللاحقيقة في السياسة والدين، وهم ينادون بوحدة الامة فكيف تتحقق بمجرد شروط غير قابلة للتحقيق، اين العلماء اليوم والمتفيهقين ليقولوا لنا حقيقة نظام الحكم في الدين؟ ويستدركوا ترهات المذاهب الوهمية التي لا اصل لها في دين هم لا يعتقدون به، كفاية ضحكاً وتدليساً باسم الاسلام والمسلمين.

نحن نحترم شجاعة من يقول الحقيقة أو بعضها، عليك ان تطلب الحق وان قل. لى الكُتاب والمؤرخين ترك الروتين والانتقال لواقع الحال، الذي يقتضي كشف الحقائق تمهيدا للتغيير.

***

د.عبد الجبار العبيدي

أكثر ما يميز السياسيين الامريكان عن مثيلهم في دول العالم، هي تلك "الوقاحة"، التي يتميزون بها عن غيرهم، وكذلك أسلوب "المراوغة " واستخدام كل "الحيل" للوصول الى مبتغاهم، خدمة لمصالحهم الشخصية في المقام الأول، ويستمتعون و"يتلذذون "من اجل الوصول الى مبتغاهم "بالقتل والدمار"، فقتلهم اكثر من مليون طفل عراقي أيام الحصار، لم تحرك فيهم ذرة "الحياء" المتبقية عندهم، إن كان لديهم " حياء " أصلا، وقبل أيام، شاهد الجميع في العالم، ما قاله السيناتور الامريكي العجوز "الخرف"، من كارولينا الجنوبية ليندسي غراهام، (الذي زار كييف سرا مؤخرا)، وبابتسامته المتكلفة في حضرة " المهرج " فلاديمير زيلينسكي، وتفاخره، في الاستثمار في قتل الروس، وقال "الروس يموتون.. لم ننفق المال بهذه الجودة من قبل " .

قد يرى البعض في كلماتنا هذه بعض من المبالغة، لكننا وشعبنا، ذاق من " جرائم " الامريكان الكثير، بدءا من الحرب "الظالمة" التي شنوها على العراق العظيم، صاحب أكبر حضارة عرفها التاريخ، ليدمروا كل شيء حي، وكل حجر وبشر، وجعلوه منذ 20 عاما، بلد للفوضى والنهب والفساد، بمباركة من القيادة الامريكية، التي تتفاخر، بأنها حررت هذا البلاد، وأسست فيه ديمقراطية لم تعرفها منطقة الشرق الاوسط، كذلك " وقاحة الامريكان "، التي وصلت عند اليابان، حيث حضر الرئيس الأمريكي جو بايدن أجتماع مجموعة السبعة في هيروشيما، بعرض سيرك عبثي وحلبة للنفاق، يحاول الغرب من خلالها قلب كل شيء رأسا على عقب، ففي ذلك المكان، اسقطت أمريكا قنابلها النووية، لتحرق هناك كل شيء من البشر والحجر، دون أن يذكرها الرئيس الأمريكي بكلمة اعتذار عن "الجريمة" البشعة التي ارتكبتها الإدارة الامريكية السابقة، بل والإصرار على عدم كتابة هذا "الاعتذار" في سجل زيارات المدينة، وأجاب مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان، ب "لا"، ردا على سؤال أحد الصحفيين حول ما إذا كان جو بايدن يعتزم الاعتذار لرئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا عن تفجيرات هيروشيما وناغازاكي في أغسطس 1945، برأيكم، ألم تكن هذه قمة " الوقاحة " .

وجلبت انتباهنا وبشكل كبير، تعليق المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، وهي ترد على تصريحات هذا " العجوز الخرف "، ودعت غراهام الى استذكار ما جرى خلال محكمة نورمبرغ،  ففي هذه المحكمة كشف وزير الاقتصاد في ألمانيا النازية، هجالمار شاخت، أن الرايخ الثالث تمت رعايته أيضًا من الخارج، وسمى أكبر شركتين أمريكيتين، هما فورد وجنرال موتورز، وقد تم عقد صفقة غير معلنة معه (شاخرت) - الحرية مقابل الصمت، وأن الأسطورة الأسطورية هنري فورد، كان حائزًا على وسام الاستحقاق من النسر الألماني، (وقال هتلر لمراسل أخبار ديترويت قبل عامين من أن يصبح المستشار الألماني في عام 1933، موضحًا سبب احتفاظه بصورة بالحجم الطبيعي لصانع السيارات الأمريكي بجوار مكتبه: "أنا أعتبر هنري فورد مصدر إلهامي"- )، فهذه الشركة، لم تنتج مصانعها في ألمانيا ما يصل إلى 70 ألف شاحنة سنويًا لتلبية احتياجات الفيرماخت فحسب، بل استخدمت أيضًا عمالة السجناء لهذا الغرض، بما في ذلك أوشفيتز، وكانت شركة فورد الألمانية ثاني أكبر منتج للشاحنات للجيش الألماني بعد جنرال موتورز / أوبل، وفقًا لتقارير الجيش الأمريكي .

وقال مسؤولون بولنديون إن وثائق النازية التي صدرت حديثًا، تظهر أن شركة فورد موتور، كانت واحدة من 500 شركة لها صلات مع أوشفيتز، وكانت قائمة الصناعات المرتبطة بأوشفيتز من بين وثائق الحقبة النازية التي سلمتها موسكو مؤخرًا، حيث تم الاحتفاظ بأرشيف المعسكر منذ نهاية الحرب، والدعوى المقامة ضد شركة فورد، وهي الأولى من نوعها ضد شركة أمريكية، مستوحاة من نجاح الضحايا النازيين في تأمين تعويضات من البنوك السويسرية التي استفادت من ودائع النازيين في زمن الحرب .

وتتجاوز القضايا المطروحة على المحك بالنسبة لشركات السيارات الأمريكية المبالغ المتواضعة نسبيًا التي ينطوي عليها رفع أي دعوى قضائية، فخلال الحرب، أسست شركات السيارات لنفسها سمعة باعتبارها "ترسانة الديمقراطية"، من خلال تحويل خطوط إنتاجها إلى طائرات ودبابات وشاحنات، وإنهم ينكرون أن مصالحهم التجارية الضخمة في ألمانيا النازية قادتهم، عن قصد أو عن غير قصد، إلى أن يصبحوا أيضًا "ترسانة الفاشية".

أما أيقونة صناعة السيارات الألمانية، أوبل، فهي تنتمي إلى جنرال موتورز، ويصف الباحث برادفورد سنيل دور الشركة على النحو التالي: "كانت شركة جنرال موتورز أكثر أهمية لآلة الحرب النازية من البنوك السويسرية، فقد كانت سويسرا مجرد مستودع للأموال المسروقة، وكانت جنرال موتورز جزءًا لا يتجزأ من المجهود الحربي الألماني، حيث كان بإمكان الرايخ الثالث غزو بولندا وروسيا (اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية) دون مساعدة سويسرا، لكنهم لم يستطيعوا فعل ذلك بدون مساعدة جنرال موتورز، في حين صنعت شركة كوداك في مصنعها بألمانيا صمامات للقنابل الجوية، دون ازدراء حتى باستخدام عمل أسرى الحرب، وكان مصنع Coca-Cola في كولونيا وقبل تأميمه من قبل الحكومة الألمانية يزود بانتظام بالصودا، بما في ذلك الجنود الألمان، و"فانتا" الشهيرة اخترعها النازيون بالكامل.

كما وساعدت شركة النفط العملاقة Standard Oil، من خلال الشركات التابعة لها، هتلر في نقص المنتجات البترولية، وشاركت في تطوير المطاط الصناعي والوقود الصناعي، وأنتجت شركة IBM، المحبوبة من قبل خبراء تكنولوجيا المعلومات في جميع أنحاء العالم، أجهزة محاسبة وتحكم للنازيين، بما في ذلك إنتاج النفط، ومن بين أمور أخرى، ساعدت معدات هذه الشركة في تتبع مواعيد القطارات إلى معسكرات الموت ...

وكان لدى JPMorgan Chase & Co أيضًا يد، ثم Chase National Bank، الذي تم من خلاله تنفيذ معاملات بمليارات الدولارات، وأتيحت الفرصة لبرلين لشراء الدولارات وتنفيذ المعاملات المالية ما وراء البحار، وتعاونت "تشيس" مع بنك "ألاينس" الألماني حتى في أمور مثل، تأمين الممتلكات والحياة لحراس معسكرات الاعتقال التابعة للرايخ الثالث، اذن لدى السناتور غراهام ما يمكن مقارنته به، فقد أدى أحد استثماراتهم إلى الحرب العالمية الثانية والمحرقة، والآن، تتدفق مليارات الدولارات الأمريكية في الحلق النهم لنظام النازيين الجدد في كييف، وفي هذا الصدد، وتخاطب زاخاروفا غراهام " نود أن أذكر أعضاء مجلس الشيوخ وجميع المستفيدين الأمريكيين كيف انتهت المغامرة السابقة".

وخلال سنوات الحرب، ذهب التعاون المالي بين ألمانيا وسويسرا في عدة اتجاهات ن بادئ ذي بدء، مولت البنوك السويسرية مشتريات ألمانية من الأسلحة المصنعة في سويسرا، بمبالغ القروض التي تتزايد باستمرار، لذلك، إذا حصل الألمان على 150 مليون فرنك سويسري طوال عام 1940، فقد حصلوا على 315 مليون فرنك سويسري في فبراير 1941، وفي يوليو من نفس العام - 850 مليونًا أخرى، وكان الألمان سعداء بشراء مدافع Oerlikon متعددة الماسورة المضادة للطائرات، في حين لم يفاجأ الجنود الامريكان عندما دخلوا المانيا، وهم يرون ان العدو المزعوم يقود أيضًا شاحنات تصنعها Ford وOpel -، وهي شركة فرعية مملوكة لـ GM بنسبة 100٪ - ويطير بطائرات حربية من صنع أوبل، (كان دور كرايسلر في جهود إعادة التسلح الألمانية أقل أهمية بكثير).

وسويسرا التي صمدت لأطول فترة، ورفضت بعناد قطع العلاقات مع ألمانيا، ففي عام 1944، استبدلت البنوك السويسرية حوالي 5 أطنان من الذهب الألماني بالعملة كل شهر، وفي فبراير 1945، جمدت سويسرا علنا رسميًا الحسابات الألمانية وأوقفت المعاملات المصرفية مع ألمانيا، لكنها في السر استمرت في المعاملات المالية السرية، وتم غسيل الأموال النازية في البنوك السويسرية، ثم تم تحويلها إلى بنك الفاتيكان، ومن هناك ذهبت إلى أمريكا الجنوبية، وخاصة إلى الأرجنتين، فقد تم تحويل جزء من الأموال إلى بوينس آيرس وعواصم أخرى في أمريكا الجنوبية من خلال بنوك إسبانيا والبرتغال.

وإذا كانت السويد ملحقًا صناعيًا للاقتصاد الألماني، وكانت سويسرا أيضًا محفظة، فقد زودتها إسبانيا والبرتغال بالموارد اللازمة، فقد كانت دول شبه الجزيرة الأيبيرية محمية من الغزو الألماني من خلال نظامها السياسي، واشتهر الديكتاتور الإسباني فرانكو بوصوله إلى السلطة في حرب أهلية دامية، ودين بالكثير لهتلر وموسوليني، من ناحية أخرى، وبفضل إسبانيا أصبحت الموانئ الإسبانية أهم نقطة عبور للواردات الألمانية، وتمكنت ألمانيا من التجارة حتى مع أعدائها، بينما أنشأ الزعيم البرتغالي أنطونيو سالازار نظامًا قمعيًا يذكرنا بشكل غامض بالفاشية الإيطالية.

وتتساءل زاخاروفا، ونحن معها، هل تعتقدون أن السناتور الأمريكي غراهام وحيد في خطابه النازي؟ أم أنه استثناء قبيح؟ لأن النظام الأمريكي لا يستطيع أن ينتج مثل هذا الوحش؟، وللتذكير وكما تشير المتحدثة باسم الخارجية الروسية الى المحادثة التي اجراها المخادعين فوفان ولكزس، قال جورج دبليو بوش (الأصغر في سلالة الرؤساء الأمريكيين) هذا بالضبط، معتقدًا أنه كان يتواصل مع نظام كييف: "مهمتك هي قتل أكبر عدد من الروس ان امكن "، وبعد أن أعلن هذا في المؤتمر الصحفي بدأت الدعاية الأمريكية في الظهور، مؤكدة أن بوش لم يكن في السلطة، وحتى ان كانوا في السلطة وبوش وغراهام، لذلك ما زالوا لا يقولون كل ما هو مكتوب في الوثائق العقائدية الأمريكية.

***

بقلم: الدكتور كريم المظفر

لا يكفي القول إن فينيسيوس جونيور يجيد لعب كرة القدم بمهارة فائقة فحسب. ما يقدمه هذا الفتي الجميل هو ضرب من ضروب الفن في أكثر تجلياته روعة وفرادة. وصلة رقصته الشهيرة بعد أن يسجل هدفاً ليست سوى مشهد أخير من حفله الأكثر إبهاراً. نعم. فأداؤه فوق المستطيل الأخضر هو بذاته عبارة عن رقصة فرح مليئة بالعفوية، والشغف، مشهد نادر يذكرك بلمسات أبطال كبار افتقدهم العالم بأسره، أبطال من قبيل بيليه، ودييغو مارادونا. أولئك الذين ندين لهم بالكثير، لأنهم جعلوا حياتنا أكثر بهجة.

"فيني" نجم نادي ريال مدريد، البرازيلي ذو الثانية والعشرين ربيعاً هو آخر النجوم الاستثنائيين في عالم الساحرة المستديرة. هو، أيضاً، وأقولها بلا مبالغة أكثر إنسان يتلقى اليوم هجمات عنصرية بسبب لون بشرته. وما تعرض له في ملعب فالنسيا ليس سوى فصل من فصول الكراهية البغيضة التي تلاحقه منذ وصوله للعب في أوربا. يومها، كان بالكاد قد أكمل السابعة عشرة من العمر. ربما يكون قد خمن في بدء انتقاله أنه سيواجه هجمات مسيئة من مجموعة مراهقين، أو مشجعين شبه مخمورين، قياساً على ما تشهده الملاعب في السنين الأخيرة. لكن لا هو، ولا أحد سواه تخيل مشهد الليلة المخزية التي حصلت في استاد الميستايا، مجاميع من جماهير فالنسيا تصرخ بحقد طافح في وجه فينيسوس جونيور: "قرد...قرد. أحمق.. أحمق. الموت لك. ابن العاهرة"!.

طوال السنتين الماضيتين كان على فينيسيوس أن يواجه عنفاً أخر بالغ الخطورة، كالحركات الصبيانية، والكلام البذيء الذي يجابهه به المدافعون بغية استفزازه، وكتعمدهم إلحاق الأذى به بلعبهم الخشن. مما يؤسف له أن هذا العنف أصبح جزءاً من الخطة التكتيكية لمدربي الفرق المنافسة. في سبتمبر الماضي اتجه فينيسيوس نحو خافيير أغيري مدرب فريق ريال مايوركا، ليدخل معه بمشادة، بعد أن سمع هذا الأخير وهو يحرض لاعبيه ضده، قائلاً لهم بصراحة: "اضربوه، اضربوه"! كم هو بائس هذا الذي يسمي نفسه مدرباً كبيراً. عجز عن ايجاد طريقة للحد من مهارة فينيسيوس في المراوغة، وتسجيل الأهداف فاستعان بخطة زعيم مافيا مبتدئ.

لنتذكر أيضاً تلك الإساءات المعيبة في وسائل التواصل الاجتماعي. ومثال واحد هنا كاف جداً. ذلك المثال عبارة عن كلام قاله -قبل أن يقدم اعتذاراً أشدَّ قبحاً من ذنبه- بيدرو برافو رئيس اتحاد وكلاء كرة القدم الإسبانية. قال بالنص: (فينيسيوس، يجب أن تحترم الخصوم. إذا كنت ترغب في الرقص فعليك الذهاب إلى "سامبا دروم" في البرازيل. أما في إسبانيا فعليك احترام الآخرين، والتوقف عن لعب دور القرد)!. يا لها من كراهية!  نرجسية مقهورة تريد كسر المقابل عبر تجريده من آدميته. تماماً مثلما كان بعضهم يلقي الموز باتجاه داني ألفيس لاعب نادي برشلونة السابق. برغم ذلك كله، وخلال موسمين فقط، نجح فينيسيوس بفرض بصمته الفريدة، حجز لنفسه مكان القمة مع مبابي ونيمار. وفي رأيي أن فيني سيتفوق عليهما سريعاً، إن مضت الأمور بسلام.  لقد كان هذا الفتى يواصل العمل بجهد، ولا يتورط بالكلام الكثير، كحال كثيرين ممن استهلكتهم الشهرة السريعة.

أين يكمن أساس المشكلة التي يكابدها فينيسيوس تحديداً، أهي في رقصته بعد إحرازه هدفاً، على اعتبار أنها تثير حنق لاعبي وجماهير الفرق المنافسة، أم هي في لون بشرته؟ لا هذا، ولا ذاك. في الواقع، يعود الأمر لمهارته الاستثنائية. إنه يداعب الكرة بأسلوب فني أنيق، بسيط ظاهرياُ لكنه موغل في الذكاء العقلي والبدني، مزيج من براعة في توظيف السرعة، وفي تطويع الجسد، وابتكار حلول لا يتوقعها أحد. شاب يمتلك تركيزاً ذهنياً عالياً، لا يخاف، أو يتراجع حتى حين يحيط به دفاع الفريق المنافس بأكمله. مع أنه يلعب وسط محيط عدائي حين يكون خارج السانتياغو برنابيو.

أفكر تحديداً في كم الحرج، والخيبة التي يشعر بها مدافعو الفرق المنافسة. إن قوة أجسامهم التي تفوق بنية فينيسيوس جونيور، وتربصهم به حتى وهو بعيد عن الكرة، واندفاعهم القوي لحظة تمريرها باتجاهه تصبح كلها بلا أية جدوى. سيكتفي "فيني" بلمسته المفضلة ذات الطابع الاستعراضي الجميل، لن يمس الكرة أصلاً، سيلجأ للتمويه، يعبر من فوقها فقط، ثم يستدير باتجاه المرمى بسرعة فائقة، تاركاً خلفه قطارات حديدية ذاهبة بالاتجاه المعاكس. وحين يندفع نحوه مدافعان متأخران، يختار فينيسيوس الحل الأصعب، سيمر بينهما برشاقة عجيبة، أو يمرر الكرة من بين قدميهما، ثم يودعها في المرمى. هذا السيناريو المبهج، هذا الفن الجميل، مضافاً إليه رقصة فرح بريئة يسميه بعضهم "عدم احترام للآخرين"، أما العنصرية الموجهة ضد فينيسيوس فهي محض شتائم عادية، لا قيمة لها! الحق أن كرة القدم تبقى لعبة، وإن أراد الكثيرون أن يجعلوا منها حرباً. ولأولئك الذين لا يجيدونها، أو لا يتحملون الخسارة فيها أن يفتشوا لأنفسهم عن مهنة أخرى. لقد صاروا يعرفون أن فينيسيوس جونيور لا ينكسر بسهولة. وهذا في الحقيقة هو أكثر ما يستفزهم فيه.

لسنوات طويلة راهن الكثيرون على أن كرة القدم يمكنها الاسهام  في الحدِّ من مشاعر العنصرية، وأن تنجح فيما فشلت فيه السياسة، فتقرب المسافة بين الثقافات. غير أن الأحداث الحزينة التي شهدتها ليلة أمس سخرت من رومانسية ذلك الرهان. فجأة، أعادتنا تلك الهتافات المتعصبة إلى ما اعتقدنا أنه صار جزءاً من ماضٍ فحسب، إلى أوهام المركزية الأوربية، وأسطورة العرق المتفوق. كيف يمكن للاعب في الثانية والعشرين أن يكمل مسيرته الكروية في فضاء يعج بهذا الكم الهائل من الكراهية؟ كيف يمكن للآباء أن يسمحوا لأولادهم بمتابعة تسليتهم المفضلة المتمثلة بالدوري الإسباني بعد أن صارت مسرحاً للبغضاء؟ كان فينيسيوس محقاً بتغريدته البليغة التي أعقبت المباراة: إنها ليست كرة القدم. إنها الليغا "الدوري الإسباني".

بالمناسبة، لا يزال ممثلو النخب العربية المثقفة، وصناع الرأي المؤثرون يتعالون على مقاربة عالم كرة القدم. لا يدركون خطورة دورها، ولا تأثير الموجات المتصاعدة للعنصرية، ورهاب الأجانب، تلك التي تتسرب إلينا بمنتهى النعومة لتصبح سلوكاً عادياً، لا يثير الاشمئزاز، إن لم يجد بعضهم  في تبادل اللكمات والشتائم بين اللاعبين، وبين الجمهور ما يضفي مزيداً من الإثارة. لن تكون العواقب في صالح أحد. فهذا الجهل المتزايد، هذا الجبن، والسكوت غير المبرر سيحرك النار التي تخفيها طبقة رقيقة من رماد حداثة زائفة، يسوقها رأسماليو كرة القدم، ويتشربها أولادنا بشكل يومي بواسطة الفضائيات، والسوشيال ميديا.

يستحيل على كل أولئك المتعصبين بتنمرهم النزق أن يفهموا من هو فينيسيوس جونيور الإنسان، أو يصدقوا بعفوية فرحته، فضلاً عن أن يدركوا معنى كرة القدم بوصفها لعبة شعبية ممتعة، وتمريناً تشاركياً يؤهلنا لنكون بشراً متحضرين. إن مدى براعتنا - شجاعتنا في الأصح – هو في أن نؤمن بشدة بضرورة الوقوف بوجه ما يحصل. من دون إيقاظ الحس الأخلاقي سوف نشهد عالماً تعود فيه تنظيمات العصابات العنصرية على طريقة "الكو كلوكس كلان" لا ليتمددوا من جديد في أميركا فقط، ويدعموا زعيماً شعبوياً  كارهاً للتعددية مثل دوناد ترامب، بل لتنتشر أشباحهم في كل مكان من عالمنا العجيب. في الواقع، لقد شهدنا بعضاً منهم في استاد الميستايا. هم، فقط، لم يكونوا يرتدون أقنعتهم المخروطية البيضاء.

وأنا أكتب هذه الكلمات على عجل، أسمع أن الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا قد أصدر بياناً يدين فيه الهجمة المشينة تجاه مواطنه. أعقبه في ذلك جياني إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، مع عدد آخذ بالتزايد من المشاهير، والناس العاديين. إذن، فينيسيوس جونيور في طريقه ليصبح الإيقونة الأكثر شهرة للوقوف بوجه العنصرية. لكن، وبالتزامن مع ذلك، يلوم خافيير تيباس رئيس رابطة الدوري الإسباني الضحية، ويتناسى الجناة، هو، الذي يعلم جيداً بأن الهجمات العنصرية في الموسم الحالي بلغ عددها تسعاً، وثمان منها كانت موجهة ضد فينيسيوس جونيور!

قبيل رحيله المحزن، عبر بيليه عن تضامنه التام مع فينيسيوس جونيور، وشاركه في موقفه هذا نجوم آخرون، دعموا النجم الشاب، واستنكروا استهجان بعضهم لحقه في أن يرقص. يومها، وصف "الجوهرة السوداء" كرة القدم بأنها متعة، "رقصة"، حفلة حقيقية. وسرعان ما غرد فينيسيوس قائلاً: "لن أتوقف عن الرقص، سواء أكنت في سامبا دروم أم في البرنابيو. سأرقص أينما أريد". فينيسيوس هو ابن الثقافة البرازيلية الجميلة، ابن كرنفالات الفرح التي تجوب شوارع الأحياء الفقيرة، حيث يرقص الكبار والصغار، حتى وهم لا يملكون ثمن وجبة العشاء. ثقافة تحترم التنوع بالفطرة، لا برطانة التنظير التي تلوكها أوربا العجوز، أوربا الباردة كالجليد، من أين لها أن تستشعر دفء السامبا؟  فينيسيوس جونيور. فيني. كلنا بانتظار رقصتك القادمة.

***

عباس عبيد - أكاديمي وباحث من العراق

في العقدين الاخيرين انتشرت على نطاق واسع مفاهيم تحررية وأصوات تدافع عن حقوق الانسان وحكم القانون وحرية الفرد في المعتقد والتفكير والتعبير، وضرورة الانفكاك من كل القوى الخارجيه المعيقة للحريات، ان كانت من قبل الدولة أو المجتمع أو الدين أو التقاليد. بالطبع تعتبر تلك الشعارات تقدمية نبيلة، وقد تم نشرها بحماس من قبل النخب المثقفة والإعلام والسوشيال ميديا، وسرعان ما وجدت لها صدىً واسعاً بين أفراد المجتمع المتعطشين للحرية عقب عقود طويلة من انسحاق الفرد والقمع والمقابر الجماعية والحروب. ولكن ما هو اشكالي ان تلك المفاهيم والقيم النبيلة تنسب الى الليبرالية الرأسمالية حصراً، مما يثير جملة من الاسئلة، احاول هنا ان اجد اجابات لها.

هل لليبرالية حق مصادرة تلك المنظومة من القيم والمفاهيم التقدمية وادعاء ملكيتها حصرياً؟ وهل تمتلك اللبرالية (وخاصة أجندتها الاقتصادية أو ما يسمى باللبراليه الجديدة) جذورا ضاربة في ثقافة المجتمع العراقي وتاريخه السياسي الحديث؟ أم هي مثل شجرة اصطناعية في اعياد ميلاد (ديمقراطية اميركا)؟ وهل تنسجم مواقف ومتبنيات الليبرالي العراقي مع الرؤية الفلسفية لنظيره الاوربي، أم مازال متشبثا بنسق من المفاهيم والافكار المشتبكة ببعضها في سياق متناقض؟

للأجابة على تلك الأسئلة لنرجع أولاً الى منشأ الفكر الليبرالي في اوربا بالقرن السابع عشر عقب الثورة الصناعيه وبداية صعود الطبقة البرجوازية الصناعيه والتجارية.

كي تشق الرأسمالية طريقها في أول صعودها وفي خضم كفاحها ضد الاقطاع، كانت بأمس الحاجة الى قوانين تحرير التجارة من القيود، واطلاق حرية اليد العاملة لانها بحاجة ملحة لقوة عملها، وحماية الملكية الفردية لحماية رؤوس أموالها. من هنا جاءت دعوات فلاسفة التنوير لاطلاق الحريات الفرديه وحكم القانون وكان الرائد في هذا المجال جون لوك.

لقد كانت التجارة عرضه لتدخلات الدولة الاستبدادية ممثلة بثلاثي الملك والكنيسة واللوردات الإقطاعيين، والملكية الفردية غير محمية وعرضه للمصادرة من قبل السلطة وأصحاب النفوذ، أما الايدي العاملة فهي الاخرى ليست حرة، فالعوائل بأجيالها المتعاقبة تعمل في نفس المكان لصالح اللورد أو الكنيسة أو الملك وحاشيته ولا خيارات اخرى امامها. لذا طالب جون لوك بضمان الحق الطبيعي للفرد بالحياة ضمن عقد اجتماعي، والمساواة أمام القانون واطلاق الحريات الفردية وعدم تدخل الدولة بالسوق وحماية الملكية الفرديه. (يشترط جون لوك على مشروعية الملكية الفرديه أن تكون من ناتج عمل المالك، ولكنه يضيف - وهنا المفارقة- "ان ما ينتجه عبدي هو من ضمن ملكيتي").

هل هذا يعني اننا مدينون لليبرالية الرأسمالية فيما حققته النظم السياسية اليوم من تشريعات لحقوق الانسان والمساواة امام القانون والمشاركة السياسية للعامة؟ ليس تماماً وربما العكس، فقد كانت النظم الرأسمالية تحرص على ان تكون تلك الحقوق للرجال دون النساء، للبيض دون السود، وللملاك دون الأغلبية التي لا تملك من الثروة شيئاً. ولم تتوسع دائرة الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأنسان المعاصر إلا بفضل كفاح منظمات الدفاع عن الحقوق المدنية وانهاء العبودية، والحركات النسوية ونضالات الاحزاب والنقابات عبر تاريخ طويل تخللته ثورات واحتجاجات قمعتها النظم الرأسمالية الحاكمة وراحت ضحيتها أعداد كبيرة من الشهداء. اذن لا يحق لليبرالية احتكار تلك المنجزات الحضارية والادعاء بملكيتها حصرا.

نشأت اللبرالية الاوربيه وتطورت عبر العصور من القاعدة الى القمة عبر حراكات شعبية وتحولات اقتصادية اجتماعية، وقد نجحت في ترسيخ أفكارها وقيمها في ثقافات مجتمعاتها، ومن باب المقارنة اقتحمت الليبرالية الفضاء الثقافي في العراق بعد 2003 كايديولوجيا نخبوية، روجت لها فئه من المثقفين والاكاديميين في حملة تبشيرية شاركت فيها مراكز صناعة الرأي ومنظمات غير حكومية NGOS- اغلبها ممولة من قبل المركز الرأسمالي- لتهيئة بيئة ثقافية مناسبة لرأسمالية متوحشة يرزح المواطن فيها تحت رحمة قوانين السوق والتجارة وخصخصة الخدمات وتقويض مؤسسات الرعاية الاجتماعية، تلك السياسة الاقتصادية التي آل تطبيقها في معظم الدول النامية الى تدني نسبة النمو الاقتصادي وزيادة في الديون الخارجيه وصعود طبقة أوليغاركيه فاسدة وفاحشة الثراء وأغلبية غارقة في فقر مدقع.( البلدان التي نجحت في تطورها الرأسمالي هي تلك التي رفضت وصفة اللبرالية الجديدة وأبقت أسواقها الرأسمالية تحت رقابة وتخطيط الدولة وخلقت توازناً ما بين النمو والرعاية الاجتماعية كالصين والنمور الآسيوية وقبلها اليابان والمانيا)

اللبرالية - وخاصة في جانبها الاقتصادي ودعوتها للفردانية المتطرفة- لا تنسجم مع الهوية الثقافية للمجتمع العراقي. قد تتعرض المجتمعات في مراحل تاريخية معينة الى أنكسارات تعرض هويتها الثقافيه الى بعض التشوهات، ولكن عاجلاً أو آجلاً لابد أن تستعيد ثقتها بذاتها وتحقق تماسكها مستلهمة قوتها من ثراء تراثها الذي يمثل ركيزة أساسية وذاكرة حية للفرد والمجتمع. الهوية الثقافية الحقيقية للفرد والمجتمع العراقي منحازة للفقراء ومفعمة بروح التشارك والتضامن الجماعي وتستهجن الانانية والنزعة الفردية التي تبشر بها اللبرالية الرأسمالية، هوية تشكلت مما تراكم في الذاكرة الجمعية من كفاح ضد الاستغلال ولنصرة الفقراء، من مشاعية المسيح وابي ذر الغفاري، مروراً بالقرامطة وثورة الزنج إلى نضالات الأحزاب والحركات السياسية ضد الاستعمار البريطاني والاقطاع المتخادم معه وعبر مسيرة طويله من الكفاح دفاعاً عن حقوق الطبقات والفئات المهمشة، وقد انعكس ذلك في الارث الادبي والفني الذي كان له دور مميز في رسم ملامح الهوية الثقافيه. ولم يعرف تاريخ العراق الحديث حركات سياسية ذات شعبيه يعتد بها تنتهج المذهب الليبرالي الرأسمالي، (يصنف البعض الحزب الوطني الديمقراطي خطأ كحزب ليبرالي وهو في الحقيقة أقرب في برنامجه الى الأحزاب الاشتراكيه الديمقراطية).

المواقف التي يعلن عنها اللبراليون في الاعلام والسوشيال ميديا ثكشف عن تناقضات حادة، لا تنسجم أحياناً حتى مع اسس المذهب اللبرالي، ربما يعود ذلك الى عدم اتساق اللبرالي العراقي مع هويته الثقافية أولاً، والى محاباة القوى الخارجية التي تقدم له التسهيلات أو التمويل ثانياً، ولم يعد خفياً أن الغرب الرأسمالي من جهة وحكومات الخليج في المنطقة من جهة اخرى من أكبر الداعمين لدعاة اللبرالية. بالطبع الدعم من قبل الغرب الرأسمالي واضح الاهداف ومنسجم مع الأجندات السياسية والاقتصادية لتلك الحكومات، ولكن ما نشهده في العقد الأخير أن حكومات الخليج تغدق أموالاً على الكتاب والمفكرين وتقوم بانشاء مراكز دراسات واقامة المحافل الثقافية وشراء الصحف والقنوات الفضائية لترويج  الفكر اللبرالي الذي لا يتسق أصلاً مع سياسات أنظمتها القروسطية، ولكنها حريصة على تسويق صورة متحضرة لأنظمتها، كما أنها تستثمر ولاء المثقفين الليبراليين لدعم مواقفها في صراعاتها مع خصومها واسكات الاصوات الناقدة لسياساتها، وهي مطمئنه من أن الليبراليين لا يمكن ان يكون لهم من التأثير ما يهدد أنظمتها.

جولة سريعة في بعض مواقف دعاة اللبرالية تكشف عن سعة المسافة بين الشعارات النظرية والمواقف الحقيقيه.

حرية التعبير وحقوق الانسان:

حرية التعبير مقدسة لدى اللبرالي العراقي اذا كنت على وفاقٍ مع ما يراه، وبغير ذلك تراه يستحضر حزمة من آليات القمع الناعمة لأسكات المختلف واصدار أحكام جاهزة ورادعة على شاكلة( فكر مؤدلج، نظرية مؤامرة، فلسفة عفا عليها الزمن... الخ). بالطبع لا يمكننا انكار الأصوات اللبرالية الصادقة ضد انتهاكات حريه التعبير من قبل النظام الايراني وأذنابه من الاحزاب الميليشياوية في العراق، إلا ان تلك الاصوات تخفت أو تختفي تماماً حين يتعلق الامر بانتهاكات حرية التعبير أو حقوق الانسان من قبل انظمة اخرى (صديقه)، على سبيل الأمثلة لا الحصر: لم نسمع همسة تضامن لإطلاق سراح جوليان أسانج أو تبرئة سنودن، أو اي صيغة استهجان لحجب كل وسائل الاعلام الروسية في اميركا واوربا (بلدان العالم الحر وفردوس الديمقراطية وحرية التعبير)، أو الحكم 34 عاماً بالسجن على سلمى شهاب بسبب تغريدة في مملكة التعزير بالسيف وتقطيع أوصال المعارضين، صمت ازاء تجويع وابادة الشعب اليمني، أما قتل الفلسطينيين العزل وهدم بيوتهم وسلب مزارعهم لتوسيع المستوطنات ومعاناة الحصار والسجون كل ذلك يقع خارج سياق اهتمامات اللبرالي وهو يقف منبهراً أمام أكبر برج في العالم بناه شيخ المطبعين.

-  الموقف من التراث:

توجه عدمي لنبذ التراث واعلان القطيعة مع تأريخنا وتفتيت هويتنا الثقافية، بزعم ان تأريخنا ملوث بفيروسات الاستبداد والارهاب وإن كل فرد منا يحمل داخله إرهابياً صغيراً، موقف متناغم مع الحملة العنصريه لليمين المتطرف ويعارضها بشدة حتى لبراليو الغرب. تلك الاحكام المتعجلة وشيطنة الذات تستند إلى تحليلات كسولة تقصي الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لظاهرة الارهاب.

- الموقف من الاحتلال الامريكي:

بينما يتغنى اللبراليون بالشعارات الوطنية، لايفوتهم -بالتصريح أو التلميح- استحسان بقاء العراق تحت الوصاية الامريكيه التي ستخرج البلاد من النفق المظلم، وتفتح الابواب لبناء عراق مزدهر!! تلك الصيغة المتناقضة لمفهوم الوطنية لم يألفها القاموس السياسي قط عبر تأريخ الأمم التي عانت من الاحتلالات الأجنبية، وقد يكون هذا ما شجع فئه واسعة منهم لزيارة التاريخ الحديث وبناء صورة متخيلة لتمجيد فترة الاستعمار البريطاني وتلميع دور الشخصيات السياسية المتخادمة معه، والطعن بالشخصيات والاحزاب الوطنيه المكافحة من أجل الاستقلال آنذاك.

تلك عيّنه من مواقف جمّة تكشف عن تناقضات حادة في الخطاب السياسي لدعاة اللبرالية وتؤشر للهوّة الواسعة بين النظرية والممارسة، لذا يتعين عليهم اعادة قراءة خطابهم السياسي لتحقيق درجة معينة من الاتساق بين الشعارات ومصداقية  المواقف على أقل تقدير.

***

قصي الصافي

في الاول من يونيو من هذا العام، صرح رئيس الوزراء الاسرائيلي؛ ان اسرائيل سوف تقوم، بكل ما هو ضروري لمنع ايران من ان تمتلك السلاح النووي. في اليوم التالي لهذا التصريح؛ ألغت الخارجية الامريكية، او انها علقت زيارة لوزيرها الى الكيان الاسرائيلي، وقد ربط المراقبون هذا الإلغاء او التعليق بالموقف الامريكي من برنامج ايران النووي. ان هذا التصريح لم يكن هو الاول من نوعه، سواء منه او من بقية المسؤولين الاسرائيليين وحتى الامريكيون، خلال العقدين الماضيين، لم يقما او ينفذا (امريكا واسرائيل) ما هددا به ايران خلال هذين العقدين، سوى البعض من الاعمال المخابراتية في الداخل الايراني، سواء كانت هذه الاعمال باستهداف علماء ايران او المواقع النووية الايرانية، اما بخلاف هذا، فلم تطلقا حتى لو طلقة مسدس على ايران. في هذا الوقت، أو خلال هذه العشرين سنة الماضية الى الآن؛ يواصل البرنامج النووي الايراني تطوره حتى بلغ اخيرا ما بلغ. في تزامن لتصريح نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي، او قبل  هذا التصريح بأيام؛ ترددت الانباء على ان سلطنة عُمان تقوم بواسطة او انها صارت كما هو ديدنها، خلال كل السنوات السابقة، بالقيام بالواسطة بين ايران وامريكا؛ حلقة وصل للمفاوضات غير المباشرة، بين ايران والولايات المتحدة الامريكية، حول اعادة العمل بالصفقة النووية بين ايران والولايات المتحدة الامريكية، او ان الاصح بين ايران والدول الكبرى المشاركة بالصفقة النووية مع ايران، والتي نفاها الجانب الامريكي. ان هذا النفي من وجهة نظري المتواضعة؛ لا يلغي حقيقة وجودها، بل ان هذا النفي يؤكدها. الوكالة الدولية للطاقة الذرية وفي ذات التوقيت، واثناء زيارة رئيسها والوفد المرافق له، الى ايران، قبل ايام من تصريح نتنياهو؛ اكدت من ان الملف الخلافي لبقايا اليورانيوم المخصب بدرجة اكثر من 80%، والتي تدعي الوكالة من انها عثرت عليه في وقت سابق في احد المواقع النووية الايرانية السرية، والتي لم تكشف ايران عنها، والتي تم كشفها للوكالة الدولية للطاقة الذرية من قبل عملاء ايرانيين يعملون لصالح المخابرات الامريكية والاسرائيلية؛ تم طي صفحته، ولم يعد ملفا خلافيا. كما انها اي لوكالة الدولية للطاقة الذرية، اوردت عن فحوى زيارتها الأخيرة الى ايران، أو النتائج التي توصلت إليها مع ايران؛ ان ايران وافقت على اعادة نصب كاميرات في مواقع نووية محددة، التي كانت ايران قد رفعتها في وقت سابق، بالإضافة الى مواقع جديدة اخرى. الخارجية الاسرائيلية في تعليقها على اغلاق ملف اليورانيوم المخصب، ونصب الكاميرات، وتعاون الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع ايران في التوصل الى حلول حول البرنامج النووي الايراني، وايجاد قاعدة عمل مشتركة؛ تتيح لمفتشي الوكالة الدولية، مراقبة الموقع النووية الايرانية؛ قالت في هذا التعليق، من ان الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ تعرضت للضغط السياسي الايراني. الحقيقة ان الوكالة الدولية لم تتعرض للضغط السياسي الايراني، لأن الأخيرة ليس في حوزتها مثل هذه الادوات للضغط السياسي، بل ان الضغط هو امريكي صرف؛ لإيجاد او توفير اجواء لأبرام صفقة جزئية ومرحلية بين ايران وامريكا؛ لمراقبة برنامج ايران النووي، إنما الخارجية الاسرائيلية؛ لا تريد ان توجه اتهاما الى امريكا بايدن؛ كي لا توتر علاقتها مع امريكا بايدن، على ما فيها حاليا من تأزم وتوتر. ان هذا التأزم او التوتر بين اسرائيل نتنياهو وطاقمه العنصري وامريكا بايدن؛ لا يؤثر بالمطلق على التحالف بينهما، او الاصح والادق توصيفا؛ الالتزام الامريكي بحماية اسرائيل وضمان تفوقها العسكري وفي غيره من مجالات التطور على جيرانها العرب. ان المفاوضات الايرانية الامريكية غير المباشرة، بواسطة سلطنة عُمان؛ تهدف الى اعادة احياء الصفقة النووية، جزئيا ومرحليا، كما اشارت الى ذلك الكثير من التقارير الصحفية، سواء الامريكية او الروسية او غيرهما. ايران حتى هذه اللحظة لم تعلق على هذه التسريبات. الولايات المتحدة الامريكية سواء هذه الادارة او اي ادارة امريكية اخرى؛ تريد سواء بالطرق الدبلوماسية او بالضغط الاقتصادي والمخابراتي؛ ان تصل مع ايران الى اتفاق ما، حتى لو كان جزئيا ومرحليا؛ لضمان الاشراف على برنامج ايران النووي، والحيلولة دون صناعة ايران للقنبلة النووية، مع السماح لإيران العتبة النووية، اي ايران القادرة في اي زمان وظرف على صعيد المستقبل، على صناعة السلاح النووي في الحالة، او الظروف التي تفرض عليها، صناعته. ان المنطقة تشهد متغيرات اقليمية؛ جنحت فيها الدول الاقليمية الفاعلة، ايران وتركيا والسعودية ومصر، وغير هذه الدول من دول المنطقة العربية والخليج العربي ودول الجوار الاسلامي، في الاشهر الاخيرة الى حلحلة وتفكيك المشاكل والخلافات التي تعاني منها المنطقة العربية، وحتى جوارها الاسلامي، واعادة العلاقات الدبلوماسية بينها. اعتقد ومن وجهة نظري المتواضعة؛ ان الاتفاق الجزئي والمرحلي لمعالجة اشكالية البرنامج النووي الايراني؛ ربما كبيرة جدا؛ ان يتجه الى الحلحلة والتفكيك ولو جزئيا ومرحليا، الى الاتفاق الجزئي والمرحلي، بين ايران والولايات المتحدة الامريكية، كجزء مهم جدا، من السياسة الايرانية الجديدة؛ بالعمل على وضع الحلول للمشاكل والمعضلات، وتهدئة الخواطر والمخاوف لدول المنطقة العربية، التي تقف حاجزا يحول دون مسار التعاون البناء بين دول المنطقة العربية ومن بينها، بل من اهمها في هذا الاتجاه؛ دول الخليج العربي وبالذات المملكة العربية السعودية. ان ايران هي الدولة الفائزة بما نتج من هذه المنازلة والاشتباك؛ من نتائج هي لصالح ايران. أذ انها، ربما، كما اوضحت في اعلى هذه السطور المتواضعة،، ربما كبيرة جدا؛ ستنتزع الاعتراف كدولة عتبة نووية اي ايران النووية، من الولايات المتحدة الامريكية؛ وليس ايران القنبلة النووية. المسؤولون الايرانيون يدركون تماما؛ من انهم، او ان ايران النووية بلا سلاح نووي في هذه المرحلة، مهم جدا لها في هذا الوقت، لعبور نهر الضغط الاقتصادي والعزلة الدولية والاقليمية الى الجرف المقابل من هذا النهر؛ حيث الهواء الطلق، الاقتصادي والتجاري والسياسي والثقافي.

***

مزهر جبر الساعدي

 

القضاء يدخل على الخط

إذا كانت الأحزاب السياسية وأذرعها المسلحة قد سيطرت على مطار النجف، الذي يشوب الغموض الجهة المسؤولة عنه حتى الآن، فتارة يقال إنها سلطة الطيران المدني بعد فصلها عن وزارة النقل، وأخرى يقال إنها مجلس المحافظة، وحتى اقتحامه من قبل المتظاهرين في صيف 2018، فإن مطار كربلاء قد حُسمت قضية عائديته كما يبدو لمصلحة الشركات التابعة للعتبة الحسينية.

ففي سنة 2010 قال المشرف على مطار النجف صادق اللبان: "إن مطار النجف هو "ملك لـ 25 مليون عراقي - من الواضح إنه يقصد العراقيين الشيعة فقط، أي أن التطييف السياسي بلغ المطارات - ومن غير الممكن أن يتأثر بقرار أي جهة مهما كانت". مشيراً إلى أن "وزارة النقل طالبت رسمياً بإدارته، إلا أنَّ المحافظة ردَّت بأن المطار مشروع استثماري ومن غير الصحيح تسليم ادارته الى وزارة النقل رغم احترامنا الشديد لها".

وبخصوص مطار النجف أيضا، فقد كان رئيس مجلس الوزراء الأسبق حيدر العبادي قرر حل مجلس إدارة المطار الذي يهيمن عليه ممثلو الأحزاب السياسية، وإلحاق المطار بسلطة الطيران المدني في تشرين الثاني سنة 2017، ويبدو أن هذا القرار ظل حبرا على ورق، ولا تعرف على وجه الدقة حتى الآن عائدية المطار وأين تذهب إيراداته المالية. ففي تصريح متلفز بتاريخ 23 شباط من العام الجاري، قال رئيس سلطة الطيران المدني، عماد الأسدي، إنه لا يعرف إلى مَن يعود مطار النجف، مضيفاً أنه لا يعرف أيضاً أين تذهب إيراداته/السومرية نيوز.  

وكانت أنباء صحافية قد ترددت آنذاك عن أن ديوناً ضخمة قد ترتبت على هذا المطار تقدر بمائتين وسبعة وسبعين مليون دولار أي أنها تفوق تكاليف إنشائه، ولكن تمَّ السكوت لاحقا عن هذه القضية ودفنها قضائياً وإعلامياً خلال فترة حكومة مصطفى الكاظمي!

ومن الإشارات القوية والرسمية الجديدة لتدخل الدولة وتأكيد عائدية المطار لها، صدور حكم في قضية فساد كان بطلها رئيس مجلس إدارته، حيث نسجل مصادقة هيئة النزاهة خلال العام الجاري "شباط 2023"على قراري الإدانة الصادرين بحقِّ رئيس مجلس إدارة مطار النجف الدوليّ سابقاً، بعد الطعن التمييزيِّ من قبل الهيئة. 

حيث قررت محكمة استئناف النجف المُصادقة على الحكمين الصادرين بالحبس الشديد غيابياً على رئيس مجلس إدارة مطار النجف الدوليّ سابقاً، "الحكم الأول بالحبس الشديد لمُدَّة ثلاث سنواتٍ جاء على خلفيَّة قيام المُدان بإلحاق الضرر الجسيم بالمال العامّ؛ نتيجة إساءة استعمال السلطة وصرف مبلغ (726,856) دولاراً أمريكياً خلافاً للضوابط، فيما صدر حكم الإدانة الثاني بالحبس البسيط لمُدَّة ستة أشهر، إثر قيامه بمنع الفريق التدقيقيّ التابع إلى هيئة النزاهة من القيام بواجبه وتفتيش مطار النجف، والامتناع عن تزويد الهيئة بالوثائق والأوليَّات، تحت ذريعة أنَّ المطار عبارةٌ عن مشروعٍ استثماريٍّ لا يدخل ضمن صلاحيَّات الهيئة في التدقيق والرقابة/ شفق نيوز". ويلاحظ أن خبر هذا الحكم لم يتضمن اسم المسؤول المدان، ولكن المعروف هو أن رئيس مجلس النجف المحلي هو أحد رجال الدين ويدعى الشيخ فايد الشمري.

مطارات دولية وشوارع مدن مزرية!

هناك أيضاً مشروع لمطار دولي في محافظة ذي قار، شُرع بتنفيذه بهدف تحويل قاعدة عسكرية جوية عراقية شبه مهجورة في محافظة ذي قار تدعى "قاعدة الإمام علي"، ومطار آخر قيد التخطيط في محافظة واسط جنوب بغداد، ومشروع مطار ثالث طالب بإنشائه أعضاء في مجلس المحافظة في محافظة ميسان شرق ذي قار، وجميع هذه المحافظات متجاورة وقريبة من بعضها في إقليم جغرافي محدود المساحة. ويمكن لمطار البصرة الدولي أن يغني عن هذه المطارات جميعا، مثلما يغني مطار بغداد عن مطاري كربلاء والنجف، فالمسافة بين بغداد وكربلاء مائة كيلومتر لا غير، وبينها وبين النجف 176 كيلومترا فقط. ومن الممكن والعقلاني أن تتم الاستعاضة عن هذه المطارات عديمة الجدوى الاقتصادية، بتطوير وتوسعة مطارات بغداد والبصرة والموصل، وبتطوير وتحديث شبكة الطرق البرية المزرية داخل المدن وشبكة السكك الحديدية العراقية العريقة والمتهالكة.

ولكن لماذا "تنجح" مشاريع الاستثمارات الزراعية والصناعية التي تقوم بها العتبات والأوقاف الدينية، كما يروج الأعلام المحابي لها، وتفشل مثيلاتها التي تديرها الدولة؟ هنا، محاولة للإجاب.: تنجح هذه المشاريع لعدة أسباب وعوامل منها:

-لأن مشاريع الأوقاف والعتبات تقوم على أراضٍ وبمواد خام مجانية أو شبه مجانية تعود للدولة، منها كليات ومصانع قائمة فعلاً ومجهزة تجهيزاً تاماً تم الاستيلاء عليها من قبل قوى وشخصيات نافذة في الحكم، وأسماؤها معروفة ومتداولة في الإعلام.

-ولأن الدولة تقدم أموالاً هائلة من الموازنة السنوية الحكومية لدواوين الأوقاف الشيعية والسنية وغيرها، رغم أنها هيئات وقفية مستقلة دستورياً ويفترض أن تكون مكتفية ذاتيا.

-ولأن الأرباح الكبيرة المتأتية من مشاريع مقاولات واستثمارات العتبات الدينية لا تضبطها حسابات سنوية رسمية وعلنية مراقَبة للمصاريف والأرباح والتكاليف، ولا تدفع عنها أية ضرائب أو رسوم كمركية أو غيرها، وقد خُصص لبعضها رصيف خاص في أكبر موانئ البلد لاستقبال مستورداتها من الخارج لتكون معفاة من الرسوم والتفتيش.

-ولأن الأوقاف الدينية والعتبات مستقلة حسب دستور النافذ -دستور مرحلة بريمر - بموجب المادة 103 أولا، والتي تنص على أن "دواوين الأوقاف، هيئاتٌ مستقلة مالياً وإدارياً". ولا تشرف على حساباتها مؤسسات الدولة المتخصصة كوزارات المالية والاقتصاد والتخطيط ولا تُدفَع عنها ضرائب سنوية للدولة. فكيف تخسر مشاريع استثمارية، تأخذ ولا تعطي.

-ولأن مشاريع الأوقاف والعتبات الدينية تشارك في إنجاحها جميع وزارات ومؤسسات الحكومة العراقية وتقدم لها الخدمات والمواد الأولية والآليات والنقل مجانا، ومَن يجرؤ على رفض طلبات إدارات العتبات المستثمرة يعاقب بالنبذ داخل الحاضنة المجتمعية الطائفية ويخسر امتيازاته وحتى منصبه الحكومي غالبا.

ربما تصلح حالة محافظ كربلاء الأسبق، عقيل الطريحي، لتكون خير مثال على هذه الحالات من النبذ والإعفاء من المناصب؛ لقد فقدَ الطريحي منصبه لاحقاً، وتمت إقالته بعد استجوابه غيابياً من قبل مجلس المحافظة في سنة 2019. وكان الطريحي قد كشف المخبوء حين قال في لقاء تلفزيوني مشهور ومنشور على منصة اليوتيوب، إنه كان "موافقاً على إحالة مشروع استثمار مطار كربلاء إلى إحدى شركات العتبة الحسينية، ولكن الجهات العتباتية المستثمرة استبعدت وزارة النقل العراقية من المشروع، وقال حرفيا: "حين أحيل مشروع مطار كربلاء إلى شركة من الشركات التابعة للعتبة الحسينية هي شركة "خيرات السّبطين"، أنا لم أعترض على هذه الشركة، ولكن هم عملوا على استبعاد وزارة النقل الاتحادية، فهل يمكن بناء مطار دولي من دون وجود وزارة نقل؟" وأضاف الطريحي "وحين سألوني: وماذا تقدم أنت كمحافظ للمطار؟ قلت لهم: لا أستطيع أن أقدم شيئاً باسم المحافظة. فقال محاوري: ليش، أليس هذا المشروع للإمام الحسين؟ فقلت له: هذه لا تبيعها علينا لأننا نعرفها، والحسين عليه السلام ليس له علاقة بالمطار!".

ثم يسجل الطريحي الآتي: "لقد وافقت على هذا المشروع لأنني بصراحة خُدعت من قبل صاحب شركة "خيرات السبطين" ومن سامي الأعرجي، رئيس الهيئة الوطنية للاستثمار في العراق" ويبقى السؤال في حالات كهذه قائما؛ فلماذا لا يتكلم المسؤولون الحكوميون والقضائيون ويكشفون المستور إلا بعد ان تتم الإطاحة بهم ويستبعدون عن مناصبهم؟ ألا يعتبر هذا دليل إدانة ضدهم، قد يصل إلى درجة اتهامهم بالتواطؤ طالما كانوا صامتين وهم في موقع المسؤولية؟

إن ما يقال عن فشل مشاريع القطاع العام التي تديرها الدولة يثير العديد من الاعتراضات والتحفظات، لأنه قول لا تنطبق على واقع العراق بعد الاحتلال الأميركي وقيام حكم المحاصصة المكوناتية، فغالبية مشاريع ومصانع ومزارع القطاع العام تم تدميرها خلال الحرب، أو محاصرتها أو التضييق عليها و قطع التمويل عنها وتحويل بعضها الى مشاريع "تمويل ذاتي" لا سوق لها، بعد الحرب ضمن خطة منهجية مسبقة لتدمير العراق وتحويله الى سوق استهلاكية لبضائع دول الجوار؛ بلد مهشم بلا جيش ولا زراعة ولا صناعة ولا ثقافة ولا صحة ضمن معادلة الاحتلال الأميركية القائلة: لكم أيها الطائفيون حكم العراق ولنا أن تجعلوه قاعاً صفصفا!

حين يتدخل القضاء

أما عن محاولات القضاء الدخول في متاهة "الفساد المقدس" المرعبة فيمكن تسجيل محاولة رئيس هيئة النزاهة الأسبق القاضي عزة توفيق جعفر من مدينة الموصل، والذي تسلم مهمات رئاسة هيئة النزاهة في شهر تموز من عام 2018. فقد أعلن القاضي جعفر في بداية سنة 2021 عزمه على تقديم تقرير يكشف جميع ملفات الفساد بما فيها بعض مشاريع العتبة الحسينية كمشروع إنشاء مطار كربلاء بقيمة ملياري دولار. وفعلا زار القاضي جعفر العتبة الحسينية التي أصدر أمينها العام الشيخ عبد المهدي الكربلائي بياناً أكد فيه دعمه لمكافحة الفساد. ولكنَّ القاضي المذكور لم يتمكن أبداً من تقديم تقريره الموعود لأنه قتل داخل سيارته في حادث مروري، وكان القاضي الراحل قد قال في خطاب مسجل له قبل مقتله عبارة لها مغزاها ونصها "إن منظومة الفساد أضحت اليوم لديها استراتيجيات وخطط، وربما تصل إلى مستويات تكون أقوى من الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد"!

من الملفت حقاً أن إعلام دواوين الأوقاف وإدارات العتبات الدينية لم تُعِر كبير اهتمام لكل ما تنشره الصحافة ووسائل الإعلام والمواطنون العراقيون على منصات التواصل الاجتماعي وهو كثير، إلا مرة واحدة! وذلك حين اتهمها بالفساد طرف إعلامي أميركي فسارعت إلى الرد المطول والغاضب، ولهذا دلالاته ومعانيه العديدة؛ منها أن هذه الأطراف المتهمة بالفساد تعرف جيدا أن الطرف الأميركي هو الوحيد القادر على إقصائهم عن مناصبهم وامتيازاتهم بجرة قلم السفيرة ببغداد بعد أن ضمنوا سكوت الدولة على فسادهم!

فللمرة الأولى والوحيدة حتى الآن، ردت العتبة الحسينية في كربلاء على تحقيق تلفزيوني بثته قناة "الحرة -عراق" الأميركية، تضمن الإشارة إلى شبهات فساد تحوم حول منظومة العتبتين الدينيتين في كربلاء، بإدارة وكيلي المرجع الأعلى علي السيستاني، الشيخين عبد المهدي الكربلائي وأحمد الصافي. كما تحدث وثائقي قناة الحرة عن دور مرتضى الحسني صهر الشيخ الكربلائي في إدارة تلك المشاريع، وعن دور ميثم الزيدي زعيم "فرقة العباس" القتالية، التابعة لحشد العتبات، وهو صهر أمين عام العتبة العباسية الشيخ أحمد الصافي. ويبدو أن الجهة الإعلامية الأميركية نسيت أو تناست أفضال الشيخين وخاصة الصافي على العملية السياسية التي أطلقها الاحتلال ونظام حكم المحاصصة الطائفية الذي تمخضت عنه وخطورة الدور الذي قام به - الصافي - حين كان العضو الأول والمتنفذ في لجنة كتابة الدستور العراقي سنة 2005 ممثلاً للمرجعية النجفية. وقد أكد دورَهُ هذا أحدُ أعضاء اللجنة وهو السيد ضياء الشكرجي، مقرر اللجنة الأولى في مقابلة مع التلفزيون الرسمي العراقي قبل سنوات قليلة، والتسجيل منشور على منصة يوتيوب، حيث قال "إن رئيس لجنة المبادئ الدستورية الأساسية وممثل المرجعية النجفية الشيخ أحمد الصافي كان يضغط عليه ويمنعه من توزيع محاضر الجلسات على الأعضاء وأنَّ الشيخين الصافي وهمام حمودي سربا صيغة للدستور غير متفق عليها لجريدة "الصباح" الرسمية وقالا إن هذه الصيغة قد تم الاتفاق عليها قبل أنْ يتم أي اتفاق، ما حدا به إلى الاستقالة من اللجنة".

الرد اليتيم والاستثمارات "المجازية"

من الواضح أن تحقيق قناة "الحرة" قد أغضب الشيخين ومعهما إدارة العتبتين والجهات والشخصيات السياسية المقربة منهما فصدر ذلك البيان الغاضب، فلنلق نظرة سريعة على بعض فقراته الأهم:

يبدأ البيان بفقرة مليئة بالدلالات تقول "تابعت إدارة العتبة الحسينية المقدسة باستهجان بالغ ما صدر عن قناة الحرة من تقرير يغالط الحقيقة ويجانب الصواب ولعل الهدف من ورائه لم يكن مهنيا البتة، فقد آثار التقرير علامات استفهام كبيرة وكثيرة ولاسيما استهداف العتبات بوصفها رمزا من رموز الاستقرار والنجاح، فضلاً على كونها مساحة تصحيح وتصويب طوال تعاقب الحكومات بعد 2003 وما تركته من ثغرات تستوجب ملأها بما ينفع البلاد والعباد. إذ سعت إلى تأسيس منظومة مشاريع تلامس حاجة المجتمع وتطلعات الشعب العراقي في مختلف قطاعات الحياة، فلم تكن العتبات مراكز دينية وحسب وإنما كانت مراكز تغيير للواقع الذي خلفته الأزمات طوال المدة المنصرمة". والبيان هنا لا يراوغ أو ينفي ما يتهم به من أفعال وما يوصف به ويقال عن تدخلاته في الشأن العام وخاصة الاقتصادي بل هو يعطي لأصحابه حق القيام بدور الدولة، أو بدور الهيئة الناجحة في دولة فاشلة تترك وراءها الثغرات، فبادرت هي كما يقول البيان حرفياً إلى "تأسيس منظومة مشاريع تلامس حاجة المجتمع وتطلعات الشعب العراقي في مختلف قطاعات الحياة لتغيير للواقع الذي خلفته الأزمات طوال المدة المنصرمة"!

أما عن مشاريعها الاستثمارية فبيان العتبة يعترف بوجودها، ولكنه يضيف أنها مشاريع استثمارية "على نحو مجازي"، لأنها لا تبتغي تحقيق الجنبة الربحية بقدر تحقيق أهداف خدمية واجتماعية وصحية. ولكن كيف يتأكد الجمهور من عدم تحقيق جنبة مالية وحسابات هذه المشاريع سرية لا يكشف عنها للرأي العام، وهل هناك مشاريع صناعية وزراعية وخدماتية بهذا الحجم لا تدر أرباحاً إن لم تكن مجانية فهل خدمات ومنتوجات العتبات مجانية أو حتى بسعر الكلفة؟!

وفي الفقرة الثالثة المقتضبة منه يقول البيان "العتبة الحسينية المقدسة مسؤولة عن رواتب وإعانات لقرابة (14) ألف منتسب" ويبدو أن البيان بهذه الفقرة ينفي أن يكون عدد منتسبيه أكثر من هذا الرقم أو أنه يحاول بها تبرير المخصصات الكبيرة التي تخصص له في الموازنة السنوية العامة للدولة.

أما عن النقطة الأهم والمتعلقة بالرقابة المالية والمحاسبة الحكومية فقد ردت العتبة في بيانها بالقول "إنَّ جميع مشاريع العتبة الحسينية المقدسة الاستثمارية منها والخدمية يخضع الإنفاق فيها إلى تعليمات وقرارات الموازنة العامة للحكومة الاتحادية، إذ يدقق قسم الرقابة المالية في العتبة جميع النفقات والإيرادات، ليدققها من بعد ذلك مدقق خارجي مجاز من وزارة المالية، وترفع بعد ذلك إلى ديوان الوقف الشيعي الذي يضعها بين يدي ديوان الرقابة المالية الاتحادي لغرض المراجعة والتدقيق". وهذه الفقرة صريحة جدا فهي تجعل الرقابة المالية والتدقيق بيد إدارة العتبة نفسها ثم يكلف مدقق خارجي بتدقيق الحسابات.

إن كون المدقق يجب أن يكون خارجياً وليس من وزارة المالية العراقية، واضح المرامي تماما، ويكشف كل شيء، فالطرف المستثمِر والمتربِّح يريد أنْ "يحسب الحِسبة لوحدهِ" وبطريقته الخاصة والتي لا تقبل شريكا! أما يحدث لاحقاً من رفع الحسابات الى الوقف الشيعي ليضعها بين يدي ديوان الرقابة المالية الاتحادي "لغرض المراجعة والتدقيق"! فالمهم ليس التدقيق والمراجعة المباشرة من قبل جهاز الرقابة المالية في وزارة المالية بل تُجرى المراجعة والتدقيق من قبل العتبة ثم ترفع الى إدارة الوقف "لتوضع بين يدي ديوان الرقابة المالية الاتحادي لغرض المراجعة والتدقيق". بخصوص الفقرة الأخيرة فلم يؤكد مصدر رسمي سواء من وزارة المالية او غيرها وطيلة العشرين سنة الماضية أن مراجعة وتدقيقا قد أجريا على حسابات الأوقاف أو العتبات الدينية. وحتى إذا افترضنا جدلا صحة المعلومة الخاصة بإجراء المراجعة والتدقيق من قبل الرقابة المالية الوزارية فلماذا تبقى هذه المراجعة والتدقيق والمبالغ الخاصة باستثمارات العتبات والأوقاف سراً من الأسرار لا سبيل إلى الاطلاع عليها من قبل الرأي العام والإعلام المستقل؟

خلاصات

إن ما تقدم التطرق إليه من ملفات فساد موثَّقة إعلاميا في هذه الدواوين وإدارات العتبات لا يعني بأية حال من الأحوال أنَّ الفساد مقتصر عليها، بل هي نماذج ربما تكون أخف وطأة قياساً إلى نماذج أخرى في دوائر ومؤسسات حكومية، وهي بمثابة رأس جبل الجليد الذي يظهر للرائي وما خفي كان أعظم.

لقد تحولت الدولة العراقية ومؤسساتها من دولة تديرها عصابة مسلحة صغيرة قبل الاحتلال سنة 2003 إلى أخطبوط من عشرات العصابات بملايين الأذرع مهمته توزيع الريع النفطي الهائل على شبكة معقد ومتضخمة باستمرار من الزبائن والموالين النافذين الذين يمنحون ولاءهم واستعدادهم للتضحية بكل شيء مقابل الفوز بحصتهم المقررة من كعكة الفساد وضمان ديمومة نظام الحكم. إن مؤسسات الدولة العراقية في أيامنا لم تعد تعاني من الفساد فحسب، بل يمكن القول إنها أصبحت تتنفس الفساد في شهيقها وزفيرها، وإنها ستسقط إذا توقفت عن إدارة الفساد تحت غطاء توزيع الريع النفطي على الشبكة الزبائنية، والتي تقتطع لأهل النظام وهم بالآلاف حصة الأسد من مليارات الموازنة، مقابل الفتات للجيش المليوني من أصحاب الرواتب ومخصصات الإعانة المجتمعية (خصصت الموازنة أكثر من 150 ترليون دينار للموازنة التشغيلية ومنها الرواتب من مجموع 197 ترليون دينار هو إجمالي الموازنة، وبهذا يبقى 47 ترليون دينار للمشاريع الاستثمارية)، والذين يقترب عديدهم وفق آخر الإحصائيات من خمسة ملايين مُعيل  تم تكبيلهم بسلسلة الرواتب والذين عليهم استهلاك ما يتم استيراده من غذاء من دول الجوار.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

..........................

* ولكن عدد هذا الجيش للبطالة المقنعة في تزايد، وخصوصا حين حولت الحكومة الحالية برئاسة السوداني سياسة ضخ ونثر التعينات العشوائية لتكون بمثابة رشى تقدمها الحكومة للعاطلين عن العمل والخريجين الجدد من الكليات والمعاهد في بلد لا ينتج حتى غذاءه، وهذا الواقع بحد ذاته سيكون عامل خلخلة واهتزاز عنيف في الوضع العام مستقبلا، بمجرد أن ينخفض سعر برميل النفط أو أن تمنع وزارةُ الخزانةِ الأميركية العراقَ من التصرف بعائدات نفطه والتي يشترط أن تمر أولا عبر الممرات المالية الأميركية. ألا يوحي هذا الوضع الاقتصادي والسياسي الذي يعيشه العراق وشعبه منذ عشرين عاما بأنه في الحقيقة بلد مختطف وشعب يعيش تحت التهديد بالإفقار والتجويع والحصار فيما تشارك حكوماته الفاسدة في تنفيذ هذه الاستراتيجية الإبادية؟

 

 

لماذا تركز المعارضة التركية على شخصية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حتى في ظل الانتخابات التي أعادته إلى تصدر المشهد التركي بفارق ليس كبيراً كما كان معهوداً في الانتخابات المتعاقبة منذ عشرين عاماً.

ولكن قبل الولوج إلى الأسباب والبراهين التي تفسر العنوان أعلاه.. فلا بد من الحديث عن مستقبل تركيا في ظل فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية التركية حتى عام 2028.

وعليه فإنه لن يكون مجدياً إذا أسقطنا من حسابات المرحلة المقبلة في تركيا، مصيرَ أردوغان الجسدي والمعنوي، الزعيم التركي الفذ الذي أسقطته المعارضة في شباك العنكبوت من خلال التقارب في نتائج الانتخابات وتقاطع الأجندات حيناً وتعارضها، وإن وَهَنَتْ خيوطُهُ ما دام الأمر يتعلق برئيس تركيا القوي الذي علمته التجربة كيف يختبر الأسباب جيداً لضبت المخرجات من باب الحيطة والحذر؛ لأن المعارضة ستكون له بالمرصاد.. لا بل ستعدُّ عليه أنفاسه ورصد زلاته لتغذية مشروعها التضليلي المسخّر لشخص اردوغان.. والقائم في بعض جوانبه على التحريض المباشر وفق أجندة المعارضة الكردية؛ لذلك فالحذر سيضع جهاز أمنه الشخصي على المحك ليكون غاية في التأهب الدائم حتى لا يمسَّ أردوغان الضررُ.

إن خبرة أردوغان وإنجازاته لا يمكن إنكارها بل وضعت المعارضة في حيرة من أمرها.. فأرغمت على التقاطع الإيجابي مع بعض القوانين التي استحدثها أردوغان خلافاً لمبادئ أتاتورك القومية.. ففي 8 أكتوبر 2013 ألغت تركيا حظر ارتداء الحجاب في مؤسسات الدولة ماعدا القضاء أو الجيش (أعيد السماح به في الجيش بعد ثلاثة اعوام)، منهية بذلك حظر دام نحو 90 عاما.

وحتى تكسب المعارضة فئة المحجبات فقد وعدت فيما لو فازت بسن قانون يمنع العودة إلى قوانين أتاتورك التي منعت ارتداء الحجاب في الجامعات والمؤسسات الحكومية.

من جهته وكيلا يبدو أردوغان متناقضاً مع المعارضة في الرؤية القومية فيخسر قاعدة جماهيرية كبيرة فقد أقام حملته على أساس القومية التركية مؤكداً في ذلك على أنه رئيس دولة وليس سلطاناً ذا أجندة دينية.

وتتجلى خبرة أردوغان الراسخة في أنه شغل منصب الرئيس الثاني عشر والحالي لتركيا منذ عام 2014. وقد تقلد سابقًا منصب رئيس الوزراء من عام 2003 إلى عام 2014 ورئيسًا لبلدية إسطنبول من عام 1994 إلى عام 1998 إذ يعترف له حتى بعض خصومه التقليديين بأنه انتشل تركيا من الحضيض ووضعها في مقدمة دول العالم سياسياً واقتصادياً ضمن الأعضاء المشاركين المخصصين في نادي باريس للدول االدائنة، وعضوية مجموعة العشرين (G20)، على الرغم من الانتكاسات الاقتصادية التي عثَّرَتْ طموحاتِهِ على النحو التالي:

أولاً:- ضائقة كورونا التي أثرت سلبياً على الاقتصاد العالمي المتشابك في المصالح ومنها تركيا.

ثانياً:- استهدافه غير المعلن من قبل الغرب لتمرده على رغبة أمريكا في تشديد الحصار على بوتين الشريك الاقتصادي الأهم لأردوغان.

وكان قبل ذلك قد أتم صفقة شراء منظومة إس 400 الدفاعية الروسية.. فما كان من أمريكا حينذاك إلا أن أوقفت المساهمة التركية في تصنيع وامتلاك طائرة أف 35 الأمريكية.. فكانت ضربةً بضربة.

ثالثاً:- تعرض تركيا لزلزال قهرمان مرعش في فبراير 2023 والذي كبدها خسائر ضخمة ما انعكس سلبياً على الاقتصاد التركي برمته،

كل هذه العوامل أدت إلى هبوط العملة التركية بمعدلات قياسية جيرتها المعارضة ضد أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث وصلت إلى 18.8297 ليرة للدولار، كما تراجع مؤشر بورصة إسطنبول الرئيسي بنسبة 4.30 % إلى 4782.95 نقطة.

وما يخيف خصوم أردوغان هو أنه صاحب استراتيجية متكاملة تقوم على المرونة والاستقلالية وعدم التبعية العمياء وتقديمه المصالح العليا لتركيا على كل الملفات والوصول إلى معادلة صفر مشاكل، الأمر الذي جعل البعض يفكر في إخراج أردوغان من المشهد التركي بأي شكل كان حتى لا يرتبَ هذا الرئيسُ الاستثنائيُّ البيتَ التركيَّ على هواه؛ لخمسة أعوام مقبلة، فيرسخ بذلك لبناء دولة عميقة لا يسهل تجاوزها بسهول مما قد يتيح لحزب التنمية والعدالة بإدارة الملفات التركية حتى وهو خارج الحكم مستقبلاً في الظل.

وعليه.. فقد تعامل أردوغان مع تلك الملفات عبر مسيرته بمرونة واقتدار مغلباً مصالح تركيا العليا أثناء اجتراحه للحلول.

فكيف حدث ذلك؟

ولنبدأ بملف الحرب الأوكرانية الروسية إذْ قام أردوغان بتحييد بلاده في هذا الصراع المدمر، وتحول من خصم تابع للناتو إلى وسيط مقبول ومحتمل من قبل كل الأطراف.

ومن باب المصالح المتبادلة، فقد طور أردوغان شراكته الاقتصادية مع روسيا التي تمخض عنها تدشين أول مفاعل للطاقة النووية في البلاد، شيدته شركة "روساتوم" الروسية الحكومية للطاقة النووية في 27 أبريل العام الجاري. وهذا أزعج الغرب إلى درجة أن الإعلام التركي ردد ما نشر على لسان أل(كي جي بي) الروسية في أن أجهزة المخابرات الغربية تقف وراء محاولة اغتيال أردوغان بالسم قبل شهر.

إلى جانب ذلك هناك ملف القضية الفلسطينية التي دفعت المصالح الاقتصادية العليا أردوغان إلى الضغط على حماس بغية تهميش دورها الميداني في أي مواجهات محتملة مع الشريك الاقتصادي الجديد"إسرائيل"، ما أدّى إلى طرد القادة الحمساويين العسكريين من الأراضي التركية وفق صحيفة هآرست في مايو 2022 وذلك بطلب إسرائيلي؛ بغية إنجاح الشراكة في مشروع الغاز الإسرائيلي الذي من المزمع مروره عبر الأراضي التركية إلى أوروبا، فتتحول تركيا على إثره إلى محطة توزيع للطاقة تضم خط السيل التركي الروسي.

ولعل من الملفات الحساسة التي تعامل معها أردوغان بمرونة لافتة، الملف اليوناني الذي أصابه مؤخراً بعض الفرج حيث وعد أردوغان بفتح صفحة جديدة مع اليونان بعد انتهاء الانتخابات اليونانية حيث أظهرت النتائج الأولية الرسمية الأحد الماضي أن حزب "الديمقراطية الجديدة المحافظ" بزعامة ميتسوتاكيس في طريقه لتحقيق انتصار كبير في الانتخابات.

وتعمل الدولتان (أردوغان وميتسوتاكيس ) العضوتان في الناتو بجد من أجل تخفيف حدة التوتر بسبب نزاعات إقليمية واحتياطي الغاز الطبيعي شرقي المتوسط.. ويعود هذا الانفراج للدور اليوناني الإيجابي في مساعدة تركيا من تداعيات الزلزالين الأخيرين كبادرة حسن نية.. ووفقاً لهيئة الأركان اليونانية العامة، لم تحلق أي طائرات عسكرية تركية فوق الجزر اليونانية منذ وقوع الزلزالين، وهذا يمهد لمستقبل مشرق بين البلدين ما سيجمد الخلاف ويواريه بعيداً لصالح تنامي المصالح المشتركة.

ثم يأتي الملف السوري المتشعب والذي يقلق أردوغان، ما استرعى منه التفكير الجاد بحسمه تحت شعار صفر مشاكل، من خلال الالتقاء الموعود مع الرئيس السوري حافظ الأسد بغية حل مشكلة اللاجئين السوريين، الذين تحولوا إلى ورقة جوكر بالنسبة للمعارضة التركية، حيث عَزَتْ جزءاً من التضخم في تركيا إلى وجودهم الذي قيل بأنه اثقل على الأتراك وأصابهم برهاب المستقبل.

بالإضافة إلى ذلك احتمال البحث في كيفية مساعدة الجيش السوري على بسط كامل سيطرته على الشمال السوري الكردي الخاضع لحكم ذاتي بحكم الأمر الواقع. حيث تسيطر على المنطقة قوات سوريا الديمقراطية الداعمة لحزب العمال التركي الكردستاني المحظور في تركيا.. وسيكون ذلك لو كتب له النجاح وفق تفاهمات مع تركيا من باب الضروريات الأمنية.

ويأتي اهتمام أردوغان الجاد بالملف الكردي كون المعارضة التركية استغلته جيداً ولخطورته على مستقبله السياسي والأمني.

صحيح أن أردوغان سعى من قَبْل لإبرام اتفاق مع الأكراد المطالبين بدولة مستقلة، واضعاً بموجبه حداً لنزاعٍ امتد أعواما؛ إلا أن انهيار المباحثات بين الطرفين في العام 2015، ومحاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرّض لها أردوغان في العام التالي، دفعته إلى استئناف العمليات العسكرية في مناطق الأكراد، وجعلته أقرب إلى القوميين الأتراك، الذين كانو وراء اتفاقية لوزان بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، على حساب معاهدة سيفر عام 1920 التي كان من المقرر لها منح الأكراد الأمل في إنشاء دولة مستقلة لهم. بعد رفض حكومة أتاتورك الاعتراف بالمعاهدة.

المعارضة التركية من جهتها اخذت تستميل الأكراد لحسم معركتها مع اردوغان لكن فوز الأخير قلب الطاولة عليهم.. واعتمدت المعارضة بقيادة كمال كليجدار أوغلو مرشح التحالف الوطني للرئاسة فيما لو فاز، على وعود أطلقها حول الإفراج عن العديد من السجناء بينهم صلاح الدين دميرتاش الشخصية الرئيسية في حزب الشعوب الديموقراطي المؤيد للأكراد والعدو اللدود للرئيس اردوغان، والمسجون منذ عام 2016 بتهمة "الدعاية الإرهابية". إلى جانب تهديدات المعارضة الكردية المقيمة في السويد بتصفية أردوغان جسدياً، وعليه فإن المنطق يحكم بأن ترتيب مثل هذه العملية جارياً إذا اخذنا بتراكم الدوافع إليها.. من هنا يمكن تفسير حكم القضاء السويسري (محكمة برن) في يناير 2022 ببراءة الأكراد الأربعة الذين حرضوا على قتل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال تجمع أقيم قبل خمس سنوات.. حيث رفع أنصار لحزب العمال الكردستاني التركي أمام البرلمان الفيدرالي السويسري في برن، لافتة تحرّض على قتل أردوغان.

وهو الحكم الذي أدى بأردوغان إلى رفض عضوية السويد في الناتو إلى أن تسلم المطلوبين إلى تركيا.

وفي تقديري فإن الملف الأمني التركي معقد للغاية.. والرهانات على اغتياله ستكون صعبة وشبه مستحيلة.. ورجل كأردوغان سواء اتفقنا معه أو اختلفنا فهو الأقدر على قيادة تركيا بعد أن انتهت اتفاقية لوزان، ولارتباط هذا الرجل بتفاصيل التنمية التركية منذ عشرين عاماً.. والله يستر!

***

بقلم بكر السباتين

1 يونيو 2023

(أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟)... إنجيل متى (5: 13).

قمة جبل الجليد

كشف هروب رئيس ديوان الوقف السني المُدان بتهم فساد سعد كمبش من سجنه، ثم وإلقاء القبض عليه وفاته بعد ساعات خلال مطاردته، كشف عن وجه آخر من أوجه الفساد المالي والإداري المستشري في جميع مفاصل الدولة العراقية ومؤسساتها ومنها المؤسسات والهيئات الدينية التي تعتبر مستقلة دستوريا يمكن تسميته بالفساد "المقدس" لأنه يتعلق بإدارات الأوقاف الدينية، هذا أولا، ولكنه أيضا، وهذا ثانيا قشط الطبقة المعنوية "الدينية" الرقيقة التي كانت تغلف هذا الفساد كاشفاً عن عمق التخادم "تبادل الخدمات والحماية" بين مؤسسة الحكم السياسية والمرجعيات الدينية الداعمة لها سرا وعلانية، وخصوصا في الأزمات الحادة، مقابل سكوته على فسادها! 

منذ انطلاق "العملية السياسية الأميركية" القائمة على المحاصصة المكوناتية بعد احتلال العراق، وخلال عشرين عاما، تحول بعض هذه المؤسسات والمشاريع التابعة للأوقاف والعتبات الدينية إلى نوع من جُزُر اقتصادية إقطاعية شبيه بالاقتصاد الكنسي الذي كان سائداً في أوروبا القرون الوسطى أو حتى بالإقطاع العسكري في زمن الدولة العثمانية. ولم تكن عامة الناس غافلة عما يحدث في الأوقاف وفي المؤسسات الحكومية الأخرى من فساد ونهب للمال العام بلغ درجة من التباهي بارتكابه والتنافس في تحطيم أرقام المبالغ المنهوبة والتي توجت بما أطلق عليها "سرقة القرن" والتي بلغت مليارين وخمسمائة مليون دولار. وقد هتف متظاهرون سلميون عراقيون حتى قبل انتفاضة تشرين 2019، بشعار أغضب المؤسسة الدينية والأحزاب التي تستظل بعباءتها يقول: " باسم الدين باگونا "سرقونا" الحرامية "، حيث بلغت ممتلكات واستثمارات الأوقاف والعتبات الدينية في العراق مليارات الدولارات، لا يعرف أحد كيف تدار وأين تذهب. وتشمل تلك الممتلكات والاستثمارات مصانع ومزارع شاسعة ومؤسسات خدمية من المستشفيات والجامعات والمطارات وشركات استيراد وأرصفة مستقلة في الموانئ...إلخ. 

إنها مؤسسات ربحية على الأرض، ولكنها على الورق وفي أنظمتها الداخلية مؤسسات معنوية مستقلة غير ربحية لا تدفع ضرائب أو رسوماً كمركية للدولة وتتمتع بالأولوية والأفضلية في المعاملات والمقاولات، ولا تخضع للمراقبة والتفتيش المباشرين من طرف دائرة الرقابة المالية والضريبية، ولكنها كما تزعم تدقق حساباتها بنفسها بمشاركة مدقق خارجي "من خارج وزارة المالية" تختاره هي، كما انها تُسَخِّر أجهزة وآليات وإمكانيات دوائر الدولة لمصلحتها.

هذا ما يجعل هذه العتبات والأوقاف أشبه بالدويلات المتضخمة داخل الدولة وعلى حساب الثروة الوطنية والمال العام، بل إنَّ بعضاً منها أصبح محمياً بمليشيات مسلحة تابعة له عقائدياً، تضم آلاف المقاتلين. مثال ذلك نجده في "حشد العتبات" المؤلف من أربع فرق مقاتلة، تضم عشرين ألف مقاتل. كانت هذه الفرق قد انفصلت عن كيان الحشد الشعبي المشرعَن دستوريا. ليتبعه هذا الأخير - الحشد الشعبي - في الدخول إلى الميدان الاقتصادي بعد أقل من عام. ففي نهاية تشرين الثاني 2022، وافق مجلس الوزراء العراقي على طلب "هيئة الحشد الشعبي" تشكيل شركة عامة باسم شركة "المهندس". وستكون هذه الشركة ذات رأسمال بدئي قدره مئة مليار دينار عراقي، بما يسمح للحشد بالدخول بشكل أكثر وضوحاً ومباشرة في النشاط الاقتصادي والاستثماري في البلد.

والواقع فإن إنشاء شركة حكومية للهندسة وأعمال البناء ليس أمراً سيئاً بحد ذاته، بل هو يلبي حاجة أكيدة في الوضع العراقي المتردي على صعيد البنى التحتية، وهو قد يذكر البعض بشركة حكومية عملاقة سابقة هي الشركة العامة للمقاولات الإنشائية. تولت هذه الأخيرة في عراق السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات من القرن الماضي إنجاز نسبة كبيرة من مشاريع البنية التحتية، كما أنجزت إعادة إعمار العراق مرتين بعد حرب الخليج الثانية وبكفاءة عالية ومشهود لها وبإمكانات محلية محدودة وفي ظروف حصار قاسٍ. وقد تم تفكيك هذه الشركة لاحقاً الى عدة شركات إنشائية اشتهرت منها شركة الرشيد للمقاولات، ولكنها ضمُرت وكادت تختفي في عهد ما بعد الاحتلال الذي دمر جميع مؤسسات القطاع العام من خلال تطبيق طبعة شوهاء من "النيوليبرالية" التي يصفق لها اليوم الساسة الإسلاميون الشيعة والسنة والقوميون الكرد، وهم يحلمون بدخول "فردوس" الرأسمالية المنشود من بوابة اقتصاد هجين وعبثي لا يُفهم رأسه من أساسه!

قلنا إنَّ قرار إنشاء شركة هندسية أو بنائية ليس سيئاً بحد ذاته، لكنْ أنْ تقام شركة هندسية تتبع جهازا عسكريا رسميا يرتبط مباشرة بالقائد العام للقوات المسلحة ولا علاقة له بالوزارة المتخصصة بالبناء والهندسة، فهذا أمر جديد يثير العديد من علامات الاستفهام حول ماهيته وجدواه وأهدافه الحقيقية. وإذا كانت الدولة بحاجة ماسة فعلاً لشركات هندسية وغير هندسية لترميم اقتصادها والبنية التحتية المتهالكة، وهي كذلك حقاً، فلماذا لا تعيد الحكومة ترميم فروع الشركة الأم للمقاولات الإنشائية لتتولى إصلاح ما يمكن إصلاحه من الحطام العراقي العريض الذي تعيث فيه فسادا شركات فاشلة محلية وأجنبية وأخرى وهمية ولصوصية نهبت الكثير من المال العام كما تؤكد تقارير هيئة النزاهة وأجهزة القضاء ذات الصلة؟  

الأوقاف الدينية قبل الاحتلال 

بنظرة سريعة إلى الماضي، نعلم أن الأوقاف الدينية التابعة لجميع الأديان والمذاهب العراقية كانت، ومنذ قيام الدولة العراقية المستقلة شكليا عن بريطانيا سنة 1922، تابعة مباشرة لوزارة حكومية واحدة تسمى وزارة الأوقاف، ثم أضيفت لها لاحقة "والشؤون الدينية" في العهد الجمهوري، وكان آخر وزير من عشرين وزيرا منهم هو عبد المنعم أحمد صالح التكريتي.

أما بعد الاحتلال الأميركي سنة 2003، وتشكيل حكومة محلية على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، فقد تم تفكيك هذه الوزارة على أساس طائفي، واستحدثت ثلاثة دواوين رسمية ترتبط مباشرة بمجلس الوزراء؛ الأول هو ديوان الوقف الشيعي وثانٍ باسم ديوان الوقف السني وثالث باسم ديوان أوقاف الديانات المسيحية والأيزيدية والصابئة المندائية. وكانت تلك إشارة الانطلاق لتفكيك الدولة والمجتمع العراقيين بمباركة وتشجيع من المرجعيات الدينية ودول إقليمية مجاورة للعراق ومشاركة فعالة من جميع الأحزاب السياسية في ما سُميت "العملية السياسية الأميركية"، كمقدمة تمهيدية لما آل إليه الوضع العراقي لاحقا.

إنَّ نظرة سريعة إلى هيكلية واحدٍ من هذه الدواوين تعطينا فكرة أولية عن طبيعتها، ففيها مجموعة من الدوائر، يقود كل واحدة منها موظف بدرجة مدير عام تدفع الحكومة راتبه هو موظفيه، وهم بالآلاف، وتلك الدوائر هي:

الدائرة القانونية، والدائرة المالية والإدارية، والدائرة الهندسية، ودائرة العلاقات العامة والإعلام، ودائرة التخطيط والمتابعة، ودائرة التعليم الديني، ودائرة الأمانة العامة لإدارة واستثمار الوقف وتضم ثلاثة أقسام هي؛ قسم الأملاك الموقوفة وقسم الأراضي الزراعة، وقسم الاستثمار. وأخيراً، دائرة المؤسسات الخيرية. ويشرف على هذه الدوائر المجلس الأعلى لديوان الوقف المعني، يقود عمل المجلس رئاسة الديوان المؤلفة من رئيس الديوان وهو بدرجة وزير، يعين باقتراح من مجلس الوزراء بعد موافقة المرجع الديني الأعلى في حالة ديوان الوقف الشيعي، إلى جانب عدد من الخبراء والمستشارين.

إن المدقق في هذه الهيكلية للديوان الوقفي لا يمكنه أن يفرق بينها وبين هيكلية أية شركة أو كارتل شركات اقتصادية ربحية، وإلا فما علاقة الهندسة والتخطيط والعلاقات العامة والإعلام والاستثمارات بديوان أوقاف هو أصلا جهة دينية روحانية غير ربحية؟

عينات من ملفات كثيرة

لم تعد قضايا الفساد تفاجئ أو حتى تثير اهتماماً خاصا لدى غالبية المواطنين العراقيين لأنها بلغت من الشيوع درجة بات معها الناس لا يتفاجأون من وجود الفاسدين وأخبار الفساد بل من ندرة غير الفاسدين وحالات رفض الفساد أو كشف بعض الفاسدين - كأكباش فداء - من نهابي ثروات الشعب. وهذا ما يمكن أن يوصف بأنه تطبيع اجتماعي ممنهج للفساد والفاسدين وجعله ظاهرة عادية في مجتمع بلا دولة أو بدولة مسلوبة الإرادة وتابعة للأجنبي.

إنَّ ملفات الفساد التي كُشف النقاب عنها في الإعلام، وعالج القضاءُ نماذجَ منها لا تستثني وقفاً من الأوقاف الدينية العراقية بل طاولتها جميعا. ففي ما يتعلق بالوقف المسيحي على سبيل المثال والبداية، نقرأ هذا الخبر الذي يكرس واقع أن هذا الوقف ضحية فساد لطرف آخر من طبيعة مليشياوية، فقد هاجم بطريرك الكلدان الكاثوليك في العراق الكاردينال لويس ساكو، خلال شهر أيار الجاري رئيسَ حركة بابليون المسيحية - والتي هي جزء من الحشد الشعبي - ريان الكلداني، ووزيرة الهجرة التابعة لهذه الحركة إيفان فائق. وقال ساكو في مؤتمر صحافي، إن "ريان الكلداني قام بسرقة أملاك المسيحيين في بغداد ونينوى وسهل نينوى ويحاول شراء رجال الدين المسيح بمساعدة امرأة وضعها بمنصب وزير (يقصد وزيرة الهجرة إيفان فائق، وإنه استحوذ على (كوتا) المسيحيين في الانتخابات الأخيرة/ وكالة شفق نيوز في 6 أيار 2023".

بانتقال إلى الوقف السني نسجل صرخة الشيح أحمد حسن الطه رئيس المجمع الفقهي العراقي فقد انتقد بحدة الفساد والفاسدين في الوقف السني علناً في إحدى خطب الجمعة، وما يزال تسجيلها بالصوت والصورة منشورا على موقع يوتيوب قائلاً "انتشر الفساد في كل مؤسسات الدولة، ومنها الوقف، في كل مكان فساد، في كل جامع فساد، في كل مقاولة فساد". وفي 15 نيسان /أبريل سنة 2017 أصدرت محكمة الجنح المختصة بالفساد وغسيل الأموال حكما على رئيس الوقف السني الشيخ عبد اللطيف هميم حكماً بالسجن لمدة عام واحد بعد إدانته باختلاس مبالغ ضخمة (حُكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ لكبر سنِّهِ ومع تعهده بحسن السوك خلال فترة الحكم مع دفع تأمينات بمبلغ 200 دينار / تعادل سنتات قليلة من الدولار، ويعاد له المبلغ بعد انتهاء مدة الحكم). أما الوقف الشيعي فسوف نفرد له فسحة موسعة بعد قليل.

ولأخذ فكرة عن المبالغ الهائلة والمتصاعدة التي تخصصها الحكومات العراقية لهذه الأوقاف الدينية - التي يفترض أنها مصادر للأموال والممتلكات الوقفية كما هو معروف، وبالتالي لا ينبغي أن تأخذ من الأموال العامة العائدة دستورياً إلى الشعب - نعلم أن النائب كاظم الصيادي طالب بإلغاء ميزانية الوقفين الشيعي والسني في ميزانية الدولة لسنة 2020. وقال الصيادي في تصريح له بتاريخ 22 آذار 2020، إن "ميزانية الوقف الشيعي بلغت (585 مليار دينار) وميزانية الوقف السني بلغت (284 مليار دينار) وليس هناك مستشفى واحد مخصص للأوبئة في البلاد، لذلك نطالب بحذف هذه المبالغ في الميزانية القادمة".

ولكن موازنة سنة 2021، زادت هذه المبالغ، حيث أعلن مقرر اللجنة المالية في مجلس النواب أحمد الصفار، أنَّ "مخصصات ديوان الوقف الشيعي في الموازنة بلغت 829 مليار دينار، بينما بلغت مخصصات الوقف السني 309 مليارات دينار، أما ديوان أوقاف الديانات المسيحية والأيزيدية والصابئة المندائية تسعة مليارات دينار".

ولمعرفة مدى العبث وانعدام العقلانية في وضع الموازنة العراقية العامة، يقارن عضو اللجنة المالية في المجلس جمال كوجر بين موازنة وزارة الزراعة التي بلغت 310 مليارات دينار (212 مليون دولار)، مقابل موازنة الوقف السني 309 مليارات والوقف الشيعي 830 مليار دينار (قرابة 568 مليون دولار)، ومجموع هذه المبالغ يعادل سبعة أضعاف موازنة وزارة الزراعة، التي يعتمد عليها أكثر من أربعين مليون عراقي في إنتاج وتوفير طعامهم كما يُفْتَرَض!

ولم تكتفِ الحكومة بتخصيص هذه المبالغ الضخمة للأوقاف الدينية بل زادت عليها "هدايا" أخرى منها أنها عيَّنت على ملاك الوقف السني أربعة عشر ألف موظف عام 2023، بينما عينت لوزارة الإعمار والإسكان والبلديات ثلاثة آلاف موظف لا غير، ولا يعلم أحد ماذا سيفعل هذا العدد الهائل في الوقف السني والذي يمكن أنْ يديره وبجميع مؤسساته أقل من ألف موظف! أما في الوقف الشيعي فنعلم أن عدد موظفي عتبة واحدة من العتبات الدينية هي "العتبة الحسينية" مسؤولة عن رواتب وإعانات لقرابة أربعة عشر ألف منتسب" كما سيرد ذكره في مناقشتنا لبيان صدر عن إدارة هذه العتبة.

ما هو الوقف الشيعي؟

لنبدأ بتعريف "الوقف" عموما لنجد أنه مصطلح إسلامي "يعني لغةً، الحبس أو المنع، واصطلاحاً، هو حبس العين عن تمليكها لأحد من العباد والتصدق بالمنفعة على مصرف مباح. ويشمل الوقف الأصول الثابتة كالعقارات والمزارع وغيرها، ويشمل الأصول المنقولة التي تبقى عينها بعد الاستفادة منها كالآلات الصناعية والأسلحة أما التي تذهب عينها بالاستفادة منها فتعتبر صدقة كالنقود والطعام وغيرها". والخلاصة هي أن الأوقاف تعني أموال وثروات فكيف تمنح الدولة أموالا من ثروات الشعب لمن يدير هذه الأموال والثروات دون ان تعرف عنها وعن أقيامها وحساباتها شيئا؟

هذا عن الوقف عموماً، لغةً واصطلاحاً، فكيف يُعرِّف ديوان الوقف الشيعي نفسه؟ إنه "ديوان يُعنى بأوقاف المسلمين الشيعة بجميع فرقهم وشؤونهم الإسلامية يسمى ديوان الوقف الشيعي ويرتبط بمجلس الوزراء العراقي ويتمتع بالشخصية المعنوية ويمثله رئيسه أو من يخوله. وتشرف هذه المؤسسة على دور العبادة الشيعية والحسينيات والمزارات الشيعية في عموم العراق ويتم تعيين رئيسها من قبل رئيس الوزراء، وهو بمنصب وزير وأول من ترأسه كان السيد حسين بركة الشامي/ صفحة الديوان على الشبكة". ونسجل هنا، أن السيد حسين بركة الشامي أُتهِم علناً بالفساد، وقد أصدرت محكمة الجنايات الخاصة بقضايا النزاهة في الرصافة قرارها المرقم (293/ج ن/2018) في 3/7/2018 والمتضمن "حبس المدان حسين بركة الشامي لمدة سنة مع وقف التنفيذ لكبر سِنِّهِ مع إعطاء الحق لديوان الوقف الشيعي للمطالبة بالتعويض المادي". وقد هاجر الشامي بعدها من العراق وهو يعيش حتى اليوم في بريطانيا!

يُفهم من تعريف الديوان الشيعي أعلاه، والذي ينطبق من حيث المضمون على الدواوين الوقفية للطوائف الأخرى أن الديوان دائرة رسمية بسبب ارتباطه بمجلس الوزراء أي أنه جهة حكومية، ولكنه، في الوقت نفسه، جهة مستقلة من حيث الإدارة والمال مع بقاء مسألة المُلكية غامضة؛ فلا هي ملكية عامة تابعة للدولة، ولا هي ملكية فردية تعود لشخص معين بل هي وقف ديني، وفي هذه الأجواء من الغموض والعتمة والالتباس ينتعش الفساد وينتشر الفاسدون.

مشاريع استثمارية غنائمية

من الأمثلة المشهورة في العراق على الفساد في الوقف الشيعي، والتي نورد بعض نماذجها هنا لغرض توثيق الظاهرة بالوقائع ومن ثم تحليلها، نذكر الآتي:

-قررت الحكومة العراقية قبل بضع سنوات بناء محطات استقبال واستراحة لملايين الزوار الشيعة القادمين من كافة أرجاء العراق إلى زيارة العتبات المقدسة، ولتكون تلك المحطات في ضواحي مدن العتبات وخصصت قطع أراض لبناء تلك المحطات وأحيلت عقود إنشاء تلك المحطات الى إدارتي العتبتين الحسينية والعباسية في محافظة كربلاء. ثم وبقدرة قادر، استولت الإدارتان على تلك الأراضي، وتصرفتا فيها تصرف المالك الحقيقي، فأنشأتا على قسم منها منتجعاً سياحياً راقياً بأسعار إقامة باهظة، وأقامتا جامعات أهلية خاصة على قسم آخر، هما جامعة "الكفيل" التابعة لإدارة العتبة العباسية وجامعة "وارث الأنبياء" للعتبة الحسينية.

ردا على هذا الاتهام بالاستيلاء غير المشروع قالت العتبة الحسينية في بيان لها سنتوقف عنده مفصلا لاحقا، إن هذا الاتهام "يجافي الحقيقة إذ أن الوزارة ذاتها طلبت، بضغط من أهالي كربلاء المقدسة ومن العتبات المقدسة، إدارة تلك المدن لغرض إدامتها وديمومتها، إذ قدمت خدماتها للزائرين والنازحين مجاناً طيلة خمس سنوات، وتم تحويل ملكيتها إلى العتبات المقدسة بعد شرائها من الوزارة"، وهذا كلام لا يحتاج إلى مزيد إيضاح فهو يعلق المسؤولية في ما حدث من "استيلاء" برقبة أهالي كربلاء، فهم الذين ضغطوا على الوزارة فتم تحويل ملكية الأراضي والعقارات إلى العتبة بطريقة الشراء!

مثال آخر، يتعلق هذه المرة بطابعة تجارية، ففي سنة 2013 افتتحت العتبة العباسية التابعة لديوان الوقف الشيعي شركة لطباعة الكتب في مدينة كربلاء، وفي سنة 2015 افتتحت العتبة الحسينية مطبعة ثانية، وقال الأمين العام والمتولي الشرعي للعتبة الحسينية المقدسة، سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي "إن افتتاح هذه المطبعة يهدف إلى خدمة الثقافة والفكر والإعلام ونشرها بين أوساط المجتمع"، أما عملياً فقد وقعت المطبعتان على عقود بملايين الدولارات مع وزارة التربية والتعليم لطباعة الكتب المدرسية في العراق!

قصة مطار "كراج متعدد الطوابق"

وعلى الرغم من أن دور المرجعية النجفية في هذه المشاريع الاستثمارية موضع أخذ ورد؛ فهناك من يعتقد أن المرجعية، والمرجع الأعلى نفسه، براء من أي فساد، ولا علاقة لها بهذه المشاريع، وإنها معروفة بزهدها وببساطة حياة المرجع الأعلى السيستاني ذاته، وإنها حتى وإنْ كان لها دور في تسهيل ومباركة مثل هذه المشاريع على ألسنة وكلائه وممثليه، ومنها مشروع مطار كربلاء، فربما تكون قد تعرضت للتضليل من قبل الجهات المنفذة والشركات المستثمِرة فيه ومنها شركة "طيبة كربلاء" التابعة لإدارة العتبة الحسينية. وحتى إذا افترضنا صحة هذا الاعتقاد العاطفي، فإن سكوت المرجعية النجفية عن كل ما قيل ونشر في الإعلام حول مظاهر الفساد في هذه الأنشطة الاقتصادية وبعضها بتَّ فيها القضاء علنا، وعن الاستئثار والاحتكار والحلول محل الدولة واستيلاء على أراضيها وبعض مصانعها وأملاكها يبقى مثيرا للتساؤل والعجب.

من هذه المشاريع المثيرة للجدل مشروع مطار كربلاء الدولي، الذي بدأت الحكومة عبر وزارة النقل بالتخطيط له منذ سنة 2013، رغم عدم الحاجة إليه بوجود مطار دولي في ضواحي مدينة النجف المجاورة، ثم أصبح مشروعاً للقطاع الخاص "الديني" خلافا لكل ما ينص عليه الدستور والقوانين الخاصة بموضوع الاستثمار وبطريقة يشوبها الكثير من الغموض. إن المعلومات والمعطيات بهذا الخصوص متضاربة ومتناقضة ولا يمكن الجزم بصحتها لعدم وجود موقف حكومي رسمي من المشروع وتداعياته باستثناء التصريحات المناسباتية الرسمية القليلة والمتناقضة لرئيس هيئة الاستثمار السابق سامي الأعرجي، وتصريحات محافظ كربلاء المقال عقيل الطريحي الذي فتح هذا الملف ولكنْ بعد إقالته من منصبه، وهذا أمرٌ يطرح علامات استفهام قوية على سكوته حين كان في موضع القرار والمسؤولية، وليس على صحة ما طرحه علنا ولم يرد عليه المعنيون الذين اتهمهم بالفساد وذكر أسماء بعضهم.

إن مطار كربلاء واحد من عدة مطارات دولية تقع في محافظات قريبة من بعضها جغرافيا إلى درجة تجعل من إقامتها أمراً عبثياً ومريباً من حيث الدوافع والجدوى الاقتصادية والبيئية، ومخالفاً حتى لقوانين وقواعد الطيران المدني؛ فالمسافة بين مطاري النجف وكربلاء تتراوح بين 50 و60 كليو مترا، يمكن أن يقطعها المسافر بالسيارة في نصف ساعة تقريبا.

نعلم من تقرير صحافي نشر يوم الأربعاء 28 تشرين الثاني 2018، أن رئيس هيئة الاستثمار العراقية سامي الأعرجي، صرح أن "مشروع مطار كربلاء الدولي عمله متقدم ويسير وفق الخطة الزمنية التي أعدت للإنجاز"، في حين أن العمل الحقيقي في المطار متوقف منذ نحو ستة شهور (الكلام هنا في نهاية عام 2018)، بسبب نزاع قضائي بين الممول وائتلاف الشركات المنفذة. ويؤكد شهود عيان صحة ما ورد في هذا التقرير الصحافي ويقولون إنَّ مشروع المطار لم يتقدم عملياً كثيراً خلال ذلك العام، وهو يراوح في مكانه وأن الجهات المسيطرة عليه تواجه مشاكل ودعاوى قضائية عديدة.

غير أن مصادر قريبة من إدارة المشروع قالت قبل سنتين تقريباً إنَّ نسب الإنجاز في برج المطار بلغت 80% وهي النسبة نفسها التي رأيناها في آخر الصور الملتقطة قبل عام للبرج، أما في البنايات الساندة فبلغت نسبة الإنجاز 70% وفي المدرجات فقد بلغت 40%، وهذه الأخبار قالتها مصادر خاصة وفردية غير رسمية، حيث غابت أخبار مشروع المطار عن التداول الإعلامي منذ عام كامل. وها نحن في منتصف عام 2023 تقريباً ولم يفتتح هذا المطار، الذي وصفه وزير نقل أسبق بأنه ليس أكثر "من كراج متعدد الطوابق" حتى الآن، ويبدو أن الانتظار لن يطول كثيرا بعد زيارة المتولي الشرعي للعتبة الحسينية إلى موقع المشروع يوم العاشر من نيسان الماضي لتعيده إلى المشهد الإعلامي من جديد.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

قِف: عُذرا لمن سيتأمل شذرية هاته الحروف والكلمات، التي انقذفت من تلقاء نفسها؟ ربما لتصفية حسابات شخصية مع ذاتها، أو بوح خارج إرادة البوح المعلن؟ مهما يكن، ومهْما كنت قارئا مفترضا أو معلوما أو شبحا؛ عليك أن تقفْ، إنه فعل أمر. جاءنا معَلبا! هكذا نستهلك ما أنتجه النحاة في الكهوف (ربما) في كهوف البصرة أو الكوفة، على ما أعتقد، وتبناها قانون السير!! ففي الوقوف بركة و امتثالا لأوامر العلامة! فلا تتعجل من أمرك. فالعجلة من الشيطان. هكذا علمونا منذ الصغر! فلا تتعجل حتى لا تهيم في مفترق الطرق ويسيح ذهنك، ويقع ما لا يكون متوقعا إنها مشيئة عَدم الانتباه، في زمن تفاقمت فيه نسبة عَدم الإنتباه أو اللامبالاة: أنجع من عدم الانتباه ؛ ربما؟ ولكن الإنتباه مما ذا؟ لا يهم الجواب،لأننا نعلم مسبقا لا أحد سيسأل أو سيتساءل؟ لأن الأغلب الأعم لا يقرأ ما يُنشر(:) ولو كان ضده. مادام لن يزيده درهما من (مال) - المسلمين -على "الدرهم " ذاك المستجْلبُ من تحت (الكواليس) المفتوحة لشراء الذمم (:) حتى أمسى {القلم }قطيعا! {الفكر} قطيعا! {الموقف} قطيعا!{العلائق} قطيعا!إنه زمن {القطيع} قطيعا! مشاهد "البؤس" فنحن أمامها! فالله الأمر من قبل ومن بعْد؛ ونطقت بشكر نواله شفاه الأنوار القدسية.

إذن فلا يهم الجواب.الأهَم بأن هاته الشذرية من وحي اليقظة، من وعي الذات بذاتها!وليست أضغات كلام! إنها مصوَّبة نحو ابن سينا (ليس) ذاك الطبيب العربي، إنني لا أعرفه شخصيا؛ لأننا لم نكن في زمانه، ولكن اطلعنا على منجزاته، رغم أنه فارسي/ همداني. ولم نطلع على خفايا "ابن سينا "الذي أعْرفه ذاك الذي كان رئيس [الجامعة الوطنية لمسرح الهواة] ببلادنا. لقد نسَته ُالبلاد والعباد! إنه طبْع جملة من النماذج البشرية! على رقعة هَذا البلد.!

وقيل لي في جلسة "رباطية" وليست "فاسية " أنه طريح الفراش منذ مدة. بماذا؟ لا أحَد يعرف؟ ربما لم يعُد أحَد يزوره أو يجالسه؟ إنه طبْع الانتهازيين الوصوليين أكيد لو كان العكس، لأطلعنا على بعض اللقاءات والحوارات مكتوبة أو مصورة معه باستثناء مقالة وحيدة / يتيمة ورائعة حوله أنجزها. ناقد سينمائي وابن بلدته (1) رغم أنه حظي بالعَديد من التقديرات والتكريمات وطنيا / عربيا / دوليا.. ولكن ما أقسى النسيان ونكران الجميل؟

تساءلت ونحْن نتابع فقرات تكريم (عَشر فنانين) مغاربة في المهرجان العَربي (الدورة-13 /2023) بالدارالبيضاء. لماذا لم يتم اختيار المسرحي "عبد الحكيم بن سينا "من ضمن المكرمين؟ هل لأنه ليس مسرحي؟ ربما!هل المشرف عن الاختيار و التنظيم، لا يعرف نموذجا بشريا اسمه " ابن سينا عبدالحكيم" ذاك الذي أعطى للمسرح المغربي الشيء الكثير من زاوية حضوره وحركيته؟ مستبعَد الجواب عن السؤال؟ باختصار: إنه يعرفه جيدا! قبل أن ينسحب من الهيئة العَربية للمسرح. لأسباب لا يعرفها إلا (هو) خارج ما تم التصريح به؟ لا يهمنا » الموضوع « في حقبة (التخربيق /التخرميز) ليس بمصطلح الفن « التشكيلي » ولا "الفلسفي" ولا "الغرافيزمي" بل بمفاهيمنا المحلية / المغربية. ولا نَدري ماهي الظروف: التقنية واللغوية التي أعاقت البروفيسور أحمد لخضر غزال توظيف المصطلحين في معجم الرصيد اللغوي؟

ولكن مهما اختلفنا، ويما اختلفنا! أو بقي الخلاف قائما، مع الأستاذ: عبد الحكيم بن سينا؟ يبقى بالنسبة لي ولتموقفاتي. نموذجا (ثمَّ) نموذجا: بصم بصماته في النسيج المسرحي المغربي، ولا أحْد يمكن أن ينكر ذلك، ولا يمكن أن ننساه من الذاكرة الفردية والجمعية على السواء؛ لكن مصيبتنا، أننا نتنكر، ونلبس أقنعة النسيان واللامبالاة، لابأس! هي ثقافة تعودنا عليها، وذلك من باب التنبيه. ولكن بحكمة الله الباهِرة وصفاته الأزلية والأبدية. إنها تتطور بتطور التحَولات التقنية والتكنولوجية.

وَذكر:

المصادفة العجيبة أن باب {وَذكر} يرتبط بعنوان لمسرحية من تأليف [ادريس معرو ف] وإخراج [ع الواحد الشرايبي] شاركت بها جمعية النهضة المسرحية بمدينة الجديدة، في المهرجان الوطني لمسرح الهواة في (دورته 15 / 1974) والمقام بالجديدة / البريجة. ومن بيان نصه، كان رئيس جمعية النهضة (هو)" عبد الحكيم بن سينا " آنذاك. فبما أننا ذكرنا " ابن سينا" ذاك الفيلسوف والطبيب...فلابأس أن نأخذ من قوله بأن" القياسات الخطابية تكون مُؤلفة من مقدمات مقبولة أو مظنونة أو مشهورة فى أول ما يسمع عبر حقيقية (2) فيا أيها القارئ الذي لديك قريحة القراءة كمتعة واستفادة وفوائد، لك القياسات، وأهم قياس ما هو مشهور، وتأسيسا على ذلك؛ فالأستاذ" عبد الحكيم بن سينا" تمظهر في الساحة بالفعل وليس بالقوة ولا بحركة قسرية، وبالتالي: إذ الجسم لا يتحرك بذاته، وذلك السبب إن كان محركا على جهة واحْدة على سبيل التسخير فيسمى طبيعة، وإن كان محركا حركات شتى بإرادة أو غير إرادة، أو محركا حركة واحدة بإرادة فيسمى نفسا(3) وبدهي أن النفس هي الفاعلة في الحركة، لكن صاحب من عليه الشذرية، كصيغة مخالفة للمقالة والقريبة من المقولات، كانت "نفسه" مضاعفة الحركة في الساحة المسرحية؛ ربما كتحقيق " وجود" بعْدما شارك في مسرحية{وَذكر} لكنه اكتشف بأنه لا يتوفر على موهبة التشخيص، رحم الله من عَرف قدره وحدوده. مما انتهج أسلوب التسيير والتدبير، فحبذا لو كان بعض رؤساء الجمعيات المسرحية والثقافية. التي تحولت بقدرة (الدعْم المسرحي) إلى وكالات/ تعاونيات/ مقاولات/.../ بدون سجل تجاري...مؤسف جدا؟ أن يفلحوا في التسيير والتدبير[ ك ] عبد الحكيم بن سينا، بحيث أدار وكان يديربكل إتقان وفنية إدارية" الجامعة الوطنية لمسرح الهواة" ومكتب الحياة المدرسية التي كان رئيسها في زمان بمندوبية التربية والتكوين- الجديدة- والإشكالية هاهنا فموضوع "الجامعة الوطنية لمسرح" شائك جدا، وحيوي جدا، ولم ينفتح ملفه بعد؟ فرئيس الجامعة لم يتطاول على المنصب؛ بل في بداية التأسيس تقلد (أمين المال) لكن المرحوم "كريم بناني"(مراكش) لم يستطع تفعيل الجامعة كرئيس؟ مما أعيد التأسيس؛ فكان ماكان! بحيث حاول " ابن سينا " تفعيل الجامعة والدفاع عن مسرح الهواة، أمام الوزارة الوصية وغيرها من المؤسسات، ولنعُد للوراء ونتمعن ماذا قال:.. كنا نطالب نحن كجامعة باسم الاتحادات والجمعيات بالإكثار من التداريب التي تنظمها وزارة الشبيبة والرياضة وكانت لا تجد صدى كبيرا.... ولكنه في أمس الحاجة إلى تطعيم قوي. والجامعة ترى أن مستوى التأليف المسرحي لايزال في الترعرع والنشوء ؛وبجانبه الإخراج المسرحي. وفي هذا المجال طالبنا الوزير أثناء افتتاح المهرجان الوطني19 بفاس; بإقامة معهد لتكوين الأطر في ميدان المسرح(4) لنتأمل في هذا القول، علما أن "ابن سينا" لم يكن مُسيسا ولا منتميا حزبيا، إلا بعْد تمظهر الأحزاب الليبرالية...هذا موضوع يحمل بيان نصه ؛ خارج الشذرة (الآن) ولكنه انوجد تلقائيا في معممان الصراع السياسي و الإيديولوجي بين اليمين واليسار "المسرحي" بلغة ذاك الوقت. وصراعه مع القطاع الوصي، لتطبيق أيديولوجيته على المسرحيين! لكنه كان بمثابة طبيب معالج، هكذا لاحظنا تصرفاته وسلوكه، إذ كان يحاول أن يبثر الجراح ويهَدئ الأوضاع ؛ ويرضي الخواطر. من أجل بناء مسيرة مسرحية مشرقة، تلك هي الحقيقة التي كانت. والخفي، أي:نعَم كنا نتصارع معه ك"يسار" ضد الهيمنة، والحيف الذي ينطلي على العَديد من الجمعيات المسرحية؟ ولكن هناك يسار ويسار، فبعض منا كان يدافع بنوايا صادقة، من أجل اللذة "السيزيفية" لكن كانت هنالك شرذمة مكعبة الأطراف!من « المسرحيين »!  تناوره عبر صراعها الظاهر معه (:) باعتباره رئيس الجامعة الوطنية لمسرح الهواة. ليتم استغلاله ماديا ومعنويا في الخفاء، ولأمور شخصية وكان رهْن الإشارة، خدوما منقذا: فتجده أحيانا يوفر تغذية أو إقامة لأكثر من فرد سواء بمنزله... حتى ولو لم يكن النشاط نشاطه وإنما لزميل أو صديق استغاث به حين تخلى عنه مدعم أو وقع في ورطة عجز ميزانية.. وأحيانا وفي زمن قياسي يقتنص دعما ولو رمزيا من مجلس بلدي أو محسن كريم، أو من هيأة لا علاقة لها بالفن والثقافة (5) وشهد شاهد من أهله. فهذا الإحسان أو اتخاذ المبادرة، ربما لطيبوبته؟ أو لطباعه أم لحلاوة المنصب الرئاسي؛ الذي يعطيه قوة وجود؟ من هنا فمن الصعب فتح ملفات (الجامعة/ لأن هناك صناديق سوداء، لا علاقة للمؤسسات بها بل بين المسرحيين، طبعا لنا أخطاؤنا ونقط ضعفنا، مما لا يمكن أن ننزهه عن الأخطاء والسلبيات، ففي لحظات، وفي مواقف (ما) يكون مناورا، داهية، هادئ الأعصاب، تغلب عليه (تلك) الابتسامة! فالغريب هي "ابتسامة" ليست بماكرة ولا تتحمل ضغينة أو عنفا رمزيا، مما يجعلك أن تهدأ بدورك، وتلتمس له الأعذار. لكن المفارقة، فالمحسوبين عن "اليمين" فكان جزاؤهم الأوفى، والحظوة الكبرى في ظِلّ ممْدودٍ من الاستفادة فكانوا يستفيدون من التداريب الدولية والحضور للمهرجانات العربية وغيرها، ولنا قول شاهِد من أهلها: حيث دفع بعَدد منهم إلى الاستفادة من تداريب وتكوينات مسرحية وفنية مختلفة وطنية ودولية.. وأنا شخصيا كنت أول مسرحي جديدي يوفده سنة 1983 إلى مهرجان “أفنيون” المسرحي بفرنسا، حيث تلقيت هناك تكوينا في بعض الشُّعَب المسرحية (6) تلك هي الحقيقة المندرجة في قياسات خطابية، وبالتالي نأمل أن ينفتح ملف (الجامعة الوطنية لمسرح الهواة) التي أقبرت (الآن) فهل كان المسير الكفء، بدون منازع " ح عبد الحكيم بن سينا " له اليد الطولي في: إعْدام {الرابطة الوطنية لمسرح الهواة}أواسط السبعينيات من (ق، م) وفي اغتيال {فيدرالية مسرح الهواة} أواسط الثمانينيات من (ق، م) وإفشال خطوات {الشبكة الوطنية للمسرح التجريبي}؟ في بداية التسعينيات من (ق، م)؟ أم هنالك أطراف خارج £ - الجامعة الوطنية - £

***

نجـيب طـلال

.....................

استئناس:

1) عبد الحكيم بن سينا، مهما اختلفت معه، لا يمكنك إلا أن تحبه: بقلم خالد الخضري في صحيفة الجديدة

سكوب/ بتاريخ 06/10/2019 ومنشور في جداريته (فايس بوك)

2) عيون الحكمة: لابن سينا تقديم وتحقيق ع الرحمان البدوي- ص35- ط 2/ الناشر: وكالة المطبوعات/

الكويت- دار القلم / بيروت- 1980

3) نفسه - ص40 –

4) المسرح ماهو إلا صورة تعكس أوضاع المجتمعات: حوار مع عبد الحكيم بن سينا - ص113- مجلة الفنون ع 1

س6 في نونبر /1979- الثمن (درهمان)؟؟؟

5) عبد الحكيم بن سينا، مهما اختلفت معه، لا يمكنك إلا أن تحبه: بقلم خالد الخضري في صحيفة " آش واقع "

بتاريخ - 06/10/2019 -

6) نفسه

حتى نخرج من التعميمات المبسطة، والاختزال المعتسف، لهذه الهيجاء التي لم تأتي مصادفة، تلك الكريهة التي تبيح طائفة من المحظورات التي يمتعض منها الدين، وتأباها الفطرة السليمة، وتنكرها الأخلاق، وتتحرج منها المؤسسة العسكرية، التي أجبرتها مليشيات البطش، والخطف، والاغتصاب، لخوض غمار هذه الحرب، حماية للدولة، وصوناً لها من مخاطر التشرذم والضياع، ورغم أن القوة هي أخص ما تحرص المؤسسات العسكرية على أن تمتاز به من المظاهر، إلاّ أن هذه المؤسسة التي لم تؤثر عليها المداورة والالتواء، ما زالت تؤثر القصد والاعتدال في اظهار هذه القوة، رغم سماجة المليشيا التمردة وكيدها، هذه المليشيا التي ساء حالها، واضطرب أمرها، وأوشكت البلبلة أن تفسدها، لم تكن تعيش على نحو متبعثر متناثر قياساً على ما نعرفه عنها اليوم، فمن الحق أن نسأل أنفسنا لماذا تقصتد قواتنا المسلحة في اظهار قوتها، ولماذا تمضي مسيرة معاركها مع مليشيا الدعم السريع التي أوهت المروءة، وأخلقت أديمها، وطمرت الحياء وعفت آثاره في سوداننا بأفعالها المخزية، لماذا يحملنا الجيش على ما نكره؟ ويسوسنا يما لا نحب؟ ولماذا تمضي وتيره هذه الحروب في بطء بطئ، وثقل ثقيل؟ لماذا لا يجهز جيشنا على طغمة السوء هذه ويريحنا من كل هذا العناء؟

إن جيشنا صاحب الذكر الجميل المأثور، والثواب الجزيل الموفور، له مجد لا تهتدي الأيام إلى فسخه، ولا ترتقي الليالي إلى نسخه، حتماً نحن نروم أن يمحق جيشنا المليشيا المتمردة محقاً، ويمحو الأوباش محواً، وأن ينكل ما استطاع إلى التنكيل بها سبيلاً، وألا يؤثر هذه الهدنات بالعناية أو الرعاية،  فالشئ الذي يجب أن يحتفظ به جيشنا ويمضي فيه هو وأد هذه المليشيا، فما نعرفه ونستطيع أن نستنتجه بالظن، والحدس، والتجربة، أن أي هدنة تفرضها تلك الدول التي اشتهرت بولعها الشديد بمصانعة الغرب ومواددته، والحرص على أن تحتفظ بتقاليدها الراسخة التي تفضي في مجملها حول تأثيل مكانتها، فيسوء مثل هذه الدول أن يلحق باسمها وريادتها اهتضام، أو أن تنال أبهتها ومظاهر فخامتها نقص أو اخترام، كما أن بعض نخبها وحكامها يسعى جاهداً أن يخفي مظاهر الصحوة في السودان، لأجل ذلك فهو حريص ألاّ تظهر تقاطيع هذه الصحوة إلا ضئيلة غائرة خليقة ألا ترى،  لا يريد هذا الشيطان أن نكون أحرارا في بلادنا، يريد هذا المسكين أن يرسم لنا قوام نظامنا الديمقراطي، رغم أن الديمقراطية ليس لها صدى في دولته التي لا تفكر في مدلول هذه الكلمة، أو تلتفت إليها، لنفاذ شمولية الفرد واستبداده، إن الصورة التي صنعها هذا الشيطان باتقان، وحرفية عالية، هي مشاهد هذه الحرب التي تدور رحاها الآن في سوداننا المنكوب، والذي طمحت فيه ثلة طالما اعترض الشجى في حلوقها، والقذى في عيونها، إلى الحكم، وحتى ينتبه الساهي، ويتذكر اللاهي، ويتعظ المسرف، نسوق حديثنا هذا إلى فئات ستلاقي عباراته بشئ غير قليل من الانكار له، والازورار عنه، لا لشئ إلا لأنها تبغض الحركة الإسلامية التي لم يبقى لها رأي ولا مشهد، وترى أنها من ابتدأت المنازعة، وتخطتها إلى المنازلة، وأنها هي من أجهضت الحكم المدني، وأهدت شعبها على مدار الأربعة أعوام المنصرمة القهر والفقر والفاقة والجهل والمرض، ولم تكتفي هذه الجماعات التي شملها الفتور، وأخذ يشيع فيها الفناء بكل هذه التهم الجزاف، بل نسبت هذا الجيش العظيم برمته إلى الحركة الإسلامية، هذا الجيش الصامد على عرك الشدائد، والذي تحمل الميسور وغير الميسور من الجهد والتضحية في سبيل حمياتهم من العاديات، في مخيلة هذه الفئات أن الحركة الإسلامية وجيشها اللجب هم من أشعلوا أوار هذه الهيجاء، وأن مليشيا الخزي والعار التي تضيف لها محاسن تزعم أنها لا تتوفر في غيرها، وجدت نفسها مضطرة للدفاع عن وجودها وبقاء جرثومتها، وأن الجيش و”الكيزان” لم يحاربوا قوات” الدعم السريع” إلا لأنها ألحت واشتدت في الالحاح باقامة صروح الحكم المدني الذي يعيد الجيش إلى ثكناته، إذن هذه الناجمة تعتقد أن مليشيا “آل دقلو” إذا نجحت في مسعاها، وهزمت الجيش وحيدته، أنها ستمضي حتماً في تنفيذ بنود الحكم المدني دون تردد ولا إبطاء، وأن هذه القوات البربرية الهوجاء  التي رمت دارفور بنصالها المتصلة، وسهامها المتتابعة حتى أفنتها، هي من سترسي دعائم الحكم العادل الخالي من شوائب الظلم والطغيان، نقول لهذه الجماعات الحالمة أن طموح “الفريق أول خلاء حميدتي” هو ورهطه تخللته مقاومة ومعارضة مجتمعية سعت دول محور الشر مع طغام الأمم المتحدة، ويعاونهم زعيم تلك الدولة الخليجية التي نقدر شعبها ونحترمه ونغالي في بغض شيطانها منخوب الفكر، فهو من أثار الشهوات، ودفع الأهواء إلى الجموح، كما أنه هو وإخوته من سعوا لتذليل مناهضة شعبنا لتوغل آل دقلو بتطوير تحالف مع أقزام قحت  الذين أظهروا في سيرتهم وأحاديثهم من خروج على الثوابت ما جعلهم محل بغض السودانيون واستيائهم.

إن الحقيقة التي لا يرقى إليها شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن قروم “قحت” الذين يؤثرون لذة العمالة على كل شي، هم من زينوا بحبوحة الحكم للمأفون “حميدتي” وأن الحكم في متناول يده، ما عليه إلاّ يبسطها ليأخذه متى شاء وكيف شاء، والمخبول “حميدتي” صدق كل ترهات “أوغاد قحت” وخطرفتهم، وأنه حينها سيضم أرضاً إلى أرضه، ومالاً إلى ماله، وأنه أيضاً سيرد الكيزان فقراء بعد غنى، وأشقياء بعد سعادة، ولم يسئ “حميدتي” الظن بنفسه حينما صدق أضاليل “ياسر عرمان”، ولم يطيل التفكير أو يقلب الرأي في مزاعم “غراب البين” فليس للرجل حصاة أو أداة للفهم، كما أنه كان مأخوذا بفكرة الحكم التي أوردته الآن المهالك.

نعود الآن بعد هذا الاستطراد لأسئلتنا التي طرحناها، لماذا لا تستخدم قواتنا الباسلة القوة المفرطة التي تكفل طي ملف “الدعامة” وتجعل عكارتهم أثراً بعد عين، لأنها ببساطة تخشى عاقبة هذه القوة على أفراد شعبها، ولأنها تسعى لتضييق الخناق على هذه المليشيا التي تحدث نفسها الآن بالانصراف عن هذا القبر التي وضعت نفسها فيه، إن الظفر الذي يبتغيه “جرذان حميدتي” هو أن يفلتوا من العين اللصيقة التي ترقب تحركاتهم وترصد كل سكناتهم، قبل أن تحيلهم فوهات بنادقها إلى مصارع الردى، كما أن تكتيكات الحرب وخططها تقتصي الصبر والأناة، نحن نعرف حنكة هذا الجيش، ونعجب بدرايته ودهائه أشد الاعجاب، ونرى في مسيرته وعزمه فخراَ وأي فخر، وامتيازاً وأي امتياز.

بقي أن نقول أن هذه الصور الدامية ستتلاشى، والأصوات المزعجة ستختفي، والأطياف المروعة ستتداعى، وستبقى تلك الأسئلة التي ما زالت تؤرق مضجعنا، من الذي مكّن “لحميدتي” حتى يمتد ويستطيل؟ ومن الذي أخفق في أن يريه ما يروعه؟ وأن يسمعه ما يخيفه؟ ويحذره من عواقب تحدي القوات المسلحة السودانية التي كانت تنظر إليه هو وجيشه في حب، وتنتظر اندماجهم في مكوناتها في أمل، بعد أن منحته من التأييد ما يجعله يمضي في سبيل تحقيق العزة والكرامة والأمن لهذا الوطن الكبير العاتي، ولكنه كعادته تمرد وخان فالخيانة طبعاً مؤثلاً في شخصه.

***

د. الطيب النقر

بعد معركة إنتخابية تميزت بالشفافية والنزاهة واحتدام التنافس فاز رجب طيب اردوغان في الدورة الثانية لولاية ثالثة، وحظيت هذه الجولة بكثير من الاهتمام المحلي التركي والعالمي وكانت محل اعجاب وتقدير من الجميع وتسابق مسؤولون وقادة الدول لتهنئة أردوغان وعلى رأسهم الرئيس الإسرائيلي والرئيس الفلسطيني ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية.

لن نعرج في هذا المقال المقتضب عن التباسات السياسة التركية تجاه العالم العربي وخصوصاً تدخلها في سوريا، والعراق وليبيا ولا عن التباس سياساتها تجاه القضية الفلسطينية وخصوصاً احتضانها لحركة حماس، ولكن وبشكل عام فإن السياسة التركية في عهد أردوغان سواء الداخلية أو الخارجية تستحق أن توصف بالظاهرة السياسية Political phenomenon، ولكونها ظاهرة أي متفردة بخصائص لا توجد بغيرها من التجارب الديمقراطية فهي تحتاج لمزيد من البحث والدراسة لعقل أسباب وملابسات ظهورها وعلاقتها بالسياق السياسي المتغير للنظام الدولي وللشرق الأوسط وعلاقتها بالجدل التاريخي حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية والعلمانية، وهل من تعارض بينهم.

كأية ظاهرة سياسية فإن استقراء الظاهرة مهم بنفس أهمية القياس والمقارنة، وعليه يجب عدم مقاربة السياسة التركية فقط من خلال مقارنتها بسياسة الأنظمة العربية أو بالديمقراطيات الغربية بل يجب أيضاً استقراءها كظاهرة تحكمها خصوصية الحالة التركية، حيث موقع تركيا وتاريخها يجعلها تؤثر وتتأثر بثلاث دوائر:

1- الدائرة الأطلسية حيث تركيا عضو في حلف الأطلسي وكانت وما زالت تسعى للانضمام للاتحاد الأوروبي

2- الدائرة الشرق أوسطية، فكونها دولة شرق أوسطية يفرض عليها استحقاقات لا مهرب منها وقد تجلى هذا الدور في تدخلها المباشر فيما يسمى الربيع العربي وفي القضية الفلسطينية.

3- الدائرة الإسلامية حيث تركيا الحالية وريثة الإمبراطورية التركية مركز الخلافة الإسلامية أيضا الطموح الشخصي لأردوغان الذي يتزعم حزباً بتوجهات إسلامية.

من الواضح أن الحكومة التركية بقيادة اردوغان استطاعت حفظ التوازن بين هذه الدوائر وهذا ما أطال في عمرها ومكنها من الاستمرارية والبقاء لأكثر من إثني عشر عاماً متحدية التحولات والتحديات التي عصفت بالعالم والمنطقة، حيث استطاعت حفظ التوازن بين:

1- عضوية الحلف الأطلسي والانتماء للشرق الأوسط ولمصالحها الوطنية وهذا ما ظهر جلياً في حرب أوكرانيا.

2- العلمانية والديمقراطية والإسلام، وقد سبق لأردوغان أن صرح خلال زيارة لمصر أنه رئيس حزب توجهاته إسلامية ويحكم دولة علمانية.

3- العلاقة مع إسرائيل وتأييد الفلسطينيين، فتأييده لحركة حماس وللفلسطينيين عموماً لم يؤثر على استمرار علاقاته الاستراتيجية مع إسرائيل.

4- حفظ التوازن في علاقته مع دول جوار متصارعة مع بعضها البعض وخصوصاً في السنتين الأخيرتين.

بالإضافة الى ما سبق تتميز التجربة الديمقراطية التركية بالمزج ما بين كاريزما اردوغان وبراغماتيته والاستحقاق الديمقراطي حيث كان لكاريزما اردوغان دوراً كبيراً في فوزه، وكاريزما اردوغان لا تعود لخلفيته الدينية فقط كما حاول البعض تفسير أسباب فوزه بل لما راكمه من نجاحات في النهوض بالدولة التركية موظفاً الدين لخدمة الدولة وليس العكس، فأردوغان قومي تركي سبّق مصلحة الأمة التركية على أي اعتبارات أخرى.

خلال زيارة رسمية لنا لتركيا في عام 2012 مع مجموعة من الزملاء التقينا مع الرئيس التركي عبد الله جول وخلال اللقاء طرحت عليه سؤالاً كيف يمكن لتركيا التي يقودها حزب إسلامي أن تحكم دولة علمانية وتقيم علاقة متميزة مع الغرب؟ وكان جوابه أن حزب العدالة والتنمية ليس حزباً دينياً بل حزب قومي بتوجهات إسلامية.

هذا يفسر لنا كثيرا ًمن السياسات التركية الحالية مثلا معاداته للحركة الكردية الانفصالية وكل عناصرها مسلمون وغالبيتهم سنة، أيضاً التدخل التركي الفج في شؤون سوريا والعراق وليبيا وهي دول إسلامية، واحتفاظ تركيا بعلاقاتها الجيدة مع إسرائيل بالرغم من الممارسات العدوانية والإرهابية الصهيونية بحق القدس والمسجد الأقصى الخ.

وأخيراً يستحق أردوغان كل الاحترام والتقدير لأنه أكد على النهج الديمقراطي وعلى أن الشعب هو المرجعية ومصدر السلطة وليس اي مرجعية أخرى حتى وان كانت دينية، كما أن الانتخابات التركية أثبتت ألا تعارض بين وجود مجتمع إسلامي ودولة علمانية وأن العلمانية لا تعني الإلحاد بل تحرير الدولة من سيطرة الجماعات الإسلامية واللاهوت الديني، وبهذا قلب اردوغان المعادلة التي دشنها مصطفى كمال اتاتورك مؤسس الجمهورية التركية في عشرينات القرن الماضي وهي المعادلة التي تقوم على التعارض بين الديمقراطية والحداثة والقومية والعلمانية من جانب والإسلام من جانب آخر حيث وقف أتاتورك موقفا مناهضاً للإسلام والمسلمين.

***

د. ابراهم ابراش

في المثقف اليوم