آراء

آراء

تتغير المسوغات الدلالية من حيث الظاهر حول ما يتعلق بالفساد، إلا انها في المضمون والمدلول تتفق وفق سياقات متناغمة ومتناظرة في بعض الأحيان، وغالبيتها تؤيد أن الفساد هو السبب الرئيسي للتفسخ الاجتماعي والانحلال والابتعاد عن القيم الإنسانية التي تعطي الانسان هويته، واختلافه عن باقي المخلوقات، فقد جاء تعريف الفساد من حيث اللغة: على انه ضد الصلاح، أفسد الشيء أي أساء استعماله، فسَدَ الرجلُ: جانب الصواب، عكسه صلَح، وفسَدَ الحالُ أو الأمرُ أو الشَّيءُ: اضطرب، خرِب، أصابه الخلل (أحمد مختار عبد الحميد عمر معجم اللغة العربية المعاصرة، فسد"2/1634)، اما مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فقد عرف الفساد على انه، التّلف والعطب وَالِاضْطِرَاب والخلل والجدب والقحط، (المعجم الوسيط، 2/688)، بينما عرفت معاجم أخرى لغوية الفساد بانه تحول الشيء من حالته الطبيعية الى حالة متفسخة (عماد صلاح عبدالرزاق، الفساد والإصلاح، ص32)، كما عرفه معجم اوكسفورد على انه انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة.

أما تعريف الفساد اصطلاحاً فقد تعددت المصادر التي تناولت الفساد، وكانت النظرة اليه ومحاولة تعريفه من الباحثين تتأثر بالمنظور الذي ينطلق منه الراغب في تعريفه، وبتعدد الاشكال التي يتخذها وتعدد المجالات التي يمكن ان ينتشر فيها، فعند الفقهاء أتى الفساد بمعنى بطلان العمل وعدم ترتب آثاره عليه، فالفساد اعظم من الظلم، لأن الظلم نقص: فإن من سرق مال الغير فقد نقص حق الغير، والفساد يقع على ذلك وعلى الابتداع واللهو واللعب (الكفوي، الكليات، ص692)، وعند القانونيين: هو خروج عن القانون والنظام (عدم الالتزام بهما) أو استغلال غيابهما من أجل تحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية للفرد أو لجماعة معينة، فهو سلوك يخالف الواجبات الرسمية للمنصب العام تطلعا إلى تحقيق مكاسب خاصة مادية أو معنوية. وهناك اتفاق دولي على تعريف الفساد كما حددته "منظمة الشفافية الدولية" بأنه " كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية لنفسه أو جماعته "، إساءة استخدام السلطة الرسمية الممنوحة له سواء في مجال المال العام أو النفوذ أو التهاون في تطبيق النظام أو المحاباة وكل ما يضر بالمصلحة العامة وتعظيم المصلحة الشخصية (آمنة محمد علي، الدور الرقابي للنساء في مجلس النواب العراقي واثره في مكافحة الفساد، المجلة السياسية والدولية، ص939)، وعليه يمكننا أن نعرف الفساد بصفة عامة على أنه: خلل يعتري الفعل يوقع الضرر بالنفس أو بالغير، (امامة عماد حماشة، بيان مفهوم الفساد في سياق الآيات القرآنية والاحاديث النبوية وانواعه واسبابه، مجلة الجامعة للدراسات الإسلامية، ص769).

وبعيداً عن السياقات اللغوية والاصطلاحية والفقهية والقانونية للفساد، نجدنا أمام صور هي في الواقع تعاريف مباشرة للفساد، تعاريف تنم عن الفعل سواء السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وذلك من خلال رصد الواقع العياني الذي نعيشه وفق معايير الاجتماع، أو بعبارة ادق وفق المدلول السوسيولوجي، فما نجده من معطيات وافعال تصدر عن بعض الفئات ضمن الاطار العام للمجتمع لاسيما السلطة وارباب السلطة، تُعد في كينونتها المفهوم الحقيقي والصحيح لكل أنواع الفساد، حيث نلامس من تبعيات سلوكياتهم على المستويين (الفعل -القول )، انحلالاً واضحاً وابتعاداً سافراً عن الاخلاقيات الإنسانية، لاسيما فيما يتعلق بالنزاهة، والأمانة، ضمن الأطر العامة والخاصة، أو لنقل ضمن القطاع العام والمؤسساتي الوظيفي والخاص (حول ذلك ينظر: سليمان عبد المنعم، قراءة في ملف الفساد – السوس – الذي ينخر في عظام مؤسستنا، مجلة الديمقراطية، ص101)، والغريب في الامر أن الفساد في صورته العامة أُلصق بكل ما يتعلق بالقطاع الوظيفي الحكومي والسياسي السلطوي، فضلاً عن الذين ينخرطون ضمن دوائر الانتماء الحزبي وهو شكل آخر من اشكال الوظيفية – الفساد - الذي يُعرف ب (تحت الجدار)، أو الفضائيون، فضلاً عن الحكومات والقائمين على امرها واربابها واذنابها، وقلما نجد الاجتماع ينظر الى الفساد خارج تلك الدوائر على الرغم من أن الفساد المهيمن على القطاع الخاص لاسيما التجار والطبقة الوسطى المهيمنة على السوق، قد تحول الى حِرفة لديهم، فاصبح هؤلاء الوجه الثاني للفساد الكبير، واثاره الاجتماعية اكبر من الاخر، وذلك لأن الكسب غير المشروع المقرون بالغش، فضلاً عن حالات الاحتيال التي شاعت وانتشرت بين الأوساط العامة، هي في الأصل من اهم أسباب التفكك الاجتماعي وانتشار الفساد بين شرائح المجتمع، فضلاً عن الانحلال والاستغلال بكل اوجهه، (حول ذلك ينظر: مايكل جونستون، متلازمات الفساد – الثروة، والسلطة، والديمقراطية، ص 36-37)، ذلك التفسخ الاجتماعي يولد في الأصل خلل واضح في بنية المجتمع، بدءاً بالأسرة، وانتهاءً بالدولة، حيث نرى التفكك والأنانية تعم أفراد المجتمع، ومن ثم يسود بين أفراده الحقد والحسد ومكيدة بعضهم للبعض، فيصبح الفساد بصورته الاجتماعية تفككاً وفوضى، ويؤدي الى ضعف يطرأ على العلاقات الاجتماعية في المجتمع أو مكونات النسق الاجتماعي، وتدهور الضوابط الاجتماعية، وانهيار القيم والأخلاق في المجتمع، واضطراب النفوس، وكثرة القلق والحقد على الآخرين، وغير هذا من النوازع التي تسعى إلى تخريب المجتمعات، وتؤدي في بعض الأحيان الى سفك الدماء وانتشار الجرائم المختلفة، (ينظر: دراسة بعنوان، مواجهة الفساد الإداري من منظور إسلامي) .

عند اسقاط هذه المفاهيم على الواقع الذي نعيشه في مجتمعاتنا سنجد مدى تعمقها وتجذرها في كل البنى الاجتماعية وكل الشرائح دون ان نقيسها على شريحة واحدة، وبذلك يمكن القول أن الفساد تحول الى حِرفة يمتهنها اغلب فئات المجتمع، ولم تعد محتكرة على فئة دون أخرى، فالطبقة السياسية والحاكمة هي الواجهة المعروفة للفساد سواء الفساد السياسي أو الأخلاقي أو المالي أو الإداري وحتى الاجتماعي، وكل الاتهامات توجه اليها وأصبحت في مجتمعاتنا شمعة تقوم الفئات الاجتماعية الأخرى تحرق انحرافها وفسادها تحت مظلتها، والغريب اننا لا نستوعب الامر إلا بعد فوات الأوان، ودائماً نجدنا نعيب على الحكومات فسادها ونتجاهل النظر الى مكملات ذلك الفساد، والذي يؤثر بشكل كبير على جميع شرائح المجتمع، فالتاجر الذي يعايش المتحولات والمتغيرات الاجتماعية لا ينأى بنفسه عن استغلال واقع المجتمع المتردي، وتفشي الفقر بين فئاته لاسيما الطبقة العامة والكادحة، وحتى صغار الموظفين، فيحاول ان يتفق مع الشركات المنتجة الأجنبية على انتاج بضائع دون مستوى الجودة، وذلك لكسب بعض الأرباح، كما ان الصناعات المحلية ومالكيها، لا يتجنبون الاستغلال في صناعاتهم وتخريجها بأدنى مستويات الجودة، لكسب بعض الأرباح، حتى البائع العادي يغش في المعايير والموازين للكسب غير الشرعي، وقِسّ ذلك على جميع المجالات الأخرى، وذلك ما يثبت ان الفساد المنتشر بين فئات المجتمع ليس إلا مظهر حقيقي من مظاهر التفسخ الاجتماعي العام، والذي يشمل الحكومات وارباب الساسة والتجار والطبقات الأخرى، وبالتالي فان تفشي المحسوبية والوساطة والرشوة والابتزاز الوظيفي والاستغلال الوظيفي، وحتى إساءة استعمال السلطة، والإهمال الوظيفي، الاحتيال، النصب، الاختلاس، التزوير، غسيل الأموال، الاستيلاء على المال العام، العمولة، الغش، التدليس، التقصير، الإهدار، التهرب الضريبي، الانحلال الأخلاقي، تفشي المخدرات، والتباهي بالانحراف، وغيرها من اشكال الفساد تُعد بمجملها الواجهة الحقيقية للمجتمع، وبالتالي يكون اغلب فئات المجتمع مشاركين في تأصيل الفساد وانتشاره وتأمين مصادره، (حول ذلك ينظر: طه فارس، أسس مكافحة الفساد الإداري والمالي في ضوء السنة النبوية، ص9).

إن تحول الفعل والقول من حيث المدلول الفسادي، ليس مجرداً من التحولات العامة التي تساهم بشكل واخر في ترسيخ مبادئ الفساد نفسه، فحين نتهم الحكومات والأحزاب والمؤسسات بالفساد، فإننا لسنا اقل فساداً منهم، لأننا نرى فسادهم باعين بصيرة، وندرك حجمها واثارها السلبية على حياتنا العامة، وعلى مستقبل بلداننا، والقضايا التي ننادي بها، ونعلم بأنها في النهاية ستؤدي الى ضياع المكتسبات التي بين أيدينا، وستعيدنا الى مرحلة العبودية والخضوع للمنظومات الإقليمية والدولية، لكننا نتجاهل كل ذلك، ونحاول بكل الوسائل الكسب غير المشروع، لذلك فان ما نقوم به نحن من أفعال تعطي شرعية لفساد غيرنا، بحيث اصبح الفساد مهنة نمتهنها، وحِرفة نزاولها على جميع الأصعدة.

***

جوتيار تمر/ كوردستان

4-5-2023

بقلم عامر أبابكر

ترجمة: علاء اللامي

***

بعد أيام على مرور عشرين عاما على الغزو الأمريكي للعراق، في الوقت الذي يستعرض فيه العراقيون نتائج هذا الحدث، الذي أدى إلى تدمير أسس الدولة وبنيتها التحتية، وأعاد بدوره إلى الحالة الطائفية والقومية. فالانقسام القومي الذي فرضته المصائب التي مرت على بلاد ما بين النهرين كأمة حية، ضعفت في وقت وازدادت قوة في وقت آخر كباقي الدول. وإذا كان الغزو الأمريكي للعراق قد نجح في قلب النظام السياسي السابق وتغييره وفشل في إسقاط العراق، فإنَّ الطائفية السياسية التي نجحت في إحداث كل هذه التحولات سعت إلى إسقاط العراق كدولة كاملة ومحو خصوصيتها التاريخية التي عرفها التاريخ وشهد لها بها كنموذج لبلد يسوده الوئام بين القوميات والأديان.

نجحت الولايات المتحدة منذ البداية في صياغة مشروع طائفي عززت من خلاله مفهوم الانقسام الطائفي والمحاصصة، حيث أصبح الوجود الأمريكي حليفاً رئيسياً تسابقت من أجله الأحزاب الطائفية الشيعية والسنية، ومن أجله تسابق الأمراء الطائفيون وقاتلت النخبة الجديدة في العراق، في الوقت الذي عملت فيه الإدارات الأمريكية المتعاقبة ما في وسعها لكسبها لصالحها.

وهكذا أصبح قادة العراق الجدد حلفاء مقربين لـ "المحرر" من الخارج. وفي الوقت الذي احتدم فيه الصراع الداخلي للفوز بمقعد السلطة في العراق، سارعت المؤسسات العسكرية والسياسية الفاعلة في الإدارة الأمريكية إلى وضع اللمسات الأخيرة لاستكمال وتنفيذ فصول سيناريو احتلال العراق. وقد لا أبالغ عندما أقول إن هذا التشرذم الذي ما زال يشهده الساحة السياسية العراقية، وتقلبات سياسييها وتمسكهم بالسلطة، التي زادت حدتها وتشنجاتها منذ انطلاق عملية الانتخابات النيابية، ساهم في إدامة الفتنة والانقسام في المكون العراقي الاجتماعي والسياسي كما هي الحال في تصارع التيار الصدري والإطار التنسيقي. وأزمة محمد الحلبوسي مع مشايخ البادية الغربية.

وهكذا، وبعد عقدين من سقوط النظام العراقي السابق، ونتيجة لهذا الأسلوب الخاطئ والمتعمد في إعادة بناء الدولة، فإن الاختلاف في الرؤى فيما يتعلق بعلاقة العراقيين ببيئتهم الإقليمية لا يزال يهدد استقرار ما تبقى من العراق، حيث فشلت الأحزاب الدينية في تطوير نظام حكم شامل للجميع. وقد تعززت الانقسامات الطائفية الداخلية نتيجة الإصرار المتعمد على تكوين نخبة طائفية تسيطر على القاعدة الطائفية الشعبية، بدلاً من التركيز على أهمية وحدة القاعدة الجماهيرية الواسعة العابرة للطوائف. أصبحت مؤسسات الدولة بؤر صراع بين أطراف تتنافس على السلطة والثروة. ومع تزايد الاهتمام الأمريكي والدولي بهذه القوات، ازدادت محاولات الأحزاب السياسية العراقية لإرضاء اليد الأمريكية المؤثرة لتتويجها كقادة لحكم العراق. وهكذا نجحت الولايات المتحدة في لعبتها من خلال تقاربها مع المشروع الطائفي الإيراني، الأمر الذي ساهم في تصعيد الأزمة السياسية العراقية بالسماح للدين السياسي الطائفي بالسيطرة على الساحة السياسية، وبالتالي الاستيلاء على السلطة بقوة المال والسلاح، لدرجة أن معظم المؤسسات والفرق العسكرية أصبحت حكراً على الزعماء الطائفيين والعرقيين، في بلد تكون فيه العناصر الأمنية والطائفية هي مفتاح السيطرة والتأثير والتلاعب بملفات الفساد.

وعلى الرغم من وجود الدستور الذي ينظم عمل العديد من مؤسسات الدولة، إلا أن صقور الأحزاب الحاكمة لم يترددوا في السيطرة على البنك المركزي، وهو أحد الهيئات المستقلة المرتبطة بمجلس النواب، والذي حصنه القانون منه. أي تدخل حكومي مركزي، ضبط مصير مليارات الدولارات وإنفاقها دون حساب لتمويل أنشطة خاصة، وتحويلها إلى إيران وبعض دول المنطقة، في ظل تداعيات الصراع الأمريكي الإيراني على الساحة العراقية والمنطقة، وتحت غطاء الإجماع الأمريكي الإيراني على قبول نظام سياسي عراقي جديد يحظى مسؤولوه وأحزابه برعاية ودعم غربيين، يعتمد في استمراره والدفاع عن أسسه وفكره الطائفي على مليشيات الدولة المسلحة المدعومة من خلف الحدود، على الرغم من معرفة النخبة الحاكمة بأهمية الدور الأمريكي في الحفاظ على شرعية النظام دوليًا من جهة، ودور الجماعات المسلحة في دعم النظام في الداخل.

وهذا يفسر دقة هذه العلاقة التي يمكن وصفها بأنها علاقة مصالح وشكل من أشكال التشبث بالسلطة واللعب على الحبال.

إن استمرار المراوغة واللعب على الحبال الطائفية الإيرانية والأمريكية، أو ما يسميه مسؤولو النظام في بغداد بـ "الحياد"، سيصطدم عاجلاً أم آجلاً بواقع الأمر، في حال اقتضت المصالح الأمريكية تغيير بوصلتها تتماشى مع الواقع المقبل لجيران العراق. وبعد انتهاء حاجة النظام الطائفي لملء الفراغ الذي خلفه إسقاط الدولة العراقية، وهو الخيار الذي كان مهما لإدامة الوجود الأمريكي واستمراره من خلال كونه الوصي المخلص للنظام العراقي الذي خلقه بنفسه ... وهنا تكمن قدرة وأهمية العامل الأمريكي كطرف منظم وفعال وأساسي في قلب المشهد السياسي العراقي، مما يسهل عليه ممارسة الضغط السياسي على الأحزاب الحاكمة، ومن ثم رسم خارطة طريق وتحديد مسارها وفق السياقات والشروط المحلية والإقليمية التي قد تجدها السفيرة الأمريكية في بغداد مناسبة لإرضاء البعض، أو لتنبيه الآخرين، خاصة وأن إدارة بايدن، كما كان الحال في الإدارات الأمريكية السابقة، لا تزال تحتفظ بأوراق الضغط على النظام السياسي العراقي، من خلال عدم السماح للنظام السياسي العراقي بتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة له. وهذا ما قد يدفع الجانب الأمريكي إلى إعادة رؤية الأمور، ورسم مستمر لشكل المشهد السياسي العراقي، من خلال ترتيب خارطة طريق سياسية عراقية جديدة تخدم استراتيجية الإدارة الأمريكية وأجندتها التي جاءت من أجلها في العراق والمنطقة. وهذا ما يراه العراقيون بجلاء في نشاطات السفيرة الأمريكية ومندوبة الأمم المتحدة وسعيهما المشترك لاحتواء القوى السياسية والمسلحة النشطة على الساحة العراقية تماشياً مع التطورات الداخلية والإقليمية المقبلة.

***

...........................

* الكاتب عامر أبابكر: حاصل على درجة الدكتوراه. شهادة من جامعة قبرص الدولية. تخصصه في السياسة في الشرق الأوسط. تشمل مجالات اهتماماته العلاقات الدولية والأمن الدولي والسياسة الخارجية والصراع العرقي.

* ترجمت المقالة عن صحيفة ومنبر ( moderndiplomacy ) الأوروبي

أطلق السوريون في الشهور الأولى للثورة شعارات كثيرة، كان أهمها شعار "الشعب السوري واحد"، كما أطلقوا على أيام الجُمع التي كانوا يخرجون فيها من المساجد تسميات كثيرة، كـ جمعة صالح العلي، وآزادي (الحرية)، وحماة الديار وغيرها من التسميات، التي كانت تعكس مواقف السوريين النبيلة، والتي ظهرت تجلياتها في المظاهرات الشعبية في عموم المحافظات السورية، قبل أن يدفعهم نظام الأسد إلى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وعوائلهم، وبخاصة بعد أن تكررت ممارساته الأمنية العنيفة.

وبعيدًا عن المواقف الأيديولوجية المسبقة، من الضروري أن ندرك أن رفع شعار "الشعب السوري واحد"، أو آزادي، أو أطلاق اسم صالح العلي على احدى الجُمع، لحثّ شريحة معينة على ضرورة أن تسلك سلوكًا وطنيًا تجاه الثورة، لا يعني بشكل طبيعي وأوتوماتيكي أن الآخر أصبح من أهل هذه القيم (الشعارات)، والدليل أن الواقع يُثبت أن من يُفترض بهم أن يتمثلوا سلوك صالح العلي (الوطني)، راحوا يعيثون فسادًا ودمارًا في البلاد والعباد، كما أن من رُفع لأجلهم شعار (آزادي) راحوا أيضًا يُهجّرون الناس من قراهم ومدنهم، ليقموا عليها كانتون قومي تحت الرعاية الامريكية.

من هنا فإن الخطر الحقيقي الذي يواجهنا كسوريين، على هذا الصعيد، هو أن يتم التعامل مع شعار "الشعب السوري واحد" بوصفه شعارًا ناجزًا، وأنه الحل السحري لمشاكلنا المختلفة، فـ شعار "الشعب السوري واحد" في بعده النظري، وبعده التطبيقي، ليس مشروعًا ناجزًا، وإنما هو من المشروعات المفتوحة على كل المبادرات السورية، التي نأمل أن تجد طريقها إلى النجاح يومًا ما، وعلى الجميع أن يعرف أنه لا يوجد شعب سوري واحد دون أن نؤمن جميعًا بوحدة الأراضي السورية، وإن أي شعار لا يصدقه الواقع هو شعار شكلي لا قيمة له، وإن حجر الزاوية في مشروع الشعب السوري واحد هو وحدة الأراضي السورية، كما أن حجر الزاوية في مشروع الحرية هو وجود الإنسان الحر، الذي يترجم قيم الحرية ويدافع عن مقتضياتها ومتطلباتها، مع ملحوظة أن هذه العملية لا تتم اعتباطًا أو صدفة، و إنما هي بحاجة إلى تهيئة وتنشئة وتربية.

ولهذا، فإن المطلوب ليس الصراخ باسم الشعارات الجديدة التي أطلقتها الثورة، وإنما العمل على التربية عليها، لأن التربية على هذه الشعارات والقيم والمبادئ هو الطريق الطبيعي لخلق وقائع مجتمعية منسجمة مع مقتضيات هذه القيم، وشعار "الشعب السوري واحد" كممارسة، ليس خطابًا يلقى، أو ادعاء يدعى، وإنما يجب أن يكون إرادة إنسانية صلبة، تتجه نحو التمسك بوحدة الجغرافيا السورية ومقتضياتها. وحيث تتوفر الإرادة الإنسانية المتجهة صوب وحدة الوطن السوري، تتحقق بذات القدر قيم المواطنة والانتماء والحرية، فحجر الزاوية في مشروع وحدة الأراضي السورية، هو إرادة السوريين. من هنا ينبغي الاهتمام بمفهوم (التربية على بناء إرادة قوية لا تسمح بتفكيك الوطن وتقسيمه كما يرغب بعضهم)، إذ إن المهمة العامة الملقاة على كاهل جميع النخب هي تربية شرائح المجتمع المختلفة على ضرورة أن يبقى الوطن السوري موحدًا، مع التأكيد أن التربية على مثل هذه الإرادة تحتاج إلى: استعداد نفسي تام للقبول بكل متطلبات المواطنة، وكذلك الاطلاع والتواصل الثقافي مع المنجز الثقافي الإنساني لكل أطياف الشعب السوري، الذي يؤسس لخيار وحدة الأرض ويبلور مضامينه.

من هنا يمكن القول: الوطنية سلوك وليست كلامًا في الهواء، لا تحدثني عن الوطن وأنت ترتمي في أحضان مخابرات الدول التي تتآمر على وطنك، ولا تحدثني عن الوطن وأنت تختصر الوطنية في شعارات تنشرها على صفحات التواصل الاجتماعي، أو أغنية وطنية تدغدغ مشاعرنا وتتحدث عن واقع افتراضي يتم تزييفه، ولا تُسطر لنا شعرًا أو نثرًا عن الوطنية وأنت لا تتمثله في سلوكك اليومي اتجاه وطنك..

الوطنية الحقة تعني أن تحصل على حقوقك وتؤدي واجباتك اتجاه وطنك دون نفاق أو رياء، والوطنية تقتضي ألا تستغل ثورة شعبك ضد الظلم لتتسلق عليها وتسرق مقدراتها، وتتآمر مع مخابرات الدول ضدها وضد وطنك.. ومن ثم، فإن المطلوب هو تربية وطنية جديدة تكون قادرة على بناء رؤية ثقافية متكاملة تساهم في تفكيك القيم المضادة لوحدة الوطن السوري، وبناء وقائع ومناهج وخيارات تُسهم في تعزيز خيار قيم الثورة في الفضاء الوطني الخاص والعام، فضلاً عن صياغة كيفيات وآليات التحول نحو القيم الجديدة والسلوك بموجبها في الحياة العامة.

***

صابر جيدوري

مع بداية العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، أجمع الكثير من المحللين الرئيسيين الغربيين، أن أوروبا لم تكن أبدًا موحدة كما كانت في عام 2022، والدول التي لديها العديد من التناقضات والمطالبات لبعضها البعض تصرفت معًا، في محاولة لإلحاق أقصى قدر من الضرر الاقتصادي والسياسي بروسيا، وبدا للكثيرين أن أوكرانيا كانت قادرة حقًا على استعادة السيطرة على أراضيها، وكذلك إستعادة السيطرة على شبه جزيرة القرم، ولكن اليوم أصبح من الواضح أكثر فأكثر أن كييف ليست قادرة على مثل هذه الأعمال البطولية، وإن عش الدبابير الذي يسمى أوروبا الموحدة، في الواقع لم تكن هناك فيه أبدًا أي رائحة الوحدة هناك، وفي أي وضع حرج، قامت الدول الأغنى بسحب البطانية على نفسها.

وهكذا، فإن الدول الأوروبية، التي تعرب سلطاتها عن "دعمها" لأوكرانيا بكل طريقة ممكنة وتسعى في الغالب إلى تزويد نظام كييف بالأسلحة والذخيرة، فرضت مؤخرا حظراً تجارياً على المنتجات من أوكرانيا، ولاحظت وسائل الاعلام الغربية بالفعل أن الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على الواردات الأوكرانية، يؤكد الانقسامات في جهود الكتلة لدعم أوكرانيا، وان "فائض الحبوب يقوض النوايا الحسنة التي تحتاجها كييف بشدة".

وبالطبع، تحاول بروكسل "حفظ ماء الوجه" وتنتقد قرارات دول الاتحاد الأوروبي بحظر الواردات من أوكرانيا، قائلة إن "الإجراءات الأحادية" غير مقبولة وانتهاك محتمل للسياسة التجارية للكتلة، واتهمت حكومتا المجر وبولندا بالفعل، الاتحاد الأوروبي بأن السلطات الأوروبية لا تهتم بمحنة المزارعين المحليين، لأن الانخفاض في أسعار الحبوب العالمية مقارنة بذروة العام الماضي أثر على المنتجين، وبالتالي تعرضت صادرات الحبوب من أوكرانيا للتهديد مرة أخرى، وتوقفت الإمدادات عبر البحر الأسود، حيث حظرت بعض دول الاتحاد الأوروبي استيراد المنتجات الأوكرانية، وتوقفت بولندا ورومانيا والمجر وسلوفاكيا وبلغاريا، عن استيراد الحبوب والذرة وبذور عباد الشمس، واستيراد السكر والفواكه والخضروات واللحوم والحليب والبيض وعدد من المنتجات الأوكرانية الأخرى، بسبب مخاوف من أن الإمدادات تلحق الضرر بأسواقها المحلية، وقام المزارعون المحليون بأعمال شغب، وأغلق البولنديون الساخطون الأسبوع الماضي خط السكة الحديد على الحدود بين أوكرانيا وبولندا في غروبيشيف.

وخسر المنتجون الزراعيون المجريون أكثر من ثلث دخلهم بسبب حقيقة أن حوالي 2.5 مليون طن من الحبوب تم تسليمها من أوكرانيا بأسعار زهيدة، وتم الإعلان عن هذه البيانات رسميًا من قبل رئيس وزارة الزراعة المجرية إستفان ناجي، والآن تحظر براتيسلافا استيراد الحبوب والبذور الزيتية وغيرها من المنتجات إلى البلاد من أوكراني، واعتبارًا من 19 أبريل، أوقفت سلوفاكيا مؤقتًا استيراد الحبوب وعدد من المنتجات الأخرى من أوكرانيا، أعلن ذلك رئيس وزراء الجمهورية إدوارد هيغر، وقالت سلوفاكيا إنه على الرغم من أنها لم تحدد موعدًا لرفع حظر الاستيراد، لا يزال بإمكان أوكرانيا نقل حبوبها عبر أراضيها، ولكن فقط في حالة العبور، مع وجود احتمال كبير، في المستقبل القريب، أن تمنع بلغاريا الإمدادات الغذائية من أوكرانيا، وأوضح وزير الزراعة البلغاري يافور جيتشيف أن حكومة البلاد "بحاجة إلى حماية المصالح البلغارية"، كما تم الإعلان عن التعليق المحتمل لاستيراد المنتجات الأوكرانية إلى أراضيها في رومانيا.

أما في الجانب الإنساني الذي خصص له الغرب مليارات الدولارات، على وسائل الاعلام الغربية والعالمية وحتى العربية، لتشويه صورة روسيا وتحميلها مسئولية هجرة الملايين من الاوكرانيين، ورسم صورة جميلة على التلاحم الأوروبي مع اللاجئين، وفتح البيوت الاوربية واعتبارهم ضيوفا " كرماء "على شعوبهم، لكن مع مرور الوقت، انكشفت حقيقة هذه الحملة الزائفة، وبدأت معاناة الاوكرانيين تتعقد يوما بعد يوم .

وبدأت البلدان الغربية تشعر بأن الزيادة الكبيرة في الإنفاق التي أثارها الصراع في أوكرانيا، تضع ضغوطًا على ميزانياتها، خصوصا في دول الجناح الشرقي للاتحاد الأوروبي (والتي هي أصلا تعاني الفقر والعوز)، مما أدى إلى قيام حكوماتهم بتخفيض مقدار المساعدة المالية للاجئين، ومحاولة إجبارهم على النظر للعمل، وتشير وكالة بلومبيرغ، الى أنه ومنذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، أنفقت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أموالًا أكثر بكثير مما كان مخططا له في الأصل، في مجالات تتراوح بين زيادة الإنفاق الدفاعي، وإرسال الأسلحة إلى كييف، إلى دعم فواتير الخدمات بعد ارتفاع أسعار ناقلات الطاقة.

ويتم إنفاق الأموال أيضًا على محاولة التعامل مع ما تسميه الأمم المتحدة، أسوأ أزمة لاجئين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ويشير المراقبون الى أنه يتعين على الدول المجاورة لأوكرانيا، أن تنفق الكثير من الأموال لدعم ملايين اللاجئين، معظمهم من النساء والأطفال، وكل هذا يضع عبئا ثقيلا على الميزانيات الوطنية، وتحولت السلطات الرومانية إلى تنسيق جديد لمساعدة اللاجئين، مشيرة إلى حقيقة أنهم لا يملكون ما يكفي من المال، لأنهم أنفقوا بالفعل حوالي 500 مليون يورو، والآن سيتم تقديم المساعدة فقط لفئات معينة من اللاجئين، وسيحصل مواطنو أوكرانيا الأصحاء الذين ليس لديهم أطفال صغار على المساعدة إلا لمدة شهر واحد - سيتعين عليهم البحث بنشاط عن عمل، ووافقت حكومة بوخارست مؤخرًا على خطة رسمية لخفض المدفوعات إلى النصف لما يقرب من 100،000 لاجئ أوكراني يعيشون الآن في رومانيا.

كما أدى العبء المالي أيضًا إلى موجة جديدة من الاقتراض، حيث باعت رومانيا وبولندا سندات بلغ مجموعها 14 مليار دولار هذا العام، وبعد أن استقبلت بولندا ما يقرب من 1.6 مليون لاجئ على أراضيها، ألغت تدريجياً إعانة الإسكان البالغة 40 زلوتي (10 دولارات أمريكية) للفرد في اليوم لجميع الأوكرانيين القادرين على العمل، وأن السلطات البولندية لا تزال تحتفظ بمدفوعات أخرى، بما في ذلك إعانة شهرية قدرها 500 زلوتي لكل طفل والتعليم المجاني والرعاية الطبية، لكنها رفضت بالفعل وسائل النقل العام المجانية، في حين ستتوقف سلطات جمهورية التشيك أيضًا عن دفع رواتب الكفلاء الذين قبلوا اللاجئين وتبدأ في توفير الأموال لدفع تكاليف السكن للاجئين أنفسهم، وتخطط أيضًا لخفض المدفوعات لأولئك القادرين على العمل بحلول نهاية العام.

وينتهي برنامج بدل السكن في سلوفاكيا البالغ 24 يورو في اليوم للبالغين و 12 يورو لكل طفل في نهاية مايو، حيث قالت وزارة المالية إن "الاحتياطي المالي المخصص لأوكرانيا لا يغطي هذه التكاليف حتى نهاية العام"، وبدأت آثار هذه التخفيضات في الظهور بالفعل، والآن وبعد أن ألغت السلطات الرومانية تدريجياً المساعدة الحكومية، سيجد الكثيرون صعوبة في دفع الإيجار، الذي يبلغ متوسطه في بوخارست حوالي 400-500 يورو شهريًا، "من الواضح أننا أصبحنا عبئًا. قالت امرأة أوكرانية تبلغ من العمر 55 عامًا كانت تقف في طابور في محطة للصليب الأحمر في بوخارست للحصول على صندوق من البقالة".

وبالمناسبة، لا تكتب بلومبيرغ أي شيء عن روسيا، حيث وجد ما يقارب 5 ملايين لاجئ من أوكرانيا مأوى لهم أكثر من أي بلد آخر، في الوقت نفسه، لا تشكو المناطق الروسية من أي شيء، ووسائل الإعلام الغربية تتظاهر بأن أوروبا فقط هي التي تنفق الأموال على المهاجرين من أوكرانيا، وعلى ما يبدو، من غير الملائم جدًا الإجابة على الأسئلة حول سبب فرار الناس بشكل جماعي إلى روسيا، إذا كانت "دولة معتدية" ولماذا لا يواجه المهاجرون في روسيا الصعوبات التي تجبرهم على العودة من أوروبا؟ لماذا لا تعتبر روسيا اللاجئين من أوكرانيا "عبئا"؟.

كما بدا الغرب يستشعر ان أوكرانيا تتصرف بوقاحة تجاه أوروبا وتطالب بشيء ما باستمرار، ولذلك، فإن أورسولا فون دير لاين تضع على الفور شروطًا انتقامية لكييف، هذا ما قاله الخبير السياسي والاقتصادي إيفان ليزان لصحيفة VZGLYAD، ونقل عن رئيس المفوضية الأوروبية، أن الاتحاد الأوروبي على استعداد لتمويل استعادة أوكرانيا فقط، في مقابل الإصلاحات وتخضع لمكافحة الفساد، بالإضافة إلى ذلك، سئم الجميع في أوروبا من أوكرانيا، كونها تتصرف بوقاحة حقًا وتطالب بالكثير، وتطلق على نفسها اسم" ضحية العدوان "، بالإضافة إلى ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي يدرك أن هذه الأموال ستذهب مثل المياه إلى الرمال، وسيتم ببساطة نهبها .

ونتذكر أنه في نهاية أبريل، طلبت أوكرانيا من الإدارة الأمريكية مساعدة اقتصادية طارئة بمبلغ لا يقل عن 2 مليار دولار شهريًا، وفي وقت سابق من ذلك الشهر، طالب فلاديمير زيلينسكي بخطة إنقاذ شهرية بقيمة 7 مليارات دولار من الاتحاد الأوروبي، في الوقت نفسه، قالت زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية، مارين لوبان، إن زيلينسكي كان يطلب من الغرب أكثر مما يمكن أن يقدمه له، في الوقت نفسه، في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، يتزايد الإرهاق من الأزمة، وانخفاض مستويات المعيشة، والتضخم، وبالتالي فشلت دول الاتحاد الأوروبي في الاتفاق على الشروط الفنية للمساعدة المالية الكلية الإضافية لأوكرانيا، لكنها أيدت الحاجة إلى دعم مالي كبير لكييف، في 17 مايو، وافق وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي على تخصيص 500 مليون يورو لكييف للمساعدة العسكرية.

ويشدد المراقبون، على أنه من الممكن أن يبدأ الناس قريبًا في طرح الأسئلة على قيادة بلدانهم حول أين تذهب أموالهم، وما هي الفائدة منها، ولماذا لا ينفقونها على احتياجات بلدانهم، وعلى سبيل المثال، وقد تطالب بروكسل بنقل تدفقات الميزانية داخل البلاد إلى سيطرة المسؤولين الأوروبيين، وفي اليوم الآخر، أعلن البولنديون أيضًا أنهم يريدون إدارة جميع الأموال التي تذهب إلى أوكرانيا، أي أنهم يريدون الجلوس على التدفقات المالية والسيطرة عليها، ولا نعتقد أن رغبات بولندا وتصريحات أورسولا فون دير لاين، ترتبط ارتباطًا مباشرًا ببعضها البعض، لكن هذا يتحدث عن الاتجاهات العامة في أوروبا تجاه أوكرانيا .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

يقابلها غياب استراتيجية مقاومة فلسطينية

بداية نترحم على الشهيد خضر عدنان الذي طلب الشهادة فنالها بعد أن سجل شهادة فخر واعتزاز لكل فلسطيني وليس لحركة الجهاد الإسلامي فقط من خلال رفضه لسياسة الاعتقال الإداري وكشف الممارسات الإرهابية للعدو في سجون الاحتلال، ولكن ما يدور من تخوفات من تصعيد وحرب بين الكيان الصهيوني وحركة الجهاد الإسلامي وانتظار رد من حركة الجهاد على عملية الاغتيال إنما يعبر عن المنزلق الخطير التي تقع فيه حركة التحرر الفلسطيني بكل فصائلها، الأمر الذي يتطلب التوقف عنده وكشف مخاطره.

فمن المعلوم أن عمليات القتل والاغتيالات شبه اليومية بحق الفلسطينيين التي يقوم بها العدو في المعتقلات وخارجها وفي كل ربوع الوطن وخارج الوطن إنما تأتي في سياق سياسة واستراتيجية دولة الاحتلال وليست عملاً أو إنجازاً لهذا الحزب الصهيوني أو ذاك، ولكن غالباً ما يكون الرد عليها ليس في سياق استراتيجية وطنية بل رداً حزبياً أو مناطقياً وكأن المعركة بين دولة الاحتلال وحركة فتح أو بينها وحركة الجهاد أو حماس أو الجبهة الشعبية الخ، وأحياناً تبدو المعركة وكأنها بين دولة العدو وقطاع غزة فيما تقف الضفة موقف المتفرج وفي الفترة الأخيرة تنزلق الأمور الى مواجهة وحرب في الضفة بينما غزة تقف موقف المتفرج، وحتى داخل الضفة يبدو أن الاحتلال من جانب والانقسام الداخلي من جانب يعزز التخوفات التي كتبنا عنها وحذرنا منها في مقال سابق تحت عنوان (الحذر من تجزئة ساحات المقاومة)  حيث برزت جماعة (عرين الأسود) في نابلس  كما ظهرت (كتائب جنين) في مدينة جنين وكلا الجماعتين أعلنتا عن نفسها عبر وسائل الإعلام المصورة وبشكل استعراضي فيما بقيت المدن الأخرى شبه ساكنة، الأمر الذي أدى لتفرد جيش الاحتلال بكلتا الجماعتين وتصفية غالبية عناصرها.

عندما اغتالت إسرائيل القائد أبو على مصطفى في مكتبه 27 /8/2001 ردت الجبهة الشعبية باغتيال وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي وما أدى إليه العملية من توقيف قادة الجبهة الشعبية في الضفة وعلى رأسهم أحمد سعدات من طرف السلطة الفلسطينية حتى لا تغتالهم إسرائيل ثم تم اعتقالهم من داخل سجون السلطة من طرف جيش الاحتلال وما ترتب على ذلك من اتهامات متبادلة بين السلطة والجبهة الشعبية وتوتير للعلاقات ما زالت حتى اليوم.

ما بعد الانقسام وسيطرة حركة حماس على القطاع بدت الأمور وكأن الحرب هي بين إسرائيل وقطاع غزة، ففي ظل التزام السلطة الفلسطينية بعملية السلام شنت إسرائيل عدة حروب على القطاع كانت أحياناً بسبب وحينا ً بدون سبب وحينا آخر بمبادرة من أحد الفصائل في القطاع.

ففي 27 ديسمبر 2008 شنت إسرائيل حرباً على غزة حيث ألقت قرابة "مليون" كيلوجرام من المتفجرات على قطاع غزة كما هدمت أكثر من (4100) مسكن بشكل كلي، و(17000) بشكل جزئي، وفقد أدت عملية "الرصاص المصبوب"، إلى مقتل أكثر من 1436 فلسطينيًا بينهم نحو 410 أطفال و104 نساء ونحو 100 مسن، وإصابة أكثر من 5400 آخرين نصفهم من الأطفال.، فيما اعترفت السلطات الإسرائيلية بمقتل 13 إسرائيلياً بينهم 10 جنود وإصابة 300 آخرين.

في الرابع عشر من نوفمبر 2012ا قامت إسرائيل باغتيال القائد القسامي أحمد الجعبري وعلى إثر ذلك اندلعت مواجهات كبيرة أو حرباً ،أطلقت عليها المقاومة اسم "معركة حجارة السجيل " و امتدت لثمانية أيام شاركت فيها كل الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة وفيها وصلت صواريخ المقاومة التي وصل عددها خلال أيام الحرب 155 صاروخا لتل أبيب والقدس ومدن أخرى داخل فلسطين المحتلة ،وفي المقابل ردت إسرائيل موظفة كل قوتها العسكرية ملحقة دماراً وخراباً في البنية التحتية والمساكن في القطاع ،وسقط في الحرب 191 شهيداً وحوالي 1400 جريحا بينما سقط للإسرائيليين 5 قتلى وعدد من الجرحى ،وانتهت الحرب بهدنة برعاية مصرية ودولية .

في السابع من يوليو/تموز 2014، شنت إسرائيل حربها الثالثة على قطاع غزة، أسمتها "الجرف الصامد"، فيما أطلقت عليها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) اسم "العصف المأكول".

وعلى مدار "51 يومًا" تعرض قطاع غزة لقرابة 60 ألفًا و664 غارة جواً وبراً وبحراً تسببت بمقتل 2322 فلسطينيًا وجرح نحو 11 ألفا وفقا لإحصائيات صادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية.

في المقابل، كشفت بيانات رسمية إسرائيلية عن مقتل 68 عسكريًا من جنودها، و4 مدنيين، إضافة إلى عامل أجنبي واحد، وإصابة 2522 إسرائيلياً بجروح و(حسب إحصائية، أعدتها وزارة الأشغال ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، فإن عدد الوحدات السكنية المهدمة كلياً بلغت 12 ألف وحدة، فيما بلغ عدد المهدمة جزئياً 160 ألف وحدة، منها 6600 وحدة غير صالحة للسكن).

وفي فجر الحادي عشر من نوفمبر 2019 استهدفت إسرائيل القيادي في الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا حيث استشهد مع زوجته في نفس الوقت جرت محاولة اغتيال القيادي الجهادي العجوري في منزله بدمشق واستشهد ابنه، وردت حركة الجهاد مباشرة وبقرار منفرد منها بالرد وأطلقت عشرات الصواريخ على مواقع إسرائيلية بالرغم من وجود غرفة عمليات مشتركة، وأسفرت الغارات الجوية عن استشهاد 34 فلسطينيا، وجرح أكثر من 100 آخرين،

في عام 2021 اندلعت معركة "سيف القدس" التي سمتها إسرائيل "حارس الأسوار. رداً على استيلاء مستوطنين على بيوت مقدسيين في حي الشيخ جراح واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى أطلقت المقاومة الفلسطينية أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، وأسفرت المواجهة عن نحو 250 شهيدا فلسطينيا وأكثر من 5 آلاف جريح، كما قصفت إسرائيل عدة أبراج سكنية، وأعلنت إسرائيل عن تدمير نحو 100 كيلومتر من الأنفاق في غزة، وفي الجانب الإسرائيلي تم الإعلان عن مقتل 12 إسرائيليًا وإصابة نحو 330 آخرين، وفق مصادر إسرائيلية.

وقد تم وقف إطلاق النار بعد وساطات وتحركات وضغوط دولية.

في يوم الخامس من أغسطس/آب 2022 اغتالت اسرائيل قائد المنطقة الشمالية لسرايا القدس (الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، وردت حركة الجهاد الإسلامي بعملية سمتها "وحدة الساحات"، وأطلقت خلالها مئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، وأفادت وزارة الصحة في قطاع غزة بأن عدد الشهداء في هذه الحرب بلغ 24، بينهم 6 أطفال، في حين أصيب 203 بجروح مختلفة.

في كل المواجهات السابقة لم تكن هناك أي استراتيجية فلسطينية للرد وكانت الخسائر الفلسطينية تفوق كثيرا خسائر الاحتلال ومع ذلك كانت الأحزاب تعلن عن تحقيق انتصارات وانجازات، فهل سيكون رد حركة الجهاد الإسلامي وفصائل المقاومة مختلفا في هذه المرة وتستفيد من تجارب الماضي؟

لقد أثبتت حركة الجهاد الإسلامي منذ نشأتها عام 1987 وانفصالها عن جماعة الإخوان المسلمين أنها حركة وطنية فلسطينية تقاتل من أجل الحرية والاستقلال ولا تسعى للسلطة أو الجاه، وأن يكن لها توجهات إسلامية فهذا لا ينتقص من وطنيتها حيث لا تعارض بين الوطنية والإسلام فالغالبية العظمى من الفلسطينيين مسلمون وفي الوطن متسع للجميع.

نتمنى أن يكون رد الجهاد الإسلامي على جريمة اغتيال خضر عدنان، وهو ليس الوحيد الذي استشهد في سجون الاحتلال وعلى يد جيش الاحتلال ومستوطنيه في كل أرض فلسطين، ردا وطنيا عقلانيا من خلال العمل على صياغة استراتيجية وطنية للتعامل مع استراتيجية الحرب والعدوان الصهيونية في الضفة والقدس وكل فلسطين، في إطار استراتيجية وطنية شمولية وألا يقتصر ردها على إطلاق الصواريخ من غزة حيث كانت نتائج حرب الصواريخ مدمرة لقطاع غزة دون وقوع أضرار تُذكر عند العدو بل كان العدو يوظفها لعزيز الانقسام. ولفت الانتباه عما يجري في الضفة والقدس، ولن يلوم أحد حركة الجهاد إن تجنبت إطلاق الصواريخ.

***

بقلم الدكتور ابراهيم أبراش

مقدم الى السلطات الثلاث مع التقدير

الحلقة الأولى: اسباب شيوع الفساد بعد التغيير.. تحليل سيكوبولتك

تنويه: يتضمن هذا الملف تشخيص الأسباب التي اوصلت العراق الى ان يكون من بين الدول الأكثر فسادا في العالم بعد التغيير كشرط علمي في المعالجة ، وتوثيقا لحجم الفساد وأبعاده في العراق من مصادر موثوقة، وتلخيص موجز لتجربة سنغافورة في مكافحة الفساد وتجربة ماليزيا في التنمية الاقتصادية.. وصولا الى تقديم مشروع علمي يمكّن متخذ القرار من تحديد طريقة تعامل ناجحة مع ظاهرة خطيرة ومعقدة.. منطلقين من حقيقة ان محاربة الفساد تحتاج إلى"النضال الطويل والمكلف والمؤلم من أجل النجاح"، وفق ما يرى برتراند دو سبيفيل صاحب كتاب"OVERCOMING CORRUPTION" الذي يعدّ مرجعا أساسيا في مجال محاربة الفساد، وتوكيده بأن مكافحته تتطلب استراتيجية وطنية ذات أهداف واضحة وقابلة للتحقيق.

ان اشرس المعارك التي تواجه العراق الآن هي معركته مع الفساد، وهي مخيفة! بدليل ان رئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي اعترف علنا بأنه لا يستطيع مكافحة الفساد لأنه لو كشف ملفاته لأنقلب عاليها سافلها. وحين تلاه رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي وعد بأصرار بانه سيضرب الفساد بيد من حديد (حتى لو يقتلوني) ثم اعترف بأنه غير قادر، لأن الفاسدين يمتلكون القوة والمال وانهم مافيا. وحاول السيد مصطفى الكاظمي كسابقيه، فيما حصلت في زمانه سرقة القرن.. ما يعني ان محاربة الفساد تحتاج الى متخذ قرار حازم وذكي واستثنائي يعتمد مشروعا علميا ، وهذا ما يتمناه العراقيون للسيد محمد شياع السوداني.

اسباب شيوع الفساد في العراق

لا يمكن معالجة أية ظاهرة دون معرفة أسبابها ، وتعد أستطلاعات الرأي أحد اهم أساليب البحث العلمي في تشخيص اسباب أية ظاهرة.ولهذا توجهنا عبر وسائل الاتصال الجماهيري والبريد الآلكتروني عن اسباب شيوع الفساد في العراق ، فحددتها بالآتي:

* غياب الرقابة المالية

* عدم تطبيق القانون

* عدم استقلال القضاء

* المحاصصة

* ازدواجية الفرد العراقي

* الفقراء بوصفهم مسؤولون عن اطالة مدة بقائه

* الوضع السياسي المنهار والفوضى الامنية

* عدم وجود موقف حازم للمرجعية الدينية.

وتضمنت الاجابات تعليقات ساخرة واخرى عامة من اكاديميين ومثقفين نوجزها بالاتي:

* الجميع فاسدون لا استثني احدا. وعلى رأي مظفرالنواب، استثني ابن عّم كونفوشيوس وابن خال الجاحظ وابن عمة ابن منظور وابن خالة الإسكندر الكبير صاحب البواسير السبعة ووارث عمامة الحجاج بن يوسف احد كلاب ثقيف فقد كان المسكين يحلم اثناء الأزمة.

* الجميع مسؤولون عن شيوع الفساد بمن فيهم الفقراء والضعفاء.. فحين يشيع الفساد تنتشر ما يسمى ثقافة الفساد.. فيسمى الفاسد ذكيا والامين مسكين ما يعرف مصلحته.

* صعب التحديد.. كلهم فاسدون وفاسقون بلا استثناء.

* للكاتب وليم كولدنغ رواية تسمى (الذباب).. ملخصها وصول مجموعة من الاطفال الى جزيرة غير مأهولة، وبغياب سلطة الكبار (القانون) والدين يتحولون بالتدريج الى قتلة.

* الشعب هو الذي يشجع على الفساد.. فلو امتنعنا عن الرضوخ الى كل مرتشي وفضحنا الاعيب البعض منهم وساهم كل فرد بأصلاح نفسه ونصح من حوله لما استشرى هذا المرض .

* الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والناهبين والخونة لا يعتبر ضحية بل شريكا في الجريمة. (جورج اوريل) .

وكنا اجرينا دراستين علميتين في (25 حزيران 2016) وفي(29/6/2020 )، عن اسباب فشل العملية السياسية في العراق.. حددت اهمها بالآتي:

* تعصب اوعدم نضج سياسي او مرض نفسي مصاب به العقل السياسي العراقي،

* عدم او ضعف الشعور بالانتماء الى العراق من قبل المسؤولين الذين يحملون جنسيات اجنبية ،

*اشخاص يأتمرون بتعليمات دول قوية (امريكا وبريطانيا) واخرى اقليمية،

* قضية اشخاص اضطهدهم النظام الدكتاتوري ويرون ان من حقهم الاستفراد بالسلطة والثروة،

* لعبة اقوياء استضعفوا واستغبوا الشعب.

وعزت نتائج الدراستين اسباب الفشل الى فريقين : الشعب لأنه مجتمعِ متفكك يرغب بالفوضى وطرق العيش العشوائية والتسلق على أكتاف الضعفاء، والأنجرار للميول الدينية والمذهبية والعنصرية الكاذبة، ولفكر بدوي عشائري تسلطي طائفي بثقافة اجتماعية هابطة جائت بفاشلين وافرزت طبقة سياسية هابطة، والسياسيين.. لخلل في تكوينهم المهني والاجتماعي والنفسي، فلا هم سياسيون يفقهون المبادىء ولاهم مهنيون يفهمون كيف تدار الدولة.

تحليل سيكوبولتك

تعود بدايات الفساد الى عام (1980) في المؤسسة العسكرية تحديدا" بين ضباط وميسوري حال من المجندين بدفع رشا و(هدايا) الى آمريهم للحفاظ على حياتهم او الحصول على اجازة يمارسون فيها اعمالا" تدرّ عليهم رزقا" أوفر من رواتبهم، و"شراء" قادة عسكريين بمنحهم اوسمة شجاعة بمكافئات مالية ضخمة واراضي، خلقت منهم فئة ثرية جدا" ولدّت لدى الضباط الآخرين الشعور بالحيف فأخذوا (حقهم) من الدولة بالرشوة والاختلاس، نجم عنها (تطبيع نفسي) مهد لقبول هذه الظاهرة.

وجاء الحصار الذي اضطر اساتذة جامعة ان يعملوا (سواق اجرة) ويفتح مدرسون (بسطيات.. جنبر)لبيع السجائر، فدخل الفساد المؤسسات التربوية المسؤولة عن صنع الأخلاق ليلوث الضمائر الفتية ويهيؤها لمرحلة القبول حين تصبح شابة، لينتقل (التطبيع) الذي مارس عملية (ترويض الضمير) لثماني سنوات، الى حالة (القبول) المبرر نفسيا.. لثلاث عشرة سنة.

في العام (2003) أطاح التغيير بالنظام ولم يطح بالفساد، بل توزع المحرومون على صنفين: سياسيون استلموا السلطة واستولوا على ممتلكات اشخاص ودولة، و(حواسم) نهبوا وفرهدوا ونطوا من الحضيض الى (القمّة).. بنوا العمارات في بغداد واشتروا الشقق الفاخرة في عواصم عربية.ولأنهم لم يحاسبوا، فقد ظهرت فئة من الناس اطلقوا على انفسهم (النوادم) لأن ضميرهم الذي عدّ النهب حراما" في لحظته، تبين لهم فيما بعد انهم اضاعوا الفرصة فصاروا من النادمين!. ويعني هذا سيكولوجيا، تعطّل الضمير الاخلاقي لدى الذين كانوا مترددين في حوادث النهب والفرهود، وزيادة مساحة قبول الفساد المالي اجتماعيا".

وبتعرض العراق لأخطار داخلية وخارجية ظهر عامل نفسي جديد ضاغط هو ( قلق المستقبل) اشاع الظاهرة اكثر في زمن البرلمانين الأول والثاني، وتحكّم بالغالبية المطلقة من المسؤولين فعدّوا وجودهم بالسلطة(فرصة)عليهم ان يستغلوها بما يؤمّن لهم ولأسرهم مستقبلا" ماديا" مضمونا".وبممارستهم له صار فعل الفساد( شطاره) وتوقف الضمير عن التأنيب بعدّ الفساد حراما".

وبتعمق المحاصصة والطائفية السياسية شاعت (سيكولوجيا الاحتماء) التي تعني ان ابن الطائفة يحميه حزبه الطائفي، دفعت بعدد من هذه الطائفة وتلك الى سرقة المال العام في اتفاق ضمني: (اسكت وأنا اسكت) منحهم الشعور بالأمن النفسي.وصار الفساد بحجم أكبر لم يشهده تاريخ العراق والمنطقة، و"الفضل" في ذلك يعود لأمريكان وأجانب جرّئوا عراقيين على "هبرات" كبيرة.. وأمّنوا لهم الحماية.

وحقيقة أخرى شخصها بريمر مبكرا في كتابه (سنتي في العراق)، انه وجد ان الشيعة يطالبون بحقوق الشيعة، والسنّة يطالبون بحقوق السنّة، والكورد يطالبون بحقوق الكورد.. ولا احد يطالب بحقوق العراقيين .وسبب ذلك في التحليل السيكولوجي ان من استلم السلطة بعد 2003 تحكمت فيهم (سيكولوجيا المظلومية) نجم عنها أمران: الأستفراد بالسلطة والثروة الذي تصاعد في (تموز- آب 2022) بين التيار الصدري والأطار التنسيقي ، وخلق أزمات ادت الى توالي خيبات في خراب سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي واخلاقي أصاب العراق بالشلل والفشل.. لتثبت الأحداث اننا لا نمتلك رجال دولة بل اشخاصا اعتبروا العراق غنيمة لهم فتقاسموه فيما بينهم بفساد مشرعن ثم تنازعوا على القسمة بعدعشرين سنة من الشراكة!

وبسكوت الحكومات السابقة عن محاسبة الفاسدين، وتبادل التهم بين معممين سياسيين بشكل خاص ومدّعين بالزهد والنزاهة.. افتقد الناس انموذج القدوة وصار الموظف البسيط يردّ على ضميره: (اذا كان قدوتي يرتكب هذا الفعل.. فأنا لست بأحسن منه.واذا كان حراما.. فلأضرب ضربتي.. ثم اذهب الى الحج واستغفر ربي.. والله غفور رحيم!).

ان تفاعل هذه الآليات على مدى (42) سنة أفرز نتيجة سيكولوجية هي أن الناس حين تضطر الى قبول أو غض الطرف عن سلوك كانوا يرفضونه، ويجدون أنفسهم غير قادرين على تغييره، انتشر بين غالبيتهم مخّرجينه بتبريرات واسقاطات تعطّل تأنيب الضميرعلى هذا الفعل، نصوغه بنظرية تشكل اضافة عراقية لعلم النفس والاجتماع العالمي، خلاصتها:

(اذا زاد عدد الأفراد الذين يمارسون تصرّفا يعدّ خزيا، وغضّ الآخرون الطرف عن أدانته اجتماعيا أو وجدوا له تبريرا، وتساهل القانون في محاسبة مرتكبيه.. تحول الى ظاهرة، ولم يعدّ خزيا كما كان).

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

القوى الديموقراطيّة العراقية لم تتبنى لليوم في برامجها السياسية وأنظمتها الداخلية وهي تعمل على أنهاء نظام المحاصصة الطائفية القومية، شعار الدولة العلمانية الديموقراطية، ولازالت ترفع شعار الدولة المدنية الديموقراطية كبديل لنظام المحاصصة، وهذا الشعار أشبه بالدواء الذي يهدئ آلام المريض دون علاجه، كما وأنّ نظام المحاصصة ليس ببعيد عن مفهوم الدولة المدنية من وجهة نظر الإسلاميين وشركائهم في السلطة. فنظام المحاصصة يطرح نفسه على أنّه ليس بنظام ديني بل أقرب الى المدنية، ويمنح القوى التي تصف نفسها بالمدنية هامش "كبير" من الحريّة والتي هي بالحقيقة مقنّنة وتتحرك ضمن أطر وخطوط حمراء لا تستطيع القوى الديموقراطية تجاوزها لتكون مؤثرّة في الحياة الأجتماعية والسياسية للبلاد، لا من خلال الأنتخابات التي لا تستطيع أي القوى الديموقراطية التي تطرح نفسها كقوى مدنية من إختراقها لصياغة السلطة مجموعة قوانين تحول دون حضور فاعل للقوى الديموقراطية في المشهد السياسي العراقي ومنه البرلمان من جهة، ولا من خلال العمل الجماهيري لغياب وحدة هذه القوى وتبنيها برنامج إنقاذ وطني في مواجهة قوى السلطة الفاسدة من جهة ثانية، ولغياب الوعي الأنتخابي وضعف الإنتماء الوطني مقارنة بالإنتماءات الدينية والطائفية والقومية والعشائرية لجماهير واسعة من أبناء العراق من جهة ثالثة. وكمدخل للتمييز بين ما تسمّى بالدولة المدنية والدولة العلمانية نرى أن لا ضير في العودة الى تعريفات اللغة لهما.

المدنيّة كما جاء في معجم المعاني الجامع إسم وهي: الجانب المادّي من الحضارة كالعمران ووسائل الإتصّال والترفيه، يقابلها الجانب الفكري والرّوحي والخلقيّ من الحضارة، وتعني كذلك الحضارة وإتّساع العمران. مدني: (اسم) منسوب إلى مَدينة، خاص بالمواطن أو بمجموع المواطنين، عكس عسكري. وقد تناول المعجم جملة من التعريفات المدنيّة كالقانون المدني، الدفاع المدني، الموت المدني، الطيران المدني، الحقوق المدنية، التربية المدنية، الحريات المدنية، المجتمع المدني، الخدمة المدنية والزواج المدني، ولم تتطرق معاجم اللغة مطلقا الى ما تسمى بالدولة المدنية. فالمدنية والمدني والمتمدّن يقابلها بالأنجليزية كلمة Civil، وهي غير كلمة العلمانية أو اللادينية في المعاجم الأنجليزية أي Secular، أما Secularism المشتقة من التي قبلها، فأنها تعني نظام دولة لا يلعب فيه الدين أي دور في تنظيم حياة المجتمع ولا دور له في البنية الأساسية في بناء ونهضة المجتمعات والدول الناجحة أي التعليم. كما وأننا لا نجد هذا المصطلح أو تعريفا له في المراكز البحثية الغربية ولا في حقلي العلوم السياسية والفلسفية.

ما تسمّى بالدولة المدنية ليست ضد أن يكون للدين دورا في الدساتير والقوانين التي تنظم حياة الناس الأجتماعية، كما ولا تقف أمام أن يكون للدين دورا في المناهج التعليمية خلال المراحل الدراسية المختلفة وصبغ التعليم بصبغة دينية، أو بصبغة يكون فيها للدين دور واضح وملموس فيها، وهذا ما يدفع الأسلاميون ومنهم أسلاميّو العراق للتواجد في المنطقة الرمادية وهم يتعاملون مع خطاب القوى الديموقراطية الواقعة في فخ ما تسمّيه الدولة المدنية من جهة، ومع منظمات المجتمع المدني ويخترقونها ويشترون ذمم بعض الناشطين فيها كما حدث مع بعض ناشطي أنتفاضة تشرين خدمة لمشروعهم المستقبلي أي أسلمة الدولة، وهذا ما يدفعنا للتساؤل حول إن كانت القوى الديموقراطية تريد بناء دولة متقدمة على أنقاض دولة المحاصصة التي دمرّت البلاد وستقوده للخراب فيما أذا أستمرت في السلطة، أم سترفع شعار تحقيق الدولة العلمانية الديموقراطية وتعمل من أجله بأعتبارها الطريق المفضي لتحرر البلاد من قبضة الفساد والفقر والجهل وسطوة الميليشيات المسلحة؟

الأسلاميون يستطيعون العيش مع ما يُطلق عليه الدولة المدنية، لكنّهم يُحشدّون كل قواهم ضد العلمانية والعلمانيين والدولة العلمانية. وكوسيلة لبدء هجومهم عليها يروّجون على أنّ العلمانية ظهرت في الغرب لمواجهة الكنيسة التي كانت تحتكر الدين وتبيع صكوك الغفران، وأنّ الاسلام لا يمتلك النظام الكهنوتي كما المسيحية، وأنّها ظهرت في الغرب لكسر هيمنة الكنيسة والتحرر من أغلالها. وكأننا في العراق على سبيل المثال وغيره من البلدان العربية، لسنا مقيّدين بفتاوى المؤسسات الدينية وتدخلاتها في الشؤون السياسية خدمة للمشروع الأسلامي الذي لم يستطع أن يقدّم لليوم نموذجا ناجحا واحدا في أي بلد عربي، علما أنّ جميع المؤسسات الدينية تعمل لصالح النخب السياسية ومصالحها في بلدانها وتمجّد صفوة رجال الدين وتمنحهم صفة القداسة، ومن خلال قداسة هؤلاء ووقفوهم الى جانب السياسيين كما في جميع مراحل التاريخ الأسلامي فأنّها تنشر العبودية في المجتمع وتتّهم بشكل غير مباشر من يناهضهم ويناهض الحكّام على أنّهم كفرة أي علمانيين بالمعنى السياسي للكلمة. وفي هذا الصدد يقول جان بودان في مؤلفه كتب الجمهوريات الستة: "بما أنّه لا يوجد أي أحد أكبر في الأرض بعد الله غير الأمراء السياديين، وإنّ الله أختارهم ضبّاطّا ليقودوا الناس الآخرين، فأنّ الحاجة ضرورية للنظر في مكانتهم من أجل أحترام جلالتهم بكلّ طواعيّة، والأحساس بهم والتحدث عنهم بكلّ شرف، لأن الذي يحتقر أميره صاحب السيادة يحتقر الله الذي هو صورته على الأرض". وإن كانت الكنيسة قد باعت صكوك الغفران لسرقة المؤمنين المسيحيين البسطاء، فأنّ المؤسسات الدينية ومن خلال فتاواها ولسرقة المؤمنين المسلمين البسطاء تحث الناس على طاعتها وبالتالي طاعة الأنظمة التي تعمل هذه المؤسسات لصالحها، فترسم لهم عالم آخروي جميل خال من الظلم والأضطهاد ليعيشوا حياة ملؤها الظلم والأضطهاد والفقر والمرض والجهل والتخلف في حياتهم الدنيا، وهذا بحد ذاته شكل من أشكال صكوك الغفران. وأذا تركنا التفسير اللغوي لأسم كهنوت وهو وظيفة الكاهن ومصدر الكهانة أي معرفة الأسرار أو أحوال الغيب، فأن رجال الدين الأسلامي اليوم هم أقرب الى الكهنة والكهنوت كما الكهنة والكهنوت في مختلف الأديان.

لقد ظهر مصطلح الدولة المدنية بوضوح وقوّة إثر ثورات الربيع العربي التي لم تنجح في إحداث تغييرات حقيقية في أيّ بلد عربي الّا بشكل جزئي في تونس مهد ثورات الربيع العربي، أمّا في أوربا فأنّ مصطلح المجتمع المدني وليس الدولة المدنية بدأ التداول به في القرن السابع عشر من قبل فلاسفة العقد الأجتماعي مقابل نظرية الحقّ الإلهي كتوماس هوبز وجون لوك وهيغل وماركس وغيرهم وغرامشي في العصر الحديث.

أنّ ما تسمّى بالدولة المدنية مصطلح حديث (عربي) يرجع أساسه لأستنتاجات غير علميّة لنظرية الحكومة المدنية لجون لوك، وإلى توافق غير معلن بين القوى الإسلامية كي لا تتّهم من أنّها تعمل لبناء دولة دينية إسلامية، والقوى الديموقراطية التي تخاف من طرح العلمانية كمبدأ نتيجة تكفير الإسلاميين للعلمانية والعلمانيين وإعتبارهم ملحدين. ولا وجود لها كما قلنا في أي معجم سياسي غربي أو مركز بحثي مهتم بالعلوم السياسية والفلسفية.

والدولة المدنية التي تريدها القوى الديموقراطية العراقيّة كبديل لنظام المحاصصة، لا تعالج أهم نقطة في بناء مجتمع جديد ومن ثم دولة جديدة وهو فصل الدين عن الدولة. أنّ أي تغيير سياسي لا يستحدث آليات سياسية وأجتماعية وأقتصادية وفكرية لنقل المجتمع للأمام وبناء جديد للدولة، هو تغيير فوقي وإستمرار للحالة السياسية التي سبقت التغيير من خلال عدم حلّ المشاكل التي كانت سببا لهذا التغيير ودافعا لحصوله. ومثلما لم تستطع قوى المحاصصة إستحداث الآليات السياسية والأجتماعية والأقتصادية والفكرية لبناء دولة عصريّة، فأنّ القوى الديموقراطية لن تكون قادرة هي الأخرى على إستحداث هذه الآليات من خلال ما يطلق عليه الدولة المدنية التي ترفع شعارها، لأنّها بحاجة الى تحقيق نقطة لا تستطيع "الدولة المدنية" تحقيقها وهي الفصل الكامل للدين عن الدولة كمقدمة لتفكيك أهم حليف للمؤسسة الدينية والقوى الطائفيّة أي المؤسسة العشائرية. وهذه المهمّة التي هي الحل الوحيد لأنقاذ العراق لا تأتي الّا عبر نظام عَلماني ديموقراطي حقيقي، يأخذ على عاتقه بناء مجتمع وفق آليات تختلف عن الآليات التي سبق وأن استخدمتها السلطات العراقية السابقة ومنها سلطة المحاصصة.

أنّ قيام نظام علماني ديموقراطي بالعراق سيقدّم أكبر خدمة للدين، بعد أن جعله الأسلاميّون ومنهم معممّون ومؤسسات دينية في وجه مدافع الإنتقادات، بنشرهم الفساد والفقر والجهل وقمع الحريّات وما ينتج عنها من آفات إجتماعية وخراب أقتصادي وأستعباد الناس، عن طريق منع الدين والمؤسسة الدينية للعب أي دور في مجال التعليم بإعتباره الركيزة الأساسية لبناء دولة متقدمة، لذا نرى إصرار الأحزاب الأسلامية ومعها المؤسسات الدينية على تدمير التعليم بالبلاد، عن طريق إضعاف المدارس والجامعات العراقية التي كانت يوما في مستوى متقدم عن طريق إنتشار المدارس والجامعات الأهليّة التي تمتلكها مؤسسات دينية وشخصيات من هذه الأحزاب، والتي يلعب الدين الطائفي والمفاهيم القوميّة في مناهجها دورا كبيرا. ومن خلال تجربة عراق المحاصصة اليوم نرى ضعف الدولة في مجال التعليم وعدم إمكانيتها في تطبيق نظام تعليمي حقيقي وموحّد بالبلاد، وترك الأمر لأهواء مالكي المدارس والجامعات الأهلية، الذين يبحثون عن الربح مع إستخدامهم المناهج التعليمية وفضاء هذه المدارس والجامعات كحاضنة آيديولوجية.

ويتجاهل الإسلاميون أن العلمانيّة حين تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، تكون قد جنّبت سقوط الدين في معتركات المصالح السياسية وتقلباتها، والتي تؤدي إلى تشويه صورة الدين في حال تم استخدامه في ألاعيب السياسة، وعن هذا كتب الفيلسوف الإنجليزي جون لوك قائلا:"من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تُنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف. يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحراراً، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة"، وإذا ما أردنا أن نطبّق مقولة لوك هذه بالعراق فنستطيع القول "يجب أن تكون الدولة منفصلة عن المؤسسة الدينيّة، والّا يتدخل أيّ منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر العراقي القادم عصر العقل، ولأوّل مرّة في تاريخ العراق الحديث سيكون الناس أحرارا وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة".

الدولة العلمانية الديموقراطية ليست معادية للدين والتديّن، بل على العكس فأنّها ومن خلال قوانين حريّة الرأي والمعتقد والفكر والضمير تمنح المؤمنين وغير المؤمنين حقوقا على قدم المساواة دينيا، كما تمنح أبناء شعبها من القوميات والأثنيات المختلفة حقوقا متساوية أيضا. ومثلما توفّر الحماية للمؤمنين قانونيا فهي توفّر الحماية للملحدين من خلال مبدأ حريّة الرأي والمعتقد والضمير. أنّ الحروب الدينية الطائفية والحروب القومية معدومة تقريبا في ظل العلمانية الديموقراطية وهذا ما نحتاجه فعلا بالعراق اليوم، كون الطائفتين المسلمتين خاضتا ولأوّل مرة في تاريخ العراق الحديث حربا حقيقية وتتخندقان اليوم مقابل بعضهما البعض، وخلافاتهما الفقهية والتي يستغلّها ساسة الطائفتين مع خطر المواجهة القومية بين العرب والكورد، يهددان بتقسيم البلاد كما حصل في السودان ويوغسلافيا والهند وبعدها إنفصال بنغلاديش عن باكستان. وسيبقى الفصل القانوني وفق الدستور بين الدين والسياسة، والتعليم بفصله التام عن التأثيرات الدينية لأي دين أو طائفة، مهمّة لا ينجح بها الا نظام علماني ديموقراطي، مع الأخذ بنظر الأعتبار من أننا بحاجة الى دستور يكتبه فقهاء قانون وليس فقهاء دين.

العلمانية كنظام للحكم لم تظهر دون مخاض سياسي وأقتصادي وأجتماعي وأخلاقي خاضته البشرية طوال تاريخها، بل تطورت على أنقاض أنظمة الحكم المختلفة منذ العبودية لليوم، ونجح الراهب مارتن لوثر على سبيل المثال في نضاله ضد الكنيسة الكاثوليكية التي سنّت صكوك الغفران كوسيلة لإثراء كهنتها، عندما بيّن للناس أن سلوك الكنيسة كان بعيدا عن تعاليم الكتاب المقدس. فهل هناك مرجع ديني أو مصلح ديني أو سياسي قادر اليوم وللحفاظ على الدين والمذهب ان يبيّن للناس أنّ سلوك رجال الدين والساسة الإسلاميين هو على الضد ممّا جاء في القرآن، وأنّ هيمنتهم على السلطة ما هو الا اثراء لهم وإساءة للدين الذي يؤمن به الفقراء المؤمنون، كما كان الفقراء المسيحيّون المؤمنون وقتها؟

والآن فهل نحن بحاجة الى "دولة مدنية ديموقراطيّة" أم الى دولة علمانيّة ديموقراطية ..؟ سؤال موجّه الى القوى والمنظمّات السياسية التي على عاتقها يقع إنقاذ العراق وشعبه من شرور المحاصصة الطائفيّة القومية.

لا يمكن تحطيم اي شكل من أشكال العبودية إلا بتحطيم كل أشكال العبودية ... (كارل ماركس، نقد فلسفة الحق عند هيغل)

***

زكي رضا - الدنمارك

30/4/2023

طبقا لأغلب دساتير العالم تتكون مؤسسات الدولة الرئيسية من ثلاث سلطات هي السلطة التشريعية المناط بها تشريع القوانين ومراقبة السلطة الثانية وهي السلطة التنفيذية التي يقع على عاتقها تنفيذ ما تقرره السلطتان التشريعية والقضائية، اما السلطة الثالثة فهي السلطة القضائية وهي سلطة المحاكم في تطبيق القوانين التي تصدر أساسا من السلطة التشريعية والقرارات واللوائح المنسجمة مع الدستور، ولا شك بأن العديد  من القراء سيقودهم العنوان إلى السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي تتكون منها الدولة بالمفاهيم السياسية والدستورية، وبصرف النظر عن طبيعة النظم السياسية في غالبية دول الشرق الأوسط ومن شابهها في قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، فإن السلطات الثلاث مجرد أدوات بيد الحاكم وليس المحكوم، وإن ادعا البعض بأن إحداهن أي التشريعية منتخبة من قبل الشعب فهي بالتالي سلطته، على اعتبار أنهم استخدموا صناديق الاقتراع لانتخاب ممثلي الشعب!

وفي واقع حال هذه الدول وموروثاتها من التقاليد والعادات والأعراف المرتبطة ارتباطا جنينيا مع الدين وتفرعاته ومع النظام القبلي وتكويناته فإن السلطات الثلاث في حقيقة الأمر ليست كما يُعرفها المفكر أو المشرع الدستوري السياسي، بل هي سلطات أخرى بلبوس ومسميات تلك السلطات حيث يكون المحتوى الديني والمذهبي والنظام القبلي ورموزه ومجموعة العادات والأعراف الاجتماعية هي السلطات الحقيقية، بعيداً عن أي مفهوم مهني لتلك السلطة، حيث يحتل المحتوى أعلاه ورموزه من شيخ القبيلة ورجل الدين ومنظومة العادات مكانة القانون في توجيه بوصلة الحكم والفصل في كل القضايا، وما يحصل اليوم من تجارب في البلدان التي أُسقطت نظمها السياسية السابقة كما في العراق واليمن وإيران وأفغانستان والسودان وليبيا تعطي أفضل نماذجٍ لدول سلطات رجال الدين والمذهب والقبيلة والعادات. ورغم أن معظم هذه البلدان عاشت في تاريخها السياسي تحت حكم أنظمة شمولية والعديد منها كان يدعي اليسارية أو الليبرالية أو العلمانية أو الاشتراكية، لكنها أي هذه الأنظمة فشلت فشلاً ذريعاً في إحداث تغيير أفقي نوعي في تربية وسلوك تلك المجتمعات التي بقيت في تفاصيل حياتها خارج تأثير الحكم تمارس تلك الهيمنة غير المرئية لرجال الدين والقبيلة والتقاليد الموروثة، وبمجرد غياب الدولة إثر سقوط نظامها السياسي نهض ذلك التأثير المتكلس في ذاكرة وعقلية المجتمعات بدون استثناء وهيمنت الأعراف الدينية وتفرعاتها المذهبية والنظام القبلي ورموزه ومنظومة العادات والتقاليد، وكان ذلك جلياً في تجارب كثير من دول المنطقة ومن شابهها في عدة قارات، حيث توغلت سلطة التشريع الديني وهيمنة رجال الدين وشيوخ العشائر وأعرافها على معظم مفاصل الدولة وبالذات الأمنية والعسكرية، حيث بدأت تلك السلطات تدير الدولة من خلال الأحزاب ومصداتها الميليشياوية التي تسلقت سلم الانتخابات بتأثيرات الفتاوى والدعم القبلي وموروثاته في توجيه بوصلة الناخبين، مما أدى الى هيمنتها على أعلى سلطة في البلاد، وبذلك كانت السلطات الثلاث في معظم هذه البلدان لا تتجاوز سلطة الدين والقبيلة والتقاليد والأعراف، تحت عباءة ذات العناوين السياسية والدستورية  للسلطات!

***

كفاح محمود

الجميع في العراق يدعو اليوم لما تسمّى بالدولة المدنية، الشيوعيون، القوميون ، الماركسيون، الليبراليون، منظمات المجتمع المدني، النقابات، التشرينيون، العشائر، بل وحتى البعض من الأسلاميين وميليشياتهم!! فهل نحن بحاجة فعلا بعد مرور عشرات العقود على إنشاء الدولة العراقيّة الحديثة بهشاشة نسيجها الأجتماعي وأحتراب مكونّاتها العرقيّة والطائفيّة، وعقدين على تجربة نظام "ديموقراطي" أثبت فشله على كل الصعد لتضاف تجربته المريرة الى فشل أنظمة الحكم العراقية التي سبقته، اقول ، هل نحن بحاجة فعلا الى دولة مدنية ديموقراطية؟ هذه التي يدعّي جميع من جئنا على ذكرهم العمل لتحقيقها على الرغم من الفروقات الكبيرة بين القوى التي تتبنى هذا المفهوم لشكل الدولة، أم نحن بحاجة الى دولة علمانية ديموقراطية؟

العراق على الصعيد الأجتماعي يتحكّم فيه عاملا الدين/ الطائفة – القومية / العشيرة، ومن خلال هذين العاملين تأتي عوامل أخرى كتحصيل حاصل لدورهما وولاء الغالبية العظمى من الشعب العراقي لهما، نتيجة دور نفس هذين العاملين في ترسيخ التفرقة والتخلف والجهل عن طريق سرقة ما تبقّى من وعي عند الجماهير، علما من أنّ العراقيون لم يغادروا مربّع هذين العاملين منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة لليوم. ومن العوامل التي تساهم في ترسيخ مفهومي الدين/ الطائفة - القومية / العشيرة اليوم، هي أحزاب المحاصصّة الطائفية القوميّة المهيمنة على السلطة منذ الأحتلال حتى هذه اللحظة. ولمّا كانت المؤسستين الدينية/ الطائفية ومعها القومية/ العشائريّة غير قادرتين دستوريّا على تبنّي تعريف محدّد للدولة، فأنّ سلطة المحاصصّة أخذت على عاتقها من خلال هيمنتها على السلطة تعريف شكل الدولة التي تتماشى بالحقيقة مع ما تريده هاتين المؤسستين بما يضمن مصالحهما.

لو نظرنا الى الأحداث التي جرت وتجري في العراق منذ الأحتلال لليوم، لرأينا أنّ كل مناحي الحياة السياسيّة والأجتماعية والأقتصادية مشوّهة بشكل كبير. هذا التشّوه بالحقيقة له جذوره التي سبقت الأحتلال، لكنّ النظام السياسي الجديد لم يعالج كما كان منتظرا منه التشوّهات التي ورثناها من النظام البعثي والأنظمة التي سبقته في بنية الدولة والمجتمع، بل على العكس فأنّ النظام الجديد عمّق تلك التشوّهات خدمة لمصالح نخب سياسيّة وعائلية وعشائريّة على حساب مصالح الجماهير المسحوقة من جهة، ولصالح قوى إقليميّة ودوليّة من جهة ثانية. ولو عدنا الى أسباب أستمرار التشوّهات في ظل السلطة الجديدة سنرى أنّ الدستور العراقي هو الحجر الأساس في هذه التشوّهات، كون هذا الدستور مشوّه ومتناقض في أهمّ فقراته التي تحدد شكل الدولة وهويّتها. فالدستور لم يشر علنا الى أسلاميّة الدولة، الّا أنّه وضع الدولة في إطار أسلامي على المستوى القانوني/ التشريعي، وفي صورة أسلاميّة على المستوى الأجتماعي وحقل التعليم. فالدستور العراقي ينص في مادّته الثانيّة على:

أولّا: "الاسـلام دين الدولــة الرسمي، وهـو مصدر أســاس للتشريع"

أ‌- لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام

ب‌- لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية

ج- لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور".

ثانيا:- يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الافراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والآيزديين والصابئة المندائيين.

هذه المادّة الدستوريّة ليست تشوّها في الجسد الديموقراطي للدولة فقط، بل هي أساس قانوني ودستوري لضبابيّة شكل الدولة ونسفها مستقبلا. ولو عدنا الى اللجنة التي كُلّفت بكتابة الدستور فسنرى أنّ النسبة الأكبر من أعضائها هم سياسيّون ورجال دين من ثلاث مجموعات سكّانيّة (شيعة- سنّة - كورد)، مع عدد من ممثّلي الأثنيات العراقيّة الأخرى وعدد قليل من القانونيين والمختصّين كديكور ليس الّا، كونهم غير مؤثرّين لا في هذه اللجنة ولا غيرها. ولكي نتعرف على شكل الدولة التي رسم الأعضاء الواحد والسبعون (عدد أعضاء اللجنة التي كتبت الدستور) ملامحها، فعلينا أن ننتبه الى وجود ممثّل فيها كان له حقّ الفيتو غير المعلن وأملاء ما يريد وتمرير ما يريد وهو السيّد أحمد الصافي النجفي ممثل السيد السيستاني في تلك اللجنة. ولو عدنا الى الدستور العراقي لسنة 1925 لنقارنه بدستور اليوم فسنراه أكثر تقدميّة في هذه المادّة بالذات، فقد نصّ في مادّته الثالثة عشرة من أنّ: "الإسلام دين الدولة الرسمي، وحرية القيام بشعائره المألوفة في العراق على اختلاف مذاهبه محترمة لا تُمس، وتضمن لجميع ساكني البلاد حرية الاعتقاد التامة، وحرية القيام بشعائر العبادة، وفقاً لعاداتهم ما لم تكن مخلّة بالأمن والنظام، وما لم تناف الآداب العامة". "ولا يوجد في هذا النص ما يشير الى علاقة الدين بتشريع القوانين نفياً او ايجاباً. ومن الناحية العملية ظلت الأحكام القانونية تُستمد من أحكام الشريعة الإسلامية سواء في الأحوال الشخصية أو العلاقات العائلية أو في الحقوق المدنية" (1)

من خلال الأشكالية الدستورية أعلاه، وممارسات التيار الأسلامي والمؤسسات الدينية سلطويّا ومجتمعيا , ومن خلال حقل التعليم، علينا البحث عن أجابة لسؤال محدّد هو: هل العراق دولة دينية أم "دولة مدنية" يهيمن عليها الدين من خلال مؤسساته وأحزابه الذين يريدون فرضه أي الدين كأداة للحكم وفلسفة وقيم لقيادة المجتمع، وإن كنّا بحاجة لهما أو لأحدهما كنموذج للحكم للخروج من أزماتنا التي نعيشها اليوم كمواطنين وكبلد يشغل الدين فيه مساحات واسعة من العقل الجمعي لمواطنيه وقوانينه ويرسم سياساته ويؤثّر بشكل كبير على حياة سكّانه الأجتماعيّة، أمْ أنّ الدولة العلمانيّة الديموقراطية هي السبيل الوحيد لبناء دولة عصريّة على أنقاض الدولة "الدينيّة" أو "المدنيّة" التي نعيش خرائبها اليوم؟

الغالبية العظمى من الدول العربيّة والأسلاميّة ومن خلال دساتيرها هي شكل من أشكال الدولة الدينيّة على الرغم من أنّها مدنية الطابع إجتماعيّا وثقافيّا وفكريّا، ولا يخلو دستور فيها من أربعة نصوص رئيسية حول الأسلام وهي: أن يكون الأسلام دين الدولة الرسمي، والأسلام مصدر أساسي للتشريع، والأسلام مصدر من مصادر التشريع، والدولة راعية للدين. والدستور العراقي فيه هذه النصوص جميعها. وتبقى الجمهورية الأسلاميّة الأيرانيّة على سبيل المثال والتي تنصّ مادتها الدستوريّة الرابعة بأن:

"يجب أن تكون الموازين الإسلامية أساس جميع القوانين والأنظمة المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها. ويسري هذا المبدأ على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى على الإطلاق والعموم، ويتولى الفقهاء في مجلس صيانة الدستور تشخيص ذلك" هي دولة دينيّة دستوريا.

المادّة الدستوريّة الإيرانية هذه هي ترجمة حرفيّة لمفهوم (الحكم بما أنزل الله) والتي يتمّ تفسيرها سياسيّا كي تكون الشريعة الأسلاميّة هي الأساس في بناء المجتمع والأنسان، وهي التي ترسم من قبل الدولة طبيعة الحياة السياسيّة والأجتماعية والفكريّة والأقتصاديّة للمجتمعات الأسلاميّة، وهي التي تملك الوصاية على حقل التعليم وتوجيهه أسلاميّا، وهنا تحديدا تكمن الخطورة. وقد أرجع المودودي القانون الى الله وحده في معرض تفسيره حول حاكميّة الله القانونيّة فكتب "يقرر القرآن الكريم أنّ الطاعة لا بدّ وأن تكون خالصة لله، وأنّه لا بدّ من إتباع قانونه وحده، وحرام على المرء أن يترك هذا القانون ويتّبع قوانين الآخرين أو شرعة ذاته ونزوات نفسه" (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون – البقرة 229 (2) وقد حذا محمد باقر الصدر حذو المودودي في هذا الجانب ليقول "ما دام الله تعالى مصدر السلطات، وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعيّ المحدّد عن الله تعالى، فمن الطبيعيّ أنْ تحدّد الطريقة الّتي تُمارَس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلاميّة" (3) وقد ذهب الخميني الى "أنّ القرآن الكريم كتاب قانون، يحمل بين دفتيه أصول الحكم وقواعده، ويستبطن مكوّنات دولة في طبيعة تعاليمه" (4) أمّا عن أسباب التشريع الأسلامي فأنّ "ماهية وكيفية القوانين الإسلامية وأحكام الشرع تدلّ على أنّها قد شرِّعت لإنشاء حكومة ولإدارة سياسية واقتصادية وثقافية للمجتمع" (5)

المؤسسات الدينيّة والأحزاب والمنظمّات الدينية والطائفيّة بالعراق، لم تتطرق لليوم الى شكل الدولة بالبلاد عدا بعض التنظيمات التنظيمات الشيعية، والتنظيمات الأسلاميّة المتطرفة ومنها تنظيمي القاعدة والدولة الأسلاميّة (داعش) الأرهابيين، اللذان دعيا لقيام دولة أسلاميّة يكون الحكم فيها لله أي وفق الشريعة. الا أنّ المؤسسات الدينية وغالبية الأحزاب والمنظمات الدينية الأخرى لم تبدِ وجهة نظرها بشكل علني حول شكل الدولة لظروف موضوعية تمر بها البلاد وليس لعوامل ذاتية، لذا نراها تعمل في المنطقة الرمادية لحين قدرتها على تغيير شكل الدولة نحو الدولة الثيوقراطيّة أي الدينية كما إيران وتنظيم الدولة أي داعش، مع التركيز على أنّ شكل الدولة وهي تحت سيطرة الأحزاب والمؤسسات الدينية ومراجعها يلتقي بشكل أو بآخر مع أهداف داعش من حيث العودة للقرآن والشريعة كوسيلة للحكم وبناء الدولة. لكنّه يختلف عنه بالعراق حيث الثقل الشيعي وميل واضح لغالبية التنظيمات السياسية الشيعية نحو الجمهورية الأسلامية الايرانية كنموذج يحتذى به لبناء دولة على غرار الدولة الأيرانية، أي دولة ولي الفقيه. وقد أكّد الخميني أنّ حق الحاكمية بعد الله كانت للنبي ثمّ "أنتقلت مسؤولية القيادة السياسية للمجتمع بعد النبي الى الأئمّة المعصومين" (6). وقد أوكل الله وفق وجهة نظر الخميني حقّ الحاكمية بعد النبي وأئمة أهل البيت بعدهم الى علماء الدين الذين ليس لغيرهم الحقّ في الحكم وهم "المصداق الحقيقي لأولي الأمر" (7)، وفي تشكيل حكومة عصر الغيبة يقول "عرّف الأمام المعصوم (عج) الفقهاء العدول بوصفهم قادة سياسيين للمجتمع والمسؤولين عن تشكيل الحكومة" (8). وقد كان يوسف القرضاوي شديد الوضوح وهو يكتب "فالحق أن الدولة الإسلامية: دولة مدنية، ككل الدول المدنية، لا يميزها عن غيرها إلا أن مرجعيتها الشريعة الإسلامية"!! (9)

هناك من يعتقد ومنهم سياسيّون ومثقفون من أنّ العراق بعيد كل البعد عن دولة ولي الفقيه لأنّ المرجعيّة الدينيّة في النجف لا تؤمن بمبدأ ولاية الفقيه، لكنّ هؤلاء لا يمتلكون الأجابة الدقيقة عن موقف مرجعيّة النجف بعد وفاة السيستاني من هذا الأمر، وبدأ الصراع لأنتخاب مرجع أعلى للشيعة بالعراق ودور إيران في حسم الصراع لصالحها عن طريق تأثيراتها الظاهر منها والباطن، متناسين على ما يبدو من أنّ التفسير الشيعي لمن له الأهليّة في قيادة الدولة إنتظارا لظهور المهدي، ينبع من إيمانها في أنّ الإمامة هي إمتداد للنبوّة، وأنّ المرجعيّة الدينية هي التي عليها قيادة الدولة والمجتمع إنتظارا لظهور المهدي المنتظر، أي أنّ المرجعيّة هي من تحدد شكل الدولة وهيكليتها وهي من تقودها، والتي ستكون بعد وفاة السيستاني أي مرجعيّة النجف إيرانيّة في فتاواها ونهجها بقوّة الأحزاب الشيعيّة تشريعيا وتنفيذيّا وبسطوة ميليشياتها "العراقيّة" المسلحّة التي أخترقت جسد "الدولة" العراقيّة.

الأسلام السياسي ومعه مؤسساته الدينيّة اليوم يعملون على قدم وساق لتشويه العلمانيّة بإعتبارها مناهضة للدين ومصادِرة لحقوق المؤمنين، ويسخّرون في هذا الأتجاه كل طاقاتهم الفكريّة والأعلاميّة ومنها منابرهم الدينيّة لتكفير العلمانيّة كنظام للحكم. فهل نحن بحاجة الى "دولة مدنيّة" كتلك التي يتعايش الإسلاميّون اليوم معها، أم الى دولة علمانيّة ديموقراطيّة لتكن بوابّة لبناء عراق جديد؟

***

زكي رضا - الدنمارك

27/4/2023

..................

(1) نظرة مقارنة في دستور (1925) ودستور (2005)، عبد الغني الدلي (وزير سابق) صحيفة المدى

(2) ابو علي المودودي، الخلافة والملك، دار القلم الكويت، تعريب أحمد إدريس، ص 16

(3) نظرية الدولة في الإسلام، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

(4) صحيفة النور 17: 252.

(5) الإمام الخميني، ولاية الفقيه: 28.

(6) الإمام الخميني، ولاية الفقيه: 51.

(7) الإمام الخميني، كشف الأسرار: 221 ـ 223.

(8) المصدر نفسه: 223.

(9) يوسف القرضاوي مقالة تحت عنوان " دولة مدنية مرجعيتها الإسلام.. كيف؟

لهذه الأسباب سينهار الدولار قريباً

إن الاستخدام الممنهج للعملة الأمريكية كأداة للعقوبات يؤدي إلى وقف استخدامها في العالم. جاء ذلك وفق ما قاله رجل الأعمال الأمريكي إيلون ماسك، حول تقييمه لآفاق الدولار مستقبلاً على صعيد عالمي منوهاً إلى أنه:

"إذا قمت (باستخدام) عملة ما (كسلاح) مرات كافية، فستتوقف الدول الأخرى عن استخدامها".

وهذا منطقي على الأقل من باب المعاملة بالمثل في ظل تشجيع دول العالم المؤثرة على التخلي عن الدولار وعدم الثقة به خوفاً من فخاخ العقوبات التي تلوح في أفق كل من يعارض السياسات الأمريكية على صعيد بيني. وبذلك يكون "قد شهد شاهد من أهله".

ووفق تعليق ماسك على تغريدة نشرها أحد الخبراء على شبكته "تويتير" فإن تخلي الاقتصاد العالمي عن الدولار أسرع بعشر مرات مما كان عليه في العقدين الماضيين" وهذا يعد الأخطر على مستقبل أمريكا برمته والذي يعتبر الدولار فيه من أهم مقوماته كونه مدعوماً بالسلطة الأمريكية عالمياً والآخذة بالتقلص اللافت.

صحيح أن أمريكا على صعيد تاريخي وفي ظل إدارة الرئيس "فرانكلين روزفلت" عام 1933 انسحبت من نظام "معيار الذهب"في محاولة أخيرة لإنعاش النمو الاقتصادي، لكن ظروف مشاركتها في الحرب الفيتنامية فاقمت من حالة التضخم التي غشت أمريكا آنذاك، ما استوجب انضمامها مجدداً إلى "معيار الذهب" كجزء من موافقتها على اتفاق "بريتونوودز".

وبدأت دول كثيرة تطالب أمريكا بالذهب مقابل حيازاتها من الدولار، وذلك بحسب التقرير الذي نشرته شركة البحوث الأمريكية "موتلي فول" لتأتي عقب ذلك ما عرف ب"صدمة نيكسون" تحديداً في 15 أغسطس 1971 فإزاء ذلك وافق "نيكسون" على سلسلة من التدابير الاقتصادية، أهمها كان إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار الأمريكي إلى الذهب.

وعليه فإنه بحلول عام 1973 كان من الواضح أن التعليق المؤقت لمعيار الذهب سيدوم إلى الأبد، حيث قامت معظم الدول الأخرى بتحديد قيمة عملاتها بوسائل بعيدة عن معيار الذهب، وذلك رداً على خطوة "نيكسون".

وحتى اليوم ما زال تأثير "صدمة نيكسون" يُنَاقَشُ من قبل كبار الاقتصاديين ومنهم ماكس نفسه، لتأثير ذلك على الاقتصاد العالمي والسياسة النقدية في الولايات المتحدة كأكبر من أي حدث آخر شهده النصف الثاني من القرن الماضي.

وإزاء ذلك جاءت روسيا في ظل العقوبات الغربية التي تتعرض لها رداً على احتلالها لأوكرانيا مطلع العام الماضي، لتعلق الجرس أولاً بتجاوز الدولار وتبني سياسة التعامل بالعملات المحلية في التعاملات التجارية، ومنها سوق النفط ضمن سياسات مجموعة "بريكس"، وهي منظمة دولية تضم روسيا، البرازيل، الهند، الصين، جنوب أفريقيا، وتستحوذ على 23% من حجم الاقتصاد العالمي، و18% من التجارة الدولية. وهذا يبين مدى خطورة الخطوة الروسية على الدولار.

ويسعى عدد من الدول إلى الانضمام لهذه الكتلة الاقتصادية الضخمة، كالجزائر والأرجنتين وإندونيسيا وإيران والسعودية وفق ما كشفت عنه وزيرة خارجية جنوب أفريقيا ناليدي باندور في مقابلة تلفزيونية وذلك عن تلقي بلادها لـ 12 طلباً للانضمام إلى "بريكس" باعتبارها الدولة المستضيفة لقمة المجموعة شهر أغسطس المقبل.. حيث ستحدد مجموعة "بريكس"معايير الانضمام إليها وفق وكالة "بلومبيرغ" الأميركية.

وهذا يعزز ما أوضحه ماكس في تغريدته حول مصير الدولار حيث اشار إلى أن نصيب الدولار في التسويات العالمية انخفض إلى 55% في 2020 من 73% في 2001، ومع فرض العقوبات على روسيا انخفض المؤشر إلى 47%.

فيما توقع الخبير الاقتصادي والمدير العام لشركة "سبوتنيك لإدارة رأس المال" ألكسندر لوسيف، الاثنين الماضي، بأن الدولار سيفقد هيمنته في سوق العملات بحلول نهاية العقد كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية مع العملة العالمية الرئيسية حينها الجنيه البريطاني.

وقال: "نرى اتجاهاً هبوطياً في التسويات بالدولار وتراجعاً في احتياطيات البنوك المركزية المقومة بالدولار، فعلى سبيل المثال انخفضت حصة الدولار إلى أقل من 58% في الاحتياطيات الدولية للبنوك المركزية".

والنتيجة وفق توقعات الخبير الأمريكي أنه في أفق خمس إلى سبع سنوات، حتى نهاية العقد، في هذا الأفق سيفقد الدولار مكانته الريادية في التسويات الدولية، لأن دول العالم التي لديها الكثير من الديون المقومة بالدولار معرضة بشدة لاضطرابات النظام المالي العالمي القائم على العملة الأمريكية.

وعليه فالدولار قد يفقد بريقه كما حصل مع الجنيه البريطاني كما أشرنا آنفاً، والذي كان في يوم من الأيام العملة الرئيسية في العالم.

هذا ما خلص إليه صاحب القرار في أكبر شركة عالمية "سبوتنيك لإدارة رأس المال" وقد شخّص الاقتصاد العالمي غير الدولاري وغير الغربي، في ظل توقعاته على نحو أنه ينمو (بعيدا عن الدولار والاقتصادي الغربي)، وقد تجاوزت دول مجموعة "بريكس" بالفعل دول G7 (مجموعة الدول الصناعية السبع) من حيث مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

وهذا يفسر انهيار الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للدولار . وبالتالي التوجه إلى عالم متعدد الأقطاب".

***

بقلم بكر السباتين

27 أبريل 2023

أحداث مريعة مرت مروراً خاطفاً  بالسودان كأنها عاصفة مدمرة لا تعبأ بما تركته خلفها من أنقاض!

ثمة هدنة بين أطراف النزاع دعت إليها واشنطن لإجلاء رعايا مختلف دول العالم ليظل الشعب السودانى يعانى الأمرين بين مطرقة وسندان..ولتبقى الآثار المدمرة لحرب اندلعت ولا يعلم أحد متى ستنتهى..

حصيلة الأيام الأولى

عشرة أيام انقضت منذ بداية المعارك وحصيلة الخسائر تزداد يوماً بعد يوم.. إحصاءات القتلى والمصابين تتفاوت بين تصريحات من هنا وهناك لتصل فى بعض التقديرات إلى نحو خمسمائة قتيل وحوالى أربعة آلاف مصاب وسط بقاء نحو ربع المرافق الصحية خارج دائرة الصلاحية إما لخلوها من العاملين أو لتعرضها لوابل النيران من الجانبين فى قتال انتقل إلى الضواحى والشوارع السكنية وبات خطره محدقاً على كافة المدنيين.. أغلقت المحال التجارية أبوابها وانعدم الوقود فى مناطق القتال. وبدأت المؤونة لدى السكان المحاصرين داخل بيوتهم تنفد شيئاً فشيئاً حتى بدأت مخاوف عودة شبح المجاعات المهلكة قائماً إذا امتد أمد الحرب.

أكثر من هذا أن بعض اللصوص استغلوا تلك الحالة الفوضوية للقيام بعمليات نهب واسعة النطاق للبيوت والمحال،بات الانفلات الأمنى هو سيد الموقف..وامتد الانفلات ليطال السجون التى يتم فتحها واقتحامها لتهريب سجناء من بينهم رموز نظام البشير ! فهل يمكن أن يكون لهؤلاء دور ما فى سير الحرب القائمة إما بالتهدئة أو بمزيد من الاشتعال؟!

العاصمة الخرطوم باتت هى مسرح الأحداث الدامية خلال الساعات والأيام القليلة الماضية التى أبدلت الأوضاع فى العاصمة السودانية وحولت الشوارع إلى ساحات حرب تختفى منها وجوه المدنية والتحضر وتتوالى الانفجارات ويغطى الدخان الأسود الآفاق وتنغلق المتاجر وتتوقف الحياة وتنعدم الخدمات ويخيم شبح الموت على أبرياء كثيرين لا يعلم أحد حجم ما يعانونه جراء اقتتال همجى لا يراعى أية مواثيق أو حرمات ولا يكترث لحجم الدمار والضرر الذى يلحق بالبلاد..

مطار الخرطوم خرج من الخدمة ، وتوقفت الرحلات بكل أشكالها. هذا وحده كفيل بحرمان السودان من حركة التجارة الخارجية لمدة قد تطول، ناهيك عن الشلل الذى أصاب قطاعات واسعة من الاقتصاد السودانى خلال أيام كلفت السودان عدة مليارات بسبب توقف البنوك والمصانع وحركة الإنتاج والنقل. فإذا كان مثل هذا الأثر المدمر قد حدث خلال أيام قليلة، فما الحال إذا استمرت المعارك لعدة أسابيع قادمة أو شهور؟!

خلف كواليس الهدنة

كلما تنفسنا الصعداء لإعلان هدنة بين الطرفين لا نلبث أن نرى الاختراقات تلاحقها من أحدهما ويعود الاقتتال ويستمر الصراع الدامى.. غير أن الملاحظ هنا أن أموراً كانت تدور خلف كواليس كل هدنة كأنها تهيئة لتطور جديد يجرى على مسرح العمليات القائم من هذا الجانب أو ذاك.. فبعد كل هدنة يتغير شكل الحرب من قتال مواقع إلى قتال شوارع، وتتغير الأسلحة لتأتى إمدادات متطورة من أطراف خارجية تتدخل لصالح كل طرف، لدرجة أن يصرح وزير الخارجية الروسي بأن السودان من حقه الاستعانة بقوات فاجنر وكأن الوضع المشتعل بالأساس ينقصه مزيد نار!

الهدنة الأخيرة التى تمت لأجل ترك الفرصة لإجلاء رعايا الدول الأجنبية والإقليمية حدث معها تطور نوعى هو فتح السجون وخروج رموز البشير. فمن الذى قام بتلك المهمة وما غرضه؟ وإذا كانت أطراف النزاع تستغل فترات الهدنة لإعادة ترتيب أوراقها فهل ستظل المعركة محتفظة بنفس وتيرتها وطريقتها أم نجد تغيرات نوعية أخرى فى تكتيكات التحرك ونوعيات الأسلحة وطرق المواجهة؟ لاسيما وقد تغيرت المعادلة بخروج البعثات الدبلوماسية وخلو الساحة تماماً لقتال مفتوح يكون الخاسر الأكبر فيه هو الشعب السودانى ..

الجميع خاسرون إلا هؤلاء

ما لا يدركه فرقاء الحرب أن استمرارها يحقق خسارة مؤكدة لجميع أطرافها .. لابد أن الذخائر ستنفد والقوى ستخور والأرواح ستفقد والدمار سيمتد والقوى الخارجية ستنفضح. وسوف يأتى الوقت الذى يكتشف الجميع أن حجم الدمار أكبر من قدرة الجميع على ملاحقة آثاره لإعادة بناء دولة كانت فى  الأصل تعانى أيما معاناة من أزمات اقتصادية ومجاعات وصراعات وفساد.

فقط عشرة أيام كانت كافية لكشف حقيقة الأوضاع المتدهورة والتى ازدادت تدهورا وتفاقماً فى الداخل السودانى.. انقطاع الخدمات تسبب فى موت بعض المدنيين لنقص الدواء وتوقف المواصلات.. أسعار السلع الأساسية تضاعف، واستغل بعض الجشعين فضاعفوا أثمان الخدمات والسلع عدة أضعاف.. وبدأت حركات النزوح من مناطق المواجهة تزداد لتصل فى بعض التقديرات إلى نحو 3.5 مليون نازح خلال أيام قليلة. ولا ريب أن استمرار الحرب الدائرة واتساع نطاقها سوف يؤثر على كل دول الجوار السودانى بحركات نزوح ولجوء وهروب وهجرة أكبر من قدرة هذه الدول على استيعابها.

غير أن الأطراف الخارجية المحركة للأحداث فى السودان ربما يكون لها رأى آخر بخصوص معادلات الخسارة والمكسب. ولاشك أن إسرائيل والقوى الدولية القديمة هى المستفيد الأول هنا.

حفاة على أرض الذهب

الوضع فى  السودان مؤسف ومحزن، لكن ما قد يزيدك أسفاً وتعاطفا أن هذا البلد فى حقيقته أغنى من كل دول أوروبا مجتمعة بما يملكه من موارد لا يستطيع الانتفاع بها بسبب دائرة صراعات لا يكاد يخرج منها إلا ليدلفها من جديد!

وفقا لتقرير لمؤسسة جولدمن ساكس الأمريكية فإن السودان تتصدر قائمة الدول التى تمتلك أراض صالحة للزراعة غير مستغلة بمساحة تصل إلى نحو 80 مليون فدان وأن تلك المساحة إذا تم استغلالها الاستغلال الأمثل سوف تكون السودان هى سلة غذاء للعالم لا للعرب فقط. المدهش فى الأمر أن السودان اليوم تستورد نصف احتياجاتها من القمح رغم قدرتها على زراعته بكميات وفيرة، وهى إذا كانت تصدر عددا من المنتجات الزراعية المميزة إلا أن هذا أقل كثيراً مما يمكن إنتاجه فى مساحتها الزراعية الضخمة الممتدة. أما عن مساحات الغابات الموفرة للأخشاب بالسودان فحدث ولا حرج. هذا بخلاف كميات من الماشية والثروة الحيوانية تفوق أكبر دولة أوروبية مصدرة للحوم ومنتجة للألبان بمقدار أربع أضعاف! ناهيك عن كميات كبيرة تم اكتشافها من المعادن والثروات الكامنة فى باطن الأرض من بترول إلى يورانيوم إلى ذهب إلى حديد ونحاس ومنجنيز وكروم ورخام وغيرها من المعادن.. السياحة أيضاً بإمكانها أن تكون من مصادر السودان الرئيسية للدخل بفضل ما بها من مناظر برية وساحلية مبهرة بخلاف آثار مهملة ضاربة فى القدم  لا يعرف عنها العالم شيئاً لأنها بلد لم يتم استغلالها سياحياً بعد!

كيف يمكن لبلد بمثل هذه الثروات الهائلة أن يظل شعبه يعانى ويلات الجوع والفقر؟! إنها الصراعات المستمرة منذ عقود مضت لم تدع البلاد إلا وقد تمزقت إلى شمال وجنوب، وها هى اليوم تواجه خطر المزيد من التمزق والانقسام والتشرذم!

المشهد النهائى..متى وكيف؟

أخوف ما أخافه أن يخرج المشهد كله عن السيطرة وتنفلت الأوضاع فى الداخل السودانى وحول حدوده المترامية..خاصة وأن السودان بما عرف أنه يملكه من ثروات فى مستقبل عالمى يواجه أزمات اقتصادية بات اليوم مطمعاً لقوى دولية وإقليمية كثيرة، وهو ما يجعل استنزاف قوة الجيش فى اقتتال داخلى خطراً عظيماً يواجه أمن السودان..فحركات النزوح تزداد، وتتابع مغادرة رعايا الدول الأجنبية معناه أن الأرجح لدى هذه الدول أن المعركة ستطول.

إن ما يحاك للسودان هو ذاته ما كان يحاك لها من قديم من خطط استعمارية لتقسيمها واستنزاف مواردها. ولابد لجميع الأطراف الاستجابة لصوت العقل والحكمة قبل فوات الأوان.

***

د. عبد السلام فاروق

يبدو أن السودان والكثير من بلدان العالم الثالث، لم تغادر حقبة الخمسينيات والستينيات. وتقبع في الذاكرة التاريخية طائفة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها منذ استقلالها في العام 1956.

ولعلّ ما يحدث اليوم من مواجهات عسكرية بين "الأخوة الأعداء"، باستعارة عنوان رواية الكاتب اليوناني كازانتزاكيس، إنما هو استمرار لذلك المسلسل الدرامي الذي ما تزال نهايته مفتوحة، فقد احتدم النزاع المسلّح  بين قوات "الدعم السريع"، التي نشأت في العام 2013 وعرفت باسم "الجنجويد" والقوات المسلّحة النظامية بعد فشل الاتفاق على حلّ يُنهي الأزمة السياسية منذ التغيير الذي حصل بإطاحة نظام الرئيس عمر حسن البشير في العام 2019، بل زادت تعقيدًا منذ الحركة الانقلابية العسكرية في 25 أكتوبر / تشرين الأول 2021، بقيادة رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان.

ومنذ إزاحة نظام البشير، انقسمت البلاد إلى فريقين، أحدها عسكري يتألف من جناحيين، هما القوات المسلحة التي يقف على رأسها عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع  بقيادة نائبه محمد حمدان دقلو "حميدتي"؛ وثانيهما مدني، وهي وإن اختلف فيما بينه، إلّا أنه يكاد يجمع على مطلبه بقيام حكم مدني وإعادة الجيش إلى الثكنات.

وبالعودة إلى سيناريو الانقلابات والانقلابات المضادّة، فيمكن القول أن أوّل انقلاب كان بقيادة الفريق ابراهيم عبود في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958، وذلك على هامش الخلاف حول حركة التمرد في الجنوب، وقد أطيح به في ثورة  أكتوبر / تشرين الأول 1964.

ونظّم ما أُطلق عليه "الضباط الأحرار" تيمّنًا بالتجربة الناصرية المصرية انقلابًا عسكريًا في 25 مايو / أيار 1969، وذلك بقيادة الجنرال محمد جعفر النميري، الذي سرعان ما اختلف أقطابه، فنظم هاشم العطا انقلابًا في يوليو / تموز 1971، لكن الحركة الانقلابية فشلت، وتمكّن النميري من استعادة السلطة، وقام بإعدام قادة الحركة، من بينهم قادة الحزب الشيوعي مثل عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجورج قرنق، وشنّ حملة اعتقالات واسعة، وتدريجيًا اتّجه الحكم نحو التشدّد والغلوّ بزعم تطبيق "الشريعة الإسلامية"، ولم يكن ذلك سوى تكميم الأفواه وتقييد حريّة التعبير بشكل خاص، والحريّات بشكل عام.

ونجحت الحركة الشعبية في الإطاحة بالنميري في 6  أبريل / نيسان 1985، وحدث انفراج نسبي في الوضع السياسي. فتشكّلت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة بعد إجراء انتخابات، حتى تمكن الفريق عمر حسن البشير من الاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري  في 30  يونيو / تموز 1989، وذلك بتحالفه مع الجبهة الإسلامية القومية التي ترأسها حسن الترابي، لكن السودان لم يشهد الاستقرار المنشود والتطوّر السلمي المدني، خصوصًا بتعتّق الأزمات واستمرار الحرب الأهلية، لما يزيد عن ربع قرن.

وكنت في زيارة لي للسودان في العام 2000 قد سألت الرئيس البشير في حديث متلفز وعلى الهواء مباشرة، بثّه التلفزيون السوداني وتلفزيون المستقلة من لندن: هل لديكم مشروع بشأن حلّ مشكلة الجنوب بعد أن فشلت جميع الحكومات السابقة في التوصّل إلى تفاهم وحلّ مقبول؟ فأجاب، وكانت تلك هي المرّة الأولى التي ينطق بها، ليس لديه اعتراض فيما إذا أراد الجنوبيون الانفصال. الجدير بالذكر أن الحركة الجنوبية هي الأخرى فشلت في تحقيق أهدافها عبر الحلّ العسكري. وقد جرى تضمين  موضوع استقلال الجنوب في اتفاقية نيفاشا للسلام (كينيا)، ووضع موضع التطبيق باستفتاء أشرفت عليه الأمم المتحدة (يناير / كانون الثاني 2011)، حيث انفصلت دولة جنوب السودان عن جسم السودان الأساسي وانضمّت إلى الأمم المتحدة.

وعلى الرغم من الإطاحة بحكم البشير العسكري، إلّا أن الجيش عاد ليلعب الدور المحوري، خصوصًا بعد انقلاب البرهان المذكور وازدواجية السلطة مع حميدتي، وتبدد اتفاق تقاسم السلطة مع المدنيين حتى موعد الانتخابات، وهو الأمر الذي قاد لتنافس العسكريين فيما بينهم، إذْ لم يعد ممكنًا استمرار السلطة برأسين (رئيس مجلس السيادة ونائبه)، وهكذا انفجر الصراع بين الجيش والدعم السريع.

أكّدت التجربة التاريخية أن كل انقلاب عسكري يولد انقلابًا جديدًا من بطنه، وهكذا يتمّ تفريخ الانقلابات، وتستمرّ دوّامة العنف. ففي جميع البلدان التي حكم فيها العسكر، عادت البلاد القهقري، و ذلك واحد من أسباب تعثّر التنمية المستدامة. ومقارنة بالبلدان التي سلكت طريق التطوّر السلمي المدني، فثمة هوّة عميقة بينها وبين البلدان التي عرفت الانقلابات العسكرية، فليس بالشعارات يمكن تحقيق التنمية والرفاه والعيش الكريم لعموم الناس.

ما ينتظره السودانيون، وهو ما لمسته خلال زيارتين لي في العام 2022، وخلال لقاءات مع مثقفين وأدباء وأكاديميين ومحامين وحقوقيين وإعلاميين، هو توفير الحدّ الأدنى من التفاهم وتحقيق قدر من التوافق لإجراء انتخابات حرّة يستطيع الشعب فيها أن يختار ممثّليه ويطوي صفحة الانقلابات العسكرية المليئة بالدماء والدموع.

***

عبد الحسين شعبان

هدف السلطة هو فصل الدين عن الدولة

ما يحدث في الساحة والحصار المقام على الإسلاميين يعيد النقاش حول قضية الإسلام السياسي كظاهرة، لتحديد الصراع بين حماة الإسلام ومعارضيه حتى لا نقول أعدائه، فاعتماد الإسلام مرجعية أولى مسألة أسالت كثير من الحبر وتعرض اصحابها إلى الحصار لأنهم كما يقول محللون يريدون تسييس الإسلام وتديين السياسة ما جعل البعض لاسيما الموالون للسلطة يقرّ بفشل الإسلام السياسي والاعتراف بأن الحركات الإسلامية لا مجال لها لمواجهة ديناصور اسمه السلطة.

تحاول الأنظمة العربية أن تجعل من شعوبها مجرد رعايا لا مواطنين أي أعدادا خاضعة خضوعا كاملا ل يحق لهم الاعتراض أو حتى رفع الصوت، ولذا تحاول هذه الأنظمة أن تسكت أصوات هذه الشعوب بالتضييق عليها كي لا تطرق باب المعارضة ومحاسبتها فتجعل منها كانا مضطربا في سلوكه ووجدانه، فعملت على فتح المعتقلات لإدانة كل من يقف في وجهها، بزجه في السجن، بتهمة أو بدون تهمة، وقد تفننت في ابتكار التهم والحجج والمبررات، وعادة ما تستهدف السلطة أو الأنظمة العربية المستبدة قادة الأحزاب الذين يمثلون التيار الإسلامي للتضييق عليهم واستفزازهم إمّا بالنفي أو بالسجن، حدث هذا في الجزائر عندما قرر النظام الجزائري إبعاد رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ عباسي مدني عن دياره ونفيه إلى أن توفي في المنفى ومنع عائلته من حضور تشييع جنازته، وحدث أن رفض رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الإعفاء عن سجناء التسعينيات المحسوبين على الجبهة الإسلامية للإنقاذ FIS وسجناء الحراك الشعبي بعدما أصدر قرارا يتضمن إطلاق حوالي 09 ألاف سجين في السادس عشر من أفريل 2023.

هو قرار اعتبره البعض بالتعسفي وغير عادلٍ وهو إن دل على شيئ فهو يدل على العنصرية، يحدث اليوم في تونس عندما زُجَّ برئيس حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي في السجن من قبل الرئيس قيس السعيد بسبب تصريحات أدلى بها خلال سهرة رمضانية نظّمتها جبهة الخلاص الوطني، المعارضة لقيس سعيد، قال فيها إن تونس من دون نهضة، من دون إسلام سياسي، ومن دون معارضة، هي مشروع لحرب أهلية، واعتبرت السلطة التونسية هذا التصريح تحريضًا على العنف وتأجيج حرب أهلية، وسارعت بغلق مقرات الحركة، فموقف السلطة هنا يعكس موقف المعارضة في تونس (جبهة الخلاص الوطني) حيث قالت أن سجن راشد الغنوشي هو تعديًا على حرية التعبير وانتهاكا لحقوق الإنسان، حسب بعض التقارير أن جلّ أنصار النهضة هم الآن داخل السجون بتهم تتعلق بالتحريض على الإرهاب، من بينهم مسؤولين سامين من رؤساء حكومة ووزراء، الشيء نفسه بالنسبة للفيس في الجزائر الذي لا يزال إطاراته داخل السجون منهم حتى من ينتمون إلى الجهاز الأمني الذين وقفوا مع عباسي مدني وأيدوا مشروعه .

الفرق بين التيارين أن حركة النهضة لاقت دعما وتضامنا من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي كانت له محاولات اتصال مع الرئيس للتونسي قيس السعيد لإقناعه بأن يعدل قراره ويفرج عن راشد الغنوشي، لكنها باءت بالفشل لتعنت الرئيس التونسي واستبداده، كما لقيت تضامنا كبيرا من الجزائر ايام الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة لكنها لم تحرك ساكنا في عهد الرئيس الحالي، في حين لم يلق أنصار الفيس في الجزائر دعما من قبل أي دولة، وإن التفتنا إلى إخوان المغرب نجد أنهم يواجهون حصارا مع النظام الملكي، وهناك أطراف تريد التشويش بين جبهة العدالة والتنمية والملك محمد السادس، ولعل حالة الانسداد بين الملك والإخوان في المغرب أساسها قضية التطبيع مع إسرائيل، كذلك ما يشاهده العالم في السودان وفي مصر، وحتى ما تعانيه الحركات الإسلامية في البلاد الأخرى والمضايقات التي يتعرض إليها المسلمون من قبل الأنظمة المستبدة.

فما عرفته البلدان العربية من ثورات وهزات سياسية واقتصادية لابد أن تخضع لمستويات متعددة من التحليل والنقاش، ما يلاحظ أن النظام العربي المستبد يصر على إبقاء انصار التيار الإسلامي داخل السجون، من جهة ليعطي درسا للإسلاميين أن السجن هو مصير كل من يريد التعالي على السلطة أو يقف امامها ندا للند، ومن جهة أخرى الزج بالمعارضة في السجون يكون في صالح السلطة لاستكمال مشروعها السياسي في رفض ما أطلق عليه اسم "الإسلام السياسي" ، وهي بذلك تريد أن تحقق مشروع فصل الدين عن الدولة، أي تريد أن تفرض النموذج الغربي على المسلمين في كل شيئ، في الفكر والثقافة وطرائق العيش والأزياء، بل تفريغ الإسلام من محتواه.

***

علجية عيش

انفجر الموقف بالسودان بين الجيش و«قوات التَّدخل السَّريع»، شُكلَت هذه القوات في حرب دارفور(2003)، لمساندة الجيش السّوداني، لكن بعد انتهاء الأزمة، صعب حلها، حتَّى صار لها دور في التغيير العام (2018). لم تصدر فتوى «جهاد كفائي» بالسُّودان، ولم تُسم تلك القوات بالمقدسة، فالمقدس فوق المساءلة والطَّعن.

ظهر قائد قوات التَّدخل السَّريع كأحد أبرز قادة التغيير بالسُّودان، الذي فضح الرّئيس المخلوع بما نُسب إلى الإمام مالك بن أنس(ت: 179هج)، إباحة قتل الثلث مِن أجل الثلثين. قال البشير برواية محمّد حميدتي: «نحن مالكيَّة، والمالكيَّة عندهم فتوى قتل الثُّلث، وتخلي الثّلثين يعيشون بأمان أو بعزة، والمتشددون منهم تقتل الخمسين بالمائة» (فيديو على النت). اتضح أنَّ تلك الفتوى مدسوسة على الإمام، بُثت بنزعة مذهبية، في كتب الأشاعرة، ذكرها أبو المعالي الجوينيّ(ت: 478هج)، ونقل عنه تلميذه أبو حامد الغزاليّ(ت: 505هج): «إنَّ مالكاً لما زل نظره، كان آثر ذلك تجويز قتل ثلث الأمة، مع القطع بتحرز الأولين عن إراقة محجمة دم، مِن غير سبب متأصل في الشَّريعة، ومنه تجويزه التأديب بالقتل، في ضبط الدولة وإقامة السياسة، وهذا إنْ عهد فهو مِن عادة الجبابرة، وإنما حدثت هذه الأمور بعد انقراض عصر الصَّحابة»(الجويني، البرهان في الأُصول). غير أنَّ شيوخ المالكيّة نفوا الفتوى. بمعنى أنَّ حميدتي، وفق هذه الرواية، أعلن المبرر لإزالة نظام البشير، وهو يهمُ (أي البشير) بقتل الثُّلث، مِن المحتجين ضده!

لم يكن المشهد السودانيّ، بخصوص المحتجين، بعيداً بما حصل لمحتجي العراق، صحيح لم تصدر فتاوى مباشرة بقتلهم، لكن عشرات الفتاوى قد صدرت ضمنياً، ومَن يتمعن في «دليل المجاهد» لمحمد كاظم الحائري، وخُطب رجال الدّين، ومعمم قناة «آفاق» سيجد المضمون واضحاً فيها، اعتبروهم كفاراً فساقاً، حتى ظهر أبرز قادة المجاهدين يقول جهاراً «علينا بالرُّؤوس»! علماً أنَّ المنخرطين في الميليشيات جلهم مِمن تربى على «دليل المجاهد».

صار بالسودان جيشان، والدَّولة واحدة، وبالعراق جيشان والدّولة المعلنة واحدة، لكن ما يزيد عنه حشد العراق أنّه أصبح قوةً اقتصاديّةً، داخل الدَّولة، بعد تأسيس شركة استثمارية عملاقة، فأخذت ميليشياته تتضخم، لها جهاز استخباراتها الخاص، يعتقل ويخطف جهاراً، اتخذت مِن منطقة «جرف الصَّخر» عاصمةً، المكان الذي حُرم على أهله العودة. أرى المشهد كالآتي، وفق ما حصل بالسّودان: إنَّ حشد العراق بني وفق استراتيجية مدروسة، منذ (2003)، وما فتوى «الجهاد الكفائي» إلا غطاءً دينياً، مِن أجل إضافة «المقدس» له، وهو يتضخم بوجود وزراء وموظفين كبار في الدَّولة، وعدته وعتاده مِن الميزانيّة العراقية، يكفيك النّظر في الرَّايات والصُّور والتَّصريحات، والممارسات تجد سيوفه مشرعةً مع الخارج إذا حمى الوطيس.

انفجر الموقف بالسودان، بين الجيش وقوات التدخل السّريع، ولا نظن أنّ «جنجويد» العراق الولائي سيكون طوع القانون، يأتمر بأمر السّلطة الشّرعيّة. فحذار مِن المواجهة، التي إن حصلت لا تذر ولا تبقي. ليكن المشهد السُّوداني اليوم درساً للعراق غداً!

لا يمكن يستقر بلدٌ فيه جيشان. صار العِراق بوجود الميليشيات طارداً لأهله، في زمن الدّيمقراطيَّة، وهو الذي يشار إليه لعظمة خيره ونعيمه ببيت لبشار بن بُرد(قُتل: 168هج): «يزدحمُ النّاسُ على بابه/والمَورد العَذب كَثير الزَّحامِ»(الدِّيوان).

بمعنى يكثر على بابه الغزاة والطَّامعون بأعذار مختلفة، حماية المذهب أو القوميَّة. زوروا كردستان العِراق، وسترون زحمة طرائد «الجنجويد» الولائيّ تنتظر، بينهم أبناء مخطوفين ومغتالين.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي 

بدأت الدوائر الغربية تستشعر بخطر التحديات التي تمثلها منظمة (بريكس)، تلك المجموعة التي تأسست من 5 دول في عام 2006، وهي روسيا والبرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا، والتي تدعو إلى دعم التعاون متبادل المنفعة بين البلدان ذات الاقتصادات سريعة النمو في المستقبل المنظور، وكذلك رغبة العديد من الدول ذات الثقل الكبير في الاقتصاد العالمي مثل (المملكة العربية السعودية وايران وفنزويلا)، والخطوات التي تقوم بها المنظمة من اجل التخلص من تبعية عملة الدولار كأساس لاحتياطاتها او في التعامل التجاري .

ووفقا لبيانات تقارير وكالة "بلومبيرغ" التي تستند لبيانات صندوق النقد الدولي، فإن دول مجموعة "بريكس" تتقدم على دول مجموعة G7، من حيث إجمالي المساهمة في النمو الاقتصادي العالمي منذ العام 2020، علاوة على ذلك فإن هذا المنحى سيستمر، وستوفر دول مجموعة "بريكس"، 32.1% من النمو الاقتصادي العالمي هذا العام، وفي العام 2028 ستكون مساهمتها 33.6%.، فيما ستوفر دول مجموعة السبع (بريطانيا العظمى وألمانيا وإيطاليا وكندا وفرنسا واليابان والولايات المتحدة) 29.9% في العام 2023 و27.8% في العام 2028، وكذلك أشار صندوق النقد الدولي، إلى أن الصين ستقدم في السنوات الخمس المقبلة أكبر مساهمة في النمو الاقتصادي العالمي وستكون حصتها ضعف حصة الولايات المتحدة.، ومن المتوقع أن تبلغ حصة الصين في نمو الاقتصاد العالمي 22.6% من إجمالي النمو الاقتصادي العالمي حتى العام 2028، تليها الهند بنسبة 12.9%، بينما ستقدم الولايات المتحدة 11.3%.

ويبدو أن الاقتصاد العالمي سيخرج قريبًا من هيمنة الدولار الأمريكي، فقد تم إطلاق الإشارات المقابلة، ويبقى انتظار تنفيذ الخطة العالمية، ووفقا لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، فإنه خلال قمة البريكس، والتي ستعقد في أغسطس في جنوب إفريقيا، ستتم مناقشة إنشاء عملة مشتركة جديدة للاتحاد، وشدد على أن "الدول الجادة التي تحترم نفسها تدرك جيدا ما هو على المحك "، وقال إن عجز مالكي النظام المالي النقدي الدولي الحالي، أثر على حقيقة أن بعض الدول فكرت في إنشاء آلياتها الخاصة، وإنه من المهم بالنسبة لهم ضمان التنمية المستدامة التي "ستتم حمايتها من الإملاءات الخارجية".

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدوره أيضا، تحدث عن هذا الأمر في يونيو من العام الماضي، وقدم قبل قمة البريكس، اقتراحًا لإنشاء عملة جديدة يمكن أن تحل محل الدولار بعد مرور بعض الوقت، وتحريك نظام بريتون وودز (نظام دولي لتنظيم العلاقات النقدية والتسويات التجارية، الذي تم إنشاؤه نتيجة لاتفاقية بريتون، ومؤتمر وودز، الذي عقد في الفترة من 1 إلى 22 يوليو 1944)، وكان رد فعل الكثير على هذا، كفكرة جميلة يصعب تنفيذها في الممارسة العملية، ولكن الوضع اليوم مختلف، أولاً، إن دول البريكس مستعدة بجدية ليس فقط للمناقشة، ولكن أيضًا للعمل على هذا الخيار، ففي أمريكا الجنوبية، اتخذوا بالفعل زمام المبادرة لإنشاء عملتهم الخاصة في جمعيات أخرى أيضًا، فهل هذا يعني أن العالم يقترب من تكوين عملة احتياطي جديدة؟ مع ملاحظة أن دول البريكس من حيث تعادل القوة الشرائية تمثل حوالي 40٪ من الاقتصاد العالمي، وهذه هي بيانات صندوق النقد الدولي لعام 2022.

وتثار مسألة الحاجة إلى الإصلاحات في دول البريكس في كل قمة، وواحدة من هذه كانت قمة G20 في سيول في عام 2010، حيث تمت مناقشة حصص صندوق النقد الدولي، وأعلنت دول البريكس عدم موافقتها على حقيقة أن حصتها الإجمالية كانت أقل من حصة الولايات المتحدة، ونتيجة لذلك، عقدت قمة في عام 2014 في فورتاليزا، وبعد عام - في أوفا، وفي نفس المكان تم إصلاح نوايا هذه البلدان في الطريق إلى نظام مالي بديل، وقد تم تسهيل ذلك من خلال إنشاء بنك تنمية جديد لمجموعة بريكس ومجموعة من احتياطيات النقد الأجنبي المشروطة .

ويبرر قادة "بريكس" قرارهم، بالقول، إنه عندما تم إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسات بريتون وودز، لم يتم أخذ مواقفهم في الاعتبار، ففي عام 1944، لم تكن هناك جمهورية الصين الشعبية بعد، وكانت الهند دولة شبه مستعمرة، وجنوب إفريقيا كانت في شكل مختلف قليلاً عن الآن، لكن مرت 78 عامًا - ولا يوجد اتحاد سوفيتي، وتحولت دول البريكس من "المقترضين إلى أكبر الدائنين"، وبحسب الخبراء، ان روسيا والهند والصين، تمتلك اليوم موارد كافية لإملاء سياساتها، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 40٪ من سكان الكوكب بأسره، بالإضافة إلى ذلك، تراكمت لدى هذه الدول بشكل خطير القوة المالية والاقتصادية .

وخلال زيارة للصين في 13 أبريل الجاري، اقترح الزعيم البرازيلي لولا دا سيلفا، التخلي عن الدولار في المدفوعات الدولية، وتساءل بسؤال بلاغي من قرر أن الدولار هو العملة الرئيسية بعد إلغاء معيار الذهب ؟، ثم ذكر أن دول البريكس بحاجة إلى تطوير عملتها الخاصة لاستخدامها في التجارة العالمية، وتساءل ألكسندر رازوفاييف، عضو مجلس الإشراف في نقابة المحللين الماليين ومديري المخاطر، بدوره، هل يمكن أن تتحقق رغبة رئيس البرازيل ؟ خلال انعقاد قمة رؤساء دول "الخمسة الأقوياء" في أغسطس في جنوب إفريقيا، ما هي العملة التي ستحل محل الدولار في هذه الحالة ؟.

لقد تم الحديث عن عملة البريكس لفترة طويلة، وازداد الاهتمام بهذا الموضوع في العام الماضي، وأكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطط هذه الرابطة فوق الوطنية لإنشاء عملتها الخاصة للتجارة الدولية بدلاً من الدولار، ثم كان من المفترض أن يتم إطلاق الوحدة النقدية الجديدة على أساس سلة عملات لجميع الدول الأعضاء في" البريكس "، وفي نهاية العام الماضي، كتب الكثير عن هذا المشروع في وسائل الإعلام الغربية بالإشارة إلى الاقتصاديين والخبراء الذين نظروا في سيناريوهات مختلفة، ويعرب الغربيون عن أعتقادهم، أن عملة الدول الخمسة "الأقوياء"، ستكون مرتبطة بالذهب أو المواد الخام، أو كليهما، وقد أثار لولا دا سيلفا، مسألة إنشاء عملة البريكس خلال زيارته للصين، وهي ليست مصادفة، فمن الواضح أن العالم يتحدث عن احتمال خروج اليوان إلى هذا المستوى.

والسؤال المهم، هو هل تمتلك دول البريكس قوة اقتصادية كافية للتحول إلى المستوطنات بعملتها الخاصة، مهما كانت؟، وبنظرة بسيطة، فإن مجموعة "البريكس " تشكل اليوم نصف سكان العالم، و 25٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ونصف الناتج المحلي الإجمالي لدول مجموعة السبع، إذا كنت تحسب بالقيمة الاسمية، وأكثر من الناتج المحلي الإجمالي لـ "الكبار السبعة" إذا كنت تحسبه على أساس تعادل القوة الشرائية، وبمقارنة اقتصادات مجموعة السبعة ودول البريكس، يشير الخبراء بحق إلى أن حوالي 80٪ من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة والأعضاء الآخرين في "السبع الكبار" هو قطاع الخدمات - التمويل والتأمين والتعليم والطب والخدمات الشخصية -، بينما تبلغ حصة الإنتاج الحقيقي في المتوسط حوالي 20٪، علاوة على ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تنتهج سياسة متعمدة لإزالة التصنيع من حلفائها، وهو ما يظهر بوضوح في مثال الاتحاد الأوروبي.

كما لدى "البريكس " نسبة مختلفة في هيكل الناتج المحلي الإجمالي لبلدان "الخمسة الأقوياء"، لا تتجاوز حصة الخدمات 60٪، ويمثل قطاع الإنتاج الحقيقي 35٪ إلى 55٪، وحسب الدولة، بالإضافة إلى ذلك، يمكن لمجموعة "بريكس "، زيادة قوتها في وقت قصير جدًا، لأن إيران والأرجنتين ومصر وتركيا والمملكة العربية السعودية والجزائر أعربت عن رغبتها في الانضمام إلى هذه الجمعية، وكل هذا يدل على أن دول " البريكس"، لديها قوة اقتصادية كافية لإنشاء عملتها الخاصة.

والسؤال المهم اليوم، هو ماذا ستكون العواقب بالنسبة لدول البريكس إذا تخلت عن الدولار؟، فقد أظهر مثال روسيا، أنه في ظل عدد قياسي من العقوبات، يمكن للمرء أن يعيش بشكل أفضل من أولئك الذين يفرضون هذه العقوبات – والحديث هنا عن أوروبا-، التي بدأت مشاكلها للتو، وكما يراها ويلمسها الجميع، بالإضافة إلى ذلك، فإن فرض عقوبات على نصف العالم هو طريق مسدود، سيصبح لوحة في حالة عجز المرء، لذلك إذا أظهرت مجموعة البريكس الوحدة، فلن تكون هناك عواقب ملموسة لهذه الرابطة فوق الوطنية.

ومن وجهة نظر المختصين، فإن عملة البريكس إذا ظهرت، ستكون مشابهة جدًا للروبل السوفيتي القابل للتحويل، ولكن فقط للتجارة الخارجية، أو قد يكون هناك سيناريو آخر، حيث سيحل اليوان بسرعة محل الدولار في التجارة بين الدول "الخمس القوية "، لذلك سيكون اليوان، بالطبع، العملة الرئيسية للعالم غير الغربي، ومن حيث المبدأ، كل شيء جاهز لذلك، أما بالنسبة لعملة البريكس، فهذا قرار سياسي، ويقولون إنه سيتخذ في أغسطس، وبعد ذلك، ستطير "البجعة السوداء" الكبيرة والبدينة من الدولار الأمريكي واليورو، وإذا أطلق أردوغان أيضًا مركزًا ماليًا إسلاميًا في إسطنبول، فسيكون هذا بالفعل بمثابة طلقة الرحمة في رأس العملة الأمريكية.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

الصراع في السودان حتى الآن ليس حربا أهلية، فالشعب والأحزاب غير مشاركين فيها، ولا أساس طائفي أو عرقي أو ايديولوجي لها، فكل من قائد الجيش البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) من نفس النظام والمؤسسة العسكرية كما أن قوات الدعم السريع والجيش الرسمي من المسلمين ومن نفس المذهب السني وجميعهم من العرب، دون تجاهل الطابع القبلي والجهوي للمجتمع السوداني، وبالتالي فإن ما يبدو على السطح حتى الآن إنها حرب وصراع على السلطة وهو صراع ممتد منذ الاستقلال.

منذ عقود ونحن نسمع بأن السودان الذي تبلغ مساحته (1.882.000 كلم) مؤهل لأن يكون سلة غذاء لكل العالم العربي نظرا لخصوبة أراضيه، وما تختزنه الأرض من مواد خام كما أن له موقع استراتيجي في القرن الأفريقي وحدوده مفتوحة على سبع دول: مصر وإثيوبيا وليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا وجنوب السودان، ومع ذلك استمر البلد فقيرا حتى بات لا يستطيع تحقيق أمنه الغذائي أو إنجاز الاستقرار السياسي حيث شهدت البلاد منذ استقلالها عام 1956 تعاقب عدة انقلابات عسكرية وحروب أهلية كان أخطرها في جنوب السودان الذي انفصل عن شماله في يوليو 2011 بعد سنوات من الحرب الأهلية.

كما جرت محاولات تمرد واحتجاجات في إقليم دارفور منذ عام 2003 وقد أدت لإزهاق أرواح أكثر من 300000 شخص وتشريد 2 مليون حسب إحصاءات رسمية للأمم المتحدة، وتم قمعها بشدة من طرف حكومة عمر البشير مستعينا بميليشيا (الجنجويد) التي تحولت فيما بعد إلى قوات الدعم السريع بزعامة محمد حمدان دقلو والذي يقوم بمحاولة الانقلاب اليوم على الجيش والدولة التي يتزعمها البرهان.

إن كنا نأمل أن يبقى الصراع محصورا في المؤسسة العسكرية وأن يتم وقفه بسرعة إلا أن هناك خشية من تداعيات قد تؤدي لتقسيم السودان وفتح المجال لتدخل أطراف خارجية وقد تكون تداعياتها على السودان ودول المنطقة أكثر خطورة من تداعيات فوضى الربيع العربي لعدة أسباب:

1- إن لم يكن هناك صراع طائفي وعرقي إلا أن المجتمع السوداني مجتمع قبلي والقبلية لا تقل عن الطائفية والعرقية في قدرتها على الحشد والاستقطاب، كما أن السودان يتشكل من 18 ولاية لكل منها خصوصيتها وبعض هذه الولايات تتشكل من مجموعات مختلطة عربية وغير عربية،

2- ما يجري في السودان جاء متزامنا مع تمدد نفوذ روسيا والصين في السودان وعموم افريقيا وحديث عن دور لجماعة فاغنر الروسية في تدريب ودعم قوات الدعم السريع..

3- ما يجري جاء متزامنا مع صراع بين حلف الأطلسي وخصوصا واشنطن مع كل من الصين وروسيا للهيمنة والتحكم بخيرات أفريقيا الهائلة، أيضا مع حرب أوكرانيا واحتمالات تحولها لحرب عالمية.

4- في حالة ضعف الدولة السودانية قد تنقل جماعات متطرفة نشاطها الإرهابي إلى السودان وخصوصا من دول الجوار كليبيا وتشاد ومالي حيث تنشط هذه الجماعات.

5- للسودان أهمية استراتيجية لمصر بسبب تحكمها في كمية المياه التي تصل مصر من نهر النيل أيضا لأنها من الدول المطلة والمتحكمة في البحر الأحمر، وأي نظام سياسي في السودان معاد لمصر سيؤثر على الأمن الاستراتيجي لمصر وخصوصا أن حدود مصر الأخرى مع ليبيا وإسرائيل غير آمنة تماما.

6- ما كان لقائد قوات الدعم السريع أن يُقدم على محاولة الاستيلاء على السلطة ومواجهة الجيش الرسمي الذي يفوقه عددا وعدة لو لم يكن مدعوما من جهات أجنبية أو موعودا بدعمها.

7- لإسرائيل علاقة حسنة بطرفي الصراع وقد عبرت عن استعدادها للوساطة فإن نجحت فستعزز نفوذها مع الطرفين وإن فشلت الوساطة قد تساند طرفا على طرف آخر وخصوصا أنها تتطلع منذ سنوات لأن يكون لها موقع قدم في البحر الأحمر.

8- بيان الخارجية الأمريكية بأن واشنطن قلقة على مستقبل وحدة الأمة السودانية أيضا تحذير حلف الأطلسي بأنه لن يسمح باستمرار الحرب في السودان يشي باحتمال تدخل غربي مباشر.

9- حتى في حالة حسم المواجهات في العاصمة الخرطوم لصالح طرف على حساب الطرف الثاني فإن هذا لا يعني نهاية الحرب حيث سيلجأ الطرف الخاسر إلى حاضنته القبلية وفي هذه الحالة سنغرق السودان في حرب أهلية.

10- نظرا لوجود تاريخ طويل من الحروب الأهلية وبعضها في إطار الانفصال فإن احتمال بروز نزعات انفصالية أمر وارد وسيكون إقليم دارفور البادئ في الأمر.

قد يقول قائل لا داع لتوظيف نظرية المؤامرة وتضخيم ما يجري في السودان لأن ما يجري مختلف عما جرى في دول (الربيع العربي) حيث الصراع في السودان محصور بين مكونات المؤسسة العسكرية وبالتالي لا علاقة بين الحدثين ولا خوف من تداعيات الصراع في السودان سواء على وحدة الدولة والمجتمع أو على دول الجوار.

لا نقول بأن هناك تطابقا بين الحالتين ولكن علينا التذكير بأنه قبل فوضى الربيع العربي كانت عديد التقارير والدراسات الاستراتيجية المسربة من واشنطن وحلف الأطلسي تتحدث عن مخطط (بلقنة) أو تجزئة دول العالم العربي وكانت هذه التقارير تتحدث عن تجزئة مصر والسودان والمغرب والجزائر ولبنان والعراق إلى دويلات وقد أشار المشروع الأمريكي لـ (الشرق الأوسط الجديد2004)  ثم ( الشرق الأوسط الكبير 2006) إلى ذلك وقد نجح الغرب وخصوصا واشنطن مستعينة بأطراف داخلية في تحقيق بعض الإنجازات في هذا المجال كما جرى في العراق واليمن وليبيا وسوريا وفي مناطق السلطة الفلسطينية، وحتى في السودان حيث انفصل جنوب السودان عن جنوبه في العام الأول 2011 من فوضى الربيع العربي.

عندما اندلعت فوضى ما يسمى (الربيع العربي) عام 2011 كان الوجه البارز للصراع وأطرافه  المباشرين هم الشعب في مواجهة السلطة، ولم يكن في المشهد السياسي في الأيام الأولى للأحداث أي حضور مباشر لأطراف خارجية أو لجماعات مسلحة محلية أو وافدة من الخارج وكان شعار المتظاهرين (الشعب يريد اسقاط النظام)، ولكن ما أن مرت أيام حتى ركبت موجة الاحتجاجات جماعات مسلحة كالقاعدة وتنظيم الدولة وجماعة الإخوان المسلمين وأخذت الدول الخارجية تتدخل، خفية أحيانا من خلال تمويل جماعات المعارضة أو بشكل عسكري مباشر كما جرى في ليبيا وسوريا واليمن، كما برزت الطائفية والمذهبية والإثنية والجهوية، وبدلا من إسقاط النظام سقطت الدولة.

حمى الله السودان وشعب السودان من الفتنة والحرب الأهلية.

***

د. ابراهيم أبراش

السودان الحبيب.. ضحية عمقه العربي الإسلامي الإفريقي

تمهيد: واسوداناه، واعرباه، واسلاماه، وا إنسانيتاه. هي صرخة شعب سُرقت منه الحياة.

هل أمسى السودان في مفترق الطرق؟ ولماذا وقع في قبضة جنرالين، أحدهما كان تاجر إبل، وأصبح قائد ميلشيات متمرّدة على سلطة الدولة والجيش النظامي، والآخر قائد الجيش النظامي، وكلاهما يطمحان، سرّا وعلنا، للتفرّد بالسلطة الفعليّة، وإجهاض السلطة المدنيّة؟ قتال بين قوتين، صنعت مأساة شعب طيّب الأعراق، مسالم، له من الذكاء والعبقريّة قسط وافر، شعب مسالم، خدوم، هاديء، محبّ للأمن والسلام.

منذ استقلال السودان، والغرب، بأجنحته السياسيّة والثيوقراطية والاقتصاديّة، يتربّص به الدوائر. وطفق، على مرّ قرن من الزمن، يشعل الفتن تلو الفتن في جنوب السودان وغربه وشرقه وشماله. تحت مجموعة من العناوين السياسيّة والحقوقيّة والدينيّة. كالديمقراطيّة وحقوق الإنسان المدنيّة والدينيّة، حتى نجح الغرب الصليبي الحاقد، بمؤازرة الإيديولوجيّة الصهيونيّة، في تقسيم السودان إلى شمال وجنوب.

قد يتساءل المرء، لماذا وجّهت الكنيسة الغربيّة سهام سمومها إلى السودان؟ هل طمعا في مياهه أم طمعا في أراضيه الخصبة، كونه سلة الغذاء العربي والعالمي، ومعادنه الثمينة؟

إنّ الأمر (الخطير)، الذي حرّك الكنيسة الغربيّة في الماضي، ومازال يحرّكها، هو البعد الجغرافي الاستراتيجي للسودان ؛ فقد جرّ عليه موقعه المتميّز حقدا غربيّا لا مثيل له. فجغرافيته المنبسطة الواقعة بين سبع دول هي (مصر، ليبيا، تشاد، أثيوبيا، إريتريا، جمهورية إفريقيا الوسطى، جنوب السودان)، هي التي جرّت عليها هذا الحقد الغربي الصليبي، وألّبت عليها الأطماع الغربيّة. إنّ السودان مثال راق للمجتمعات المثقفة، المؤلّفة قلوبهم، المتعايشة في كنف التراحم والتعارف. وبفضل السودان انتشر اللسان العربي ولغة الضاد في شرق إفريقيا وقرنها. وبفضل المنهج الديني الوسطي في السودان أنار الإسلام مناطق شاسعة من إفريقيا. فقد عُرف عن الإنسان السوداني دماثة الأخلاق، والتسامح الديني، والتعايش السلمي، وحبّ الآخر، ولو كان على غير ملّته. ولم يعرف المجتمع السوداني قديما، أي قبل بروز أنياب الذئاب الغربيّة، صراعا إثنيّا. لقد عاش الإنسان السوداني مترفّعا عن الفتن الجاهليّة، والأحقاد الصليبية والصهيونيّة. ولم يستطع الانتداب البريطاني وأعوانه، ضرب الوحدة السودانيّة، بوساطة سياسة (فرّق تسد).

إنّ ازدهار السودان وتقدّمه الاقتصادي وتماسكه الاجتماعي وتآلف أبنائه ووحدتهم في ظلّ الأمن الوطني والاستقرار السياسي، خطر، ما فتيء يؤرّق الغرب، وهو خطر يهدّد – في نظر الغرب – الوجود الكنسي في شرق إفريقيا كلّها ووسطها. فقد عجزت الكنيسة، بمختلف مذاهبها، عن الوقوف في وجه المدّ العربي الإسلامي. وهو مدّ عفويّ متسارع الخطى، لم تصاحبه قوة سيف ولا إغراء ماديّ. لقد كثّف الغرب غاراته الثقافيّة والفكريّة والدينيّة على السودان، خوفا من الإسلام ولغته وتعاليمه السمحة.

يقول زويمر في مؤتمر بالهند: " والمبشّرون المنتشرون على ضفتي النيل، وشرقي إفريقيا، وبلاد النيجر، يرفعون أصواتهم، بالشكوى من انتشار الإسلام في هدة الأنحاء " (1).

إنّ حروب الغرب في إفريقيا، التي ظاهرها أمنيّ كما يزعم قادته ومنظّروه، هي حروب دينيّة في حقيقتها. وما يشاع في أدبيّات سياساتهم وإعلامهم ومؤتمراتهم الدوليّة والإقليميّة، أنّ تواجدهم بالقارة السمراء، وخاصة بدول الساحل، هدفه مكافحة الإرهاب، الذي تتزعمه مجموعات إرهابيّة مسلّحة، لا يُعرف انتماء، غير الانتماء الإرهابي، هو ذر للرماد في عيون المغفّلين.

فالغرب، لا يقرّ له قرار، فتارة يصف تلك الجماعات المسلّحة (وأغلبها هو من يسلّحها)، بأنّها جماعات إرهابيّة، وتارة يصفها بالجهاديّة، وتارة بجماعات معارضة لأنظمة الحكم، فهو غالبا ما يسعى إلى تدجينها واحتوائها لصالحه سرّا، ويدّعي – علنا – بأنّه يناصبها العداء ويحاربها.

" ونتيجة هذا الخوف من الإسلام، وهذا الاستصراخ اجتمع الغرب المادي الملحد تتزعمه أمريكا التي لا تعرف من العبادة غير عبادة الذهب، ومع هذا غطت مساحة كبيرة من العالم بجيوش التنصير، زاعمة أنّها تدعو إلى حياة روحيّة وسلام ديني، ومن المعلوم أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، وما هؤلاء في الحقيقة إلاّ عيونها ورسلها " (2)

و يضيف الكاتب: " ولذا تُسهم أمريكا في ميزانيّة التنصير إسهاما عاليا، ولقد صرّح رئيسها الحالي (ريغان) أنّه دفع نصيب دولته في ميزانيّة التبشير (عشرة ملايين من الدولارات)، هذا بخلاف المبالغ الضخمة التي تدفعها المؤسسات الصهيونيّة والصليبيّة والأشخاص الأمريكيون للأسهام في حملات التنصير، ممّا أغرى كثيرا من أصحاب الأغراض الشخصيّة، من مرتزقة ومغامرين ورحّالة وتجار أن يمتطوا التنصير مركبا لبلوغ أهدافهم ومآربهم، ساعدهم في ذلك ضعف المسلمين وغفلتهم " (3)

العقل العربي المعاصر والجامعة العربيّة:

هل أفلس العقل العربي المعاصر؟ سؤال مستفزّ لأولي النهى والبصيرة؟ وهل سطت (من السطو) العصبيّة القبليّة والعشائريّة على فلسفة الثقافة الديمقراطيّة المعاصرة؟ هل فُطِر العرب على حلّ نزاعاتهم القبليّة والعشائريّة والعائليّة والشوارعيّة (من الشارع) والمذهبيّة والرياضيّة على سلّ السيوف من أغمادها، وجزّ الرقاب؟ لماذا تنجح الوساطات الأجنبيّة بين العرب، وبالمقابل تفشل الوساطات العربيّة؟ لماذا لم تقم الجامعة العربيّة بدورها في معالجة الأزمات العربيّة بالحوار، قبل انفلات أزيز الرصاص ودوي المدافع والقنابل؟ ما محل منظمة المؤتمر الاسلامي من النزاعات العربيّة العربيّة؟ ألم يكن من الأولى منع وقوع الفأس في الرأس، بدلا من البحث عن الحلول والفرج بعد حدوث الكارثة؟ متى يتطهّر العقل العربي من مخلّفات حرب داحس والغبراء، ومأساة حرب البسوس، ومآلات التحكيم بين معاوية وعلي؟ إلى أين يتّجه السودان الشقيق؟

لقد حملت لنا العشر الأواخر من رمضان أنباء مفجعة وحزينة من أرض السودان الشقيق. خرست العقول، وضغطت الأصابع على الأزندة، وتناقلت القنوات الشقيقة والصديقة وقنوات الأعداء، المسموعة والمرئيّة، صورا وصرخات من أرض المعركة التي اندلعت بين (الأخ) و(أخيه). من أجل جلالة الكرسي، وفخامة السلطة. وعوض أن يتبادل الأخوان (العدوان) تهاني العيد المبارك بالألعاب الناريّة الصينيّة والمسّرات والتبريكات وأداء واجب صلات الرحم والحلويّات وما تيسّر من المشويات، تبادلوها بأزيز الرصاص وطلقات المدافع ودويّ الطائرات الحربيّة والدموع وصرخات الاستغاثة والآهات. إنّها، حقّا، صورة دراماتيكية، تراجيديّة، مأساويّة، داحسيّة، غبراويّة (حرب داحس والغبراء)، بسوسيّة (حرب البسوس)، تدمي القلوب، وتضيف لأمتنا العربيّة المجيدة لبنات أخرى من المآسي والخيبات.

إن إنشاء المليشيات المسلحة مهما كانت توجّهاتها الإيديولوجيّة - سواء بترخيص من السلطة الحاكمة، أو بلامبالاتها - كما هو الشأن في لبنان والعراق واليمن والسودان - خطر داهم على وجود مؤسسات الدولة. فقد انقلبت هذه الميليشيات المسلّحة على السلطات الفعليّة لتلك الدول، وتمرّدت عليها. ولعل، ما يجري في السودان الحبيب خير مثال على ذلك. إنّ امتلاك هذه المليشيات للسلاح، خطأ أمني واستراتيجيّ، وخرق فاضح للدستور، نظرا لعقائد تلك المليشيات القائمة على المذهبيّة الدينيّة والسياسيّة والقبليّة والإثنيّة والذاتيّة. إنّ مثل السودان الشقيق كمثل الجماعة التي قيل فيها المثل العربي: (يداك أوكتا وفوك نفخ).

قُتِل مواطنون أبرياء سيُقتل آخرون أبرياء أيضا، وقُتِل جنود، وسيتقتل جنود من الطرفين، وسُفكت دماء، وستسفك دماء القتلى والجرحى غزيرة، وسالت دموع الثكالى والأيامى واليتامى المفجوعين والأطفال، وستسيل غزارا في أتون هذه الحرب النتنة، إذا لم تتوقّف اليوم قبل الغد. وطوبى للقنوات الصديقة والشقيقة والعدوّة ولمواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تيك توك، تويتر، يوتيوب، انستغرام)، ستمنح لها هذه الفتنة الملعونة، مزيدا من المشاهدين، وسيجني أصحابها مزيدا من المال القذر.

و كأنّ العرب يقتنون الأسلحة بتريليونات الدولارات من أجل أن يتقاتلوا فيما بينهم، مثلما حدث في فتن الربيع العربي (اليمن، سوريا، ليبيا، السودان، العراق).

إن عسكرة المجتمع المدني، كان وبالا على الأمّة العربيّة الإسلاميّة، جعلها تفقد صفة الأمة الواحدة (كُنْتُمْ خَيْرَ أمّةٍ أُخْرجَتْ للنَّاسِ).{ 10 / آل عمران}

و عندما يعجز العرب عن مقاتلة عدوّهم اللدود (العدو الصهيوني)، تسوقهم شهوة العنف لديهم إلى التقاتل فيما بينهم، على أتفه الأسباب.

لماذا يشتري الحكام العرب السلاح من الغرب والشرق، ثم يوجهونه إلى صدور شعوبهم؟

ما محل الجامعة العربيّة من الإعراب، ودورها؟

هل عجزت الجامعة العربيّة (المتفرّقة)، وفشلت في إرساء نظام سياسيّ ديمقراطي حرّ في العالم العربي، تقوم فيه العلاقة بين الحاكم والمحكوم على فلسفة المنفعة المتبادلة والتراحم. فلا الحاكم يطغى على رعيّته ويستبّد عليها، ولا الرعيّة تخرج عن طاعة الحاكم؟ أجل، لقد عجزت وفشلت، ولم تحقّق طموح العرب، من المحيط إلى الخليج. فلو أحصينا عدد الحروب الأهليّة والبينيّة ومجمل الأزمات بين أعضائها والخلافات والنزاعات والخصومات وقطع العلاقات وإغلاق الحدود والمجالات الجويّة، التي حدثت في ظل وجود الجامعة العربيّة، لتأكدنا من عقم الذي أصاب الجامعة العربيّة، ولقلنا دون مجاملة أو مكايدة أو مبالغة أو نكران، أنّ دور الجامعة العربيّة في حفظ الأمن العربي القومي والسلم الاجتماعي واللحمة العربيّة الوحداويّة، لوجدناها لم تتعدّ الدرجة الصفريّة.

كل الوقائع الماضية التي أصبحت في ذمّة التاريخ وفي قرطاسه المشهود، والأزمات الحاليّة تجسّد الفشل السياسي العربي. لم تستطع الجامعة العربيّة – نظرا لضعف مجلسها التنفيذي وعدم القدرة على إلزاميّة تنفيذ قراراتها – منع وقوع الأزمات قبل وقوعها، ولا حلّها بعد وقوعها. وكانت نكسة 1967 م ضربة قاصمة للأمّة العربيّة، وبعدها اندلعت الحرب اللبنانية اللبنانيّة، ثم الحرب العراقيّة الإيرانية، ثم غزا العراق الكويت الشقيقة، ثم دمّر الغرب، بقيادة أمريكا العراق تدميرا، وحوصرت قطر الشقيقة من لدن أشقائها الأقربين جغرافيا وإثنيّا، ودمّر الحوثيون اليمن بمباركة نظام الملالي في إيران، وتعيش سوريا الشقيقة أحلك أيامها في التاريخ المعاصر، وبقيت الأزمة الليبية دون حلّ دستوري وديمقراطي، وانتكس ما يسمّى بالربيع العربي وثورة الياسمين في تونس، وبين النظامين الجزائري والمغربي جفاء وعداوة وحدود مغلقة ومجال جويّ محظور على الخطوط الملكيّة المغربية، وفي مصر – مقر الجامعة العربيّة - أُسقط نظام ديمقراطي منتخب واعتقل رئيس منتخب وزُجّ به في السجن حتى لقيّ ربّه، والخلاف بين فلسطينيي غزة والضفة الغربيّة لم يد له العقلاء حلاّ يرضي الطرفين، وهو ما يُسّر الصهاينة ويسعدهم، وانقسم السودان الشقيق (كان أكبر دولة إفريقية مساحة) إلى جنوب وشمال، وها هو اليوم، وفي عزّ العشر الأواخر من رمضان، يشتعل حربا وخرابا بين الإخوة، أبناء الوطن الواحد، بقيادة جنرالين، حرّكتهما شهوات السلطة والمصالح الشخصيّة الضيّقة، لتضحك من جهلهما الأمم، وفي مقدّمها أمم الغرب الصليبي، والعصابات الصهيونية الحاقدة. والسؤال الذي مازال معلّقا من عرقوبه، أين كانت الجامعة العربيّة؟ لماذا لم تحم الشعوب العربيّة من غطرسة السياسة الرعناء وقراراتها العمياء؟ لماذا لم تحم الشعب الكويتي الشقيق من ديكتاتوريّة الزعامة؟ لماذا لم تحم الشعب العراقي من الإرهاب الكوبوي الغربي؟ لماذا لم ترمّم الصدع الفلسطيني؟ وإجمالا، لماذا وقفت الجامعة العربيّة، كالذي بُهت حين طُلب منه الإتيان بالشمس من المغرب بدل المشرق، أمام الأزمات العربيّة العربيّة في المشرق والمغرب؟ وإذا كانت الجامعة العربيّة، قد نجحت في جمع الحكّام العرب تحت قبّتها بالقاهرة، فقد عجزت، بالمقابل، عن تأليف القلوب وتطهيرها من سيكولوجيّة الزعيم النرجسي، وفشلت – فشلا ذريعا – في محو الخلافات بين الأشقاء، ومعالجة أدواء الأمّة العربيّة، التي أمست جسدا مريضا، لا تختلف وضعيتها عن حالة الدولة العثمانيّة (الرجل المريض) في أواخر سنوات سقوط الخلافة (1908 م – 1922 م.

وكأنّ شهوة التقاتل متحكّمة في العقل العربي، ومتجذّرة في اللاشعور الجمعي، منذ العصر الجاهلي. وكأنّي بالإنسان العربي، لا يستطيع العيش دون قتال، ولا يقوى على الحياة الديمقراطيّة والسلم. فإذا لم يجد عدوا يقاتله، قاتل نفسه، أو قاتل طواحين الهواء، كما فعل دون كيشوت.

يقول الشاعر العراقي وليد الصراف في بيت شعري له:

جاء المغول و" دون كيشوت " منتفضا ** مازال يضرب أعناق الطواحين.

وفي رواية الروائي الإسباني الشهير، ميخائيل دي سرفانتس، يستفيق بطلها دون كيشوت من جنونه ويعود إلى رشده، ويقول:

" لقد كنت مجنونا والآن صرت عاقلا، لقد كنت دون كيشوت دي لا منتشا، والآن كما قلت لكم ألونسو كيخاتو".

ألا متى يستفيق (الدون كيشوتيون) في السودان واليمن وليبيا وسوريا، وغيرها، ويؤوبون إلى عقولهم، أو تؤوب إليهم عقولهم؟

ألا ليت الإخوة السودانيّون الشرفاء يدركون – قبل فوات الأوان وتوسّع الجراح وغئورها - أنّ حربهم الأهليّة الحاليّة، وحروبهم السابقة كلها، تصبّ في قناة خدمة الغرب، سياسيا وكنسيّا واقتصاديّا وثقافيّا.

إن السودان الحبيب، في حاجة ماسة إلى ثورة على الجهل والتعصّب والجوع والأمراض الفتاكة الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وعملاء الغرب والصهيونيّة. إنّه، والعرب جميعا، مدعوون إلى التعليم والتنوير وممارسة الحريّة والديمقراطيّة بعيدا عن أزيز الرصاص وأساليب القمع الثقافي والاستبداد الثيوقراطي. إنّ التقاتل بين الإخوة ليس فيه منتصر ولا منهزم للطرفين، إنّما المنهزم الوحيد هو الوطن، ولا أحد غير الوطن.

و أخيرا، أنا مضطر للتوقف عن الكلام المباح وغير المباح، لأقف وقفة ترحّم على ضحايا الفتن العربيّة كلّهم، وعلى شهداء الحريّة، في انتظار أن يدركنا فجر جديد، نغيظ به الأعداء والصهاينة. وكل عام والسودان الحبيب بألف خير وحبّ وسلام وعافيّة.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

.........................

هامش:

(1) الغارة على العالم الإسلامي – ص 160.

(2) النشاط الكنسي في السودان. أساليبه ومقاصده وطرق مواجهته / الخضر عبد الرحيم أحمد – ص 9.

(3) المصدر نفسه.

الإخوة الأعزاء سلام عليكم

حياكم الله وبارك فيكم وأسعد الله أيامكم وكل عام وأنتم بخير ونعمة ورضا الله تعالى. دفع الله عنكم كل سوء وحفظكم وسدد خطاكم وأسعدكم وبارك فيكم.

نتيجة مخرجات الأحداث الدموية المتكررة التي تقع في جنوب العراق بين فينة وأخرى؛ والتي تستخدم فيها الأسلحة الثقيلة أحيانا، ومن خلال ما يرشح من مخرجات المشهد المرئي الذي يتضح منه أن القبيلة أصبحت اليوم منافسة للدولة بشكل صارخ، بما تمتلكه من سطوة ورجال وسلام ونوايا عدوانية ظاهرة، وما يمثله ذاك من ولادة قوى موازية للدولة لها قدرة التأثير على قراراتها، عشنا في الآونة الأخيرة مآس كبيرة تسببت في إحداث دمار شامل، وفقدان مجاميع شبابية وطاقات مهدورة، وتسببت في إذكاء روح الكراهية والحقد، وتسببت في فصم عرى الإنسانية والوطنية والدينية داخل المجتمع، وجعلت فئات المكون الإنساني الواحد تتشظى إلى كيانات صغيرة تضمر الحقد والسوء لكل ما يحيط بها، فهذا كله يدعونا إلى تولي مهمة البحث الجاد على أمل الوصول إلى نتائج من الممكن توظيفها لإعادة هيبة الدولة وتُفعِّل مدنيتها المصادرة، ومثل هكذا دراسات تحتاج عادة إلى تلاقح آراء وأفكار ممكن أن يصب في مصلحة النتائج.

بناء عليه أتقدم لحضراتكم بعدد من الأسئلة التي تحتاج إلى تفاعلكم الإيجابي معها على أمل النجاح من خلال الاستعانة بالأجوبة في إعداد دراسة أصيلة حول الموضوع:

1. هل يتوافق وجود النظام القبائلي مع الدولة المدنية الحديثة؟

2. أين يتقاطع النظام القبائلي مع نظام الدولة المدنية؟

3. هل ممكن للنظام القبائلي أن يخدم الدولة المدنية، ومتى، وكيف؟

4. هل أن تحول القبيلة إلى ملاذ آمن جاء بسبب ضعف الدولة، وهل ممكن لهذه الحالة أن تنتهي إذا استعادت الدولة قوتها؟

5. ما تأثير القبيلة على الهيكل العام للنظام القانوني في الدولة، ولاسيما وأن لكل قبيلة قوانينها وسننها الخاصة بها؟

6. ما الإجراءات التي يجب أن تتخذها الدولة للحد من تنامي النشاط القبلي؟

7. ما المتوقع حدوثه إذا ما استمر تنامي النظام القبائلي بهذا الشكل؟

8. متى تتمكن الشعوب من تجاوز قبليتها إلى وطنيتها وهل ممكن أن نمر بهذه المرحلة، ومتى؟

9. استخدام الدولة للقوة المفرطة والمميتة للحد من النشاط القبلي هل يتوافق مع روح الدولة المدنية؟

10. ما موقف الدين والمؤسسة الدينية والمرجعية الدينية من سطوة النظام القبلي المتنامية؟

11. هل تتمكن القوى السياسية من تبني فكرة التخلص من الهوس القبلي؟

12. لماذا إذن يلجأ الكثير من السياسيين إلى قبائلهم ويدعمونها بالمال؟

13. هل أن السياسيين المعاصرين أضعف من أن يتمكنوا من خلال قواهم وملكاتهم الذاتية من تحقيق الانتصار الشخصي بمعزل عن القبيلة؟

14. هل تتوقع أنْ تتحد بعض القبائل لتشكيل تنظيم تسعى من خلاله للسيطرة على نظام الحكم، ومتى ممكن ان يحدث ذلك؟

***

الدكتور صالح الطائي

 

ثلاث قضايا تشتبك سلبيًا مع مبادئ السيادة، واجهها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال الأيام القليلة المنصرمة؛

أولها - العدوان التركي على مطار السليمانية، والتهديدات التي أطلقها مولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي، بإغلاق المجال الجوّي، لكون "السليمانية واقعة تحت سطوة حزب العمّال الكردستاني PKK "، الذي يعتبره منظمة إرهابية. ولم يكن ردّ الفعل العراقي بالمستوى المطلوب، علمًا بأن تركيا ترفض إجلاء قواعدها العسكرية من كردستان العراق، على الرغم من الطلب العراقي.

ولعلّ عمليات القصف واستهداف بعض مناطق كردستان هي ما تقوم به إيران بصورة روتينية لمبررات مماثلة، بزعم وجود جماعات إيرانية معارضة، وهي التي تعتبر العراق فناءً خلفيًا، دون أي اعتبار لسيادته. يضاف إلى ذلك، أن القوات الأمريكية تقوم بنشاطات عسكرية على طول العراق وعرضه، دون العودة إلى الحكومة العراقية، وهو ما حصل حين اغتالت مسؤولًا عراقيًا (أبو مهدي المهندس)، وآخر إيرانيًا (قاسم سليماني).

وثانيها - استمرار الميليشيات المسلحة خارج نطاق الدولة والقانون، وقد شهدت بغداد مؤخرًا استعراضًا مفاجئًا لمسلحين غير نظاميين، دون رد فعل يُذكر من جانب الدولة، وهذه ليست المرّة الأولى، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة، في منافسة الدولة التي يُفترض أن تكون مرجعيّتها القانونية فوق جميع المرجعيات، وأن تحتكر السلاح بيدها لوحدها. ولم تتمكّن الحكومات المتعاقبة من ضبط السلاح، على الرغم من أن الدستور يحظر وجود ميليشيات عسكرية (المادة 9).

وثالثها - التصريحات النارية التي أطلقها أكرم الكعبي، زعيم "جماعة النجباء"، ضدّ الولايات المتحدة، مهدّدًا ومتوعّدًا وجودها العسكري في العراق، إن لم تجل قواتها وترحل من العراق، ملقبًا سفيرتها ﺑ "سفيرة الشر"، علمًا بأنها جزءًا من قوات الحشد الشعبي (الرسمية قانونًا). وكان مجلس النواب قد حدّد مساره القانوني العام 2016، إلّا أن اعتراضات، كانت تظهر، بين الفينة والأخرى في مناطق عدّة من غرب العراق، وصولًا إلى الموصل بشأن السلاح، واستخداماته من جانب المسلّحين، فما بالك حين يكون الأمر في العاصمة بغداد.

وصرّح السوداني قبل أيام من هذا التصعيد ﺑ "نعمل مع التحالف الدولي لوضع أفكار تُفضي إلى اتفاق بهدف نزع السلاح من كلّ التيّارات"، فهل بعد 20 عامًا على الاحتلال الأمريكي للعراق، نعود إلى المربّع الأول، لمناقشة فكرة السيادة؟

وكالعادة يختلف الفرقاء، "الأخوة الأعداء"، حسب الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكس، بشأن مفهوم السيادة لدرجة يعتبر البعض أن العراق خاضع لإيران، والآخر يعتبره مقيد أمريكيًا، حيث استعيض عن الاحتلال العسكري بالاحتلال التعاقدي. وهناك من يذهب إلى أن العراق موزّع بين إيران وأمريكا، وثمة من يقول أن السيادة تمّت إستعادتها على مراحل، ابتداءً من العام 2004، ثم بخروج القوات الأمريكية رسميًا في نهاية العام 2011. وبعد هزيمة داعش عسكريًا، استعاد العراق سيطرته على ثلث الأراضي العراقية التي كانت تحتلّها.

وبالطبع لم يعد مفهوم السيادة مطلقًا، بل إنه مقيّد بحكم الأمر الواقع، فكيف يمكن تصوّر سيادة مطلقة بالمعنى التقليدي في ظلّ العولمة والطور الرابع للثورة الصناعية، حيث أصبح العالم "قرية صغيرة ومفتوحة" من جميع الجوانب، ليس بفعل القوّة العسكرية فحسب، بل بوسائل ناعمة أكثر تأثيرًا وأعمق أثرًا مثل الثقافة والاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا وغيرها.

ومنذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 في 5 نيسان / أبريل 1991، والقاضي بوقف القمع الذي تتعرّض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، أصبح مبدأ التدخّل "لأغراض إنسانية" مثار جدل ونقاش فقهيين وسياسيين في ظلّ اعتبار قاعدة احترام حقوق الإنسان بصفتها قاعدة علوية من قواعد القانون الدولي. وللأسف فإن مبدأ "التدخّل الإنساني" تمّ تسييسه واستغلاله من جانب القوى المتسيّدة في العلاقات الدولية على نحو انتقائي بازدواجية المعايير، تلك التي تتجلّى بأبشع صورها اليوم من عسف وإجلاء واستيطان في فلسطين، ومن عدوان "إسرائيلي" مستمر ومتكرّر على الأمة العربية.

وكنت قد جئت على مفهوم السيادة في كرّاس بعنوان "السيادة ومبدأ التدخّل الإنساني"، أساسه محاضرة ألقيتها في جامعة صلاح الدين (إربيل) في العام 2000، وقامت الجامعة حينها بطبعه، تناولت فيه تطبيقات الفكرة ومفارقاتها نظريًا وعمليًا، خصوصًا فيما يتعلّق بنظام العقوبات المفروض على العراق والذي استمرّ ما يزيد عن 12 عامًا.

قد تكون هذه المواضيع الحسّاسة وراء تصريح السوداني بشأن التفكير بالتحالف الدولي في مسألة نزع سلاح جميع التيارات كما قال. وهو أمر إشكالي ويثير أسئلة جديدة - قديمة، حول فكرة السيادة العراقية التي ظلّت "معوّمة" و"مجروحة" منذ فرض الحصار الدولي، إثر غزو الكويت، وإلى يومنا الحاضر. فهل أن إقحام "التحالف الدولي" في شأن داخلي محض، سيكون مساعدًا في استعادة السيادة، أم أنه سيزيد من تعقيدات الوضع العراقي؟ هي أسئلة برسم الحكومة العراقية.

***

د. عبد الحسين شعبان

 

 

أحداث كثيرة وخطيرة جرت منذ توقيع اتفاقية أوسلو والمراهنة الفلسطينية على تسوية سياسية تؤدي لـ (حل الدولتين)، وهي تحولات جعلت هذا الحل كما تراه وتريده القيادة الفلسطينية شبه مستحيل لعدة أسباب منها:

1- سياسة الاستيطان التي لم تترك أرضا في الضفة الغربية لقيام الدولة الفلسطينية.

2- توقف عملية التسوية السياسية وتراجع الاهتمام بها عربيا ودوليا.

3- الانقسام الفلسطيني الذي أسس لمشروع دولة غزة وأدى لضعف مؤسسة القيادة الفلسطينية.

4- وصول حكومة صهيونية عنصرية تتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني بل وتنفي وجود شعب فلسطيني كما زعم المتطرف سموترتش.

5- الصراعات العربية الداخلية والتطبيع بين دول عربية وكيان الاحتلال مما أضعف من معسكر الحلفاء الذين قد يدعمون الموقف الفلسطيني وأدى لتجاوز المبادرة العربية للسلام التي كانت تدعم حل الدولتين.

6- انشغال العالم والأمم المتحدة بحرب أوكرانيا وتداعياتها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، كما أن قرارات الأمم المتحدة التي كانت تشكل مرجعية لدولة حل الدولتين بقيت حبرا على ورق.

بالرغم من كل ذلك فإن القيادة الفلسطينية لم تطرح روية أو تصورا ديلا لحل الدولتين وما زالت مترددة عمليا في تجاوز مرحلة الحكم الذاتي التي كان يُفترض أن تنتهي في مايو 1999 وتعلن رسميا عن سيادة الشعب الفلسطيني على أراضي الدولة التي اعترفت بها غالبية دول العالم في عام 2012.

فهل هذا التردد بسبب قناعة من القيادة الفلسطينية أنه ما زال هناك إمكانية لقيام الدولة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس من خلال المفاوضات؟ أم لأنه لم تعد هناك أرض في الضفة الغربية لقيام هذه الدولة؟ أو أن القيادة الفلسطينية تراهن على متغيرات داخل الكيان الصهيوني توصل للسلطة أحزاب معتدلة تقبل بحل الدولتين؟

 

للإجابة عن هذه الأسئلة يستحسن الرجوع إلى بداية الحديث عن الدولة الفلسطينية في سياق عملية التسوية السياسية، جيت كانت البداية مع التوجه الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية لتسوية سياسية تعترف فيها المنظمة بإسرائيل والانتقال من الشرعية التاريخية للحقوق السياسية للفلسطينيين والادبيات التي تتحدث عن تحرير كل فلسطين من النهر الى البحر ... إلى الشرعية الدولية وقراراتها حول القضية الفلسطينية وهي قرارات غير ملزمة ولا تتطابق مع الحقوق التاريخية للفلسطينيين في كامل أرضهم.

كانت دورة المجلس الوطني الفلسطيني (19) في الجزائر 15 نوفمبر 1988 نقطة فاصلة في الانتقال من الشرعية التاريخية إلى الشرعية الدولية والمراهنة على هذه الأخيرة لقيام الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة في خرب يونيو 1967.

ففي هذه الدورة تم صدور ما يسمى (وثيقة الاستقلال) وفيها تم الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية ولكن بصيغة ملتبسة ومشحونة بمفردات ثورية وطنية وعاطفية تخفي ما تهيئ له القيادة لمرحلة ما بعد الإعلان عن (الاستقلال) وهو الاستعداد للتفاوض مع إسرائيل، وهو غموض والتباس وضحه البيان السياسي الذي صدر في نهاية الدورة.

فإن كان إعلان الاستقلال تحدث عن الشرعية التاريخية ولم يُحدد بوضوح الأراضي التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية ولا الوسائل المتبعة للوصول للدولة، فإن البرنامج السياسي المتزامن مع إعلان الاستقلال كان أكثر وضوحا في تحديد مرجعية الدولة وحدودها حيث جاء فيه: " وانطلاقاً من كل ما تقدم، فإن المجلس الوطني الفلسطيني .... يؤكد عزم منظمة التحرير الفلسطينية على الوصول إلى تسوية سياسية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية، في إطار ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ وأحكام الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة......"

رحبت غالبية دول العالم بهذا الإعلان الذي اعترف بقرارات الشرعية الدولية كمرجعية لحل الصراع بالطرق السلمية وأدرجت الجمعية العامة للأمم المتحدة المسألة الفلسطينية على جدول أعمال دورتها السنوية المنعقدة في جنيف في 13 ديسمبر 1988، وبعد هذا الاعتراف ارتفع عدد الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية إلى 108.

ولكن، الولايات المتحدة وإن رحبت بقبول المنظمة لقرارات الأمم المتحدة، وخصوصاً تلك التي تتضمن الاعتراف بدولة إسرائيل ونبذ العنف، إلا أنها أعلنت عبر وزارة خارجيتها أنها لم توافق على إعلان قيام دولة فلسطينية مستقلة، بل إنها وظفت قانون المساعدة الخارجية وغيرها من التدابير لثني البلدان الأخرى والمنظمات الدولية عن الاعتراف بدولة فلسطين.

على إثر هذه الدورة للمجلس الوطني تم تسمية الرئيس أبو عمار رئيسا للدولة مع احتفاظه برئاسة منظمة التحرير، ولكن واشنطن التي باشرت حوارات مع المنظمة في تونس رفضت أن تجلس مع أبو عمار بصفته رئيس دولة فلسطين واشترطت حتى تستمر المفاوضات أن يتخلى عن مسمى رئيس الدولة وهذا ما جرى بالفعل، وحتى مع بداية مفاوضات أوسلو فقد نص بيان الاعتراف المتبادل بأن تعترف منظمة التحرير بحق إسرائيل في الوجود مقابل اعتراف هذه الأخير بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، كما أن اتفاق أوسلو بحد ذاته لم يذكر بتاتا كلمة الدولة الفلسطينية، وحتى الانتخابات الرئاسية والتشريعية كانت لرئيس سلطة فلسطينية ولمجلس تشريعي لسلطة حكم ذاتي.

وهذا غاب مصطلح ومسمى الدولة الفلسطينية ورئيس الدولة من كل الوثاق والمراسلات الرسمية وحل محله مسمى السلطة الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية.

استمر هذا الغياب طوال عهد الرئيس الراحل أبو عمار الذي حاول بعد نهاية المرحلة الانتقالية في مايو 1999 وفشل مفاوضات كامب ديفيد 2 تجسيد قيام الدولة عمليا وتجاوز مرحلة الحكم الذاتي إلا أنه تلقى تهديدات من واشنطن ودول أجنبية وحتى عربية وخصوصا مصر حسني مبارك بأنه في حالة الإعلان عن الدولة ستتوقف عملية التسوية السياسية وتتوقف الدول المانحة عن تقديم المساعدات للسلطة، حتى قيادات من حركة فتح حذروه من الإقدام على ذلك، وبسبب موقف أبو عمار بدأت خلافات فتحاوية داخلية.

في محاولة لإرضاء الفلسطينيين وفي محاولة لوقف الانتفاضة الثانية التي اندلعت في عام 2000 طرحت الرباعية الدولية خطة خارطة الطريق في أبريل 2002 وفيها تم الحديث عن إمكانية قيام دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة ومنزوعة السلاح في نهاية المرحلة التي حددتها الرباعية للمفاوضات 2005، إلا أن شارون وضع 14 تحفظاً على الخطة واجتاح الضفة الغربية وحاصر الرئيس أبو عمار وتم اغتيال أبو عمار 2004 وجرى الانقسام الفلسطيني 2007 الذي خطط له شارون لوأد أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية تضم الضفة وغزة والقدس.

استمر تغييب الدولة الفلسطينية في عهد الرئيس أبو مازن حتى العام 2012. فبعد الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة عام 2012 أصدر الرئيس محمود عباس في العام الموالي 2013 مرسومين رئاسيين بتغيير صفته من رئيس سلطة إلى رئيس دولة فلسطين مع الاحتفاظ برئاسة اللجنة التنفيذية للمنظمة، كما أصدر المجلس المركزي في دورته المنعقدة برام الله في أكتوبر 2018، قرارا يؤكد "الانتقال من مرحلة سلطة الحكم الذاتي إلى مرحلة تجسيد الدولة.

 

ولكن، يبدو أن هذه الخطوات من الرئاسة ومن المجلس المركزي جاءت متأخرة، حيث اليمين الصهيوني المتطرف وصل للسلطة ويعمل على تصفية الوجود الوطني الفلسطيني، كما أن سياسات القيادة لا تعبر عن موقف إجماع وطني كما أن الانقسام ما زال قائما بل ويتعزز، والسلطة مقيدة بكثير من الالتزامات التي فرضتها اتفاقية أوسلو بالرغم من قرارات المجلسي المركزي، كما أن الوضع الدولي والإقليمي وحتى العربي غير مهيئ للتعامل مع نهج جديد للسلطة الفلسطينية يضعها في مواجهة مباشرة مع دولة الاحتلال.

وأخيرا نؤكد على ما يلي:

1- أن الدولة الفلسطينية ليست منة أو منحة من واشنطن أو إسرائيل أو حتى من الأمم المتحدة بل حق للشعب الفلسطيني مبني على الوقائع التاريخية وحقائق الواقع التي تقول بوجود 14 مليون فلسطيني نصفهم ما زال يعيش على أرضه التاريخية والنصف الآخر في الشتات ينتظر ويعمل من أجل العودة.

2- التسوية السياسية وما انبثق منها من تصور لحل الدولتين هي إحدى محاولات حل الصراع التي لجأت لها القيادة الفلسطينية، وإن فشلت هذه المحاولة فهناك وسائل أخرى من حق الشعب الفلسطيني اللجوء لها، فخيارات القيادة ليست بالضرورة هي خيارات الشعب.

3- إدارة حكيمة للخلافات الداخلية بين مكونات الحالة الفلسطينية ولظاهرة الانقسام، والتوصل لإستراتيجية وطنية جامعة حتى في ظل وجود انقسام جغرافي، فالثورة الفلسطينية المعاصرة انطلقت وفرضت وجودها في ظل الشتات وعدم وجود تواصل بين التجمعات الفلسطينية وبعيدا عن متاهات السلطة والدولة.

4- إن عدم موائمة التوازنات الدولية والإقليمية لأهداف حركة التحرر الفلسطينية يجب ألا يؤدي للاستسلام لمشيئة العدو والتخلي نهائيا عن الحقوق والثوابت، بل على الشعب والنخب الوطنية الحريصة على مصلحة الوطن أن تشتغل على إستراتيجية الحفاظ على الذات الوطنية ودعم مقومات الصمود الوطني، وعلى القيادة الفلسطينية والأحزاب إعادة النظر في استراتيجيتهم وأدوات هذه الاستراتيجية.

5- إن أي (دولة) تنتج عن تسوية سياسية في ظل المعطيات الراهنة أو يتم فرضها وصناعتها بالقوة ليست هي فلسطين بل كيانا مسخا لن يؤدي إلا لضياع الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني ولإثارة الفتنة والحرب الأهلية حول من يحكم هذا الكيان المشبوه سواء كان دويلة غزة أو كانتونات ومعازل الضفة، وهناك فرق بين الدولة الفلسطينية وصناعة دولة للفلسطينيين.

***

د. إبراهيم ابراش

 

 

آلام الماضي ومرارة الحاضر!

مرت خلال الأيام الماضية ذكريات مأساوية مؤلمة تعرضت لها البلاد من كوردستانها وحتى وسط وجنوب سهلها العظيم، حيث واجهت شعوب العراق ومكوناته كوارثاً وفواجعاً كبيرة، كانت أكثرها مأساوية تلك التي بدأت بعمليات الإبادة الجماعية للكُرد في سبعينيات القرن الماضي، حيث استهدف النظام الكُرد الفيليين الذين فقدوا عشرات الآلاف من خيرة شبابهم وهجّر الباقين منهم إلى خارج العراق بعد سلّبهم كلّ ممتلكاتهم ومقتنياتهم لا لشيء إلا لكونهم كُرداً، ثم تلى تلك العملية بعد أقل من عشر سنوات حملة إبادة البارزانيين في عام 1983 حيث بلغت أعداد المغيبين إلى الأبد ثمانية آلاف مواطن من الذكور حصرياً، معتقدين باستهدافهم للذكور في هذه العشائر إطفاء قدحة المقاومة والثورة لدى هذا الشعب وإبادة تلك الجينات المحركة للمقاومة والكبرياء.

وما أن انتهت تلك الجرائم البشعة حتى بدأت مرحلة الأنفال الكبرى وهي إحدى أخطر عمليات الإبادة الجماعية التي نفذها النظام العراقي السابق سنة 1988م في كردستان العراق، وقد أوكلت قيادة الحملة إلى علي حسن المجيد الذي كان يشغل منصب (أمين سر مكتب الشمال لحزب البعث العربي الاشتراكي) وبمثابة الحاكم العسكري مطلق الصلاحيات في المنطقة، وقد أطلق على تلك الحملات اسم (الانفال) نسبة للسورة رقم 8 من القرآن الكريم، والأنفال تعني الغنائم أو الأسلاب، والسورة الكريمة تتحدث عن تقسيم الغنائم التي أخذت من الكفار بين المسلمين بعد معركة بدر في العام الثاني من الهجرة، وقد قام بتنفيذ تلك الحملة قوات الفيلقين الأول والخامس في كركوك وأربيل مع قوات منتخبة من الحرس الجمهوري بالإضافة إلى قوات الجيش الشعبي وأفواج ما يُسمى بالدفاع الوطني التي شكلها النظام العراقي آنذاك لمحاربة أبناء جلدتهم وقد تضمنت العملية ستة مراحل وانتهت بالمرحلة الأخيرة في منطقة بهدينان في 6 أيلول 1988م، وكانت نتائجها تدمير آلاف القرى والبساتين وتهجير نصف مليون مواطن وإسكانهم في مجمعات وقرى أشبه بالمعتقلات، واعتقال 182 ألفاً من الأطفال والنساء والرجال ونقلهم إلى جنوب ووسط العراق وإبادتهم هناك.

وفي الجانب الآخر وتحديداً بعد هزيمة الجيش العراقي في الكويت وانتكاسة انتفاضة الجنوب والوسط نفذ النظام حملة ظالمة استهدفت المنتفضين الشيعة وعوائلهم حيث قتل الآلاف من الشباب المعارضين برميهم في النهر، وآخرين ألقي بهم من مبانٍ مرتفعة وتم التمثيل بجثث القتلى بعد إعدامهم، وتعرض آخرون للحرق أو الاغتصاب أو التعذيب، وهو ما دفع آلاف المشاركين في الانتفاضة وعوائلهم إلى اللجوء للمملكة العربية السعودية، التي استقبلتهم في محافظة الرفحاء وبنت لهم مخيماً لائقاً بالقرب من الحدود العراقية، وبقي هذا المخيم موجوداً حتى عام 2006 عندما أغلقته السلطات السعودية، بعد حصول العديد منهم على إقامات في الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا وكندا والدنمارك وفنلندا وهولندا وسويسرا والسويد، وهناك اختلاف في أعدادهم إذ تشير أرقام المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إلى حدود 21 ألف شخص خلال سنوات 1991-2003، فيما تشير أرقام وزارة الخارجية السعودية إلى 35 ألف شخص، واليوم يستفيد من الامتيازات المخصصة لهم أكثر من 150 ألف شخص، حيث منح قانون خاص بهم رواتب لكل من أقام في ذلك المخيم ولو لمدة أسبوع واحد، سواء أكان رب العائلة أو فرداً من العائلة، بحيث تم تحديدها بنحو مليون ومئتي ألف دينار عراقي، إضافة إلى شمولهم بالعلاج والسفر والدراسة المجانية على نفقة مؤسسة السجناء السياسيين، مع منحهم قطع أراض ووظائف لأبنائهم.

وفي المقابل تجاوز عدد ضحايا النظام السابق من الكُرد الربع مليون شهيد من الأطفال والنساء والشيوخ الذين لم يتم تعويضهم بالمطلق سواء ضحايا الكرد الفيليين أو ضحايا عشائر البارزانيين أو ضحايا حلبجة والأنفال مع تأكيد مواد دستورية بتعويضهم إلا أن الحكومة العراقية لم تعوضهم رغم مطالبات برلمان الإقليم وحكومته ورئاسته منذ 2005 وحتى يومنا هذا. ومن هنا ندرك المأساة الكُردية والتعاطي مع قضاياها حيث الكيل بمكيالين عنصريين طائفيين حرمتهم من أبسط حقوقهم، حالهم حال أقرانهم من المواطنين العراقيين في تعويض ضحايا النظام السابق. وبمقارنة سريعة بين تكريم وتعويض ضحايا انتفاضة الجنوب والوسط مع ضحايا الكُرد في مأساة الفيليين والبارزانيين وحلبجة والأنفال، ندرك حجم الظلم والغبن وحقيقة التفرقة العنصرية المقيتة في التعامل مع الكُرد وقضاياهم، رغم أن الدستور نص على تعويض جميع ضحايا النظام السابق بالتساوي إلا أن ضحايا ومتضرري النظام السابق الذين شهدوا كل مآسي الكُرد هم الذين حرموهم هذه المرة من كل حقوقهم!؟

وبعد ذلك يأتي مَن يسأل الكُرد:

لماذا الاستقلال أو كما يفهمونه الانفصال!

***

كفاح محمود

 

تعريف لابد منه "العولمة ظاهرة عالميّة تسعى إلى تعزيز التكامل بين مجموعة من الأبعاد والمجالات. وهي البعد الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، والبيئي. مع بعد خامس أيدلوجي، وهو الذي يخترق الأبعاد الأخرى ويعطيها الصبغة النفعية. وتساهم العولمة في الربط بين القطاعات المحليّة والعالميّة، من خلال تعزيز انتقال الخدمات، والسلع، ورؤوس الأموال، وتهدف المنظمات والشركات من خلال هذا الانتقال، توسيع عملها ونفوذها ليتحول من محلي إلى عالمي، ومن ثم تحقيق نفوذها الدولي".

مهما بدت ذرائع الإدارة الأمريكية مقنعة في توجهاتها السياسية والاقتصادية الحديثة الموجهة لمنطقة الشرق وبالذات العربي منه، فأن النماذج الناتجة عن سوء التقدير والتوقيت الخاطئ وازدواجية المعايير وأولويات المصالح الرأسمالية والعنت والإجبار، جميعها تنمو مسببة الكثير من العوائق في وجه مشروع المستقبل الذي تريد الإدارة الأمريكية أن يكون حربا مدنية وبأسلحة معرفية واقتصادية، تخرج المنطقة من تخلفها وتزج بها في شبكة العولمة والنظام الرأسمالي المستحدث.

في هذا المنحى فأن الخطر الفادح الذي يواجه المشروع هو الخلط غير المبرر أو التغاضي المتعمد عن الاختلافات الجوهرية والكبيرة بين ما يعنيه (رفض العولمة نفسها أو مقاومة آثارها) بين أوساط المجتمعات الغربية وقريناتها المجتمعات الشرقية .

ففي الوقت الذي تناضل قطاعات وشرائح واسعة من الشعوب الأوربية ضد آثار العولمة وبعض مخرجاتها المتمثلة باللبرالية الجديدة والتي بنيت وفق ديناميات ممنهجة ومتصاعدة أدت لتغيرات كبيرة في البنى الاقتصادية، وبحسب ما تستحدثه من تشريعات لإزالة القيود والضوابط على التجارة وانتقال رؤوس الأموال . وطالت بتعدياتها الحريات الشخصية والنقابية، والأجور وظروف العمل.

ولمواجهة كل هذا وبشكل متصاعد تظهر وبأساليب سلمية حقوقية حركات مقاومة للبرالية الجديدة التي تشرع أحكامها لصالح الشركات، وما ينتج عن ذلك من تداعيات تسعى لتخريب الاقتصاد الوطني. مما دفع الشغيلة للسعي بجهادية عالية للنضال والعمل لأجل الحفاظ على فرص العمل والضمان الاجتماعي والصحي، وتوفير الدعم المالي الحكومي للضرورات المعيشية، واستمرار المحافظة على إنفاق عالٍ لتأمين بيئة طبيعية نظيفة وصحية ، ومنع الطرد الكيفي من الوظائف، والوقوف بوجه السياسات التدميرية التي تقوم بها البنوك المرتبطة بالمصالح الدولية للشركات عابرة القارات.

ومازالت هذه الاحتجاجات تتصاعد بحدة في العالم الغربي وخاصة في فرنسا وألمانيا وبريطانيا من أجل الحفاظ على المكاسب التي نالتها تلك الشعوب عبر نضال تأريخي طويل ، في نفس الوقت الذي تسعى للاستفادة من العولمة باعتبارها عملية موضوعية لا مناص منها، تشمل كافة مناحي الحياة وتفرعاتها العلمية والسياسية والثقافية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وليس هنالك من بين هؤلاء من يدعو لمقاومة العولمة ورفضها بالكامل.

أما في الشرق فالمسألة تأخذ بعدا أخر. فمع المستوى المتدني لمعيشة الشغيلة بتنوع مهنهم ووظائفهم، وشيوع الاستغلال وتفشي البطالة والجهل، والصراعات العرقية والطائفية وتخلف وسائل الإنتاج وسؤ الخدمات، والتوزيع غير العادل للثروات، والثقافة الدينية المغلقة وموروث العادات والتقاليد، وتشابك وتداخل مفاهيم الدولة بالقبيلة والطائفة والأسرة وغيرها من المتعلقات القرطوسية .كل ذلك يدفع بشرائح كبيرة في المجتمعات الشرقية نحو رفض العولمة جملة وتفصيلا، والتحصن بواقع يرفض التحديث والاندماج بالعالم الجديد ويصر على محاربتها بالعديد من الوسائل ومنها العنف . وخير دليل على ذلك ظهور الحركات السلفية وعلى رأسها حركة طالبان ومجموعة القاعدة وأبو سياف وداعش والجولاني والخرساني وأمراء المسلمين في الجزائر ومصر وغيرها من الحركات الدينية التي تصر على إرجاع المجتمع إلى عصور السلف الذي عاش الظهور الأول للإسلام، وترفع شعار (الدين هو الحل) و(الحاكمية لله) وفق شروط وضعها الدعاة والملالي، ويتم ذلك عبر الترويج لهذه المفاهيم وفرضها بالقسر والقوة الغاشمة، ورفض حياة العصر الحديث وأدواته العملية العلمية والمعرفية . وهذا البعد يعتمد نظرية متداولة تحاول تكييف حياة البشر في الشرق المعدم والمتخلف، مع نمط الوضع القائم وإشكالاته، وفي ظل انعدام الموارد وشيوع الفقر وتخلف التعليم والثقافة. ومن هذا ينشأ الاختلاف في النظرة إلى العولمة واللبرالية والمعرفة والثقافة بعمومها بين العالم الغربي والعالم الشرق أوسطي.

نظر البعض من السياسيين الغربيين، للمبادرة الأمريكية القائلة بتحديث الشرق،بعين الرضا وقدموا التأييد الفاعل لها، فقد أشاروا وأشادوا بها حين ظهورها وعدوها واجهة مهمة من الموجب الأخذ بها لتحديث منطقة الشرق الأوسط، وحينها تحدث السيد شرودر المستشار الألماني السابق بقوة عن (ضرورة وضع عمليات التحديث والدمقرطة وإرساء الاستقرار في الشرقين الأدنى والأوسط موضع التطبيق بالتعاون مع الشركاء أنفسهم في المنطقة) .ودعا إلى عدم تجاهل حل النزاع الأسرائيلي الفلسطيني خلال تطبيق عمليات التحديث معلنا (أن من غير المسموح أن يمنع أو يعيق هذا النزاع تحقيق آفاق أخرى من مثل المجال الاقتصادي) .

لو أبعدنا مؤقتا مُسَلمة ضرورة حل النزاع الأسرائيلي الفلسطيني، وهو ما يشكل عصب التشويش والقلق على مستقبل المنطقة وعمليات التغيير الموجه إليها ،فأن التعبير الوارد عن التعاون مع الشركاء يثير الكثير من التساؤل عن المعنيين (بالشركاء). ولكن في مجمل حديث السيد شرودر وقبله وزير خارجيته ومن ثم الكثير غيرهم من السياسيين، وقت ظهور المبادرة. تم التأكيد على أن الأنظمة الحاكمة الشرق أوسطية هي المعنية (بشركاء) محتملين في عمليات التحديث والدمقرطة المنوي طرحها كمشروع مستقبلي للسلطات والمجتمعات هناك . ولكن نظرة إحاطة للمشهد السياسي تؤشر وبشكل ناجز إلى كون العديد من الأنظمة الحاكمة، تشكل بالذات العقبة الكأداء في وجه الدمقرطة والتحديث، وإن مشاركتها وفق النمط اللبرالي المفترض يعد لوحده إن حدث معجزة،لا بل من المستحيلات في المنطقة.

وأن أريد فعلا تحقيق تلك المعجزات الديمقراطية، فالأولى البدء بتأشير بشاعات تلك الأنظمة الاستبدادية والحث على تغيير سلوكها اليومي، وطبيعة عمل مؤسساتها السلطوية، وكذلك قطع الدعم المعنوي المقدم لها من قبل الإدارة الأمريكية والعالم الغربي، ليتم بعد ذلك البحث الجدي عن المشاركة العامة في التغيير، ومن ثمة القناعة بحقيقة وصواب مشاريع الإصلاحات الغربية.

إذن فمشروع الشرق للديمقراطية والتحديث، إن أريد له السير في الطريق الذي (لا) تملي تعابيره (رغبة) الإدارة الأمريكية، سيواجه طريقين لا ثالث لهما، وهما خياران صعبان ومكلفان للغرب بشكل عام. الأول يتمثل بإزاحة تلك الأنظمة الحاكمة أو في الأقل إجبارها على تنفيذ برامج التحديث والتخلي عن الأساليب القسرية القمعية للسلطة، والثاني يتمثل بخيار إثارة المشاكل الداخلية عبر تصعيد التناحر أو الخصومة بين السلطات ومناهضيها، من التنظيمات والتجمعات والشرائح الاجتماعية، وحشد الحلفاء وتصعيد الضغط لتشتيت وشل قوى السلطة وقدراتها على الحركة.

ولكن الرغبة الأمريكية تختلف بعض الشيء في رؤيتها لمثل هذا لأمر عن بعض الشركاء من السياسيين الغربيين، رغم مقاربة بعض تصوراتها ونواياها من نمط تلك الخطط والمشاريع.ولحد الآن فان جميع تلك الخيارات تبدو مطروحة بحدة للنقاش والرغبة في التطبيق داخل أجنحة السياسيين الأمريكيين، ولكن أوجه الاعتراض تجعل القوى الراغبة بالتنفيذ تتوخى الحذر من انفلات الأمور نحو أجواء لا يمكن السيطرة عليها، أو تسبب الحرج والتشويش عند صناع القرار في الإدارة الأمريكية. ومازال درس احتلال العراق يعد المثال النموذجي للتخبط السياسي والتوقعات غير المرتقبة. لذا فأن رغبة البعض داخل الإدارة الأمريكية بمثل هذه السيناريوهات، يلاقي بعض الاعتراض والممانعة خوفا من التداعيات .ولحد الآن يفضل اعتماد الحكام المجودين كمنفذين للمشروع، وأن يكونوا عصب التغيير من خلال صفقة تراضي تدفعهم للاندماج والتعامل مع المشروع، ويتم خلالها التغاضي عن مساويء علاقتهم بشعوبهم. وهذا ما يجعل المشاكل تدور في ذات الحلقة المفرغة، ولن تكون نتائجها غير وبال يفاقم التردي الحاصل في جميع مفاصل العلاقة بين الشرق والغرب وأيضا داخل المجتمعات الشرقية.

***

فرات المحسن

 

 

يعتقد البعض أن من الأخطاء التي ارتكبها الطرف الشيعي عند كتابة الدستور هو الموافقة على نص يتيح لأي محافظة عراقية منفردة أو بمعية محافظات اخرى تشكيل ما سمي بالإقليم إذا ما طلب ذلك ثلث أعضاء مجلس المحافظة أو المحافظات التي تروم تشكيل إقليم أو طلب عشر الناخبين في تلك المحافظات (المادة 19). وأعتقد أن المشكلة تكمن ليس بالفكرة لوحدها بل في النسبة الضئيلة المطلوبة للشروع بتكوين الإقليم كونها لا تعبر عن إرادة الغالبية.. وأعتقد أن غالبية من كان له علاقة بالأمر، مشاركا في كتابة الدستور أو قريبا من كواليس العملية، سوف يقر أن هذه الفقرة كانت من وحي أو إملاء سلطة الإئتلاف الأمريكية بزعامة بريمر (ثبت المبدأ في قانون الفترة الانتقالية التي أقرتها سلطة بريمر) وأن إصرار الطرف الكردي (على إدراجها بالدستور) والذي كان ينظر إليه كحليف جعل منها أمرا واقعا اعتبره الطرف الشيعي، وكذلك السني لاعتبارات خاصة به، على أنه إقرار بأمر واقع لن ينشأ عنه ضرر خطير: أي حقيقة وجود سلطة كردية تتمتع بما يشبه الاستقلال عن سلطة المركز منذ أن فرض الأمريكيون والبريطانيون إثر حرب تحرير الكويت في 1991 ما سمى وقتها ب "السماء الآمنة" والتي حظر بموجبها على الطيران الحربي العراقي التحليق خارج خط العرض 36° وعلى الجيش العراقي التحرك إلى ما وراءه، أي ما اعتبروه حدود منطقة كردستان.

ويمن أن نضيف أنه من الناحية الواقعية، سواء من منظار تلك الفترة أو حتى منظار اليوم، ربما بدا تشكل إقليم كردي حلا دائما لمشكلة أو إنهاء لصراع طالما ما أقلق العراق ومنع استقراره وأنه وفق معيار العدالة كان حلا عادلا اي أنه يراعي مصالح جميع الأطراف وهو بذلك يقطع الطريق أمام مدخل لتقسيم العراق ابتداء من منطقة كردستان كهدف سعت إليه الإدارة الأمريكية منذ البداية. يضاف لذلك أن السطلة الجديدة الهشة التي حلت محل القديمة المنهارة والتي سوف يلعب فيها الطرف الشيعي دورا اساسيا كانت بحاجة إلى حالة من الاستقرار، ولو كان نسبيا، يتيح لها فرصة بناء نفسها وأن أي خلاف جدي مع الكرد حول هذه المسألة سوف يعيق إمكانية تحقيق هدف الاستقرار الذي تنشده السلطة الجديدة كهدف يحتل الأولوية على سواه. لذلك يمكن القول أن الواقعية السياسية استلزمت الإقرار بتلك الفقرة وأن التفكير المطول في نتائجها البعيدة الأثر ربما كان نوعا من الترف الذي لا يسمح به الظرف لأنه كان يعني التوقف والجمود في موقف يتسم بالحساسية الشديدة والحراك السريع حيث كان الطرف الشيعي قد نجح للتو في إقناع أطراف سنية كانت ممتنعة ومقاطعة للعملية السياسية بالمشاركة في كتابة الدستور وكانت عملية تشكل النظام الجديد تتعرض لمخاطر تحيط بها من كل صوب...

كيف تطورت العلاقة بين سلطة إقليم كردستان والحكومة المركزية منذ ذلك التاريخ؟ تبين تجربة السنوات العشرين المنصرمة أن العلاقة بينهما لم تستقر كما كان يأمل الطرف الشيعي على الأقل بل كانت معقدة وصلت إلى حد الابتزاز والذي بلغ أوجه في قضية الاستفتاء الذي أجرته القيادة الكردية (أو بشكل أدق الطرف الأقوى فيها) حول استقلال الإقليم ثم مشكلة تصدير النفط التي بقيت عالقة لحد الأمس الذي شهد توقيع اتفاق جديد بين الحكومة المركزية وسلطة الإقليم و الذي نأمل أن يترافق هذه المرة بالنية الحسنة من الطرف الذي سبق له أن خرق اتفاقات مشابهة توصل إليها مع الحكومات السابقة...هذا إلى جانب قضايا أخرى لا زالت عالقة منها قضية كركوك وأخرى تتعلق بحدود سلطة الإقليم الإدارية وعلى مجالات معينة مثل المطارات والمنافذ الحدودية و التي يمكن اعتبارها قابلة للحل عندما يتعلق الأمر بمواردها وصعبة عندما يتعلق الأمر بحركة الأشخاص الذين يدخلون من خلال تلك المطارات والمعابر والتي قد تكون مفتوحة أمام من تعتبرهم الحكومة يشكلون تهديدا أمنيا، أضف لذلك طبيعة البضائع التي تدخل العراق عبر تلك المنافذ والتي يتسم جزء كبير منها بعدم مطابقتها لمعايير الجودة والسلامة..

وقد سبق لطرف شيعي غير منتم لحزب ممثلا بالقاضي وائل عبد اللطيف أن طرح فكرة تشكيل إقليم البصرة وسار بها غير أن البصريين رفضوا الفكرة رغم أن محافظتهم تتمتع بميزة بارزة كونها تحتضن الميناء الوحيد للعراق وتنتج الجزء الأكبرمن النفط العراقي المصدر والمستهلك. ولا أعتقد أن البصريين قد نظروا إلى الميزات التي يمكن أن تتمتع بها محافظتهم إذا ما أصبحوا إقليما وعلى رأسها الحصول على ميزاينة خاصة كما يحصل إقليم كردستان، بل أكثر بحكم ما تتمتع به المحافظة من ميزات مذكورة، بل أنهم أظهروا رفضهم وربما مقتهم للفكرة والتي يمقتها الغالبية الساحقة من عامة العراقيين. وقد استمر البصريون على موقفهم هذا حتى وهم يعانون من الإهمال وقلة التخصيصات المالية لمحافظتهم مقارنة باحتياجاتها الحقيقية كثاني أكبر وأهم محافظة عراقية بعد العاصمة بغداد بل تفوقها من حيث الأهمية الاقتصادية. و أرى أنه لا يمكن تفسير ذلك الموقف من أهل البصرة إلا لأن الشعور الوطني وأحساسهم بانتمائهم للكل العراقي هو الذي غلب على كل اعتبار ينبني على فكرة "البصرة أولا" وربما وأد إلى الأبد فكرة الإقليم. وكان رقي الاستقبال وكرم الضيافة الملفت الذي خص به أهل البصرة مواطني الخليج الذي جاءوا للعراق لحضور كاس الخليج (خليجي 25) التي نظمتها مدينتهم مثار إعجاب حتى العراقيين الذين كانوا يعرفون مدى كرم أهل البصرة فذكروهم بما قد يكونوا نسوا وقدموا مثلا آخر صارخا على اصالة عراقيتهم والأهم، والأخطر من ذلك، مدى التسامح الذذي أظهروه أزاء شعوب الخليج التي كانت أنظمتهم قد أوغلت في الدم العراقي تفجيرا. ويبين فيلم فيديو مؤثر جدا (شاهدته في أحد مواقع التواصل ويؤسفني أنه لم ينتشر على نطاق واسع و مر على خاطر البعض مرورا عابرا) كيف أن رجلا سعوديا استضافته عائلة بصرية متواضعة غلبه البكاء الشديد عند خروجه من منزل تلك العائلة بعد أن عرف أن تلك العائلة قد فقدت أحد أبنائها في تفجيرانتحاري وأن أخا لهذا الرجل السعودي، كما صرح هو، كان من بين الذين فجروا أنفسهم بالعراق...

وعلى ضوء ما تقدم يمكننا أن نطرح تساؤلا له ارتباط بما يجري بالحاضر ويتعلق بطبيعة الهدف من زيارة رئيس مجلس النواب السيد محمد الحلبوسي للملكة العربية السعودية والتقاءه بولي العهد الأميرمحمد بن سلمان. فقد ذكرت وسائل إعلام عراقية عديدة أن الحلبوسي زار السعودية في محاولة منه للحصول على دعم سعودي لفكرة إنشاء إقليم سني. لم تتأكد هذه الأنباء من مصادر مقربة من السيد الحلبوسي أو أية مصادر موثوقة رسمية أو شبه رسمية لذلك سوف نبني افتراضنا على أن ما ورد في وسائل الإعلام يحتمل درجة كبيرة من الصحة.

لماذا الآن وفي هذا الظرف حيث يشهد العراق منحى قويا نحو الاستقرار منذ تولى السيد محمد شياع السوداني رئاسة الوزراء حيث تنغمس حكومتة بجدية عالية في إيجاد حلول حقيقية، ولأول مرة، لمشكلة البطالة وسوء الخدمات وتخوض معركة حقيقية ضد جميع مظاهر الفساد المالي والإداري وتعمل على إشاعة الانضباط في مؤسسات الدولة وفي سلوك المواطنين وكانت للتو قد توصلت لحل مرض للطرفين لمشكلة تصدير النفط من إقليم كردستان؟

وكمحاولة للإجابة على هذا السؤال أقول إن المعارضة التي يواجهها السيد الحلبوسي في محافظته الأم الأنبار تبدو قوية ومنظمة وتشكل تهديدا حقيقيا لهيمنته المزعومة (على حد زعم قيادات الأنبار) على مفاصل المحافظة. لست ملما كثيرا بتعقيدات الموقف بل أتسائل هل أن خطوة الحلبوسي للحصول على مباركة سعودية لإقامة إقليم سني هي من وجهة نظره حلا لمشكلته امام معارضيه الأنباريين وازاء من يفكر بإزاحته من رئاسة مجلس النواب من بعض الزعامات السنية التي تتمنى سقوطه؟ يتفق جميع من سمعتهم من المراقبين السنة على أن السيد الحلبوسي يتسم بالدهاء فأتسائل مرة أخرى هل من الدهاء، من أجل التغلب على التحدي الذي يواجهه، أن يطرح الحلبوسي قضية الإقليم كرد حاسم على مناوئيه؟لا أعتقد أن السيد الحلبوسي يطرح قضية تشكيل إقليم سني اعتمادا على ضرورة ناشئة تسلتزم ذلك لأن الفكرة بالأصل لم تعد تستهو حتى أقوى متشددي السنة لأنه لم يعد لها سند شعبي وأن أهل الأنبار لا يقلون عن غيرهم من أبناء الشعب العراقي مقتا للفكرة. لذلك يمكن القول أن جزءا من المحاولة، عدا استهدافها مناوئيه من السنة، تستهدف وضع عراقيل أمام حكومة السوداني الذي لا يبدو أنه ميال إلى إسنادها لأنه يعرف أن وجوده على راس مجلس النواب كممثل قوي للسنة لا يروق للعديد من قادة الإطار الشيعي الأقوياء فهو في نظرهم من مخرجات التفاهم القديم بين السيد مقتدى الصدر والجبهة السنية التي يتزعمها الحلبوسي والحزب الديموقراطي الكردستاني والتي كانت بنظر القادة الشيعة المذكورين أقرب ما تكون بمؤامرة لإبعاد تلك الزعامات عن المشهد السياسي. وربما كان تمنع السيد الحلبوسي عن السير بجدية نحو إقرار الموازنة ما لم يحصل عل تنازلات في مواقع أخرى تأكيدا في نظر الزعماء الشيعة الذين ذكرت على أنه يضمر نيات لا يرتاحون لها.

من الجانب الآخر هناك سؤال يتعلق بالموقف السعودي. هل يمكن للقيادة السعودية أن تستجيب لطلب من الحلبوسي بدعم فكرة إقامة إقليم سني دون أن تفكر بتأثير موقفها في علاقتها بالعراق والتي أخذت منحى إيجابيا منذ تولي السوداني رئاسة الوزراء وعلى ما يمكن أن يترتب من نتائج ضارة على استقرار العراق وتأثير عدم الاستقرار عليها إذا ما أيدت مسعى الحلبوسي؟وكيف يمكن أن نوفق بين دعم سعودي أو حتى موافقة على فكرة الإقليم السني في وقت تتبع فيه السعودية سياسة جديدة قائمة على نزع فتيل التوترات في المنطقة بدأتها بفتح صفحة جديدة مع إيران وسوريا بما فيها من مضامين في غاية الإيجابية على كامل الوضع الإقليمي ويفتح بابا على الحل في اليمن والبحرين ولبنان وسوريا وكذلك العراق وفي كل مكان وجدت فيه تقاطعات سعودية إيرانية؟ إن موافقة أو دعما سعوديا لفكرة الإقليم السني في العراق لا يمكن أن تنسجم مع هذا التوجه السعودي الجديد. لا نستطيع القول، بناء على ما ذكرت من دهاء الحلبوسي،أنه لم يأخذ هذه التطورات أو السياسة السعودية الجديدة أزاء قضايا الإقليم بنظر الاعتبار. ولكننا في نفس الوقت لا نستطيع أن نقول أن السيد الحلبوسي قد حضى باستقبال عال المستوى في السعودية دون أن يكون ما يحمله يتسم بالأهمية له و للطرف السعودي. إذا هل نحن هنا أزاء محاولة ابتزاز، أو تلطبفا للتعبير، إننا بصدد تحذير يطلقه الحلبوسي باتجاه الزعماء الشيعة الذين لا يحبذونه من أنه يحظى بدعم اقوى قوة عربية إقليمية تعتبر مفتاح الأمن والاستقرار بالمنطقة والعراق بشكل خاص، وباتجاه مناوئيه الأنباريين وغيرهم من الزعماء السنة الذين يتطلعون إلى سقوطه من أن تحديهم له لا جدوى منه والأجدر بهم أن يتفاهموا معه وسيكون كريما معهم فهم في نهاية المطاف أهله وربعه وعفى الله عما سلف؟ إن كان الأمر كذلك، وهو ما أعتقد به، فسيكون استقبال العاهل السعودي له موافقة منه أو دعما له في أن يبقى رئيسا لمجلس النواب وأن يبقى زعيما سنيا لا يجارى أكثرمن كونه دعما أو تأييدا لفكرة الإقليم السني التي لا يتوقع أن تحظى بموافقة أهل الأنبار أولا ثم المحافظات الأخرى ذات الغالبية السنية مثل الموصل وصلاح الدين وديالى. فبالنسبة للموصل واهلها وخاصة زعماءها التقليديين لا أعتقد أنهم سوف يرضون أو هم راضين بالأصل عن "اختطاف" الزعامة السنية منهم فهم يعتبرون أنفسهم افضل تاريخا وحاضرا وحضارة ودورا في تاريخ العراق من أية محافظة ذات غالبية سنية وأنهم إذا قبلوا أن يقادوا من بغداد انسجاما مع تمسكهم بعراقيتهم فلا أظنهم سوف يقبلوا أن يقادوا من زعامات سنية من خارج محافظتهم لأنهم لو أرادوا ذلك لجعلوا من محافظتهم إقليما. وبالنسبة لصلاح الدين فهي أيضا تمتلك زعماء أقوياء وأن تكريت قد لعبت دورا مهما في تاريخ العراق الحديث فمنهم كان الكثير من قادة الجيش ومن الشخصيات المثقفة ومن الزعامات السياسية وبإمكانهم أن يشكلوا إقليما لو أرادوا ولا حاجة لهم بزعامات من خارجهم. أما ديالى فلا أعلم مدى التناسب فيها بين سكانها الشيعة والسنة ولا أظن أن سنتها تبحث عن زعامات خارجية وهي على العموم محافظة مطواعة تنآى بنفسها عن الصراع.

فهل تلقى الزعماء الشيعة الذين ذكرت وكذلك الزعماء السنة الذين يناوؤون زعامة الحلبوسي الرسالة كما يجب؟ لا نعلم ونعتقد أنه بالنسبة للطرف الشيعي فإن الكثير يعتمد على ما لو كان الحلبوسي سوف يتخد من تعطيل عمل الحكومة نهجا من خلال التلكؤ في إقرار القوانين التي تقدمها لمجلس النواب. كما وأرجح أن رسالة الحلبوسي التي أرسلها من وراء الحدود تنطوي على إشارة تفيد أنه مستعد لتسوية مع الزعامة الشيعية بشرط أن تضمن له مكانته التي احتلها كرئيس لمجلس النواب وكزعيم شاب للسنة لا يزال أمامه الكثير مما يطمح إلى تحقيقه، ومن يدري، فقد يأتي يوما يكون فيه رئيسا للجمهورية إذا ما نجح بانتزاعها من الأكراد.

أما بالنسبة لمناوئيه الأنباريين وغيرهم من الزعامات السنية فلا أعتقد أنهم يتمتعون بدعم من جهة إقليمية ما وأن رهانهم ينصب على الداخل العراقي، على جماهير السنة من خلال الانتخابات (مجالس المحافظات التي اقترب موعدها) وعلى زعامات سنية أخرى شابة (تراهن على الدعم الشيعي) تمثل تحديا حقيقيا لزعامة الحلبوسي. ولكني أرى في نهاية المطاف أن الغلبة لن تكون لطرف وأن توازن القوة سوف يبلغ مرحلة تفرض على الجميع صيغة ما للتسوية (تقاسم النفوذ والامتيازات بالنسبة لمناوئيه السنة) تحفظ لكل طرف مكانته...

إن الرجال الدهاة هم ليسوا من يبرع بالتكتيكات وحسب بل، وأهم من ذلك، أن يكونوا قادرين على نحت التسويات التاريخية (تتسم بالديمومة النسبية في الوضع العراقي المتحرك) ويجيدون اختيار اللحظة المناسبة لذلك.

***

ثامر حميد 

 

 

تشير تقارير صحافية كثيرة إلى الأسباب الحقيقية الخفية في الحرب الضارية الدائرة بين الجيش السوداني بقيادة الجنرال الانقلابي التطبيعي البرهان ورديفته قوات الدعم السريع بقيادة زميله وحليفة محمد حمدان دكلو"حميدتي" المتهم بارتكاب مجزرة مقر القيادة العامة بحق المتظاهرين العزل في الثالث من حزيران 2019 والتي راح ضحيتها قرابة 120 قتيلا ألقيت جثثهم الى تماسيح النيل. فجريدة "الغارديان" البريطانية أشارت في تقرير لها إلى:

- أن قوات حميدتي تسيطر على مناجم الذهب في جبل عامر في دارفور وثلاثة مناجم أخرى في البلاد.

- أن دولة الإمارات العربية كانت قد استوردت أكثر من تسعين بالمئة من هذا الذهب وبطريقة التهريب غالبا ودون علم الحكومة السودانية المركزية. وكان البرهان وحميدتي كلاهما من حلفاء الدكتاتور عمر البشير سابقا قبل أن ينقلبوا عليه بهدف قطع مسار الانتفاضة الشعبية ضد نظامه وتفريغها من محتواها الثوري الاجتماعي، وإن البشير نفسه هو الذي أطلق يد حليفه حميدتي في تهريب وبيع الذهب عن طريق شركة خاصة تملكها عائلة هذا الأخير.

وكالة رويترز أكدت في تحقيق أجرته قبل عام إلى وجود عمليات تهريب للذهب من أفريقيا تقدر بمليارات الدولارات سنويا عن طريق الإمارات التي تعتبر بوابة لتهريب ثروات شعوب أفريقيا وخصوصا في السودان وليبيا إلى أوروبا.

معلومات أخرى مختصرة:

- في النصف الأول من عام 2018 أنتج في السودان 63 طنا من الذهب اشترى بنك السودان الحكومي منها ثمانية أطنان فقط بأقل من سعر السوق وتم تهريب ما تبقى.

- في عام 2015 استوردت الإمارات سبعين طنا من الذهب السوداني كما قال وزير الصناعة والتجارة السوداني موسى كرامة نفسه.

- عدد شركات التعدين واستخراج الذهب هو 243 شركة منها إحدى عشرة شركة امتياز، إلى جانب الآلاف من الأفراد الباحثين عن الذهب.

- بلغ الناتج السوداني السنوي من الذهب بحسب أرقام الحكومة يتراوح بين 90 و120 طنا من الذهب أما حسب أرقام الشركات المنتجة فهو يتراوح بين 230 و240 طنا.

هذا عن الذهب أما عن الصمغ العربي غالي الثمن والذي استثنته الولايات المتحدة من حصارها ضد السودان لمدة عشرين عاما نظرا لأهميته الطبية والغذائية فنعلم التالي:

- مساحة زراعة الصمغ العربي تقدر بخمسمائة ألف كيلو متر مربع ما يعادل ثلث مساحة السودان.

- ينتج السودان ما يقرب من 75 بالمئة من الإنتاج العالمي على الرغم انه لا يستغل سوى عشرة بالمئة من الغابات المنتجة لهذه المادة.

- في عام 2016 بلغ انتاج السودان من الصمغ العربي 105 آلاف طن هرب منها أربعين طنا كما يهرب الذهب، وما تبقى صدر عن طريق القنوات الرسمية بقيمة 120 مليون دولار. وهذا من عشرة بالمائة فقط من الغابات فكم سيكون المبلغ لو أنتج السودان هذه المادة من مائة بالمائة؟

إضافة الى ما تقدم يملك السودان ثالث احتياطي في مادة اليورانيوم الخام الداخلة في صناعة الأسلحة النووية ويصل الى مليون ونصف مليون طن حسب أرقام غير رسمية. ويوجد هذا المعدن في دارفور وجبال النوبة وكردفان والنيل الأزرق والبطانة وولاية البحر الأحمر.

*أما من حيث الاستثمارات التي يعتبرها البعض سماسرة اللبرالية الجديدة خشبة خلاص الاقتصاد في أية دولة تدخلها فيبدو انها زادت من إفقار السودان وشعبه، ومن الدول صاحبة هذه الاستثمارات الأجنبية نذكر الصين وتركيا وقطر والسعودية والإمارات بما قيمة 74 مليار دولار حتى عام 2017. أما النتيجة فكانت ارتفاع الدين الخارجي على السودان 56 مليار دولار، وبلغ التضخم الاقتصادي 89 بالمئة وفقدت العملة السوداني قيمتها ما اضطر الحكومة في 2021 الى تعويم عملتها الوطنية جزئيا، فأدى ذلك إلى ارتفاع سعر الدولار إلى أكثر من 568 جنيها حاليا مقابل 55 جنيها، وهو السعر الرسمي قبل التعويم!

***

علاء اللامي

 

 

لقد كان لنا شرف الحضور في المؤتمر العلمي والعملي بعنوان "أوكرانيا بين روسيا والغرب"، والذي نوقش خلاله وبحضور مميز من الشخصيات العلمية في التاريخ، ووزارة الخارجية الروسية، وكذلك جمهور من الدبلوماسيين والمهتمين بالشأن التاريخي، نوقش فيه الخلفية التاريخية للوضع الحالي للسياسة الخارجية حول أوكرانيا، وقضايا تاريخ القومية الراديكالية الأوكرانية، وأسباب أزمة إقامة الدولة على أراضي جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية السابقة، مع تقديم على هامش المؤتمر، للدراسات الجماعية الجديدة "تاريخ أوكرانيا" (Grigoriev MS et al. M: العلاقات الدولية، 2022) و "القومية الأوكرانية في خدمة الغرب" (Krasheninnikova V.Yu، Surzhik DS M: حقل كوتشكوفو، 2023).

وزارة الخارجية الروسية ممثلة بنائب الوزير ي ميخائيل يوريفيتش غالوزين، أولت الاهتمام الأكبر لعمل المجتمع العلمي والخبراء، وتحترم تعليقاتهم وتوصياتهم، خاصة عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا، التي أصبحت اليوم حجر عثرة في العلاقات بين روسيا والغرب، وأكدت أن عواقب الانقلاب المسلح المناهض للدستور في أوكرانيا الذي نظمته دول منفردة في الناتو في عام 2014، تسبب في إلحاق أضرار جسيمة بالنظام الدولي، بما في ذلك الأمن الأوروبي.

ونتيجة للمكائد السياسية للولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، ضاعت على مدى العقود التالية إمكانية التعاون البناء في أوروبا بمشاركة روسيا من أجل تشكيل مركز قوة مستقل في القارة، ووفقا لغالوزين، فبالطبع، إذا نظرنا إلى الأحداث التي تجري في العالم من منظور عالمي، فإن الأمر لا يتعلق بأوكرانيا، فقد أصبحت هذه البلاد أداة، مادة قابلة للاستهلاك لتنفيذ سياسة "الغرب الجماعي"، وفي المقام الأول الأنغلو ساكسون، والتي تهدف إلى بناء شكل من العلاقات الدولية يكون مفيدًا لهم.

ومن المعروف أن بريطانيا العظمى تخشى دائمًا وتعارض محاولات تقريب روسيا من فرنسا أو ألمانيا، وفي هذا السياق، فإن تفاقم المواجهة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، بالطبع، يصب في مصلحة الأنغلو ساكسون، وأظهر الهجوم الإرهابي على خطوط أنابيب الغاز نورد ستريم ونورد ستريم 2 بوضوح أن أولئك الذين ليسوا مهتمين بالتعاون الاقتصادي متبادل المنفعة بين روسيا وهذه "الشركات الأوروبية"، ونتيجة لذلك، اضطر الاتحاد الأوروبي إلى التخلي عن مطالباته بالحكم الذاتي، والخضوع دون قيد أو شرط لمسار الولايات المتحدة، وكانت نتيجة هذا القرار تقليص الوزن الاقتصادي والسياسي للاتحاد الأوروبي في العالم، وتفاقم نزعات الأزمة التي لوحظت في الاتحاد الأوروبي.

وفي المقابل، تواجه روسيا الآن بمفردها تقريبًا مجموعة الناتو العسكرية والصناعية العسكرية الأوكرانية، حيث تم تكليف أوكرانيا بدور نقطة انطلاق للمواجهة مع روسيا، ويؤدي "الغرب الجماعي" وظائف المقر، الخلفية، ومورد للاستخبارات والأسلحة، وبحسب البنتاغون، فإن المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا خلال رئاسة جون بايدن بلغت بالفعل 35.8 مليار دولار، وخصص الاتحاد الأوروبي نحو 13 مليار يورو للمساعدة العسكرية لأوكرانيا، وتجاوزت الإمدادات العسكرية التراكمية لدول الناتو (28 من 31 دولة تنفذها على المستوى الثنائي) 65 مليار يورو، وكل هذه الأموال تذهب إلى الحرب، في الوقت نفسه، لا توجد أموال في الغرب من أجل السلام، ودعم البلدان النامية، لحل مشاكل الأمن الغذائي.

إن تاريخ الأراضي الأوكرانية متنوع ومعقد للغاية، وفي الآونة الأخيرة، وفقا للدبلوماسية الروسية، قام من يكره روسيا بمحاولات نشطة لتشويه المسار التاريخي لتطورهم، لإعادة صياغة تصور روسيا وأوكرانيا في الماضي، وبعد أن التقطت هذا الخط، فإن السلطات الأوكرانية الحالية تدمر كل شيء يربط روسيا بأي شكل من الأشكال، وبمبادرة منهم، أعيد كتابة كتب التاريخ المدرسية، ودُمرت الآثار والأشياء الثقافية، وحظرت الأعمال الأدبية والموسيقية، وتم إنهاء الاتصالات بين ممثلي المجتمع الأكاديمي، مما حرم العلماء من فرصة تبادل الخبرات وإجراء البحوث العلمية المشتركة والمناقشات، بما في ذلك المناقشات التاريخية.

وفي الوعي العام العالمي، لطالما كان يُنظر إلى روسيا وأوكرانيا على أنهما مجتمع ثقافي وتاريخي واحد، يمكن أن يمر بفترات من الاضطراب، ولكن يتحد دائمًا في كل واحد، ولكن وفي عودة للتاريخ الحديث كما يراه المؤرخون، وتحديدا في ميدان 2014 وسط كييف، كانت هناك دعوات شرسة لمعاداة الروس، وهنا لابد من الإشارة الى ما تحدث به المتحدث السابق للبرلمان الأوكراني أ. تورتشينوف، والذي بدأ بضرورة الإبادة الجماعية لشعب دونباس، وقال تورتشينوف "نحن على استعداد لتدمير روسيا حيثما أمكن ذلك"، ومن الضروري التغلب على روسيا ليس فقط في أوكرانيا، ولكن أيضًا خارج حدودها - على أراضي روسيا، وبالتأكيد على ان الانتقام يبدأ بقتل الأطفال، وبالتالي" لن يكبروا أبدًا، وستختفي الأمة "، والأكثر من ذلك.

كما أستهزأ توتشينوف باتفاقيات جنيف وغيرها من الاتفاقيات، عندما شدد على أنه لن تكون هناك فرصة للتعامل مع الروس، "سألتزم بعقيدة أدولف أيخمان وسأفعل كل شيء حتى لا تعيش أنت ولا أطفالك أبدًا، وهذه الأرض... يجب أن تفهم أنها تتحدث عن انتصار الشعب الأوكراني، وليس عن العالم، نحن بحاجة إلى الفوز، فإذا كان هذا يتطلب ذبح جميع عائلاتكم، فسأكون من أوائل الذين يفعلون ذلك... وآمل ألا تبقى أمة مثل روسيا والروس مرة أخرى على هذه الأرض... إذا أتيحت الفرصة للأوكرانيين... لسحق سكان موسكو وقطعهم وقتلهم وخنقهم، آمل أن يساهم الجميع و "يقتل" واحدًا على الأقل من سكان موسكو ".

وميكنوفسكي مؤسس حزب الشعب الأوكراني (UNP)، وهو حزب أكثر تطرفاً من حزب RUP، نشر "الكود" الخاص به - "الوصايا العشر للحزب الوطني المتحد" و أصبح البعض فيما بعد أساس أيديولوجية OUN ukronazism:، "واحد، موحد، لا ينفصل عن الكاربات حتى القوقاز، أوكرانيا المستقلة والحرة والديمقراطية، كل الناس إخوتكم، لكن سكان موسكو والبولنديين والمجريين والرومانيين واليهود هم أعداء شعبنا "، وفي عام 1897، أقام اتصالات وثيقة مع الشخصيات الجاليكية المؤيدة لأوكرانيا، في غاليسيا، التي كانت جزءًا من النمسا والمجر، وتم تشكيل توجه مناهض لروسيا، معاد للروس للقومية الأوكرانية، ومن هناك، بدأ غرس عقيدة الأوكرانيين الجاليكيين العدوانيين في روسيا الصغيرة، حتى قبل ظهور الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، وتم التحريض على الكراهية بروحهم العنصرية الكاره للبشر.

كما كان سلف OUN هو المنظمة العسكرية (العسكرية) الأوكرانية (UVO، المنظمة العسكرية الأوكرانية الأوكرانية) التي تم إنشاؤها في عام 1920، برئاسة E.M. رد كونوفاليتس) وسرعان ما أسس كونوفاليتس تعاونًا مع المخابرات الألمانية، وبدأت UVO في تلقي الأموال من الألمان للتجسس، وبمساعدة الأموال الألمانية، أطلقت UVO الإرهاب والتخريب في المنطقة (تفجيرات، هجمات، سرقة، مصادرة، إلخ)، ووفقًا لاستنتاج أحد الباحثين، "UVO، الذي ولدت فيه OUN، كانت منظمة إجرامية، بالمعنى الجنائي، كانت هذه الجريمة عبارة عن جرائم قتل إرهابية... من الناحية السياسية، كانت UVO، وفيما بعد OUN، جريمة سياسية لاغتصاب تمثيل الشعب الأوكراني بأكمله. لم يتلقَ UVO ولا OUN مثل هذا التفويض من الشعب... لم يتلقوا أبدًا دعم الشعب الأوكراني في أنشطتهم.

اذن المؤتمر العلمي كان فرصة تساعد في العثور على إجابات لبعض الأسئلة المتعلقة بماضي أوكرانيا على الأقل، وبفضل البحوث التي أجراه المؤرخين والخبراء، كانت هناك فرصة لسماع ومناقشة الفروق الدقيقة في علاقة الأوكرانيين بجيرانهم، بما في ذلك، بالطبع، مع روسيا في فترات تاريخية مختلفة، وبالتالي كانت هناك صورة موضوعية لماضي الأراضي الأوكرانية، وليس تعديلها لتناسب مصالح أي شخص، وتسمح لنا ذلك بفهم وتقييم الأحداث التي تجري في أوكرانيا وحولها بشكل صحيح، لبناء علاقات متناغمة مع الشعوب التي تعيش في هذه الأراضي في المستقبل، والدراسة الجماعية "تاريخ أوكرانيا" وكتاب "القومية الأوكرانية في خدمة الغرب"، تعتبر وثيقة مهمة لمساهمتها في ترسيخ الحقيقة التاريخية.

ما ذكرناه من تصريحات المتحدث السابق للبرلمان الأوكراني، هو خير دليل على النية المبيتة التي اعدها الغرب ضد روسيا، وكتاب القومية الأوكرانية في خدمة الغرب -2023- (للمؤلفة فيرونيكا كراشينكوفا)، يعرض مشاركة الدوائر الحكومية الغربية ووكالات الاستخبارات في تشكيل وتعزيز القومية الأوكرانية، وتحويلها إلى سلاح ضد روسيا، وينصب التركيز على جهود الإمبراطورية النمساوية المجرية والقيصر وفايمار وألمانيا النازية والولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب الباردة، وفي فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، يُظهر المثال التاريخي لأوكرانيا، خطر الأيديولوجية القومية التي يتم تحفيزها من الخارج واستيراد ممثلي المغتربين إلى النخبة، التي لها علاقات وثيقة مع الخدمات الخاصة الأجنبية.

ويتم عرض نتائج تحليل الجوانب الموضوعية، لتاريخ منظمة القوميين الأوكرانيين OUN بالمقارنة مع سياسة نظام كييف في 2014-2022، باستخدام الأسرار التي تم الكشف عنها مع بداية نزع السلاح من أوكرانيا خلال عملية عسكرية خاصة للقوات المسلحة الروسية، فقد زادوا من الأدلة على أن تدمير روسيا هو الهدف الاستراتيجي الثابت للقومية الأوكرانية الراديكالية - الأوكرونازية طوال تاريخها واليوم، وان استمرارية الأهداف والمواقف الأيديولوجية والسياسات المعادية للشعب وجرائم بانديرا وأتباعهم المعاصرين، ولفت الانتباه إلى حقيقة أن منظمة الأمم المتحدة، شاركت بنشاط في الفظائع التي ارتكبها النازيون ضد روسيا وشعبه، حيث كان قادة أوكرانيا من أعضاء OUN عملاء ومنفذين لإرادة المخابرات النازية، بعد الانتصار على الفاشية - الخدمات الخاصة للولايات المتحدة والغرب.

ويؤكد المشاركون انه مغتصبيي الميدان، قاموا وتحت سيطرة ومشاركة الولايات المتحدة وأقمارها الصناعية في حلف شمال الأطلسي، بنهب وتدمير أوكرانيا، وحولوها إلى نقطة انطلاق مناهضة لروسيا للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وتجاوزوا معهم الخط الأحمر، في خلق تهديد عسكري لروسيا الاتحادية والتحضير للعدوان عليه، لذلك، اتخذت روسيا تدابير مناسبة لهذا التهديد لحماية أمنها القومي، وإنقاذ شعب دونباس من الإبادة الجماعية، وتحرير شعب أوكرانيا الشقيق من النازية الجديدة، فقد تم تحديد أهم السمات المشتركة للقومية الأوكرانية الراديكالية في عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي و2014-2022، وتم تلخيص العناصر الرئيسية لعملية صنع القرار من قبل القيادة الروسية بشأن الاعتراف بجمهورية لوغانسك الشعبية، وجمهورية دونيتسك الشعبية، وإجراء عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا.

لقد أصبحت السلطات الجديدة في أوكرانيا، التي تمجد الآن الفاشيين بانديرا وشوخيفيتش وأتباعهم، غير متسامحة مع معايير الحياة الراسخة تاريخياً، فضلاً عن إرادة ودين سكان هذه المناطقفي دونباس، وأجبرت تصرفات السلطات الأوكرانية سكان مناطق معينة من منطقتي دونيتسك ولوغانسك في أوكرانيا على بدء استفتاء والتصويت في مايو 2014 لاعتماد قانون تقرير المصير لجمهورية دونيتسك الشعبية (89 ٪) والقانون تقرير المصير في جمهورية لوغانسك الشعبية 96٪، ومنذ ثماني سنوات، يعيش سكان مناطق معينة في منطقتي دونيتسك ولوغانسك في أوكرانيا تحت قصف الأسلحة الصغيرة والكبيرة، ووفقًا للأمم المتحدة، توفي أكثر من 10000 شخص، وأصيب أكثر من 50000، ونزح أكثر من 1.4 مليون شخص داخليًا داخل أوكرانيا، ووصل أكثر من 2.5 مليون شخص إلى الاتحاد الروسي في حالة طوارئ جماعية طالبين اللجوء.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

 

 

قبل الخوض في التفاصيل تجدر الإشارة إلى اتفاق وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن يوم أمس الثلاثاء، مع قائد قوات الدعم السريع في السودان، محمد حمدان دقلو، على هدنة لمدة 24 ساعة "لضمان فتح مسارات آمنة للمدنيين وإخلاء الجرحى" وكان بلينكين قد أشار إلى أنه اختبا في السفارة الأمريكية بالخرطوم إبان المواجهات التي نشبت بين الطرفين السودانيين يوم السبت الموافق 15 أبريل 2023 .

ورغم اتفاق الهدنة فقد اتهم دقلو القوات المسلحة السودانية، بخرق الاتفاق بقصفها مواقع مأهولة بالسكان معرضة حياة المدنيين للخطر.. مُعَوِّلاً على محادثات إضافية مع وزير الخارجية الأمريكي حول "الطريقة التي يجب التعامل بها مع هذه الخروقات".

وكان الأوْلى أن يتوغل دقلو أكثر في عمق الأزمة دون تسطيح من خلال تجاوز الصراعات القائمة على المصالح الجهوية، نحو تحقيق طموحات الشعب السوداني المغبون، بحكومة وفاق مدنية يتفق عليها الجميع؛ لإنقاذ البلاد بغية وضعها على مسارات التنمية المستدامة الآمنة، ومن ثَمَّ استغلال ثروات البلاد التي تحولت إلى نقمة على السودانيين، بدلاً من أن تسبغهم بالخيرات.

من هذا المنطلق فلا بد من وضع كل الأوراق على طاولة واحدة والاستماع إلى صوت الوطن بعيداً عن فحيح الأجندات الخارجية التي تسعى لاستنزاف ثروات السودان المهدورة؛ للخروج بتوافق يوحد بين "قوات الدعم السريع" شبه العسكرية، وقوات الجيش النظامية في ظل حكومة وفاق وطني، وتخليص الأزمة -بعد بذرها بالحلول المُسْعِفَةُ للجراح- من صراع الديكة على السلطة والنفوذ، وتقاطع الأجندات الخارجية التي شرذمت السودان من باب المحاصصة في الثروات كالذهب والطاقة؛ وكأن الخصوم السودانيين بدلاً من الحفاظ على وحدة بلادهم، سخروا كل الجهود لتحقيق ما خطّطَ له الصهيوني البريطاني برناند لويس من تقسيمٍ للسودان ضمن خرائط كان قد وافق عليها الكونغرس الأمريكي عام 1983 فتحققت على الأقل من خلال فصل الجنوب عن السودان، ومن ثمَّ إعادة الكَرَّةِ في دافور غرب السودان التي تعاني من مخاضِ الانفصال عن الوطن الأم.

فمن يقف إذاً وراء الاشتباكات التي قد تقود السودان إلى حرب أهلية طاحنة ويغذيها بأسباب التحول إلى كارثة قد تدوم طويلاً؟

ففي الوقت الحالي، تدور الاشتباكات في مواقع استراتيجية في أنحاء العاصمة، بين أفراد من "قوات الدعم السريع" شبه العسكرية، وقوات الجيش النظامية، والتي انطلقت بعد فشل الوساطات في تقريب وجهات النظر بين البرهان وحميدتي حول قضية دمج الدعم السريع بالجيش.

إنه صراع الديكة على الحكم.. وانقلاب رفاق السلاح على بعضهم بحيث يمتطي الرئيس برهان صهوة الجيش لمواجهة قوات التمدد السريع بقيادة نائبه حميدتي بسبب رفضه انضمام قواته إلى الجيش والتي يتجاوز قوامها ال ١٠٠ ألف مقاتل، بعد تصاعد التوترات بشأن المخطط المقترح لانتقال البلاد إلى الحكم المدني.

ووصل عدد القتلى منذ بداية المواجهات إلى 100قتيل ذهبت أرواحهم هدراً في سبيل أجندات تقاطعت ضد مصلحة السودان وشعبه المغبون، وكأن الرماد سيخرج من تحته المعجزات دون أن تعالج الأسباب مع أن منطق الأشياء يقضي بمركزية السلطة ومعالجة ما يخرج عن طوعها من جماعات بالحوار أو بالحديد والنار.. رغم أن الخيار الثاني يُعَدُّ مجلبة للأزمات.

وحجة حميدتي قائد قوات الدعم السريع في رفضه لخطة دمج قواته بالجيش قبل تشكيل حكومة مدنية وانتقال السلطة لها؛ بأن الخطة إنما تمثل في نظره فخاً سيضع مخرجات العملية السياسية في مصلحة البرهان لذلك فتأجيل ذلك من شأنه أن يضمن الأمان لنفسه وقواته.

مقابل ذلك يُصِرُّ البرهان على مبدأ الدمج العسكري قبل البدء بالعملية السياسية، ليكون هذا الدمج مقدمة لتوقيع الاتفاق السياسي النهائي.

وهذا لو تمَّ -في نظر خصومه- سيضمن لللبرهان القدرة على التحكم بنتائج العملية السياسية.

ومن هنا قدحت شرارة المواجهات الدامية ليعربد الشيطان في تفاصيلها دون النظر إلى معطيات الحل الآمن للجميع.

ونتيجة لهذا الخلاف، فشلت القوى السياسية والمكون العسكري (الدعم السريع والجيش) في التوصل لاتفاق سياسي نهائي يُنهي الأزمة السياسية السودانية المستفحلة منذ سقوط نظام البشير في 11 أبريل 2019، حينما أقالت القوات المسلحة السودانية الرئيس البشير من منصبه، بعد عدة أشهر من الاحتجاجات والانتفاضات المدنية.

وفي الوقت الراهن جاء من يشعل النار في الهشيم، بإطلاق النار يوم السبت الماضي على الجيش، جاء ذلك بعد عشرة أيام من انتشار العشرات من أفراد قوات التدخل السريع حول العاصمة، ما اعتبرته الحكومة تدخلاً سافراً في سلطتها المركزية الأمر الذي حَرَّكَ المواجهاتِ الدامية.

وتعود جذور هذا الصراع إلى انقلاب أكتوبر 2021، فمنذ ذلك التاريخ يُدارُ مجلسُ السيادةِ والحكمِ في السودان، بوجود قائدين متناقضين في قلب النزاع، وهما عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة والرئيس الفعلي للبلاد، من جهة، ونائبه قائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي، من جهة أخرى.

واختلف الرجلان على الاتجاه الذي تسير فيه البلاد وعلى مقترح الانتقال إلى حكم مدني.

واتهمت قوات الدعم السريع بارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان، بما في ذلك مجزرة قتل فيها أكثر من 120 متظاهراً في يونيو 2019. عقب إقالة البشير.. ومنذ ذلك الحين ظل المواطنون متمسكين بالمطالبة المشروعة بدور في مشروع الانتقال إلى حكم ديمقراطي.

وتلبية لذلك، تشكلت حكومة مشتركة من المدنيين والعسكريين، لكنها أسقطت لاحقاً بعد انقلاب عسكري آخر في أكتوبر 2021.

ما أدّى إلى حدة التنافس بين البرهان وحميدتي.. وقد تحوَّل النزاع بينهما في نظر السودانيين إلى صراع بين الشرعية المتمثلة بالبرهان، والمناوئين لها من قبل حميديتي وقواته.. وقد طالت الطرفيْن تُهَمُ الارتباط بأجندات خارجية وخاصة حميدتي.

وللوقوف على أسباب الأزمة في السودان والتوغل أكثر في شؤونها، لا بد من التطرق إلى ماهية "قوات التدخل السريع" التي شكلها الجنرال محمد حمدان عام 2013 وتعود أصولها إلى ميليشيا الجنجويد القبلية التي قاتلت بضراوة المتمردين في دارفور واتهمت هناك بجرائم إبادة ضد الإنسانية.

واكتسبت هذه القوات خبراتها من خلال المشاركة في صراعات اليمن وليبيا، وهنا يكمن سر ارتباطها بقوات فاغنر الروسية في ليبيا، من خلال المصالح المشتركة والوعود النفعية المتبادلة بين الطرفين، فيما يتعلق باستثمار الذهب السوداني المطموع فيه، ناهيك عن تمكن هذه القوات السودانية من السيطرة على بعض مناجم الذهب السودانية خلافاً لإرادة الحكومة المركزية متمثلة بالبرهان.

ما هيأ لهذه القوات أيضاً أرضية خصبة للتلاقي مع الإماراتيين في المصالح التي بُذِرَتْ بين الطرفين وخاصة ما يتعلق بالاستثمار في الذهب السوداني من جهة، ناهيك عن تحويل قوات التدخل السريع إلى مرتزقة استثمرهم الإماراتيون ضد الحوثيين في اليمن، من جهة أخرى.

ليس هذا فحسب بل أن حميدتي زار مؤخراً أثيوبيا التي هي على خلاف مع مصر والسودان فيما يتعلق بسد النهضة بحجة معالجة التجاوزات البينية على حدود أثيوبيا والسودان؛ ليكسبَ حمودتي مزيداً من الأوراق السياسية. ويبدو أن ثمة وعود متبادلة بين حميدتي والجانب الأثيوبي، ومن المؤكد أنها ستكون على حساب البرهان وحلفائه المصريين، منها محاولة إشغال القوات المصرية المتواجدة في قاعدة مروي المصرية الناشطة في الخرطوم قريباً من المطار، حيث تم القبض على العشرات من أفراد خدمة القوات الجوية المصرية بما في ذلك العديد من الطيارين المقاتلين من قبل قوات التدخل السريع والاستيلاء على ثلاث طائرات من طراز ميغ (29 م 2) ومعدات أخرى، فاعتبر المصريون ذلك بمثابة إعلان للحرب على مصر إلا أنهم تعاملوا مع الموقف بحذر شديد حتى لا يستفحل الصراع، كما يخطط له أعداء السودان وخاصة أثيوبيا، وفق ما يرى مراقبون؛ كي يتعطل الحراك المصري السوداني نحو تدويل ملف سد النهضة الذي جاء متاخراً.

أما بالنسبة لحلفاء البرهان من غير مصر التي تساند الجيش السوداني في العموم لوجستياً وسياسياً؛ ياتي الحاضر الغائب في أزمة السودان الداخلية متمثلاً ب"إسرائيل" التي تُتْهَمْ بدعمها لحكومة البرهان، حيث تربط بينهما اتفاقيات تتعلق بأنظمة التجسس بيغاسوس إلى جانب التطبيع مع الكيان الإسرائيلي الذي يتمدد اقتصادياً في القارة الأفريقية.

وتأكيداً على ذلك فإنه في 30 نوفمبر 2022، نشرت صحيفة “هآرتس" الإسرائيلية، بالتعاون مع منظمة “لايتهاوس ريبورتس” تقريراً استقصائيّاً كَشَف عن تصدير غير مُصَرَّح عنه لتقنيّات تجسّس إسرائيلية على متن طائرة من طراز “سيسنا”، توجّهت من أحد بلدان الاتحاد الأوروبي إلى السودان بين أبريل وأغسطس 2022. ونقلت تلك الطائرة شحنة من تقنيّات التجسّس المتطوّرة إلى المجلس العسكري في السودان.

أما بالنسبة لقطر فإن مصالحها في السودان تتعلق بقطاع الزراعة من خلال مشاريعها العملاقة مثل مشروع "الهواد" الذي كلف المليارات من الدولارات؛ لذلك فمصلحتها العليا ترتبط بالمجلس العسكري في السودان دون أن تساهم في الصراع الدائر هناك خلافاً للدورين المصري والإماراتي النسبيين.

في المحصلة فإن صوت العقل في أزمة السودان بدا خافتاً لا يكاد يسمع، لأن صياح الديكة وأزيز الرصاص باتا هما الأعلى، في صراع ضروس بين الطامعين بثروات السودان المهدورة، والسلطة التي تدعي بأنها تحاول لجم التمرد لصالح الديمقراطية، من خلال صراع دمويٍّ دَبَّ بين البرهان قائد المجلس العسكري للسودان والذي يُعَدُّ بمثابة الرئيس الفعلي للسودان، وخصمه اللدود حميديتي قائد قوات التدخل السريع.

فإلى متى يظل هذا التجاهل لمصلحة السودان العليا وإعطاء الظهر لإرادة الشعب التي لا تلين نحو نظام ديمقراطي وحكومة إجماع مدني! وعلى ذلك فمستقبل السودان يكون بخير.

***

بقلم: بكر السباتين

19أبريل 2023

 

الوضع فى السودان يسير من سيئ إلى أسوأ، لا أتحدث فقط عما بدأ اليوم وأمس من أحداث مؤسفة يتابعها الناس عن كثب، لكننى أعود لأسترجع بدايات الأزمة منذ حوالى عام ونصف أو أكثر عندما صار السودان بدون حكومة بعد تغييب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذى تولى رئاسة الوزراء لمدة عامين فقط بين 2019 و2021 قبل أن يتم إقصاؤه باستقالة أعلنها فى مطلع 2022. ومنذ ذلك الحين تولى حكم السودان الجيش السودانى بقيادة عبد الفتاح البرهان قائد القوات المسلحة السودانية رئيساً للمجلس السيادى الانتقالى، بالإضافة لنائبه فى رئاسة المجلس محمد حمدان دقلو المشهور بحميدتى قائد قوات التدخل السريع المعروفة بالجنجويد..ومنذ ذلك الحين تدفق السلاح إلى السودان ليصير متوافراً لدى أغلب القوى وكأن الأرض يتم تمهيدها لاحتراب قادم!

الجنجويد ودورهم فى الأزمة

تلك ميليشيات قتالية تم تشكيلها خلال الحرب فى دارفور فى أغسطس من عام 2013 بقيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطنى لمحاربة الجماعات المتمردة في إقليم دارفور وجنوب كردفان وولاية النيل الأزرق. ورغم الفظائع التى ارتكبتها تلك القوات أثناء حربها الأولى فى إقليم دارفور من حرق وقتل وضرب ونهب واغتصاب ضد كل الأعراف والقوانين إلا أن البشير استبقاهم كقوة إضافية لمواجهة أى تمرد أو قلاقل تحدث هنا أو هناك. وفى أعقاب احتجاجات الشعب السودانى عام 2019 ضد البشير وتنحيته لصالح الجيش السودانى تدخلت ميليشيات الجنجويد لتلعب دوراً فى قمع التظاهرات وفض الاعتصامات وإنهاء حالة العصيان المدنى التى حاول الشعب السودانى القيام بها مما تسبب فيما عرف بمجزرة القيادة العامة والتى قتل خلالها ما يقرب من 100 مدنى على يد قوات الجنجويد.. هكذا لعبت قوات الدعم السريع التابعة لحميدتى أدواراً سيئة داخل وخارج السودان وعلى حدودها.. فشاركت بدوريات مستمرة لمنع تدفق الهجرة من إريتريا والسودان إلى أوروبا عبر ليبيا، كما تم الاستعانة بالجنجويد فى بدايات عمليات عاصفة الحزم ضد ميليشيات الحوثى.

ذلك التنامى الخطير فى حجم ميليشيات الدعم السريع كما وكيفاً ساهم فى إرباك المشهد السياسي فى السودان عقب تنحية البشير وتولي عبد الله حمدوك رئاسة الوزراء لعدة شهور قبل أن يتقاسم الجيش السلطة مع قوات الجنجويد. وكان من المفترض أن يتم تسليم السلطة خلال الأيام الماضية للقوى المدنية وفق بنود اتفاق إطارى أعلن الجميع موافقتهم عليه. إلا أن الساعات الأخيرة شهدت عدة تحركات من جانب قوات الجنجويد التى انتشرت فى عدة مدن ومناطق حيوية بالسودان تحت دعاوى فرض الاستقرار ومنع الجرائم والانحياز للديمقراطية، بينما فى الحقيقة هى تريد إفساد المشهد السياسي والاستيلاء على السلطة بالقوة. وهو ما دفع الجيش السودانى لاعتبار الجنجويد قوة متمردة ينبغى ردعها. وبدأت الاشتباكات بين الجانبين خلال الساعات الأخيرة بشكل متصاعد .. والسؤال: لماذا تلاعب حميدتى بالجميع وتظاهر بقبول الاتفاق الإطارى ثم قلب لهم ظهر المجن؟!

صراع الأجندات

السودان بلد متسع مكتظ بثروات وخيرات كثيرة مثلت مطمعاً لعدة دول وقوى خارجية. وفى ظل حالة السيولة وعدم الاستقرار السياسي خلال الفترة الانتقالية الحافلة بالأحداث، وخاصة فى ظل تنامى نفوذ الميليشيات واتساع نطاقه، بدأت تلك القوى الطامعة فى استغلال تلك القوى فى استقطاب القوى السياسية المتصارعة لصالحها. هناك عدة دول تلاعبت بالمشهد السياسي وعلى رأسها إثيوبيا ومن ورائها إسرائيل، والهدف هو إبقاء حالة الصراع القائم بين القوى الثلاثة متأججة وملتهبة حتى تحين ساعة الصدام التى تحددها تلك الأيادى العابثة من خلف الكواليس. وها قد حانت الساعة وحدث الصدام لا بين الجنجويد والجيش والقبائل فقط بل بين هؤلاء المحركين من خلف ستار.

المشهد الحالى فى السودان شديد التعقيد والسيولة ويصعب تحديد أبعاده ومآلاته..القوى المدنية مفككة وضعيفة لا قوة لها على أى فعل، والطبيعة القبلية العشائرية للسودان وضعت فى يد كل مجموعة وطائفة وقبيلة سلاحاً خفيفاً أو ثقيلاً. وهناك انقسام وتشرذم فى الولاءات بين حاملى السلاح. فلمن تكون الغلبة؟ وهل يمكن أن تلجأ الأطراف للتهدئة بعد انطلاق الشرارة وتأجج الصراع؟!

سيناريوهات الأحداث

سفير الولايات المتحدة الأمريكية فى السودان جاء على لسانه القول بأن الوضع فى السودان مرشح للاشتعال فى أية لحظة، وأن القوى الخارجية ومن بينها أمريكا لن تتدخل لحسم الصراع لصالح أى طرف. وأن المتوقع أن تكون الغلبة لجانب الجنجويد ربما لأن مؤشرات القوى ترجح لصالحهم بسبب خبرتهم الواسعة بالقتال الفعلى على الأرض ومعرفتهم التامة بجغرافية المكان وصلاتهم الممتدة برؤوس القبائل، هذا إلى جانب ما اكتسبته تلك القوات فى الفترة الأخيرة من عوامل قوة أهمها تنامى العلاقات الدولية وتحولهم ربما إلى ما يشبه المرتزقة الذين يعملون لا لصالح السودان وإنما لمصالحهم الخاصة ومصالح القوى الخارجية التى تستميلهم.

غير أن الأحداث ربما لا تسير بالضرورة على النحو الذى يتوقعه الأمريكان. من ناحية أن الجيش النظامى يمتلك عناصر قوة قد ترجح قدرته على حسم صراع السلطة لصالحه. ولعل أهم عنصر هنا هو الشرعية الدولية التى يفتقدها الجنجويد لاسيما وهم متهمون بارتكاب مذابح وجرائم ضد الإنسانية فى حرب دارفور وخلال فض المظاهرات. لهذا سوف تقف القوى الإقليمية بالضرورة مع عبد الفتاح البرهان ضد حميدتى الذى بدأ بأفعال الاعتداء والتمرد على الاتفاق الإطارى من أجل دعم استقرار السودان.

لايمكن القول إن الوضع كان مستقراً فاشتعل أو أنه انفجر فجأة، بل إنه كان منذراً بمثل هذا الذى حدث لدرجة أن المراقبين للوضع قالوا : نحن فى انتظار الرصاصة الأولى.. ألا وقد انطلقت الشرارة وتفاقم الصراع وبات الوضع ملتهباً لدرجة أن قنوات الاتصال فقدت إلا من بعض ما يتم تسريبه أو إعلانه من هذا الطرف أو ذاك. مثل هذا الصراع الدامى قد يتحول إلى قتال شوارع إلا إذا تدخل الطيران الحربي. أو قد يتحول إلى حرب أهلية تنتقل عدواها من مدينة لمدينة وفى تلك الحالة سيطول أمد الأزمة ويتسع نطاقها وتزداد معاناة الشعب السودانى الذى يعانى الأمرين بالفعل..

السؤال هنا حول السيناريوهات البعيدة عن التوقعات.. هل يمكن أن يحدث أحد تلك السيناريوهات؟ : أن يستطيع الشعب والقوى المدنية حسم الصراع لصالحهم من خلال انتفاضة شعبية واسعة؟ أو أن تتدخل قوة إقليمية قادرة على حسم الصراع لصالح السودان وإقصاء المخربين؟! أو أن يتم إقناع أطراف الصراع بالعودة من جديد لتغليب المصلحة العامة والجلوس على مائدة المفاوضات لتجنب مآسي الصراع الدموى؟

زمن رواج الشائعات

لاريب أن الإعلام سيكون مشاركاً فى هذه الحرب بعلم أو بجهل لصالح أطراف كل منها يروج لنفسه باعتباره المنتصر الوحيد الذى اكتسح الساحات. وقد شهدت الساعات السابقة حالة من التضارب المفهوم فى التصريحات بين طرفى نزاع يزعمان كليهما بأن الخسران من نصيب الآخر، بينما النزاع لا يزال فى بداياته ولما تنتهى المعركة التى يبدو أنها ستطول وتمتد إلى حين..

***

د. عبد السلام فاروق

 

لابد ان نشيرالى ان تركيا اليوم تعيش في حالة عامة غير مسبوقة من الواقع الفوضوي لما قبل الانتخابات ولم تشهد هذه البلاد من قبل ما هي فيه اليوم من الاوضاع السياسية الاقتصادية الاجتماعية غير المستقرة، وهي حقا تعيش في فوضى غير مسبوقة من الارضية المتاحة للانتخابات المقبلة وما هي عليه السلطة الحرجة والمضغوطة بين فنجان تهاوي الليرة التركية وسندان الافرازات السلبية للهزة الارضية التي ضربتها ولم تقم الحكومة التركية باقل مما كان من المفروض ان يتبعها او لم يتمكن من الواجب الواقع على عاتقها،و لاول مرة تصل شعبية اردوغان الى هذا الحد المنخفض حسب التوقعات وما هو المتاكد مما يمكن ان يحصل لتركيا مابعد الانتخابات وموقف السلطة الاسلامية السياسية والتغييرات المتوقعة في هذه البلاد وتاثيراتها المباشرة داخليا او خالارديا على المنطقة باسرها.

المؤكد من الامر، ان تركيا لم تبق كما هي عليه، سياسيا كما يدلي به كافة المراقبين السياسيين والمنظمات المدنية المتابعة لتركيا وما يجري فيها والتخمينات العلمية لمابعد الانتخابات ونقاط الضعف التي يمكن ان يستغلها من يريد التغيير الايجابي في الوضع التركي سياسيا كمحور رئيسي مؤثر في المنطقة.

النقاط السياسية الاقتصادية الاجتماعية الضعيفة المتاحة للكورد قبل غيرهم لاستغلالها من اجل التوجه الصحيح نحو التغيير الايجابي والوقت المناسب للعمل المأمول في الدور الكبير كم صنع الضغط على التوجهات الشعبية لتحقيق الاهداف الكفيلة لتغيير المجتمع الذي يعاني من ما هو عليه منذ عقود. ولابد ان نقول ان استغلال الكورد لهذا الموقف الضعيف للسلطة التركية في هذا الوقت العصيب والذي يعتبر جانبا مقبولا من البرغماتية المقبولة غير المستغلة لاي نقطة غير مستحقة ولن تكون هناك نتائج سلبية من الخراب الذي يدخل خانة استغلالالامور الانسانية وانما هو شان سياسي في ضمن دائرة متاحة ومقبولة سياسيا .

الجانب الاقتصادي وافرزات الهزة الارضية والواقع السياسي البائس نتيجة استغلال السلطة للبلد وظروفه غير الطبيعية منذ عقود، وعليه انه من حق الكورد قبل غيرهم استغلالها، ليكونوا عامل خير لمصلحة الكونات التركية كافة دون استثناء وقبل المكون الكوردي ايضا. النقطة الاخرى التي يمكن للجميع وخاصة الكورد استغلالها في هذه الاونة هو وجود الضغط العالية حول ما تفرزه كافة المكونات حول المهجٌرين والمشرٌدين واللاجئين السوريين وموقف الشعب التركي بشكل عام حول وجودهم. كما هو الحال، اي النقاط الكبيرة التي توفرت من هذا الجانب في هذا الوقت، انها متاحة لاستغلالها سياسيا بعيدا جدا عن الصفة الاستغلالية واللعب على التضليل، وهي امور سياسية واقتصادية ليس لاي احد ان ينتقد العمل عليها من اجل التغيير ابان الانتخابات، وهي الفبرصة الذهبية للكورد قبل غيرهم لو كانوا كما عاهدناهم اكثر عقلانية من ابناء جلدتهم في كوردستان الجنوبية، وخططوا وعملوا ونفذوا بدقة متناهية وبشكل مناسب جدا للمرحلة كما فعلوا من قبل. فان التغيير بائن ومتأكد وبداية لما يمكن ان يصاحبه تحقيق الاهداف سلميا وابعاد الشر المكبوت الذي تعتمده وتعمل عليه السلطة التركية منذ عهد كمال اتاتورك وقبله العثمانية ايضا. انها الفرصة غير المسبوقة ويجب ان يستغلها الكورد لخير امتهم وخير الشعوب التركية قبلهم ايضا، وانها ايضا الفرصة ان يرمي الشعب سلطة الاسلام السياسي غير المناسب للمرحلة في مزبلة التاريخ ويجد الحرية الديموقراطية الحقيقية والمساواة طريقها السوي.

***

عماد علي

 

 

صدر هذا التقرير تحت عنوان (العراق تقرير المناخ والتنمية) من قبل البنك الدولي ومجموعته المتمثلة بالمؤسسة الدولية للتنمية (IDA) ومؤسسة التمويل الدولية (IFC) ووكالة ضمان الاستثمار (MIGA) في شهر كانون الأول الماضي وهو عبارة عن دراسة مفصلة اعدها واشرف عليها اكثر خمسين باحثاً في تخصصات مختلفة من قبل مجموعة البنك الدولي بالتعاون مع ما يقارب العشرين شخصاً من الجانب العراقي من العاملين في مؤسسات الدولة وخارجها، وتشمل هذه الدراسة ضمن بحث شبه تفصيلي في مجال التنمية والمناخ والماء والزراعة والاستثمار والطاقة مع التطرق الى الملفات المرتبطة كملف النفط والغاز وملف التصحر والتلوث وملف التوظيف والفقر وغيرها من الملفات المرتبطة بالتنمية مع وضع سيناريوهات مختلفة للعقدين القادمين من الزمن وسياسة تنموية للنهوض بالبلد والمبالغ المطلوبة لكل سيناريو وإمكانية توفير المبالغ بأفضل سياسات اقتصادية وتنموية يمكن تبنيها لتحقيق مصلحة والبلد وتطويره وتحقيق مصلحة المواطنين العراقيين في آخر المطاف، هذه الدراسة تجاوزت عدد صفحاتها الثمانين صفحة، ولكن للأسف لم يسلط عليها الضوء الكافي لأنها نشرت في بداية تشكيل حكومة السيد محمد شياع السوداني لذلك سأحاول تسليط الضوء على بعض الفقرات المهمة والصادمة من التقرير مما جلب انتباهي والتي تمثل الواقع المر مع الإشارة الى ارقام الصفحات والتطرق بشكل مختصر للتوصيات المطروحة لأهميتها من دون الدخول في تعقيدات الكثير من الأمور التقنية التي قد لا يستوعبها القارئ الكريم .....

***

محمد توفيق علاوي

........................

فقرات بشأن التنمية والأداء الحكومي

- يعتبر العراق اسوء البلدان في الشرق الأوسط وشمال افريقيا وسجل مستويات قريبة من الدول الهشة مثل سوريا وليبيا واليمن (ص20)

- سجل العراق ادنى المراتب في اربع مؤشرات حوكمة (الفعالية الحكومية، الجودة التنظيمية، سيادة القانون، الحد من الفساد) (ص21)

فقرات بشأن التعليم والتوظيف

- كان النظام التعليمي في سبعينات القرن الماضي افضل نظام تعليمي في المنطقة وفي عام 2017 تم تسجيل 3.2 مليون طفل في سن الدراسة خارج المدرسة (ص19)

- الشباب ينتظرون شغور الوظائف في القطاع العام نظراً لكون الأجور اعلى بنحو 37٪ من الأجور في القطاع الخاص (ص60)

- تعتبر الزراعة على الرغم من انخفاض الدخل فيها مصدراً مهماً للتوظيف وتأمين سبل العيش في العراق لا سيما للنسبة البالغة 29٪ من السكان المقيمين في المناطق الريفية (ص60)

- يشارك نحو 16٪ من العاملين في القطاع الصناعي في الأنشطة المتعلقة بالصناعات الغذائية (ص61)

فقرات بشأن الفقر

- يندرج العراق ضمن الشريحة العليا في البلدان المتوسطة الدخل التي تسجل اعلى مستويات الفقر (ص19)

- من المتوقع ان يبقى الفقر في العراق - وفق خط الفقر الدولي البالغ 3.2 دولار – مستقراً بين عامي 2025 – 2040 في غياب الإصلاحات الهيكلية التي تدعم ديناميكية النمو الأكثر شمولاً (ص57)

فقرات بشأن النفط والغاز

- الموارد غير النفطية في الدول النفطية: العراق هو اقل دولة حيث يتراوح الدخل غير النفطي بين 13٪ الى 30٪ في الدول النفطية الأخرى اما العراق فلم تتجاوز ايراداته غير النفطية 1.4٪ (ص20)

- الغاز المصاحب : العراق يحرق سنوياً 2.5 مليار دولار من الغاز ، ويحرق يومياً 1.7 مليار متر مكعب من الغاز في حين يستورد مليار متر مكعب يومياً في ايران (ص38)

- مشاريع الغاز المصاحب: وضعت مجموعة البنك الدولي دراسة كاملة عام 2018 لانهاء حرق الغاز خلال خمس سنوات؛ ومنح البنك الدولي قرضاً للعراق بقيمة 360 مليون دولار عام 2021، يمكن بكل سهولة تحويل هذه الغازات الى بترول وبلاستك واسمدة وادوية ، ولكن العراق بالإضافة الى هدره للغاز المصاحب استورد منتجات نفطية وبلاستك واسمدة وادوية بمقدار 6 مليار دولار عام 2019 (ص37 / ص38)

فقرات بشأن سياسات تخفيض الكربون في الجو

- [هناك أربعة مسارات انتقالية يجب على العراق التحول لتبني احدها لتقليل نسبة الكربون في الجو (ص53)]، يعد هذا التحول ضرورياً للعراق لسد فجوة العرض والطلب على الكهرباء.... في عالم خالي من الانبعاثات الكربونية، ولكن سوف يؤدي انهيار عائدات النفط الى عدم تمكن العراق في الاستثمار في أي من المسارات الانتقالية (ص54)

- سياسة تخفيض الكربون سيولد طلباً جديداً على العمالة في توليد الطاقة المتجددة، كما يمكن تقديم الحوافز لمساعدة المزارعين الى التحول الى المحاصيل الذكية مناخياً والاصناف التي تتحمل الجفاف وأساليب الإنتاج الأكثر استدامة (ص63)

الآثار الاجتماعية بسبب قلة المياه وقلة استخدام الوقود الاحفوري

- سوف تهاجر المجتمعات المجهدة بالمياه في جنوب العراق بشكل متزايد الى الشمال او الى المدن الكبيرة بحثاً عن سبل عيش مستدامة [مما سيفاقم في تدهور الريف وتشكيل عبئ اكبر على المدن الكبيرة] (ص61)

- بينما يتخلى العالم عن الوقود الاحفوري سيضعف الطلب على صادرات النفط العراقية... هذا يؤدي الى تقليص القطاع العام ويؤدي الى خلق تحديات كبيرة في أي بلد، وهذه التحديات ستكون شديدة في العراق ، وهذا لن يؤدي الى تسريح عمال القطاع العام وقطع المصدر الرئيسي لدخل الاسرة فحسب بل الى الغاء وصول الاسر الى أنظمة الحماية الاجتماعية ايضاً (ص62)

خلاصة الواقع التنموي في العراق والاولويات حسب

رؤى البنك الدولي تتمثل بالحقيقة التالية

العراق دولة ذات حيز مالي ضيق وقدرات محدودة وفجوات تنموية عديدة، من المهم تحديد أولويات التدابير والتدخلات الموصى بها وتسلسلها في الاستجابة لاحتياجات التنمية والمناخ..... (ص68)

التوصيات النهائية

غطت التوصيات النهائية ثمان مجالات أساسية ومهمة بشكل شبه تفصيلي ولكننا سنتناولها بشكل مختصر وهي:

1. سياسات قطاع النفط والغاز لتحقيق عدة اهداف وهي

1) تخفيض الكربون: تقييم السياسات الحالية وتطوير خطة عمل ووضع خارطة طريق واتخاذ إجراءات ملموسة للتصدي للانبعاث

2) تطوير قطاع الغاز: ادخال اطار تنظيمي ورقابي وشفاف مستقل واعتماد آلية شفافة وتنافسية لمنح عقود الاستثمار للقطاع الخاص

3) التعامل مع حرق الغاز الطبيعي: إدخال اطار تمكيني للاستثمار الخاص في خفض حرق الغاز

4) تخفيض انبعاث الميثان: تحسين تقنيات المراقبة مع تحديد اهداف خفض التسرب

5) التقاط الكربون وتخزينه: تطوير استراتيجية وخارطة طريق لالتقاط وتخزين الكربون والتأكد ان محطات الإنتاج العاملة بالغاز التي ستبنى ستكون قادرة على التقاط الكربون وتخزينه

6) الهيدروجين المنخفض الكربون: تطوير استراتيجية وخارطة طريق للهيدروجين المنخفض الكربون

2. سياسات قطاع الكهرباء لتحقيق ما يلي:

1) بيع الطاقة اقليمياً: توسيع اتفاقيات تصدير الطاقة الشمسية في ساعات الذروة واستيراد الطاقة خلال ساعات المساء والليل

2) تطوير شبكات نقل الكهرباء: تطوير الشبكة على مستوى التوزيع مع استخدام الطاقة الكهروضوئية وطاقة الرياح واستخدام العدادات الذكية وجذب الاستثمارات الخاصة

3) التخطيط لقطاع الكهرباء: التجديد على إعطاء دور اكبر للطاقة المتجددة وإعطاء دور لمطوري المشاريع والمستثمرين

3. سياسات قطاع النقل لتحقيق ما يلي:

1) مسائل التخطيط: اعداد استراتيجيات النقل البري المستدام والنقل بالسكك الحديدية مع تطوير الشراكة بين القطاع العام والخاص

2) المسائل القانونية والمؤسسية: مراجعة تشريعات قانون النقل لتمكي المشاركة بين القطاع العام والخاص

3) المسائل المتعلقة بدور الشركات المملوكة للدولة: إصلاحها وتعزيز نهج المراقبة القائم على مؤشرات الأداء الرئيسية

4) المسائل المتعلقة بالبنى التحتية: إعادة تأهيل خطوط السكك الحديدية وبرنامج صيانة للطرق السريعة وتطوير عمليات النقل العام وتحديد المسارات ذات الأولوية للنقل العام كالمترو وقطارات الركاب واستخدام الطاقة المتجددة في السيارات ووسائط النقل الأخرى

4.التغلب على ندرة المياه وتمكين الزراعة الذكية لتحقيق مايلي:

1) البنى التحتية وتحسين فعالية النظام: بناء المرونة لتحمل مخاطر تغير المناخ ونقص المياه باستخدام مياه الصرف الصحي المعالجة وتحسين فعالية السدود والتحكم في الملوحة للمياه السطحية والمياه الجوفية وتحسين شبكات الري

2) الابتكار والتكنولوجيا: باعتماد وتوسيع الزراعة الذكية واستخدام الأصناف المحسنة التي تتحمل الجفاف والحرارة والملوحة وتحسين الأسمدة وإدارة الآفات فضلاً عن تبني سلالات محسنة من المواشي مع تحسين إدارة التربة باستخدام التدابير الكيميائية الحيوية والتحول من الحبوب المنخفضة الإنتاجية الى المحاصيل المرتفعة الربحية مع التركيز على الزراعة الالكترونية والزراعة المائية والزراعة العمودية وتعزيز التقنيات الموفرة للطاقة

3) اهداف مؤسسية: من خلال تحسين تخصيص المياه وكفاءتها وإعادة اهداف السياسات الزراعية والدعم وانشاء برامج حوافز ذكية لتحسين استخدام الأسمدة والمياه والطاقة، وزيادة مشاركة القطاع الخاص بتوفير القروض الميسرة والتمويل الأخضر وتقديم الضمانات الى شركات الصناعات الغذائية، كما انه من المهم التعاون على المستوى الإقليمي من اجل مرونة قطاع المياه وتبادل المعلومات بين البلدان من اجل الوصول الى الإدارة المثلى للبنية التحتية وأنظمة المياه، فضلاً عن ذلك المطلوب تحسين إدارة الاحتياطيات الغذائية (التخزين ، إدارة صوامع الحبوب، الخ)

5.تحول عادل واقتصاد مرن يحتاج الى ما يلي:

1) سياسات العمل: حيث المطلوب توفير حماية سوق العمل قصير الاجل كدعم مؤقت للدخل، كتعويضات نهاية الخدمة او تعويضات البطالة، اما سياسات سوق العمل قصير الاجل فتتمثل بربط العمال بأرباب العمل والتدريب على المهارات الشخصية، اما سياسات العمل طويل الاجل فتتمثل ببرامج تدريبية حول الزراعة الذكية، اما البرامج لتحفيز الطلب على العمالة في القطاع الخاص فتتمثل بالحوافز المالية للاستثمار وتقديم منح للابتكار، اما أنظمة العمل في خلق فرص عمل فتعني وجود مرونة بشأن العقود المؤقتة

2) سياسات الدعم: وتشمل سياسات التنمية طويلة المدى لرأس المال البشري ويتمثل ذلك بإصلاح المناهج الدراسية في بناء المهارات في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات وفي جميع التخصصات الاكاديمية فضلاً عن الوعي البيئي في التعليم الابتدائي، ويشمل ايضاً تمويل تحولي خاضع للمحاسبة لتتبع تمويل المناخ وتحسين اعداد التقارير، كما يشمل برامج لتحفيز الطلب على العمالة في القطاع الخاص كحوافز مالية للاستثمار ومنح للابتكار وحوافز للشراكة والتوجيه، كما يجب وضع قواعد اكثر مرونة بشأن العقود المؤقتة

3) مبدأ الحوار: وتتمثل بقيام الحكومة بدعوة الأطراف المعنية بالطاقة الخضراء والتداعيات السلبية للتغيرات المناخية والاستفادة من تحليلات الاستدامة الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص والنقابات العمالية والبرلمانيين والمجتمعات النسائية والقادة الدينيين والطلاب، وفي المناطق التي ستتأثر بالتحول سيكون من الضروري تعزيز التكيف المحلي ومرونة المجتمعات

6. الاستثمار في رأس المال الطبيعي وهذا يحتاج الى مايلي:

1)القياس والمراقبة: ويتمثل بقياس الثروة ومراقبتها بالتوازي مع الناتج المحلي الإجمالي وهو ما يسمح لوزارة المالية بفهم دور رأس المال الطبيعي في النمو الوطني

2) الاستثمار: وهو الاستثمار في الموارد الطبيعية المستدامة حيث يجب على الحكومة توفير الظروف المؤاتية للاستثمارات المستدامة للقطاع الخاص والتي تعتمد على الموارد الطبيعية كالزراعة والغابات والمياه والسياحة

3) سياسات القيمة المضافة : يجب انشاء حوافز سياسية لدعم الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية مع تقليل الآثار السلبية الخارجية لحماية وزيادة قيمة الثروة الطبيعية

7. ضمان مدن اكثر خضرة ومرونة وهذا يتطلب ما يلي:

1) اصلاح سياسة التخطيط الوطني: ويتمثل بتطوير دليل شامل للتخطيط الوطني حول مرونة المناخ، حيث يتطلب وضع رؤية ومبادئ توجيهية للتنمية العمرانية لكل مدينة ومركز حضري،

2) تطوير بنية تحتية ذكية مناخياً: حيث يجب دعم البنى التحتية التي تعالج المخاطر المناخية والبيئية، وتبني الحلول وخارطة طريق مستندة الى الطبيعة وتعزيز تدخلات الخدمات البلدية التشاركية

3) تعزيز القدرة المؤسساتية والمحاسبة: حيث يجب ان يتوفر دعم الحكومات المحلية والمركزية لتنفيذ أولويات السياسة الوطنية ومراجعة بيئة منح التراخيص على كافة المستويات، كما يجب تعزيز مشاركة القطاع الخاص وتقديم منح للابتكار والشراكة مع القطاع الخاص وتقديم الحوافز الداعمة لتعبئة التمويل الأخضر...

4) إدارة حضرية ذكية وخضراء: وهذا يتطلب الاستخدام المستدام للأراضي الحضرية وبالتالي يتطلب تحديث أنظمة التخطيط والبناء لتعزيز كفاءة استخدام الأراضي، كما يجب تبني نموذج نقل حضري فعال مستدام وشمولي وميسور التكلفة

5) الاقتصاد الدائري والخدمات البلدية: حيث يتطلب توفير الارشادات لتقديم خدمات البنية التحتية الحضرية للتحول الى بيئة منخفضة الكربون

6) بناء قدرة مؤسسية للمحافظات والبلديات: وهذا يتطلب تنفيذ الحلول التكنولوجية لكفاءة الطاقة والموارد كما يتطلب الاستفادة من الأنظمة الرقمية لإدارة مخاطر الكوارث، ومن اهم العناصر في هذا المجال هو اشراك الشركاء المانحين الخارجيين لتعبئة التمويل الأخضر

8.تخضير التمويل وتمكين القطاع الخاص وهذا يتطلب مايلي:

1) التقييم المؤسسي: حيث يشمل قياس نقاط الضعف المنهجية على البنك المركزي وتقييم شامل للقطاعات المعرضة للمخاطر المتعلقة بالمناخ، ومن ضمنها الأصول غير القابلة للاسترداد والفجوات التكنولوجية، كما انه من المفيد للبنك المركزي ان يدعم التمويل الأخضر لبناء نظام صديق للمناخ

2) الدعم التنظيمي: ويشمل تطوير «التصنيف الأخضر» الذي يساهم بالدفع باتجاه الاستثمارات الخضراء وتعزيز المشاريع الصديقة المستدامة، كما يتطلب ادخال «التيسير الكمي الأخضر» لتقليل التمويل العام للصناعات كثيفة الكربون وبالمقابل يقوم البنك بتوفير التيسير النقدي نحو المناخ كالسندات الخضراء وسندات المناخ وغيرها، كما انه من المفيد في نفس الوقت تطوير اطار «للتمويل الأخضر» في دعم التكنولوجيا الخضراء، وانشاء حوافز مالية في مجالات دعم استثمارات الزراعة الذكية مناخياً وإدخال البذور الجديدة وغيرها من الاستثمارات الذكية مناخياً

3) تعبئة رأس المال الخاص: وذلك بخفض المخاطر امام استثمارات القطاع الخاص، عبر اصدار الشهادات الخضراء التي ستسمح للمستثمرين في المشاريع الخضراء بسداد جزء من قروضهم عبر استخدام هذه الشهادات بالتنسيق مع البنك المركزي، كما انه من الطبيعي تعبئة التمويل الدولي مثل صندوق المناخ الأخضر GCF لتسخير الموارد وبناء القدرات ودعم الاستثمار في الطاقة المتجددة ، كما انه من المفيد تطوير نظام بيئي صديق للبيئة وذلك ببناء دعم تمويلي للعرض بشكل استباقي من خلال تخضير القطاع المصرفي وجذب المستثمرين نحو المشاريع الخضراء خلال فترة 2022 – 2030 وزيادة وعي القطاع الخاص ورغبته في التحول الى المشاريع الخضراء

4) تخطيط السياسات : حيث من المفيد ان تضع الحكومة استراتيجية لتغيير المناخ تدمج جميع القطاعات المعرضة للخطر وخطة عمل متكاملة للتخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معها، وتوضيح أدوار مختلف الأطراف المعنية الرئيسية بما فيها القطاع الخاص، كما انه من المفيد اطلاق حوار بين القطاعين العام والخاص لتبادل المعلومات ورفع مستوى الوعي حول السياسات المرتبطة بالتغيير الحالي، وكذلك تعزيز تنسيق التدخل في مجال تغير المناخ بشكل اكثر فاعلية .....

 

ما اكتبه هنا يمكن ان يشكل منهجا يدرس ضمن مفهوم الاخلاق التطبيقية، وانا هنا اضيف فرعا جديدا لمفهوم الاخلاق التطبيقية، التي تعالج الفكر والفلسفة مع مفاهيم البواتيقيا والجانب الالكتروني والاعلام والاقتصاد والبيئة …الخ .

١- يمكن وصف اهل القضية بعفن التاريخ، ولا يختلفون عن الما… س… ونية، فكلاهما يسير كالفطريات التي تقتل كل حياة بمنهج نفعي ذاتي، يحاول السيطرة وتخريب الحقائق .

٢- الوهم الذي يعيشه هؤلاء، والذي لا يستند الى منطق او برهان هو وهم خطابي او تلفيقي، فهم هنا يتشابهون مع الخوارج في التاويل، والاستمرار في الوهم .

٣- مثل هؤلاء هم احد اهم ادوات الشيطان الذي يرافق البشرية الى نهايتها، فقد ظهر الشيطان (ابو مرة ) (وهو صديق مقرب من العديد من الجماعات والافراد الذي يطاوعونه مرغمين)ي تدخل بشكل استراتيجي في اهم الاحداث التاريخية الاجتماعية، فهو العراب لابن نوح، والحاث على موقف السالب ضد ابراهيم وابنه عند الذبح، والمنسق لاخفاقات السامري زمن الخليل ابراهيم، والمؤلب على رسول الكون والانسانية، وكل اخفاقات الجماعات حتى الذين يقتلون من اجل السلطة، بالامس واليوم، فانها باخراج مباشر من الشيطان، ولا شك لدي بان اصحاب القضية هي انتاجشيطاني، لزعزعة ايمان المجتمعات المؤمنة، والا فانه لا ينمو في مجتمع لا مبدا فيه .

٤- يمكننا عند تصورهم عند الموهومين في التاريخ، فهم مصاصي دماء الحقيقة واكلة لحوم النقاء الانساني، هويتهم ضيقة وذاتية جدا، فكانهم حين يكرسون حياتهم، لوهم خلقوه، كانهمي عبدون هذا الوهم بدلا من الله، وهذا التقنين وتضييق وحصر الحقيقة، انما هو شيء خلاف رحمة الله الذي كتب على نفسه الرحمة، والذي اراد ان نتقي النار ولو بشق تمرة .

٥- هم غير واقعيين، وثقافتهم محدودة، ومترفعين، وسفسطائين، اذا دخلوا قرية افسدوها باوهامهم، وهم عشاق لذواتهم، ومرضى نفسيين بحاجة الى مصحة فكرية وهي دعوة لدمجالطب بالفكر في تنمية لمفهوم الاخلاق الطبية، فلا بارك الله بهم ولهم وفيهم ان لم يتوبوا .

***

ا. د. رحيم الساعدي

 

سعت الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط ووراثة النفوذ البريطاني والفرنسي الذي تجلى في اتفاقية سايكس- بيكو1916 خلال الحرب العالمية الأولى، وخلال الحرب الباردة وما بعدها كان الشرق الأوسط وكأنه منطقة نفوذ أمريكية بالرغم من بعض الاختراقات التي حققها الاتحاد السوفيتي في بعض الدول، وما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي جاء المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد ثم الكبير (2004-2006) في عهد أوباما ليوظف تراجع النفوذ السوفييتي و لتأكيد الهيمنة الأمريكي وبناء شرق أوسط جديد تشارك في إسرائيل، إلا أن هناك مؤشرات أن هذا للمخطط آخذ بالأفول مع حرب أوكرانيا وتداعياتها وتزايد النفوذ الروسي والصيني ثم مع توقيع الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية . 

ففي مقال نشرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية قال الكاتب ديفيد اغناتيوس أن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق قال له بعد توقيع الاتفاق الإيراني السعودي برعاية صينية: "إنني أرى أنه تغيير جوهري في الوضع الاستراتيجي في الشرق الأوسط." وأن الاتفاق السعودي الإيراني مؤشر على تحولات استراتيجية في الشرق الأوسط ستحوله من منطقة نفوذ أمريكي إلى شرق أوسط متعدد الأقطاب.

كلام كيسنجر ينسجم مع ما تشهده المنطقة من تحولات وأحداث وأجواء انفراجات بين دول المنطقة لتصفية الإرث الدامي لفوضى ما يسمى الربيع العربي الذي هندسته ورعته واشنطن، بدأت بمصالحات بين دول مجلس التعاون الخليجي ثم بينها وبين سوريا، أيضا تقارب وحوارات بين سوريا وتركيا وإيران، وبين تركيا ومصر وبين مصر وسوريا مع زيارة وزير الخارجية السوري لمصر، وأخيرا بدء مفاوضات برعاية عُمانية لحل الأمة اليمنية، مع حضور يتزايد للصين وروسيا في المنطقة، فهل سيشكل هذا الاتفاق نقطة فاصلة ومنعطفا في مسار الشرق الأوسط؟

عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين الذي تم التوصل اليه في بكين يوم الجمعة الموافق العاشر من شهر مارس بقدر ما كان مفاجئا وخصوصا بعد توقف مفاوضات سابقة في العراق وعُمان وجد ترحيبا كبيرا من دول المنطقة ومن غالبية دول العالم المعنية بمنطقة الشرق الأوسط مع تخوفات إسرائيلية وحالة ترقب وارباك من واشنطن،

الاتفاق تضمن العديد من البنود الأمنية والسياسية والاقتصادية والتي تحتاج لوقت طويل لإنجازها، ولكن مجرد التوصل للاتفاق يرهص بتحولات ويخلق رهانات في المجالات التالية:

1- التخفيف من حدة الصراعات المذهبية في المنطقة وخصوصا بين الشيعة والسنة والتي كانت توظفها واشنطن لتفتيت الدولة الوطنية وإثارة الحروب الأهلية، وخصوصا الصراعات والحروب الأهلية في اليمن وسوريا ولبنان، فغالبية صراعات المنطقة مرتبطة بالخلافات الطائفية والسياسية بين أهم دولتين في المنطقة منذ الثورة الإيرانية عام 1979.

2- ربما يؤدي لكبح جماح التطبيع الإسرائيلي مع دول المنطقة لأن جزءا من مبررات دولة الإمارات العربية والبحرين لتطبيعها هو الخوف من الخطر الإيراني.

3- تراجع الدور المهيمن لواشنطن والغرب في المنطقة ونهاية المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير الذي كانت واشنطن من خلاله تريد إعادة تشكيل المنطقة بما يسمح بدمج إسرائيل فيها.

4- تراجع نفوذ واشنطن سيؤدي لتراجع دورها في حل نزاعات الشرق الأوسط وخصوصا التسوية السياسية للقضية الفلسطينية

5- تزايد النفوذ والتواجد الصيني والروسي يبشر بشرق أوسط متعدد الأقطاب ومتوازن في علاقاته مع الأقطاب الدولية.

6- أما بالنسبة للصراع مع الكيان الصهيوني وحيث إن إيران والسعودية معارضتان للتطبيع لذا من الممكن أن يشكل الاتفاق سدا في وجه التطبيع، كما أنه من المعروف أن إيران تدعم فصائل المقاومة الفلسطينية وتمدها بالسلاح وخصوصا حركة حماس بينما تصنف السعودية الحركة بأنها تنظيم إرهابي، فنأمل أن عودة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين تؤدي للتخفيف من التوتر في الساحة الفلسطينية.

ومع ذلك سيكون من السابق لأوانه الجزم بأن التقارب السعودي الإيراني بوساطة صينية قادر لوحده على إحداث تغيير استراتيجي في المنطقة لأسباب متعددة:

1- الدولتان ليسنا الفاعلين الوحيدين في سياسات المنطقة وواشنطن وتل أبيب ستعملان على وضع عقبات أمام التقارب بين إيران ودول المنطقة وبين روسيا والصين من جانب ودول الخليج من جانب آخر.

2- من السابق لأوانه المراهنة على تحول استراتيجي سريع في علاقة السعودية ودول الخليج العربي مع الغرب وتوجهها نحو الصين وروسيا حيث كل دول الخليج تحتضن قواعد أمريكية وغربية وتربطها بالغرب اتفاقيات أمنية وبعضها مرتبط باتفاقيات أمنية مع الكيان الصهيوني،

3- واشنطن لن تستسلم بسهولة لأنها تعرف أن من يتحكم في منطقة الشرق الأوسط ستتعزز قدراته في التحكم والسيطرة عالميا نظرا للموقع الاستراتيجي للمنطقة وما تختزنه من ثروات.، ولذا عززت تواجدها في المنطقة بعد توقيع الاتفاق بإرسالها في أبريل الجاري الغواصة "يو إس إس فلوريدا" التي تحمل أسلحة نووية للمنطقة كتهديد غير مباشر للدول التي تعتقد أن زمن واشنطن ولى إلى غير رجعة.

4- بعض الأطراف السنية ستشعر بالقلق وتتخوف من تراجع الدعم السعودي لها وقد تلجأ الى حلفاء آخرين غير السعودية.

5- مستقبل الشرق الأوسط وفي قلبه الدول العربية ومدى قدرته على التحرر من الهيمنة الخارجية مرتبط بقدرة الدول العربية على استعادة التضامن العربي وتفعيل النظام الإقليمي العربي واستعادة سوريا للصف العربي.

6- ما ستؤول اليه الأمور في الشرق الأوسط سيتأثر بتداعيات وبنتائج الحرب بين روسيا والغرب في أوكرانيا، واحتمال اندلاع حرب عالمية سيضع منطقة الشرق الأوسط في آتون هذه الحرب ويفرض عليها استحقاقات غير محمودة.

***

د. إبراهيم ابراش

 

(كون هذا العالم أصبح سخيفًا هو عمل الفلاسفة والإنسانيين، فماذا هم فاعلون؟ ولكن إذا كان هذا يستحيل، فهو عملنا أجمعين).. المفكر الفرنسي: جيلبرت سيسبرون Gilbert Cesbron

(أعيد تشكيل الأسطورة الإنسانية عن الإنسان الخارق في قلب الأنثروبولوجيا، واتخذت المعارضة (الطبيعة / الثقافة) شكل نموذج (أو باراديغم جديد للإنسانية)، أي نموذج مفاهيمي (جديد مشوه) يسيطر على جميع خطابات الأنثروبولوجيا المعاصرة)...  إدغار مورين/مؤسس " علم الأزمات"Crisologie

الإنسانية المزيفة اليوم، أصبحت مهزلة للناظرين، وعلى العاقلين ألا يهدروا وقتهم في محاولة التفكير مع الشياطين المتلبسين في الشكل البشري، فالبشر كلهم منغمسون منذ عقود في عوالمهم " العبثية- القرمزية "، بعد أن تم غسل أدمغتهم بالكامل، فتحولت البشرية إلى مجرد صعاليك متسيبة وأشباح مترنحة!

العالم اليوم كله في حالة فوضى -إما بالتطوح والتيه أوبالحروب.! ما تبقى من البشر الحقيقيين الذين لا تزال لديهم عقول نظيرة، وأرواح صافية، يناضلون في دواخلهم ومن حولهم، من أجل رفض الوحوش التي تتلاعب بهم!

لقد استغرق الأمرلكثير من الوقت لمعرفة ذلك، لكن الحقيقة تبرز في النهاية في أذهان كل من لديهم القليل من الحس النقدي السليم والفطرة النقية!

ومهما أجلت نظراتك فيما حولك وما خلفك، فسيخاطبك عقلك بأنه لا يوجد شيء إيجابي يبدو في الأفق القريب أو البعيد، يمكن توقعه من البشرية الحالية!

السلبية الجماعية الكونية، والهيمنة الثقافية للنخبة المصطفاة للأوليغارشية العولمية القهارة، تتلاعب بمجتمعات مستهبلة ومتعادية، في سط عالم رمادي لا أمل فيه!

بالنسبة لأولئك الذين لديهم شعلة مثالية بداخلهم وما يزالون يقدسون" المثال الغربي"الذي إنهار، من السهل أن ينظروا إلى الوضع الحالي للمجتمع الغربي والعالمي ليتشبعوا بالإحباط ويفقدون الأمل.

فبات الإعتقاد بأن كل شيء أصبح متعفنًا وفاسدًا بشكل لا رجعة فيه! وتلك هي القاعدة! لأن كل شيء قد ضاع، وأن الأمر لا يستحق حتى توهم أن الوضع يمكن أن يتغير. الجماهير ضد الجماهير! والجماهير ضد النخب! والنخب تستهين وتحتقر الجماهير!الكل ضد الكل..!

الغرب الذي ضل فنار البشرية لقرون، قد أعلنها حربا على الإنسانية منذ الزمن السرمدي قبل ظهور الديانات الثلاثة، عندما فرض على البشرية أن تتبني "قيمه العليا" الوليدة لأثينا العظيمة وروما التليدة، وأرشاليم الخالدة، لخصها الغرب لنا منذ نهاية القرن التاسع عشر، حين بدأت منقباته الكولونيالية في "مسيرتها الحضارية "، في تدمير البشرية باسم " عبء الرجل الأبيض" -لجول فيري الفرنسي- من أجل تحضير الهمج!.لخصها لنا الغرب" الغروبي"-حسب تعبير مارتن هايدغر: في قواميسه المعرفية بأنها: " التقاليد (الإغريقية -الرومانية)، والقيم (الروحية المسيحية-اليهودية) "وما على كافة الثقافات والحضارات إلا أن تنزوي مذمومة ومندحرة عن الأنظار، أوأن تندثرفي الرمال وأن تبتلعها مياه المحيطات والبحار!!

الغرب المخادع والمتجبر- في أنظومته المتطورة الحالية المتمثلة في الصيغة الأطلسية -، تركت العديد من الحيارى في هذا الغرب العبثي، يعيشون في حالات الصدمة والتقزز والإشمئزاز، في بلاد"الأنوار والتنوير والرفاه والديموقراطية وحقوق الإنسان "- كقيم مهدارة، وإصطخابية كاذبة –

ولكي نبقى في اللحظات الراهنة -حتى لا نغوص في تاريخ هذا الغرب الإدعائي المهدار والمتقلب الغدار-!تتجلى لنا على الميدان، حروب تحدث اليوم، ما تزال مستمرة في سوريا، وإشتعلت منذ زمن قصيرفي أوكرانيا، وجرائم تتكرر لحاقا في الأراضي المحتلة، تمارس على فترات متقطعة، يطبق فيها العدو الغدارفي الأراضي المحتلة، لعبة" التنقيط في الري الفلاحي": "قطرة ـقطرة "، أو خطة"الجرعات التلقيحية " المقننة والمحسوبة، لكي لا يطمئن الفلسطينيون إطلاقا على حياتهم أو يركنون إلى يقينياتهم!ولكي ينبه الساسة العرب المستعصين عن التدجين، بان الصهيونية ما تزال هاهنا قائمة إلى يوم القيامة! فإما أن تُطِّبعوا بالكامل! أو نسحق في المرة تلو المرة، بضع مئات من المصلين في حرم القدس الشريف!، أو ندمر بيوتا في الضفة والخليل، ونقتل آلافا من الأبرياء في غزة!لأن البشرية جمعاء تحت قيادتهم، والمثقفون في الغرب تحت توجيهاتهم، والشعوب العربية خنوعة ومستكبشة، ومعظم حكامهم لا ينفعون لا في العيرولا في النفير!والعالم بأسره مثل الخاتم في أصبعهم يحركونه كيف ومتى يشاؤون! وسحقا للإنسانية!

وهكذا يتبين لنا داخل الأراضي المحتلة بفلسطين، الوجه الحقيقي للوحوش التي نتعامل معها في العالمين: العربي والغربي، حيث أصبح الفسطينيون هم رمز الإنسانية الحقة التي تفضح كل الأطروحات الفكرانية والفلسفات المزيفة لما يسمى ب: " الإنسانوية"Huamnisme كنظريات" إنسانوية" لعصر" النهضة الغربية" كبديل للدين ومن أجل " قيم جديدة" تطورت تطورا (سويولوجيا-دارورينيا) لتوصل البشرية إلى ما عليه الآن من خلط وخبط وتتطوح ومهاوي (وهذا جانب تفصيلي)

فأنصح الفسلطيننين بالاستعداد عقلياً وجسدياً وروحياً للحر وب الصهيونية المستمرة والمتنوعة التي لن تنتهي، وليفهم العرب اللاهون والمستغفلون، أن الحروب الغربية لن تتوقف إلى آخر إنسان واقف على الجغرافية العربية، تثبيتا لقيمه، وحفاظا وحماية لأمن ابنته الشرعية المدللة " إسرائيل! ومن سيصطلي بلظى لهيب هذه الحروب؟ الفلسطينيون!! فهل وعى المطبعون هذه المسلمة ؟ لاأظن!! .ولأن المغفلين لن يستعبوا هذه المسلمة، بل هم مولعون فقط بمتابعة أفلام "سياسة الخيال العلمي" المبثوثة على " نيتفليكس " المشبوهة!

ناتانياهو يخطط لإبادة كل الفلسطينيين، وبايدن يحلم بإبادة كل أوكراني وكل أوروبي أجل النخبة النازية-الصهيونية الحاكمة في كييف! وماكرون صبي أبناك روتشيلد يدمر بلده من الداخل ويمارس العهر السياسي لمن يدفع أكثر ويدافع عنه للحفاظ على كرسيه

والغرب لن يستسلم، بل يخطط لأشكال جديدة من الحروب المتشكلة، والتي ستكون كلها قاسية ورهيبة ووحشية، وستكون على منطقتنا. فكيف ذلك؟

-العدو الصهيوني -صنيعة الغرب) الماسوني – التلمودي – القبالي): يسيطر على معظم القرارات السيادية العربية إن في السر أو في الجهر. وأي عربي لم يكتشف هذا الأمر، فهو إما غبي مأفون؟ أومحتال أفاق أو مُطبٍّع زنيم!

-تحت ترشيد الغرب للبشرية منذ نهضته وحداثته وما بعد حداثته وما بعد كل أطروحاته لما ما قبل، ولما كل" الما بعد " الحالية والقادمة "، فإنا نعيش في عالم تغيرت فيه كل المعايير السليمة وانعكست فيه كل القيم الفطرية وانقلبت فيه كل المبادئ السامية الإنسانية ليجبرنا هذا الغرب المدلس، على قبول كل ما يعطي الوهم بالسعادة. حيث البحث عن الحقيقة صعب، والتعبير عنها ينطوي على خطر التحقيرو الاستبعا، بل وللإبادة.

فليتدكتر المتدكترون عندنا في التفلسف، وفي سائر علوم الأناسة، ما شاء لهم التدكترفي الدندنة والترطين والإقتباس!

لكن الوقائع على الأرض هي التي تشكل الحقائق، والباقي مجرد دردشة!

الحقائق المقروءة أو المكتوبة أو المسموعة هي اكاذيب اعلامية لتبرير البلطجية الغربية والترويج للتدمير بالحروب!

الكيان الصهيوني لن يتغير بالحوار، والحوار في نظر الغرب والكيان هو شِرعة الجبناء واللقطاء!

الغرب ووليده الصهيوني لا يفهمان سوى لغة القوة -وهذا ما فهمه باليقين الروس والصينيون والإيرانيون.

المطبعون العرب لن يفهموا، لأنهم لا سيادة لهم على قرارتهم، وحتى وإن تراجع بعضهم -تاكتيا وبراغماتيا- فلا يوثق بهم!- لقول عنترة العبسي:

وَمَن يِكُن عَبدَ قَومٍ لا يُخالِفُهُم*إِذا جَفوهُ وَيَستَرضي إِذا عَتَبوا!

والكلب لا يغير طريقة جلوسه أو نباحه! والكلاب لاتلد القطط! ولا القطط تلد الكلاب! والكلب كلب ولو بين الأشبال رُبٍّي! ولو أنني لست ضد الكلاب، فهم أكثر وفاء من بني البشر!

الغرب لن يُولٍّد قط السلام! ولا الصهيونية ستفهم لغة الحوار المتمدين؟

ونفس الأسباب تؤدي إلى نفس التأثيرات..

***

د. الطيب بيتي - من باريس

 

اعتاد الإعلام بكل صوره أن يتحدث عن العلاقات المصرية السودانية بشئ من الرومانسية الحالمة التى تعطى أبعاداً وردية وطموحات عظيمة نتمناها على أرض الواقع.. غير أن تلك الصورة غير مكتملة وتكمن خلفها معوقات تحول دون تحقيق هذه الصورة بشكلها المكتمل المأمول.

لا أحب الخوض فى تفاصيل تلك المشكلات لأننى أفضل التركيز على نقاط التلاقى وزوايا التفاوض وتحقيق الفرص المتاحة للطرفين من أجل الوصول لحالة لطالما عبرنا عنها بمصطلح "التكامل" بين البلدين، وهى نغمة نحب أن نعزف عليها دون أن يكون لها صدى حقيقي على الأرض بسبب المعوقات التى يعلمها الطرفان ويدركانها جيداً .. والمفترض قبل تحقيق مثل هذا التكامل المرجو أن يتم تصفير أية خلافات أو حساسيات من شأنها أن تعرقل خطوات التكامل الاقتصادى والسياسي على مختلف المستويات. 

التكامل.. تمهيد دون تنفيذ!

لا يختلف أحد سواء من الجانب السودانى أو المصري أن العلاقات بين البلدين تاريخية وعميقة ولها جذور أشد رسوخاً من الجبال. لكن على الرغم من متانة تلك العلاقات ما زلنا لم نصل لحالة التكامل المطلوبة حتى بعد أن مهدنا الأرض تماماً لها .. وهذا غريب..

منذ العام 2004 تم الاتفاق بين البلدين الشقيقين على مبدأ الحريات الأربعة : حرية التنقل والإقامة والامتلاك والتجارة. هذا المبدأ رغم أنه أثمر تدفقاً للأخوة السودانيين إلى مصر. هؤلاء الذين وجدوا فيها وطناً ثانياً لهم واستقروا بها حتى وصل عددهم اليوم إلى أكثر من 8 ملايين سودانى مقيمين إقامة دائمة فى مصر يعملون ويتاجرون ويمتلكون ويستثمرون .. بينما الهجرة العكسية من مصر إلى السودان والاستثمار التبادلى أقل كثيراً من المتوقع لأسباب كثيرة..

مصر والسودان كلتاهما عضو فى الاتفاقيات التجارية الإفريقية الكبري كاتفاقية التجارة الحرة العربية والإفريقية وتجمع الكوميسا. وخلال الفترة الأخيرة نشطت الزيارات الدبلوماسية على كل المستويات بين البلدين. فلماذا لم يتم بعد الإسراع بوتيرة المسير نحو تحقيق التكامل الاقتصادى بين البلدين حتى اليوم؟ لا يزال جدار الرواسب التاريخية يحول دون التنفيذ .. ولهذا تظل الاتفاقيات وتظل النوايا الحسنة حبيسة الأدراج تنتظر التفعيل .. وهو ما يطلبه الجانبان ويسعون إليه معاً..ولو تساءلت مستهجنا ومتعجباً من السبب الحقيقي وراء هذا اللغز سوف أجيبك: فتش عن أعداء البلدين..

الحريات الأربعة حققت مليار دولار

منذ نحو عشرين عاماً ومنذ تم الاتفاق على مبدأ الحريات الأربعة وجدت الاتفاقية نفسها أمام عراقيل بيروقراطية ودبلوماسية مما أفقدها كثيراً من فاعليتها .. وفي يونيو 2014م بعد تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي رئاسة الجمهورية ناقش البلدان سبل تفعيل اتفاق الحريات الأربع بين البلدين وتم رفع تمثيل اللجنة المشتركة بين البلدين إلي المستوي الرئاسي لتجتمع مرة في القاهرة ومرة في الخرطوم ، وفي عام 2015م تم افتتاح أحدث المشروعات المشتركة التي تم تدشينها بين البلدين ألا وهو مشروع ميناء قسطل – أشكيت البري، ويعد الميناء بمثابة أهم بوابة مصرية تطل على إفريقيا حيث أسهم في إحداث نقلة كبيرة في حركة التجارة والاستثمار بين مصر من جانب والسودان والقارة الأفريقية من جانب آخر وذلك من خلال تنمية حركة الصادرات والواردات للبضائع والثروة الحيوانية وتنشيط حركة المسافرين .

هكذا أخيراً تم إنشاء ممر أو منفذ بري تجارى دائم تدفقت من خلاله دماء الحياة التجارية بين الشقيقتين واتسع الممر ليتحول إلى شريان يغذى البلدين وتضاعف حجم التجارة ليزيد اليوم بشقيه الرسمى والشعبي إلى ما يناهز مليار ونصف مليار دولار.. ناهيك عن الاستثمارات والأصول والشركات المصرية التى تم إنشاؤها فى قلب السودان بما يزيد عن ثلاثة مليارات دولار!

لك أن تتخيل أن مثل هذه الإنجازات الهائلة تحققت من مجرد تفعيل جزئى لمبدأ الحريات الأربعة الذى تم إهماله وإغفاله نحو عشر سنوات قبل أن يعاد تفعيله! فماذا لو تم توسيع نطاق الاتفاقيات إلى آفاق أكبر وأعمق بعد تصفية الأجواء ومنع فرص التصادم والاختلاف أو تحجيمها؟ لاشك أن الفوائد ستكون أكبر كثيراً مما نتخيل..لاسيما وأننا الآن بصدد قضية تمثل لمصر والسودان هدفاً وجودياً وهى قضية سد النهضة..

أين السودان من قضية السد؟

الخلافات التاريخية النائمة بين مصر والسودان استطاعت بعض القوى المعادية التى لا تخفى على أحد أن توقظها ثم تهيجها لتوسيع دوائر الخلاف بين أشقاء الجوار. وقد ازداد هذا الخلاف بعد أن أفصح الجانب السودانى عن موقف مخالف للموقف المصري تجاه السد..

لقد تم تضليل الجانب السودانى من البداية بإقناعه أن سد النهضة مفيد للسودان ويحقق له مصالح عدة. ولأن الدراسات الفنية المتعمقة كانت غائبة عن ذهن صانع القرار فى السودان فإن اتجاهه الأولى كان يصب فى صالح تشجيع بناء السد بلا أية تحفظات. مثل هذا الموقف المنافى لموقفنا أضعف نتائج المفاوضات مع الجانب الإثيوبى .. وحتى بعد تفاهمات واشنطن التى قربت وجهة النظر المصرية من صناع القرار فى السودان، ظل الموقف السودانى مذبذباً لا يتسم بالاستقرار. وكان واضحاً أن ثمة أطراف خارجية مؤثرة تريد فصل مصر عن السودان سياسياً وبالتالى اقتصادياً ، وهو ما يعنى انهيار كافة المجهودات التى تمت وما زالت تتم لمحاولة إحداث علاقة تكامل بين البلدين.

الانطلاق من نقطة المنتهى

ما زالت الفرصة متاحة للطرفين أن يصلا معاً إلى ما يصبوان إليه من تحقيق مصلحة مشتركة تؤدى بهما لمستوى يجعل منهما معاً قوة كبري. بدلاً من تلك التفرقة المصطنعة التى تضعفهما معاً بفعل فاعل..

القضايا المثارة كنقاط خلاف كلها قابلة للنقاش والحل. ولابد ألا يتم تجاهلها وتسويف حلها ؛ لأن فى هذا ضرر للبلدين وتأخير لقطف ثمار اتفاقيات ومجهودات تمت على مدار سنوات سابقة. خاصة و أن الجانبين يدركان حجم التحديات التى تمر بها المنطقة بأسرها والتحولات العالمية والإقليمية والتى تفرض تقارباً حتمياً لمواجهتها بشكل حاسم وقوى بدلاً من المماطلة فى حل القضايا وإغفال ما يحاك لنا من مكائد يرسمها أعداؤنا لتوسيع مدى الخلافات وتعميقها ضد مصلحة البلدين.

نستطيع أن نبدأ مما انتهينا إليه ونبنى عليه.. نحن حققنا طفرة فى التعاملات الاقتصادية والتجارية بين البلدين خلال السنوات الأخيرة. وعلينا توسعة مجال تلك المعاملات. لقد أعدنا تفعيل مبدأ الحريات الأربعة بشكل جزئى فلماذا لا نفعله بشكل كامل حتى يشمل النفع جميع فئات المجتمعين والشعبين؟ هناك فرص ما زالت متاحة وواسعة لتقوية أواصر العلاقات بين البلدين، لكننا فى حاجة ماسة لتسريع وتيرة عمليات مكافحة الضغائن وإزالة الألغام النفسية التى تركتها قوى خارجية لا تريد الخير للبلدين.

نحن نريد..هم يريدون

مصر لديها خبرات عظيمة وأيدى عاملة ماهرة متعطشة للعمل .. والسودان لديها ملايين الهكتارات من المراعى والغابات البكر بالإضافة لثروة حيوانية هائلة.. مصر تستطيع تفعيل وتوسيع مجالات التعاون والمشاركة الاقتصادية فى مجالات استثمارية عديدة مع السودان بمبادرة منها وتحت مبدأ "الربح للجميع" وأن يتم تحقيق مصلحة الجانبين. وتحت مبدأ أهم وأسبق هو تجاوز الخلافات والترفع عن جعلها عائقاً دون الوصول إلى ما نطمح إليه من أهداف مشتركة..

لم تعد العلاقات المصرية السودانية ترفاً إعلامياً نتناوله فى صحافتنا أياماً ثم ننساه ، بل صارت علاقة مصيرية استراتيجية لكلا البلدين، وعلينا تكثيف مجهوداتنا لتقوية تلك العلاقات إلى أبعد حد ممكن.

***

عبد السلام فاروق

 

وجدتها مناسبة، والعِراق يدخل عشرينه (2003-2023)، وقد أنسته الحروب والحصارات وانتهاك العابثين طعم الشَّباب، لأتصفح ما احتفظتُ به مِن صحافة لأكثر مِن أربعين عاماً، مِن صحف النِّظام ومعارضته. خرجتُ واهماً شاكاً بالقدرة على استيعاب ما جرى ويجري. كان فيها العراقي الحائر «فتارة ينزل تحت الثَّرى/ وتارة وسط السَّما يرتقي/ وتارة يبصر في مغرب/ وتارة يبصرُ في مشرق» (النُّويري، نهاية الأرب).

ليس لدينا تصور أنَّ النِّظام القادم، قبل عشرين عاماً، لا تكون له صحيفة، لكنَّ عندما أعيد صدور «المؤتمر»، قال لي نائب رئيس التَّحرير: «إنّها صحيفة النِّظام الجديد»، وما هي أيام وإذا يختفي نائب التّحرير نفسه، باختطاف واغتيال، ولا أتذكر أنّ الصَّحيفة التي بشر بها صحيفة النَّظام القادم قد رثته، وقد تحولت الصّحيفة المذكورة إلى منبر لجماعة ارتكبت الفظائع في الشّهور الأولى.

نشرت «المؤتمر»، الصَّادرة بلندن في عددها الأول بعد السُّقوط مانشيتاً: «اغتيال السَّيد الخوئي داخل ضريح الإمام علي بالنَّجف»(10/4/2003)، وفي العدد نفسه كتبتُ مقالاً: «لا تسمعوا نصيحة سُديف بن ميمون الشَّاعر». كان هذا الشَّاعر يمثل ماكينة الإعلام العباسي والعلويّ الثَّوري الجديد، سبب إبادة كلّ ما اتصل بالأمويين، حتى مَن كان ذا فضل على آل عباس، حيث بيته الانتقامي: «جّرِّد السَّيف وارفع السَّوطَ حتَّى/لا ترى فوق ظهرها أُموِيَّا»(المبرد، الكامل في اللُّغة والأدب)، لكنه قُتل بعدها بالسّيف الثَّوريّ نفسه.

كنتُ واهماً، أنَّ الانتقام ممارسة حكوميّة، ومعارضتها بريئة منها، لأنها في ذهني ستقيم الديمقراطية، الحقيقة لا الوهم، لكن مَن عدّ نفسه مظلوماً صار ظالماً. بات الانتقام وفق قوائمَ معدة قبل دخول بغداد، كلّ فصيل مختص بفئةٍ، بعد تبادل السلطة والمعارضة المواقع، على الحدود، أولئك خرجوا وهؤلاء دخلوا، ملوحين ببيت سُديف.

ردت «المؤتمر» على المعارضين للغزو، وتوقعوا ما حصل: «نحن الملاك الحقيقيون للعراق، نحن أهل العراق مِن الشَّط إلى شقلاوة، نحن أهله وأنتم الغرباء، فعن أي داخل تتحدثون» (8 يناير2001). كان هذا ردّ المعارضة، وهي لا تعرف ماذا جرى للدَّاخل، حتى دخلَ عراقيو الخارج الغرباء، ولم يبقوا مفسدةً لم يمارسوها، إلا النَّدرة النَّادرة.

ورد خبر في «المؤتمر»: التقى ثلاثة عراقيين ببوش الابن، بحضور ديك تشيني، وسألهم عن مخاوف الصِّراع؟ فأجاب مدعو المعرفة بالدَّاخل: «لا وجود لها»(17 يناير 2003). بينما بلندن كانت جماعة محتقنة طائفياً توزع «الإعلان الشّيعيّ»!

في 6 ديسمبر 2002 كتب رئيس تحرير«المؤتمر» في الأفغاني خليل زاد، عراب الفواجع: «هل يدخل خليل زاد بطون العراقيين كما دخل الغزاليّ بطون الفلاسفة»؟ فصدور المعارضة كلٌ يريد حصته مِن جثة العِراق. لا رئيس التَّحرير الفقيه ابن عربيّ(ت: 543هج) قائلها، ولا صدور المعارضة الفلاسفة، ولا خليل زاد أبو حامد. سوى أنَّ العنوان انطوى على تلميع الذَّوات.

أما صحف النِّظام، «الثَّورة» صحيفة الحزب والدّولة، فكانت في عالمٍ آخر، مانشيتها: «الرَّئيس القائد: نمارس الديمقراطيَّة في ظروف الحرب»، وعنوان دعائي «مَن يريد أن يقرأ مخطوطاً أصيلاً لتاريخ العراق المعاصر، يبتدئ بعهد اسمه صدام حسين»! العهد الذي هيأ بحملته الإيمانيَّة وصولاته، وقسوته لخراب عامٍ قادمٍ.

كان أفظع مانشيتات جريدة النِّظام الجديد، لرامسفيلد(ت: 2021): «جئنا لتحرير العراق لا احتلاله»(2/5/2003)، عبارة انتحلها مِن الجنرال مود، يوم احتلال بغداد(1917)، أيام ويعلن «الأبيض» الاحتلال رسميَّاً! والأفظع منه مانشيت: «انتهت الحرب وبدأ إعمار العراق»، وها هي العشرون، وما حملت مِن الأوزارِ، والقول لمَن لا تُطال قامته: «ضِقنا بها ضيقَ السِّجينِ بقيدهِ/ مِن فَرْطِ ما حَمَلَتْ من الأوزار/ وتَجهَّمت فيها السَّماءُ فلم تَجُدْ/ للخابطين بكوكبٍ سيَّارِ»(ذكرى أبو التِّمن 1946).

***

شيد الخيّون - كاتب عراقي

 

جريمة في قطار الأمم المتحدة السريع

المنظمات الأممية التي تُعنى بانتهاكات حقوق الإنسان في بُلدان العالم، تمتلِكُ عيون امرأة، خاصَّةً، في تقييم ما يتعرِّضُ له ابنُ آدم في العالم الثالث. رموش هذهِ الأُمميات، تعتمِدُ في درجة تسبيلِها – تقييم خطورة الانتهاكات - على شبكية عين المصالح (الجيو- استراتيجية) للخمس الكِبار في مجلس الأمن.

اللطيف، إنَّ البريطانيين اكتشفوا إنَّ عدسة عين المرأة.. ولحُسنِ حظِّ الرِجال، تحتوي مادة "مالكينيا"؛ التي تجعلهم أحلى وأكثر وسامة بخمسِ مرَّات، من حقيقتهم. تحتلُ هذه العيون، الرموش، وآلية التسبيل، أهمَّية كبيرة في دُنيا أنظمة العالم الثالث، خاصَّةً تلك التي أُجبِرت على "التَمَقْرُط"، مع بدايات القرن الحادي والعشرين، بواسطة تلقين حامِلات الطائرات، وبجنودٍ معولمين، يحمِلون جنسيات البُلدان الهدف لمشروع "التَمَقْرُط".

المنظمات الأممية، هذه، أعطتنا عيونها؛ كي نرى – والمثال هنا العراق– الفواعل اللاتاريخيين الذي سيطروا على العملية السياسية، بعد 2003م، كأنظمة سمينة محليَّاً (لديها شرعيَّة)، ورشيقة القد (تعوُّلِم اقتصاد بلادِها وتربِطُ سياساتِه بجنازير المحاور).

لجنة الاختفاء القسري، التابعة للأمم المتحدة، وفي تقريرها الأخير عن العراق، والذي صدر بعد أربعة أشهر تقريباً (صدر في 4 أبريل 2023) من زيارتها للعراق في نوفمبر 2022، قد يُشبه للوهلة الأولى، تبني سيناريو رواية (جريمة في قطار الشرق السريع)، للكاتبة أجاثا كريستي، لقتل مسؤولية الطائفيين والعرقيين الذين يقودون البلاد، بخصوص جريمة الاختفاء القسري؛ التي تُعاني منها البلاد منذُ عقود، لكن رغم ذلك، فإنَّ تقاريرها ومتابعتِها الحقيقية – تقييمي الشخصي - فضحت تفوَّق النِظام العراقي، المولود أمريكياً بعد 2003، على ما سبقه، وفضحت الشروط اللاإنسانية التي تعيشُها البلاد.

حبكة السيناريو

اللجنة الأممية أقرَّت في عدَّةِ تقاريرٍ لها – ملاحظات ختامية وتوصيات – بأنَّ جريمة الاختفاء القسري، والتي تُمارس منذُ عقودٍ في العراق، بلغ العدد التقديري لضحاياها ما بين (250.000- 1.000.000)، تحديداً، من 1968-2023م، حيثُ شهدت خمسة موجات من الاختفاء القسري.

هذا التقدير ذو الفرق الشاسع، مُثير للجدل – ألطف تعبير – ويشبهُ مونولوج شخصية (المحقق بوارو)، الشهيرة، في رواية (جريمة في قطار الشرق السريع)، قبل اكتشافِه أن جميع الراكبين (اثنا عشر شخصاً)، اقدموا على قتل الرجل الثالث عشر قتلة واحدة!

لن نثمل بالحيرة طويلاً، إذا ما علمنا إنَّ الأحزاب الإسلامية (الشيعية متمثلة بحزب الدعوة) والأحزاب العرقية (الكردية متمثلة بحزب الاتحاد والديموقراطي الكردستانيين)، استخدمت الضحايا السياسيين.. مثلاً المنتمين للحزب الشيوعي العراقي – لم تُذكر أعدادهم في تقارير اللجنة الأممية - كي تحصل على حصَّة (290 ألف) ضحيَّة من عدد (المليون).

المفارقة – العراقيون الأكراد كمثال – رضوا بحصَّة عشرة في المائة، من موازنة ضحايا جريمة الاختفاء القسري في العراق (المليون)! رغم إنَّ الجميع يعرف بأن النُخبة العراقية الكردية – السياسية تحديداً – كانت في قتالٍ مستمر مع الدولة العراقية، منذُ ستينيات القرن الماضي! وبالتالي فنحنُ أمام أرقام تُنقل من يمين الماضي إلى شِمال الحاضر السياسي.

الهدف الأساس للعراق الأطلسي، هو تعويم جريمة الاختفاء القسري، والتي هي جريمة ضد الإنسانية، في بلادٍ، يُجرى تزوير تاريخها وفبركة حقائقها بكثافة بعد 2003م. أمّا حزب الدعوة والذي ربط نفسه بالحزب الشيوعي، فقد حصل على ( 190 ألفاً) من الضحايا(المليون)، وهذا لا يتناسب مُطلقاً مع طبيعة الحزب الانتقائية، ولا مع عدد كوادره العاملة لا الحالِمة في تلك الفترة الزمنية!

ذكر هذه الأحزاب الثلاث؛ التي تقع ضمن النِطاق (الشيعي – الكردي) ليس اعتباطياً، فهذا الثلاثي، يمتلِكُ جماعات ضغط في عاصمة القرار العراقي (واشنطن)، ومن أهم ركائز العراق الأمريكي ذو القرنين الإيرانيين، بعد 2003.

العراق الأطلسي رغم كُلِّ ما تقدَّم، ما زالت في رقبته (750 ألفاً)، مطروحاً منها ضحايا "داعش" الإرهابي.. اقصد تحديداً أولئك الذين وقعوا تحت مقصلة جريمة الاختفاء القسري، أغلبُهُم عراقيون من الديانة: الإيزيدية، المسيحية، لكن النسبة الأكبر كانت لأتباع الديانة الإسلامية ومذاهبها، خاصَّةً العرب.

الأمريكان والبريطانيون كانت حصَّتهم من جرائم الاختفاء القسري (96 ألفاً)، رغم إنَّ تقرير اللجنة بيَّن بأنَّ هذه الجرائم كانت مؤقتة! إذ حوِّلت ملفات المعتقلين في النهاية، من قوَّات الاحتلال إلى الجهات العراقية.

بقيةُ ضحايا الـ (750 ألفاً)، تعرضوا لجريمة الاختفاء القسري، على يدِ الميليشيات العراقية (المؤمنة بعقيدة ولاية الفقيه الإيرانية)، والتي هرَّبت نفسها إلى مؤسسات الجيش، الأمن، والشرطة، تحت يافطة "الحشد الشعبي". اللجنة اعترفت بأن سيطرة القائد العام للقوات المُسلَّحة على هذه اليافِطة شكلية، وهي تتبع رؤساء، رجال دين، وشخصيات أُخرى، صعب جدّاً حصرُ انتماءاتِها، العابِرة للفضاء العراقي.

اللجنة الأُممية، أشَّرت بشاعة استمرار عمل النظام السياسي، بعد 2003م، بالمادة (40) من قانون العقوبات العراقي. لا تُحمِّلُ هذه المادة، مسؤولية جنائية على الرؤساء؛ الذين قد يكونوا هم من أعطوا الأوامر لمرؤوسيهم، بارتكاب جريمة الاختفاء القسري، رغم إنَّ ذلك طُبِّق عند محاكمة رئيس النظام العراقي السابق ومسؤوليه الكِبار!

اللطيف المبكي، إنَّ الأُممية أفصحت، وفي معظم ملاحظاتها وتوصياتها، إنَّ المسؤولين الحكوميين والميليشيات، كانت لهم حصَّة الأسد، من جرائم الاختفاء القسري في عراق ما بعد 2003! وهذا الأسد وجد في العراقيين العرب "السنة" منهم وجبةً شهية!

عقدة السيناريو: ليلى والذئب

الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، دخلت حيَّز التنفيذ الأممي بتاريخ 23 ديسمبر 2010 – أرجو التفكير ملياً بما قبل هذا التاريخ وما بعده بفترة قصيرة من أحداث – تألَّفت من (45) خمسة وأربعين فقرة. النظام العراقي، صادق على الاتفاقية بتاريخ 12 ديسمبر 2010.

مصادقة النظام العراقي وفي عهد حكومة السيد المالكي، لم يكُن اعتباطياً. في سنة 2011 وبعد انسحاب القوات الأمريكية، بدأت تصفية القيادات العراقية "السنية"، ذات الرنين العالي. طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية الأسبق، كان أبرزهم. أيضاً لم يبدأ النظام العراقي بتقديم تقاريره، للجنة الأممية المعنية بالاختفاء القسري، إلَّا سنة 2014م، وكان من المفترض أن يُقدِّم تقريره الأول سنة 2012م.

كُل التقارير التي صدرت من اللجنة الأُممية( ملاحظات ختامية، توصيات، مراجعات) بعد ذلك، بُنيت على تقرير 2014 و2019 اللذين قدَّمها الجانب العراقي. لم يقبل النظام، طلب زيارة اللجنة (طالبت بالزيارة في نوفمبر 2015) للبلاد، إلَّا في 15 نوفمبر 2021، وقامت اللجنة بالزيارة بين 12-25 نوفمبر 2022.

قبول طلب اللجنة بزيارة البلاد، جاء بعد مرور سنتين من التنكيل بثورة تشرين؛ التي بدأت في أكتوبر 2019، وقامت اللجنة بالزيارة، بعد استلام محمد شياع السوداني، رئاسة الحكومة العراقية، المدعوم من "الإطار التنسيقي"؛ الذي تجيد أغلب مكوِّناته التغريد الإيراني. اللجنة بيَّنت بأنها لم تستطع الوصول، إلَّا إلى المناطق التي وفِّر لها الأمن عراقياً.

لم يكُن مفاجئاً أن تحتل الانتهاكات؛ التي قامت بها الحكومات العراقية السابقة، والميلشيات التي دعمت حكومة السيد السوداني، فيما يخص ثورة تشرين 2019، سوى جزء صغير، يبدو مكتوباً على عُجالة؛ فالمنظمات العراقية التي تصِل إلى الأمم المتحدة، والتي تُعنى بشأن حقوق الإنسان في العراق، كثيرٌ منها مستقطب طائفياً، وثورة تشرين لم تكُن نقيَّة طائفياً بما فيه الكفاية، بل عراقيَّة جدّاً!

اللجنة اعترفت بأنَّ العراق يحتل المرتبة الأولى في الإجراءات العاجلة؛ التي تطلبها اللجنة، من أي بلدٍ منضم إلى الاتفاقية الدولية بخصوص الاختفاء القسري. العراق لم يُجِب إلَّا على 275 طلباً عاجلاً من مجموع 492.

الأُممية، مرَّت مرور الكرام أيضاً، على الانتهاكات التي تقوم بها حكومة كردستان العراق. لم تتطرق لا من بعيد ولا من قريب مثلاً إلى: اعتقالات الصحافيين، قتل الصحافيين، وتهجير العرب من المناطق المحيطة بكركوك، ومحاولتها "تكريد" المناطق المختلف عليها إدارياً، والتي تُسميها الأدبيات العراقية الكردية، ذات الطابع السياسي بـ "المناطق المُتنازع عليها".

حل السيناريو: أنت الخصمُ والحكمُ

اعترف أعضاء اللجنة الأُممية، بأنهم لا يمتلِكون أي قوَّة لفرض أيَّة إجراءات على الحكومة العراقية، وأن كُل ما يستطيعون القيام به هو تقديم التوصيات، وتقديم التقارير إلى الأمم المتحدة. أمّا بالنسبة إلى نشر الثقافة حول كيفية مكافحة الاختفاء القسري؛ فقد رأى بعض أعضاء اللجنة، إنَّ هذه المسؤولية تقع على الجانب العراقي.. المثقفون، الصحافيون، منظمات المجتمع المدني المُختصَّة وغيرهم، بشكلٍ خاص.

ما لا تعلمهُ تلك اللجنة، إنَّ بعضاً ليس بالقليل من تلك الكيانات – لا توجد إحصاءات دقيقة – التي تُعنى بهكذا مسائل، هم أقارب من الدرجة الأولى، لأفراد الطبقة السياسية التي تحكم البلاد.. أي أودع القطة شحما! كما إن بعضاً غيرهم – شخصيات وكيانات - يستخدمون الحديث عن جريمة الاختفاء القسري، لأغراض الوجاهة، ولتسمين أنفسهم قبل بيعها، إلى السُلطات الرسمية للفواعل اللاتاريخيين؛ الذين يحكمون البلاد الآن، ولبعض الدول الإقليمية والعالمية، والحمد لله لا توجد دولة في العالم لا تمتلك بيادق عراقية!

اللجنة أقرَّت في تقريرها 2023م، بأن العراق ما زال يُماطل لحدِّ هذه اللحظة، في إدخال تعريف صريح لجريمة الاختفاء القسري، في تشريعاته. الأُممية، وكشفت في 2023، وحتّى في تقاريرها السابقة، فضيحة مدوَّية: إنَّ الكثير من بنود الاتفاقية الدولية بخصوص الاختفاء القسري، مُعطَّل تطبيقها في العراق، وأن الكثير من قوانينه لا تتماشى مع الاتفاقية.

باختصار، اللجنة الأممية، أرضت الجميع في تقاريرها: النظام السياسي، النظام الدولي، الطوائف لا الشعب العراقي. كُل هؤلاء سيجدون تبريراً لتبادل الكره بينهم، ونسيان النظام!

اللجنة الأُممية، انجزت الكثير رغم ما تقدم. مثلاً، أجبرت الحكومة العراقية على الاعتراف، بوجود أماكن احتجاز سرية في مناطق مثل مدينة "جرف الصخر"، والتي بيَّنت الحكومة العراقية إنّها لم تعُد كذلك! والمساهمة بتحفيز العراق، لتخصيص تعويضات لعوائل ضحايا الاختفاء القسري، بدءً من ميزانية 2021. مخصصات التعويض في ميزانية (2023، 2024، 2025)، يُجرى التقاتُل السياسي عليها الآن.

الأهم مما تقدم إنَّ اللجنة الأممية، نزعت ورقة التين عن القوانين العراقية: "خلقت نظاماً شديد التجزئة والتشتت مع تفويضات وإجراءات متداخلة ولا ينص أي من هذه القوانين أو التعليمات على تعريف للاختفاء القسري. وهنا نتحدث عن ثلاثين تشريعاً عراقياً من الدستور إلى القوانين والتعليمات، تعاطى مع مسألة الخطف والتعذيب والاحتجاز".

أدانت أيضاً ما وصفته بـ "الصمت المعياري" للقوانين العراقية الذي: "يغذي الخلط بين المفاهيم وبالتالي يمنع التحديد الواضح لنطاق الجريمة ومسؤولية الدولة. وبذلك فإن العمل على مكافحة جريمة غير موجودة في الإطار القانوني الوطني هو في الواقع وهم".

***

مسار عبد المحسن راضي

كاتب، صحافي، وباحث عراقي

 

بعد عشرين عامًا العنوان يتكرّر

عشرون عامًا مرّت على غزو الولايات المتّحدة الأمريكيّة وحلفائها الغربيّين والمتخادمين العرب معها، للعراق، (آذار/ مارس- نيسان/ ابريل 2003) واحتلاله وتدمير دولته تحت حجج وذرائع ثبت خداعها وتضليلها للرأي العام العالمي والمحلّي منذ بدايتها، وفضح جوهر السياسات الإمبرياليّة ومشاريع التخريب والهيمنة والاستغلال وكي الوعي، و"كسب القلوب والعقول" وخطط "الصدمة والرعب". وهذه متناقضاتٌ فضحتها الوقائع والكوارث التي مارستها إدارة الاحتلال في العراق.

كان من بين الكتب المهمّة التي تناولت الحربُ على العراق كتاب "الحرب الخفيّة" الذي كتبته الأستاذة جوي غوردن، أستاذة الأخلاق الاجتماعيّة في قسم الفلسفة وكلية القانون في جامعة لويولا - شيكاغو في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. والعنوان الفرعي له: أمريكا والعقوبات على العراق، وتضمنت محتوياته ما يكشف خطط تدمير العراق، من خلال العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية والمتخادمين معها، غربيًّا وعربيًّا، وما تولّد منها وعنها من تداعياتٍ وآثارٍ كارثيّة.

صدر الكتابُ باثني عشر فصلًا، وبثلاثمائة وواحد وخمسين صفحةً من القطع الكبير، وبحروف صغيرة. وكتب الناشر على غلافه الأخير: “هذا الكتاب، كانت العقوبات الاقتصاديّة المفروضة على العراق منذ عام 1990 إلى عام 2003 هي الأكثر شمولًا وتدميرًا من أيّة عقوباتٍ أخرى، وضعت باسم الحوكمة الدوليّة، فقد أدّت تلك العقوبات، التي ترافقتْ مع حملةٍ عسكريّةٍ ضدّ العراق عام 1991 انتهت بغزوه عام 2003 إلى انهيار البنية التحتيّة للعراق، ومختلف المقوّمات الأساسيّة اللازمة لاستدامة الحياة فيه.

بحث الكتاب في إدانةٍ واضحةٍ للسياسة الأمريكيّة في الدور الرئيسيّ الذي أدّته الولايات المتّحدة في صوغ تلك العقوبات على العراق، التي أسفرت عن وضع قيودٍ صارمةٍ على الواردات العراقيّة حتّى لأبسط السلع الحيويّة، من أنابيب المياه إلى منظفات الغسيل إلى لقاحات الاطفال، بذريعة "الاستخدام المزدوج" لهذه السلع وإمكان إفادة العراق منها لتصنيع "أسلحة الدمار الشامل". وقد شرح الكتاب بالتفصيل، استنادًا إلى الآلاف من وثائق الأمم المتحدة الداخلية، ومحاضر الاجتماعات المغلقة فيها (التي أتاحت المؤلفة النفاذ إليها عبر الرابط www.invisiblewar.net) فضلًا عن مقابلاتٍ مع دبلوماسيين أمريكيين وأجانب، كيف أن الولايات المتّحدة لم تكتفِ بمنع وصول السلع الإنسانيّة الحيويّة إلى العراق فحسب، بل قوّضت من جانبٍ واحدٍ أيّ محاولاتٍ للإصلاح، عبرَ تجاوزِ مفتّشي الأسلحة التابعين للأمم المتّحدة، والتلاعب بالأصوات في مجلس الأمن؛ بهدف الاستمرار في العدوان على العراق الذي انتهى بتدمير كلّ مقوّماته المؤسسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، العسكريّة والمدنيّة على السواء". (من مقالٍ للكاتب في قراءته للكتاب نشر في العديد من المواقع الالكترونية، يراجع عبر محرك بحث).

واجه الشعب العراقي، خلال العقدين من سنوات الاحتلال المريرة، أنواع سياسات الاحتلال القمعيّة والاستغلاليّة والإرهابيّة والتعسفيّة، وعانى من صنوف انتهاكات الحقوق والالتزامات القانونيّة والأخلاقيّة، ولم تنته الأزماتُ التي ولّدها في العراق، كما يتبيّن من الوقائع اليوميّة الجارية على الأرض. فالعراق البلد الثري بكلّ الخيرات البشريّة والماديّة يعاني من شحٍّ وانحسارٍ بكل ما لديه، بل وازدادت مشاكله وإشكاليات الإصلاح والتغيير فيه إلى درجاتٍ وضعته التقارير الدولية في مستويات لا يحسد عليها على جميع الأصعدة، ما يعكس طبيعة سياسات الاحتلال وصعوبات سنواته العجاف. وحتى الآن وبعد التنفيذ الرسمي لاتفاقية انسحاب قوات الاحتلال الأمريكي العسكرية، نهاية عام 2011، ومثلها القوات التي شاركتها الجريمة في انسحابها الكامل من أرض العراق والتقاسم مع الإدارة الأمريكيّة بالفتات التي تتكرم بها من خيرات العراق الطبيعيّة، تحوّل الهمّ الأمريكي، خاصّةً من خلال زيارات مسؤولين أمريكان، علنية أو سرية، وإجراء لقاءاتٍ بالمسؤولين العراقيين، تتلخّص بالعمل على البحث عن وسائل خداعٍ أخرى، تستر الفضائح السابقة، وتجدّد مشاريع الإدارة الأولى وخططها التي على ضوئها أقدمت بحماقات وجرائم الاحتلال العسكري المباشر وتدمير الدولة العراقية، وإعادة انتشار لوحدات عسكرية وقواعد عسكرية وتدخلات مباشرة، من خلال أكبر سفارة في المنطقة، مساحة وبناء وعديدًا من العاملين فيها، أجهزةً وأدوارًا، بكلّ الشؤون السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة في العراق والمنطقة عمومًا.

والأبرز الذي أظهرته سياسات الاحتلال في العراق خلال سنواته هو تكريس نهج المحاصصة الطائفية الدينية والإثنية، وصناعة الأزمات المحلية بين القيادات السياسية وتجمعاتها الحزبيّة، وإشاعة التقاسم الإثني والطائفي في المجتمع وتفشّي الفساد والإفساد في الإدارة والحكم وزرع ألغام مؤقتة في العملية السياسية التي أدارتها وأشرفت عليها وما زالت تواصل سيرها في إطار بنائها السياسي وصناعة قاعدتها الاجتماعية التي تدير شؤون البلاد والعباد.

بعد عشرين عامًا من الاحتلال رفعت الإدارتين، الأمريكية والبريطانية، السرية عن وثائق لهما، أكدتا اعترافات للعديد من مسؤوليهما بجرائمهما التي ارتكبتاها في قراراتهما وخداعهما ومشاريعهما وأعمالهما المباشرة.

نشر الجيش الأمريكي دراسةً من ألف صفحةٍ تناقش تاريخه العسكريّ في العراق، متضمّنةً مئات الوثائق التي رُفعت السرية عنها، محمّلة القوات التي غزت العراق ارتكاب "أخطاء فادحة"، كما أطلق عليها وليس جرائم حرب ضد الإنسانية، كما هي في الواقع والقانون والاعراف.

استخلصت الدراسة التي تم نشرها عام 2019 الدروس من العثرات العسكرية العديدة خلال غزو العراق، الذي استمر 8 سنوات؛ بين عامي 2003 و2011، كما بررت، ووسعت الاتهام إلى الحكومة العراقية والمتخادمين معها لارتكابها أخطاء (!) أدّت إلى تفاقم الانقسامات الطائفية، وتسبّبت بعودة العنف للبلاد، مؤكدة أن الحرب التي بدأت عام 2003 لم تنتهِ بعد، متهربةً من دورها وخططها في تكريس أو إنتاج هذه الظواهر والحالات والأزمات.

أشارت الدراسةُ إلى أنّ "الخطط العسكرية لم تكن تتوقع اتخاذ قرار سحب جميع القوات الأمريكيّة في خريف 2011، بل استندت إلى افتراضاتٍ خاطئةٍ مفادها أنّ وزارة الخارجية ستدعم جهود التدريب، في حين أن الجهود المبذولة لتدريب الجيش العراقي لم تكن كافية". وجاء في الدراسة أنّها لا تُلقي باللوم الكامل على الأخطاء العسكرية أو السياسية، بل كذلك على ما عدّته "قلّة وعي لدى قادة الجيش الأمريكي حول الديناميكيات الطائفية والاجتماعية والسياسية في البلاد، التي غذّت الكثير من أعمال العنف". وحمّلت الدراسة واشنطن تبنّيها تفسيراتٍ خاطئةً عن مستويات العنف وعدم الوعي في تأمين الاستقرار مع تراجع أعداد قواتها؛ الأمرُ الذي أدّى إلى فشل قادة جيشها في تحقيق الأهداف الاستراتيجيّة مع مرور الوقت؛ بسبب القرارات التي اتُّخذت بالتوافق.

فضحت هذه الدراسة خطط إدارة الاحتلال واعترفت بالجرائم التي ارتكبت وستبقى وثيقة إدانة للاحتلال وبرهانًا عليه، بالمعنى القانوني والاخلاقي، رغم محاولات التهرب من الإدانة المباشرة وإقرار الارتكاب، ومثل هذه الجرائم لا تنتهي بالتقادم، ولا بدّ من يومٍ للمحاكمة والعدالة الإنسانية.

أما الإدارة البريطانية، الحليف الشريك، فقد كشفت وثائق رفعت السرية عنها، (شباط/ فبراير (2023) تأكيد معرفتها بعدم صحة مزاعم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل أو صواريخ بعيدة المدى قبل الغزو بعامين على الأقل. إذ فضحت الوثائق كذبة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وأشارت إلى علمه بخلو العراق من أي قدرات لامتلاك أسلحة محظورة، وفقًا لقرارات الأمم المتحدة، وبطلان ذريعته بالمشاركة في الغزو والاحتلال، وفضح ادعاءاته بالأسلحة والخداع بها.

ذكرت قناة "بي بي سي" البريطانية أنه "بعد انتهاء الحرب، التي أدت إلى تدمير العراق ونزوح ملايين العراقيين وإسقاط نظام صدام حسين، تبين أن ادعاءات وجود أسلحة دمار شامل لدى النظام بلا أساس".

من جهتها أدانت لجنة تشيلكوت، في تموز/ يوليو 2016، التي شكلتها الحكومة البريطانية، الدور الذي لعبته بريطانيا في الحرب (!)، و(العدوان السافر والارتكابات الإجرامية!)، وكتبت بالتفصيل، في تقرير مطول، عن المعلومات الاستخبارية الخاطئة والأسس القانونية المشكوك فيها التي استندت بريطانيا إليها في غزو العراق، ورفعت إلى الرفوف أو أخفيت رغم كل محاولات التستر أو الدوران على الوقائع الكارثية.

بينما استمر توني بلير رئيس الوزراء البريطاني – آنذاك - في الدفاع بقوّةٍ عن المشاركة في غزو العراق، لكنّه أمام اللجنة والإعلام عبر عن "شعوره بقدر من الأسى والندم والاعتذار أكثر مما يمكن تصوره عن الأخطاء التي ارتكبت في الإعداد لحرب تسببت في حدوث شرخ عميق في المجتمع البريطاني". محاولًا التملص من مسؤولياته القانونية والأخلاقية ومهماته وتحمله نتائجها وتداعياتها، ليس عن المجتمع البريطاني وحده، وإنما عن الشعب العراقي، وما سببه له وما حصل جراء مشاركته واندفاعه في الغزو والاحتلال.

كما أظهرت الوثائق اعتراف الحكومة البريطانية عام 2001، بفعالية العقوبات العسكرية والتسليحية والتكنولوجية في سياق مراجعة أجرتها إدارة بلير للسياسة الأمريكية البريطانية بشأن العراق، وارادت بريطانيا عرض سياسة جديدة أسمتها "عقد مع الشعب العراقي" على أركان إدارة بوش، تستهدف استعادة المساندة، خاصة من دول وشعوب المنطقة العربية، للسياسة الأمريكية البريطانية في التعامل مع العراق. وحتى هذا الذي ورد في الوثائق لم تنفذه إدارة الاحتلال البريطانية وظلت ذيلا تابعا لسياسات البنتاغون وداعميه من اللوبيات المعروفة.

وكنت قد تتبعت كل ذلك في أربعة كتب صدرت لي. وورد في الغلاف الأخير للكتاب الرابع الذي كان بعنوان: العراق.. صراع الإرادات، عن دار التكوين، دمشق عام 2009، هذا هو الكتاب الرابع في تسلسله، فقد سبقته ثلاثة كتب، هي: لا للحرب، خطط الغزو من أجل النفط والإمبراطورية، صدر عن دار نينوى، دمشق 2004، ولا للاحتلال، إسقاط التمثال وسقوط المثال، عن دار التكوين، دمشق 2005، واشنطن - لندن: احتلال بغداد، عن دار التكوين، دمشق 2007، ضم كل كتاب ما نشره الكاتب من مقالات في صحف ومواقع عربية، في فترةٍ زمنيّةٍ مؤرّخة، وعبر في كل ما كتب كما سجل في مقدمة الكتاب الأول عن مواقف من خطط الغزو والاحتلال، وعن آراء فيما تعرض له الشعب العراقي الكريم والوطن الحبيب من عدوان سافر وجريمة حرب مستمرة وهذه المجموعة من المقالات استمرار لسابقاتها، زمنًّيا، مواصلًا فيها ما عدّه موقفًا واضحًا من العدوان والغزو والاحتلال ودعوة متواصلة لتأسيس مرصد مراقب ومحذر من الكوارث التي حلت في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان و السودان والصومال وتتجه بأخطبوطها لغيرها على امتداد منابع النفط والثروات الأخرى، وقراءة لما جرى وما يمكن الاستفادة منه من عبر ودروس التجارب والأحداث ومطالبة دائمًا بحقوق الشعب ومثله وثرواته البشرية والمادية.

ما زالت انشغالات الوضع العراقي الداخلي ومظاهر الأزمات فيه وتمددها على مختلف الأصعدة، راهنة أو متموجة، بعد عشرين عامًا من الاحتلال، من جهة، وتعكس كل يوم أزمة الاحتلال وسياساته وتطبيقاتها على الأرض من جهة أخرى. وهو الأمر الذي يوضح الفوضى الخلاقة التي أرادها المحافظون الجدد في العراق والمنطقة وتبناها من خلفهم وأدار بعدهم ما يحصل في العراق اليوم. التحديات التي عبرت عنها إدارة الاحتلال ولم تضع لها حلولًا تناسبها ويخفف عن الشعب العراقي ما وضعته سياساتها الدموية، تنشرها تقارير المنظمات الدولية وتكشف فيها صورًا أخرى، أكثر واقعية وأوسع أثرًا، وتفضح ما تحاول الإدارة الأمريكيّة والمتخادمين معها، التستّر عليه والتخطيط لاستثماره للعناوين الجديدة التي تطرح للعراق الجديد!

بعد عشرين عامًا من الاحتلال الأمريكي للعراق، العنوان يتكرّر، بصيغ أخرى أو أساليب تصب في خدمته، رغم كلّ التوتّرات والارتباطات الإقليميّة والدوليّة، ورغم تصاعد الأزمات وتنوّعها، ما زالت المطامع الإمبرياليّة موجودة في موقع العراق الاستراتيجي وثرواته المنوّعة وأمن المنطقة واستقرارها، والصراع عليها وحولها، وهو ما يجب إدراكه بوعي للسنوات القادمة.

***

د. كاظم الموسوي

 

على مدى السنوات الثماني الماضية، كانت قضية اتفاقية مينسك 1و 2، موضوع نقاش حاد، وتساؤلات عديدة، من وقعها ولماذا؟ ومن التزم ببنودها ومن خالفها؟ في ظل التطورات الحالية على الأرض الأوكرانية، هل ستكون هناك اتفاقية جديدة تحمل اسم " مينسك 3"؟ وقبل الاجابة على هذه التساؤلات، يجب ان نعرف أهم البنود التي تضمنتها اتفاقية مينسك، التي عبر عنها الرئيس الاوكراني السابق بيترو بوروشينكو بانها كانت فرصة منحت أوكرانيا لنفسها ثماني سنوات، استعادت فيها النمو الاقتصادي وبناء قوة لقواتها المسلحة لكي تصبح أقوى، وان تطورات القتال الدائر حول دبالتسيف في عام 2015، كان بإمكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن ينتصر بسهولة في ذلك الوقت، وكان الوقت لايسمح لدول الناتو فعل كل ما يفعلونه الآن لمساعدة أوكرانيا، وبالتالي فقد حصلت أوكرانيا عبر هذه الاتفاقية على وقتًا ثمينًا.

التوقيع على اتفاقيات مينسك من قبل مجموعة الاتصال الثلاثية بشأن تسوية الوضع في دونباس، كانت تضم ممثلين عن أوكرانيا وروسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ونيابة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، تم التوقيع على الاتفاقية من قبل الممثلة الخاصة لرئيس المنظمة لأوكرانيا، هايدي تاغليافيني، من جانب أوكرانيا، ومن قبل الرئيس الثاني للبلاد، ليونيد كوتشما، ومن جانب روسيا، بقلم السفير ميخائيل زورابوف، وتم التوقيع على الوثائق أيضًا من قبل رئيس جمهورية دونيتسك الديمقراطية، ألكسندر زاخارتشينكو، ورئيس LPR، إيغور بلوتنيتسكي، وفي 5 و 19 سبتمبر 2014، تم التوقيع على بروتوكول ومذكرة، وكانت هذه أولى الوثائق،في حين تم التوقيع في 12 فبراير 2015، على مجموعة إجراءات من 13 نقطة لتنفيذ اتفاقيات مينسك ("مينسك -2") ؛ بشكل عام، تزامنت مع اتفاقيات سبتمبر.

وتم تبني "مينسك -2" بعد القتال بين مليشيات جمهورية دونيتسك الديمقراطية الشعبية و LPR مع الجيش الأوكراني، والتي انتهت باحتلال الميليشيات لمنطقة دبالتسيف، ثم استضافت مينسك اجتماعا في شكل نورماندي (بمشاركة قادة روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا، فلاديمير بوتين، وبترو بوروشينكو، وفرانسوا هولاند وأنجيلا ميركل)، وتم التوقيع على الوثيقة من قبل مجموعة الاتصال نفسها، وأيدها قادة الدول الأربع بإعلانهم، وتعهد الطرفان بوقف إطلاق النار وسحب مفارزهما من خط التماس، وحظر وجود أسلحة ثقيلة في منطقة المنطقة العازلة بشكل صارم، وكان من المفترض أن تستغرق أنظمة "إعصار" و "سميرش" و "بوينت" 70 كم، وكان من المفترض أن يقوم مراقبو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بمراقبة تنفيذ هذه القواعد، بالإضافة إلى تبادل الأسرى على أساس مبدأ "الكل للجميع"، وكان الأمر يتعلق أيضًا بالعفو عن المشاركين في الاشتباكات، وإعادة العلاقات الاقتصادية.

كما كان من المفترض أن يتبنى الجانب الأوكراني، قانون الوضع الخاص لمناطق معينة في منطقتي دونيتسك ولوغانسك وإجراء انتخابات محلية هناك، مع مراعاة موقف ممثلي جمهورية دونيتسك الديمقراطية و LPR، وفي اليوم التالي للانتخابات، كان من المفترض أن تسيطر أوكرانيا بشكل كامل على حدود الدولة، وكان الشرط الآخر هو تنفيذ الإصلاح في أوكرانيا، والذي تضمن إدخال مفهوم اللامركزية في دستور البلاد، مع مراعاة خصائص "مناطق معينة في منطقتي دونيتسك ولوغانسك").

وفي الواقع، ولمدة سبع سنوات، وبعد مفاوضات طويلة، نجح الطرفان فقط في تحقيق تبادل الأشخاص المحتجزين قسراً (في الواقع، سجناء)، واتهمت دونيتسك و LPR، وكذلك وزارة الخارجية الروسية، مرارًا وتكرارًا، كييف بالاحتلال غير القانوني للمستوطنات في المنطقة العازلة وظهور معدات ثقيلة هناك، ولم يتم العفو عن المشاركين في أحداث 2014-2015، وعلى الرغم من أن البرلمان الأوكراني اعتمد قانونًا بشأن الوضع الخاص لدونباس في عام 2015، فقد ربط دخوله حيز التنفيذ بإجراء الانتخابات المحلية، في الوقت نفسه، أصرت كييف على أنه يجب عليهم أولاً، استعادة السيطرة على الحدود، وبعد ذلك فقط إجراء الانتخابات، وهو ما اختلفت عليه موسكو بشكل قاطع .

وفي عام 2019، تبنى أعضاء مجموعة الاتصال ما يسمى بصيغة شتاينماير (التي سميت على اسم مؤلفها، وزير الخارجية الألماني فرانك شتاينماير)، والتي بموجبها دخل قانون الوضع الخاص حيز التنفيذ، بعد الاعتراف بالانتخابات المحلية في منطقتي دونيتسك ولوغانسك، وفقًا لمعايير OSCE ذات الصلة، إضافة إلى ذلك، كان من المفترض أن تنسحب من جديد التشكيلات المسلحة إلى مواقعها السابقة، وتسبب اعتماد هذا التعديل في عدم الرضا عن المعارضة في كييف، وفشل الطرفان في الاتفاق على إجراءات إجراء الانتخابات، وفي نهاية فبراير 2022، اعترفت موسكو باستقلال جمهورية دونيتسك و LNR، ثم صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن اتفاقيات مينسك لم تعد قائمة، وأشار إلى أن الاتفاقات "قُتلت" حتى قبل الاعتراف بالجمهوريات الشعبية - بسبب عدم رغبة سلطات كييف في تنفيذها، وفي 24 فبراير، شنت روسيا عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا "لنزع السلاح "، وفي نهاية سبتمبر، أجريت استفتاءات في جمهورية دونيتسك و LPR، وأصبحت جزءًا من روسيا.

وفي 7 كانون الأول (ديسمبر)، نشرت صحيفة " تسايت " مقابلة مع المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، وصفت اتفاقيات مينسك بأنها محاولة لمنح أوكرانيا الوقت، وأوكرانيا أيضًا استغلت هذا الوقت لتصبح أقوى، كما ترون اليوم، وقالت ميركل "أوكرانيا 2014-2015 ليست أوكرانيا اليوم"، واتفق مع المستشارة الألمانية السابقة، الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، الذي قال بدوره، إنه منذ 2014، عززت أوكرانيا موقعها العسكري بفضل اتفاقيات مينسك، وعبر رئيس أوكرانيا السابق بيترو بوروشنكو عن رأي مماثل في وقت لاحق.

روسيا والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالتأكيد شعروا " بخيبة أمل " كبيرة، من التصريحات الغربية، عن أساب اتفاقات مينسك و 1 و 2، والتي غابت عنها " صدق النوايا " في إيجاد حلول جذرية للازمة، فقد اعتمدت موسكو على صدق المشاركين الغربيين، لكن وفقا للرئيس بوتين "اتضح أن أحداً لم يكن ينوي الوفاء بجميع اتفاقيات مينسك هذه"، وإن كلمات المستشارة السابقة، أظهرت أن روسيا كانت محقة في شن عملية خاصة في فبراير 2022، في حين اكد المتحدث باسم الكريملين، ان ما اعلنه الغربيون " دفع نظام كييف في نواح كثيرة، وتحرير يديه لتنظيم مذبحة ضد الروس في بلادهم "، وهو ما أدى فقط إلى تفاقم الموقف وجعل العملية العسكرية أقرب، وأعربت رئيسة مجلس الاتحاد فالنتينا ماتفينكو، عن رأي مفاده "أنهم" خدعوا روسيا على الدوام، وقد واجهت موسكو مرارًا موقفًا "يقولون فيه شيئًا - يفعلون شيئًا آخر، ويقصدون ثالثًا"، وعند سؤالها "لماذا صدقتموهم ؟" بعد وقفة، أوضحت السيناتورة، "الطريقة التي نقوم بها، نعتقد أن الآخرين يفعلونها".

أن ما يسمون " بالشركاء الغربيين" وكييف لا يمكن الوثوق بهم، وكما يروهم الروس الان، لأنهم سيخدعون بالتأكيد، ولماذا كل هذه الدعوات المستمرة للتفاوض مع نظام زيلينسكي باتجاه ما يسمة (بمينسك 3)، فهل مينسك -1 ومينسك -2 ليسا كافيتين بالنسبة لهم؟ أليس من الواضح حقًا أن أوكرانيا وكتلة الناتو التي تقف وراءها تستخدمان تعليقًا آخر للعمليات العسكرية لمزيد من الاستعدادات للحرب؟، ولكن لن تحمي أي ورقة موقعة من زيلينسكي، روسيا من استئناف العملية العسكرية من قبل القوات المسلحة الأوكرانية، وحتى لو وقع هذا "المهرج " الآن على شيء هناك، فسيتم الإطاحة به لاحقًا من خلال انقلاب عسكري، وسيصل بعض زلوجني إلى السلطة، والذي سيعلن أن أوكرانيا لا تعترف بأي اتفاقيات مع "المحتلين"، وبعد ذلك سيبدأ كل شيء من جديد، وسيعمل زيلينسكي في مكان ما في " إسرائيل " أو المملكة المتحدة، في خلق "حكومة أوكرانية في المنفى" وهلم ما جرى .

الواقع الروسي اليوم يؤكد ان الضمان الحقيقي الوحيد لأمن البلاد من الاتجاه الأوكراني، هو القواعد العسكرية الروسية بالقرب من كييف وأوديسا ولفوف، وظهورها اصبح ملحا هناك بعد الانتصار العسكري للقوات المسلحة للاتحاد الروسي على القوات المسلحة لأوكرانيا، والذي أصبح ممكنًا بعد التعبئة الجزئية، لأنه الآن، عندما بدأت روسيا أخيرًا في تسريع آليتها العسكرية في الاتجاه الصحيح، بدأت تظهر علامات "مينسك -3"، والتي يجب أن تكبل أيديها مرة أخرى.

في الواقع، حاول وزير الخارجية الأوكرانية دميتري كوليبا، في مقابلة مع بوليتيكو، أن ينقل كل اللوم عن الحرب في دونباس إلى روسيا، وهذا، حسب قوله، طوال السنوات الثماني الماضية، كانت روسيا، التي يُزعم أنها تختبئ وراء "اتفاقيات مينسك"، هي التي شنت حربًا دموية ضد أوكرانيا "المسالمة"، التي تحاول بناء "الديمقراطية" في جميع أنحاء البلاد، لا تنوي كييف إبرام أي اتفاقيات لتسوية النزاع، مثل تلك التي تم توقيعها في 2014 و 2015 بوساطة ألمانيا وفرنسا، وبحسبه، فإن "مينسك -3" الجديدة لن تؤدي إلى تسوية للنزاع، بل على العكس، ستؤدي إلى نتائج دموية أكثر، كما حدث مع اتفاقيات مينسك.

ومع ذلك، وكما اعترفت ميركل وهولاند بالفعل، فإن الاتفاقات الموقعة في مينسك في عامي 2014 و 2015 لم تكن معاهدة سلام، ولكنها محاولة لمنح أوكرانيا الوقت للاستعداد للحرب ضد روسيا، ونجح الغرب، في غضون ثماني سنوات، من تحويل أوكرانيا إلى كبش مدمر، وانه من السابق لأوانه الحديث عن نهاية الصراع، الذي ستقاتل فيه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، روسيا حتى آخر أوكرانيا، بينما الدمية الغربية " زيلينسكي "وأعضاء حكومته يصطفون " كهبل واعوانه" .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

قدم الدكتور أليكسي فيديف - رئيس مختبر البحوث المالية في معهد غيدار للدراسات السياسية الاقتصادية في موسكو إلى الأكاديمية الروسية للعلوم في العاشر من شهر آذار/مارس الماضي توقعات للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في روسيا في 2023-2025. ووفقا لذلك، فإن العاصفة الاقتصادية التي اجتاحت الاقتصاد الوطني المحلي بعد فرض العقوبات في ربيع العام 2022 هي بالفعل في طريقها للخروج.

في العام 2023، قد ينكمش الاقتصاد الروسي بنسبة 3.5٪، في العام المقبل سينمو بأكثر من 2٪ وينمو بنسبة 2٪ تقريبا في العام 2025، كما يتوقع الخبير. وفقا لتوقعات أليكسي فيديف، فإن انكماش الاقتصاد بنسبة 3.5٪ هو أسوأ سيناريو ولا يمكن تحقيقه إلا بسعر النفط الروسي عند 40 دولارا للبرميل، إذا فشلت السلطات المالية المحلية في موازنة عجز الميزانية، وكذلك إذا كان هناك تشوه في التجارة الخارجية. في ظل السيناريو المتفائل، سينخفض الاقتصاد الروسي بنسبة 1٪ فقط (إذا تم حل المشكلات المذكورة أعلاه).

أما بالنسبة للتضخم، إذا كان في العام 2022 كان 11.94٪، يمكن كبحه هذا العام في الممر من 5 إلى 7٪. وفي العام 2024، سيصل نمو الأسعار إلى 4٪، ويمكن تحقيق معدل تضخم منخفض بسبب انخفاض الطلب الاستهلاكي واستقرار سعر الصرف.

أما بالنسبة لسعر صرف الدولار في العام 2023، فمن المتوقع أن يكون السعر في المتوسط من 75.8 إلى 80.4 روبل. في العام 2024، يمكن أن يرتفع من 73.5 إلى 77.9 روبل. وفي العام 2025 - في المتوسط من 72.6 إلى 74.2 روبل. يقول أليكسي فيديف إ ن قيمة الروبل في غضون ثلاث سنوات ستزداد بسبب ارتفاع أسعار النفط الروسي وانخفاض الخصم عليه.

كما أن تكلفة استخراج نفط الأورال في المتوسط في العام 2022 حوالي 76 دولارا وفي هذا العام الجاري 2023، من المتوقع أن تتراوح تكلفته بين 40 و 70 دولارا للبرميل، وفي العام 2024 - في المتوسط من 50 دولارا إلى 60 دولارا، وفي العام 2025 سيكلف برميل الذهب الأسود 60 دولارا.

أما بالنسبة للصادرات ونسبة النفط والغاز فيها، ففي العام 2022، أرسلت روسيا بضائع إلى الخارج بقيمة 585 مليار دولار، بينما تم بيع النفط والغاز والمنتجات البترولية في الخارج بمبلغ 338 مليار دولار، أي أن حصة صادرات النفط والغاز كانت 57.7٪. أوضح أليكسي فيديف أنه سيكون هناك إعادة توجيه للصادرات الروسية في اتجاه غير أساسي. سيتم تعزيز قطاع تكنولوجيا المعلومات وقطاع التصنيع في الاقتصاد. وأكد الخبير الاقتصادي أن التدابير الحكومية ستعطي نتائج من حيث الضرائب ودعم الصادرات غير الأولية. في العام 2025، سينخفض إجمالي الصادرات إلى 455 مليار دولار، وسيشكل النفط والغاز 212 مليار دولار، أي 46.5٪ من الصادرات.

***

ترجمة: أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

 

بين إدارة التوحش وإدارة الفوضى الخلاقة شعرة لا تختلف عن شعرة معاوية التي رفض قطعها بينه وبين من يختلف معه، وفي كلتا الادارتين نتائج لا تختلف عن بعضهما الا بالوسائل المستخدمة والعناوين وبعض الشعارات، ففي إدارة التوحش تكون النتيجة هيمنة تلك الإدارة على السلطة وإقامة نموذجها الحياتي، كما يعتقد مؤلف كتاب إدارة التوحش أبو بكر ناجي حيث يقول:

"أن هذه الحالة من الفوضى ستكون "متوحشة" وسيعاني منها السكان المحليون، لذلك وجب على القاعدة -التي ستحل محل السلطات الحاكمة تمهيدا لإقامة الدولة الإسلامية- أن تحسن "إدارة التوحش" إلى أن تستقر الأمور".

وهي ذاتها الأهداف في إدارة الفوضى الخلاقة حيث يسميها (مايكل ليدين Michael Ledeen) الفوضى البنَّاءة أو التدمير البناء وذلك بعد أحداث سبتمبر بعامين في 2003، وهذا يعني الهدم، ومن ثم البناء، ويعني إشاعة الفوضى، وتدمير كل ما هو قائم، ومن ثم إعادة البناء حسب، المخطط الذي يخدم مصالح القوى المتنفذة.

وبالعودة قليلا الى الوراء ومنذ عشرينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا انتشرت منظمات شبه عسكرية وعصابات منظمة وميليشيات بمختلف التسميات والايديولوجيات، وبمشتركات سلوكية واحدة تقترب من التوحش وتتجاوزه في أحيان كثيرة، ولكي لا نغوص كثيراً في تاريخ هذه المنظمات التي كانت باكورتها في عشرينيات القرن الماضي والخوض في تفاصيل النتائج والافعال التي قامت بها وما تزال تمارسها سرا وعلانية، فقد تم تأسيسها خارج المؤسسات العسكرية بغياب الدولة تارة وبتوجيهها تارة أخرى وعلى خلفيات أيديولوجية او عنصرية او سياسية متطرفة، إما كأذرع سلطوية رديفة للمؤسسات العسكرية والأمنية وإما مستقلة تعمل بتوجيه سياسي او ديني او قومي متطرف، وتخضع في مجملها لحكم مطلق من شخصية متفردة مع مجموعة مغلقة، تتحكم فيها منظومة فكرية وسلوكية غاية في التشدد والقسوة مختزنة موروثات تاريخية وتأويلات مقولبة في إطار امتلاك كلي للحقيقة المطلقة بما يجعل الآخرين المختلفين في موقع الاتهام والاعدام، ولا يقتصر وجود ونمو هذه التنظيمات على مجتمع بذاته فهي تنتشر في مشارق الأرض ومغاربها أينما وجدت بيئة صالحة لنموها وتطورها.

إن منظومة أفكار هذه التنظيمات ومن يوجهها ويقودها هي من أخطر مفاتيح الكوارث التي تعرضت لها العديد من مجتمعاتنا، خاصة ما كان منها مرتبط بالعقائد الدينية والمذهبية، ناهيك عن تلك التي تعتمد العنصرية القومية الفاشية او الحركات الثورية المتطرفة التي شهدنا كوارثها في كمبوديا وفيتنام ولاوس ورواندا والعديد من الدول الأخرى، ومن الضروري جداً أن نتعرف جغرافياً على ينابيع تلك العقائد، فهي الأخرى ذات تأثير بالغ على تطبيقاتها وتفسيرات نظرياتها، والبيئة هنا تتحكم بشكل كبير في نوعية السلوك، وهي بالتالي ترسم خريطة الانتماء لتلك البقعة الجغرافية أو المكانية، وما بين البداوة والمدنية مساحات واسعة امتلأت بصراعات من كل الأنماط، بما فيها التي أنتجت بحوراً من الدماء، حتى استطاعت البشرية تجاوز تلك المرحلة للوصول إلى أشكال أكثر تطورا.

وفي البداوة لا نقصد بعض قيمها الخلاقة في الكرم والشجاعة، بل نستهدف مرحلة من مراحل تطور البشرية في السلوك البدائي الذي يؤشر لمرحل اولية من حياة البشر في تقسيمات حقب التطور الإنساني ابتداءً بالبداوة إلى المدنية المعاصرة، مرورا ببقية المراحل التي مرت بها البشرية حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من حضارة وقيم مدنية خلاقة، رغم إصرار هذه التنظيمات على التقهقر والانجرار دوماً إلى الوراء وما كان يكتنزه من بعض التوحش والانغلاق. وليس ببعيد عنا في تاريخنا المعاصر ما يُظهر بقايا تلك الأفكار وأنماط السلوك البدائي وممارساته، على خلفية مشبعة بهمجية لا مثيل لها حتى في مراحل البدائية الأولى وبداوتها، وهذه الأنماط من السلوكيات ليس لها هوية قومية أو دينية معينة، بل تعكس الجوانب المظلمة في معظم المجتمعات، فقد رأيناها في رواندا وصراعاتها القبلية البربرية التي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، وقبلها في ألمانيا ومحرقة اليهود، وفي فيتنام وحربها مع الولايات المتحدة ومذابح الخمير الحمر في كمبوديا، ومثلها في لبنان ومخيمات اللاجئين فيها، وفي أنفال وكيمياويات الموت بكوردستان والمقابر الجماعية في جنوب العراق ووسطه، وقبل ذلك في أوربا وحروبها الداخلية أو العالمية، وما حصل للهنود الحمر في أمريكا وفي كثير من بلدان العالم المتمدن الآن، إنها حقاً حقبة سوداء في تاريخ البشرية، والأكثر منها سواداً وكارثية هو استنساخها، دينياً أو مذهبياً أو قومياً، كما فعلت منظمة داعش التي جمعت ولملمت في هياكلها كل العنصريين القوميين والمتطرفين الدينيين والمذهبيين، بل وحتى المناطقيين بخلفيات تتحكم فيها الكراهية والحقد الأعمى لكل من يخالفها الرأي لتنتج لنا جريمة القرن الواحد والعشرين التي وقعت في سنجار غرب العراق ابان غزوة داعش في أغسطس 2014م.

وبنظرة فاحصة للبيئة التي ينتمي لها عناصر هذا التنظيم، كونه الاحدث في البدائيات الدموية المعاصرة، يظهر خروج غالبية عناصره من مجتمعات قبلية مدقعة الفقر، تعاني من أمية ابجدية وحضارية وثقافية حادة، حيث يتم غسل ادمغتها بسهولة وتعبئتها بكم هائل من الحقد والكراهية المؤدلجة من قبل كوادر فاشية تتربع على رأس التنظيم، وتعاني هي الأخرى من تعقيدات نفسية واجتماعية وفكرية، أقرب ما تكون في توصيفها إلى السادية والسايكوباثية، كما ظهر ذلك في عمليات التقتيل التي تفننت في تنفيذه ذبحاً أو خنقاً أو حرقاً أو إغراقاً أو تقطيعا، بل إنها حتى في هذه الطرق تنحو إلى تفاصيل مقززة في القتل كما في عمليات الذبح بسكاكين مثلومة لمضاعفة آلام الضحايا والتمتع بصيحاتهم وآهاتهم، أو الشوي بالنار حتى الموت، أو الإغراق التدريجي للضحايا، أو تقطيع الأوصال، أو السلق بالماء او الزيت المغلي، ناهيك عن عمليات الاغتصاب الوحشية التي تعرضت لها الاف النساء الايزيديات والتي أدت الى موت المئات منهن.

هذا النمط من السلوك المتوحش لم يلد بين ليلة وضحاها، بل جاء نتيجة تراكم هائل لأفكار وسلوكيات أنتجته صحراء الفكر وحضارة الغزو والقتل والسبي والاغتصاب، وإباحة الآخر المختلف تحت أي مسمى كان، سواء كان دينياً أو عرقياً أو فكرياً أو سياسياً، وإن كان قد استبدلت عناوينه ومسمياته، لكنه ما يزال يحمل تلك العقيدة البدائية التي ترجمت تفاصيلها مذابح ومحارق حلبجة والأنفال وبعد ذلك في نسختها المعدلة في سوريا وما حصل ويحصل في عفرين وقبلها في سبايكر وسنجار وسهل نينوى، ناهيك عن كارثة لم تظهر تفاصيلها بعد لعشرات الآلاف من المغيبين السنة بتهمة التعامل مع داعش.

إن مجرد تحطيم هياكل تلك المنظمة العسكرية لا يعني الانتهاء منها، فما تزال البيئة التي أنتجتها كما هي، بل إن ردود الأفعال على جرائمها أنتج مجاميع أخرى من المنظمات والميليشيات الانتقامية التي تسلك ذات النهج والوسائل وبشعارات مخدرة لضحايا تلك الجرائم مما يعطيها الى حد ما نوع من الشرعية في غياب مؤسسات قوية للدولة سواء في الجانبين الأمني والعسكري أو في الجانب الثقافي والتربوي والتوعوي، وهذا يعني ان سلسلة انتاج هذه الكائنات البدائية ما تزال فعالة بوجود ذات البيئة والأفكار التي انتجت داعش وأخواتها.

***

كفاح محمود

في نص تعريفي تقدمه دوائر السياسة الأمريكية عن طبيعة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID وهي وكالة تابعة لحكومة الولايات المتحدة الفيدرالية ومسؤولة في المقام الأول عن إدارة المساعدات الخارجية المقدمة (للمدنيين). حيث تصف الوكالة عملها بالسعي لمساعدة الشعوب التي تعاني من عديد المشاكل وفي المقدمة منها الاقتصادية، لتحسين ظروف معيشتها وللتعافي من الكوارث، وتكافح للعيش في أوضاع حرة وديمقراطية. وحددت الوكالة أهدافها والتي تتضمن توفير المساعدة الاقتصادية والتنموية والإنسانية حول العالم "لدعم تنفيذ السياسات الخارجية للولايات المتحدة".

الجملة الأخيرة من التعريف بوكالة التنمية، تبدو في نهاية المطاف دالة كاشفة لعمق الأهداف وأبعادها الإستراتيجية، وظهرت في الكثير من المنعطفات التاريخية كونها الغاية والدافع لمجمل تلك المساعدات السخية المقدمة بحجة دفع الشعوب المكافحة لنيل حرياتها ودمقرطة حياتها السياسية والاجتماعية. أي دون مواربة وفذلكة،وعلى المدى القريب والبعيد، تنفيذ أهداف الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية .

لم تبخل الولايات المتحدة ومنذ آماد بعيدة بتقديم تلك المساعدات التي تسبقها دائما سياقات عمل وبرامج معدة لترتيب الخطط ووضعها في سياقات ممنهجة للتعامل مع أوضاع مناطق وبلدان ذات طبيعة محددة، تدخل ضمن اهتمامات الإدارة الأمريكية وتعطي بعدا حيويا للمشاركة و دعم وتنفيذ سياساتها

ففي عام 2004 أشيع بأن الإدارة الأمريكية سوف تعلن في حزيران منه، عن برنامج واسع حول الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي تشمل العالم العربي وتمتد لتحتوي محيطه الواسع أيضا. البرنامج أو المشروع الذي عرض، يحدد توجهات الإدارة الأمريكية للتعامل مع المنطقة وفق أسس ورؤية سبق أن أعلن عنها في مناسبات عديدة. وتتركز جلها في ثلاثة محاور. الأول دمقرطة المنطقة !! والثاني ربطها بالاقتصاد الدولي وبالذات الشراكة الاقتصادية مع الولايات المتحدة، والمحور الثالث يتمثل بتخليصها من مفاهيم العداء المتوارث للسياسة الأمريكية، وإشراكها في الجهود المبذولة لمحاربة الإرهاب.

تضمن مشروع الإدارة الأمريكية للتنمية، طيفا واسعا من المفاهيم المعرفية ومبادرات للشراكة المصممة خصيصا لتقديم المساعدة، لقيام البلدان المعنية، بالإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويشمل المسعى هذا تقديم العون المادي والمعنوي الدبلوماسي وغير الدبلوماسي للنشاطات المهنية والاجتماعية، للذين يرغبون في المشاركة بقيادة المجتمع والدولة، من خلال خلق مبادرات ايجابية لإنجاح مهام منظمات المجتمع المدني وحركات التنوير، وتعزيز البرامج الحيوية لمعالجة مشاكل حقوق الإنسان.على أن تدرس المبادرة وتعالج مشاكل وتشوهات تعاني منها مجتمعات الشرق أوسط في محاولة لإماطة اللثام عن طبيعة ونوع العوائق ومن ثم وضع الحلول لها ليتم معالجتها.

صبت المبادرة أعلاه وموضوعاتها على جهد المشاركة في التغيير، من خلال التأثير بأسلوب الصدمة، وأيضا تغذية المبادرات الداخلية المرنة والممنهجة والمنتقاة بعناية التي ستشارك فيها النخب السياسية. ومع كل تلك الاستعدادات لزج القدرات في عمليات الشراكة نجد أن المبادرة خلت من توضيح أو بيان أو دراسة التأثير السلبي في فرض الخيارات القسرية من الخارج، و إقصاء التحولات أو التغييرات التي تقدم وفق المبادرات الوطنية، مما جعل المشروع يظهر ناقصا وهشا تجاه رغبات الطرف الأخر، الموجب تفعيل مشاركته والسماح لخياراته بالتفاعل والنجاح.

من خلال جميع الوثائق الصادرة عن الإدارة الأمريكية وأيضا الدراسات التي قدمها الباحثون المقربون منها وكذلك المقالات التي كتبها محررو الصحف من المؤازرين لتوجهاتها،يشار إلى أن الشرق الأوسط والعالم الإسلامي دائما ما كان يشكل تهديدا متزايدا لاستقرار العالم ومصالح الدول الصناعية الكبرى، لأسباب تتعلق أكثرها باحتواء ذلك العالم على خزين هائل من منظومات التفكير الطارد، وأنماط من مجتمعات تضمر العداء الديني والقومي (غير المبرر!!) للولايات المتحدة وحلفائها.

أغلب هذه الدراسات والبحوث دائما ما تغاضت عن أخطاء وخطايا الإدارة الأمريكية، ولم تصنفها ضمن العوامل الطاردة أو المسببة لذلك العداء والنفرة، و تهمل الطريقة البرغماتية في تعامل الغرب مع تلك الشعوب، والتعديات والقسر والجرائم التي يرتكبها الرأسمال العالمي في مواجهة طموح وتطلعات تلك الشعوب نحو الحرية وامتلاك خيراتها الاقتصادية والحفاظ على استقلالها وخصوصياتها الوطنية.

ليس غريبا أن تثير سياسات الوكالة الدولية للتنمية أعجابا شديدا لدى صانعيها، ولكنها في نهاية المطاف وبسبب محتواها العام وأساليبها القسرية، تقوي من عزيمة المضادين والرافضين لنظريات الإملاء وفرض الحلول، بعد أن يشعروا بكمية الإقصاء الذي تحويه تلك المشاريع والبرامج الموجهة لهم بالذات، مما يعني بقاءهم مهمشين وغير مرغوب فيهم، ويعاملون كفئران تجارب.رغم تأكيد البرنامج على الشراكة ووجود الآخرين كأدوات منفذة وواجب مشاركتهم الفعلية في تنفيذ جزئياته .

ففي الوقت الذي تعلن الإدارة الأمريكية سعيها لنشر مفاهيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان والديمقراطية، نشاهدها تقدم العون للكثير من حكومات البلدان المعنية بالمبادرة، وبالذات من الذين يمثلون النوع الأكثر قدرة على انتهاك تلك الحقوق وخنقها. وتبدو مشاركة الإدارة الأمريكية فاعلة وذات تأثير صادم في إسناد ودعم هؤلاء الحكام في مواجهة شعوبهم.تلك الازدواجية في المعايير والتفاضل، جعلت بعض مجتمعات مشرقية تتبنى خيار العداء لكل ما يصدر عن الولايات المتحدة حتى في الحالات الإيجابية. وهي محقة في هذا. فمسألة حقوق الإنسان والعدل الدولي والسلام والحريات والديمقراطية، لا يمكن أن تخضع للانتقائية أو خيار المصالح، إن أريد لها أن تنمو بشكل طبيعي ومقنع.

عند هذه الإشكالية الحقيقية تواجهنا الكثير من الإجابات المقنعة عن ازدواجية المعايير لدى الإدارة الأمريكية، وخير دليل على ذلك الدعم المطلق الذي تقدمه لأصدقائها في منطقتنا وشرق وغرب آسيا وبالذات لحليفتها إسرائيل بالضد من حقوق وتطلعات الشعب الفلسطيني. وتلاقي التعديات اليومية الوحشية للسلطات الإسرائيلية الكثير من الدعم والتعتيم من قبل السياسيين في الإدارة الأمريكية، وهناك الكثير من الأمثلة العيانية التي تبدو حقيقية ومقنعة، لتأشير ذلك الخلل الأخلاقي السياسي، الذي يدفع لطرح التحفظات الكثيرة تجاه المشروع الأمريكي حتى بين أصدقائها في المنطقة .

فالاعتقاد الغالب بان ثقافة الغرب وأمريكا ليست بقيم عالمية لكي تفرض، فهناك ثقافات أخرى يجب الاعتراف بها واحترامها، وبدلا من إعطاء محاضرات إرشادية في الأخلاق والثقافة، على الغرب وأمريكا احترام عادات وتقاليد تلك الشعوب الشرقية، التي ترفع الصوت دائما بالقول، لماذا تنظرون لنا كحقول تجارب وشعوب طارئة على التاريخ، رغم أن التاريخ بدأ من وجودنا على هذه الأرض قبل أن تتكون حضاراتكم. ودائما ما فسرت نوايا الغرب، بالعملية القسرية لفرض مفاهيم غربية وغريبة على المجتمعات الشرقية، التي بدورها تشير لامتلاكها خصوصياتها الثقافية، وأيضا لديها مفهومها الاجتماعي والسياسي والديني عن نوعية (محلية) للديمقراطية وحقوق الإنسان. وتحاجج هذه السلطات ومعها المنظمات والجماعات الاجتماعية والسياسية والدينية، بأنها لم تعط الوقت أو الفرصة لتطبيق معاييرها الخاصة بالديمقراطية والحريات المدنية، والإجابة على تلك الأسئلة والانشغالات الكبيرة. وتتبادل تلك الأطراف مع الغرب وكذلك مع خصومها المحليين الاتهامات بتعطيل وتفكيك أسس العمل لإظهار تلك المعايير بخصوصيتها الوطنية.

فالتنظيمات والقوى السياسية والاجتماعية المحلية تتحصن بحجج تعتقد أنها تمتلك ثقافة وتقاليد تغنيها عن المفاهيم الغربية حول الحريات والديمقراطية والمجتمع المدني، وإنها ترتكن إلى خاصياتها الثقافية وموروثها الاجتماعي.ولكن في البحث والاستقصاء عن تلك الخصوصيات، نشاهدها تقدم مشاريعها بقصور بائن،وبالمجمل تكون في الغالب أفعال ورؤى مهلهلة تحد من تطور المجتمعات، وتنحو لخلق بؤر تشيع فكرة الوصاية والقسر. ومع اقتناعها بامتلاكها اليقين (البعيد عن الحكمة) بامتلاك الحقيقة المطلقة، فإنها تغذي خروقات تعدم بسببها حرية الرأي والعدالة الاجتماعية والتطلعات نحو الديمقراطية. وأيضا فأن تلك المؤسسات تتحرك في ظل فقدان قواعد ونصوص متكاملة يحتكم إليها كمرجعيات تمتلك حلولا منطقية لمشاكل عديدة تتراوح بين البسيط وصولا للمركب والمعقد منها.

في نفس الوقت فالسلطات الحاكمة وعبر مؤسساتها تحاول إدامة أو إشاعة المعايير القاصرة عن المفاهيم الحقوقية للحريات، باذلة جهودا وأموالا طائلة لكبح جماح القوى والأشخاص الساعين والمناشدين لتعميم معايير الحريات والديمقراطية في مجتمعاتهم.وتأتي تلك الإجراءات رغبة في وضع القيود ومنع أي تغيير يمكن له خلق أوضاع يتاح من خلالها إجراء تعديلات في هياكل السلطة والتشريعات القائمة .ويهيمن هذا الأداء على مسيرة الأنظمة الحاكمة التي باتت اليوم تستشعر القلق وتتوجس خيفة من المشاريع الوافدة وبالذات الأمريكية والغربية الخاصة بمنطقتها، وتعيش تحت هاجس ووطأة مشاعر الخوف من المثل العراقي والمآل الذي ذهب إليه العراق جراء الاحتلال الأمريكي.

وإذا كان لتلك السلطات عذر في مشاعر الخوف التي تتلبسها، فأمر رفض المشاريع الأمريكية لا يقتصر على السلطات المحلية والتجمعات والتنظيمات الدينية والطائفية، وإنما يشمل أيضا تنظيمات لبرالية يسارية، وتأتي اعتراضات هؤلاء على أسس خصام تأريخي غذته نفرة وشحن أيدلوجي، والقناعة التامة بان جميع ما يأتي من الإدارة الأمريكية ما هو إلا مسعى لتفضيل مصالح الرأسمالية على مصالح الشعوب. ويدفع هذا الاعتقاد بالكثير من دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحركات التنوير، وفي أغلب بلدان الشرق للإحجام عن التعاون مع مساعي الولايات المتحدة لتعميم مفاهيمها في هذا الشأن، لأسباب وطنية ومشاعر متصاعدة من الشكوك، وتطرح في هذا الشأن الكثير من الأمثلة عن سؤ نية الإدارة الأمريكية وما تبييته مشاريعها من مخاطر للمنطقة. حيث توضع الخيارات الوطنية للشعوب وبالمجمل، لصالح السير في ركب مصالحها الأمنية والاقتصادية ذات الطبيعة الامبريالية،وقد اختصر بول برايمر رئيس سلطة الائتلاف المؤقت عند احتلال العراق كل ذلك في مقابلة إعلامية بالقول، إن مصالح الولايات المتحدة تتقدم على واجباتها في القانون الدولي.

***

فرات المحسن

في المثقف اليوم