قضايا

ماجد الغرباوي: التسامح.. قراءة اولية للمفهوم

تعقيبا على مقال: الايدولوجيا والتسامح .. الماركسية الشائعة إنموذجا

بدءا اشكر الاخ الاستاذ سلام كاظم فرج على مقاله الانف، كما اشكر جميع السيدات والسادة على مداخلاتهم وتعقيباتهم القيمة، سواء على الحوار، الذي اجرته مع الكاتب الاستاذة الفاضلة هيام الفرشيشي، او مقال الايديولوجيا والتسامح .. الماركسية الشائعة إنموذجا. وبالفعل قدمت تلك المداخلات والتعقيبات اضافة نوعية. لكن ثمة التباس سببه عدم اطلاع الجميع على الكتاب باستثناء البعض، من هنا بات ضروريا تسليط الضوء على مفهوم التسامح، وما تكتنفه من اشكاليات، كي تتضح الرؤية ويتكامل الحوار.

وقبل البدء بالبحث، الفت الانتباه الى عنوان الكتاب الذي جرى الحوار مع الاعلامية المرموقة هيام الفرشيشي حوله:

اسم الكتاب هو: (التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الاديان والثقافات)

فاطار البحث الاديان والثقافات، وقد يتعدى الى مساحات اخرى كالسياسة مثلا. وعلى هذا الاساس تبدو هواجس الشاعرة جوزيه حلو (حيث تساءلت كيف يمكن التسامح مع المعتدي مثل اسرائيل؟) غير مبررة لانها خارج موضوع البحث من جهة، كما ان التسامح لا يعني التنازل. والمثل الذي ضربته يدخل في باب الحق والتنازل عنه، وليس في باب العفو والصفح. فاللبس سببه المفهوم.

الانا والاخر

الاشكالية الاساس، التي تسببت بكل هذا العناء والصراع الديني والمذهبي عبر الاجيال، هو تصور الفرد عن ذاته والاخر. فالذات دائما تحتكر الحقيقه وتحتكر طرق الوصول اليها، وتحرم الاخر منها، بما فيهم الاخر الداخلي في اغلب الاحيان. من هنا يقع الاحتكاك والصراع، ويستحكم منطق الاقصاء. (انا على حق مطلق وانت على باطل مطلق)، وعندما يراد تهدئة الوضع يصار الى التسامح بمعناه اللغوي، الذي يستبطن المنة والتكرم والتفضل. فتعمل الاجهزة الاعلامية والحكومية والشعبية على اشاعة مفهوم التسامح ومطالبة الناس بالعفو والرحمة والمغفرة من اجل التهدئة وانهاء الاقتتال.

وهذا النوع من التسامح (اللغوي) لا يزحزح الاشكالية، وتبقى الذات متعالية، متفوقه، تنظر للاخر بريبة وشك، الا انها تمن عليه وتتسامح معه، دون الاعتراف بامكانية وصوله للحقيه وحقه في امتلاكها. لهذا ينهار التسامح عند اول احتكاك مع الاخر كما حصل في العراق وغيره من البلدان. ورغم جهود مؤتمرات الوحده الاسلامية التي تعقد في اكثر من بلد سنويا، غير انها لم تحقق لنا الوحده الحقيقه ولا جزءا منها. وانما مهرجانات وتجمعات ورفع شعارات براقة، اما حقيقة الامر فكل طرف لا يؤمن بالاخر، ولا يعترف به حقيقة، ويسود العلاقات منطق التكفير والاقصاء.

الكتاب (كتاب التسامح للكاتب) محاولة جادة لايجاد فرص للتعايش السلمي بين الثقافات والديانات، وفق مفهوم جديد للتسامح بعيدا عن المعنى اللغوي. وتقديم فهم اخر للحقيقة وطرق الوصول اليها. من اجل انتزاع اعتراف حقيقي به، والاعتراف بامكانية وصوله لها. وسلب التسامح صفة المنة والتكرم (كما هو مفهوم التسامح في قاموسنا الشرق اوسطي).

ورغم ان الكتاب لم يشكك في وحدة الحقيقه الا انه انحاز الى تعدد الطرق اليها. فليس هناك احتكار كامل لها، ولا حرمان لاحد، حتى وان تفاوتت النسب بينهما (الطرق الى الله بعدد انفاس الخلائق). وبهذا فقط يمكننا ارساء اسس السلم والتعايش السلمي بين الثقافات والديانات. لان اساس المشكلة ان كل اصحاب الديانات (مثلا) يعتقد انه على حق مطلقا، والاخر باطل مطلقا. وحينما يتسامح مع الاخر، يتسامح معه منة وتفضلا وتكرما (وهنا مكمن الخطر). بينما المطلوب ان يعي كل فرد علاقته بالحقيقه وكيفية الوصول اليها. والخطوة الاولى على الطريق هي اعادة النظر بالموروث الثقافي والديني، وقراته وفقا لمتطلبات الزمانية والمكانية، وفهم ظروف النص والمناسبة التي قيل فيها. كي نحد من الرفد المتواصل للانا وتعزيز مكانتها مقابل الاخر.

اذن فالكتاب ينفي احتكار الحقيقه من قبل طرف دون اخر، لعدم وجود فهم مطلق لها، وانما هي تفسيرات، تؤثر بها الظروف الزمانية والمكانية، والحالات النفسية، وقبليات المفسر. ومادامت هي وجهات نظر فلا يمكن الجزم بها، واعتبارها حقيقة مطلقة. وعندما ينتفي الاطلاق تتحول الى قضية نسبية، وما دامت نسبية فهي تختلف من شخص الى اخر. وهكذا فكل شخص يفهم من الحقيقه ما تبدو له من خلال قبلياته، وثقافته، وبيئته. ولا يبقى تفوق مطلق لاحد على غيره، ويسود منطق (رايي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب). فدائما هناك فسحه لاعادة النظر والمراجعة.

وبعباره اخرى، انا ولاخر نعي بعضا من الحقيقه، ومن هنا وجب علي الاعتراف به، لا منة، ولكن باعتباره يماثلني في الفهم، وان كان بنسبة متفاوتة... وهذا يختلف تماما عن المنة والتكرم. اي لا توجد اي منة لي عليه، فهو له طرقه للحقيقه ولي طرقي، وكلانا قد يصيب وقد يخطأ. وبهذا الفهم ينتفي منطق التعالى على الاخر، وينتفي منطق الاقصاء والتكفير. ويعيش الناس بامن وسلام رغم الاختلاف الديني والثقافي.

ان وعي التسامح بهذا الشكل مرفوض لدى الراديكاليين والايدولوجيين وكل المتطرفين، (سيما الدينيين) لان ركيزة الايديولوجيا (بمعناها السلبي) هو الشعور بالتفوق والفوقيه، واحتكار الحقيقه، لهذا لا تستخدم الايديولوجيا العقل بقدر استخدامها لمنطق الشعارات والعاطفة، ولا تسمح بمناقشة عقيدتها وافكارها الاساسية، وتبرر سلوكها مهما كان دمويا، لانه مشروع يستهدف هداية الناس (حسب فهمها)، وتخليصهم من الجحيم. على العكس من التسامح بالمعنى الاصطلاحي، فلا توجد لديه نهائيات، وكل شيء قابل للنفاش، والمراجعة، والتراجع عن اي فكرة مهما كانت خطورتها ما دامت معززة بمنطق العقل والعقلانية. فالايدلوجيا والتسامح خطان متوازيان.

واخيرا نحن بحاجة ماسة الى ثقافة جديدة، ووعي جديد، نؤسس في ضوئهما مجتمعا انسانيا، بعيدا عن منطق الاقصاء والتكفير، ويعيش الناس فيه على اسس انسانية، وهذا لا يعني الغاء الخصوصية، وانما التعالي على سلطتها، والاحتكام الى العقل والمنطق العقلاني.

ولكي لا يصار الى تأويلات بعيده، دعونا نفرق بين العقائدية والايدولوجية، رغم التماثل، او الاتحاد على بعض الاراء.. والفرق بينهما، امكانية التراجع وقبول النقد، رغم تشابه مرجعياتهم من حيث اليقين والجزم. فالشخص العقائدي، له نفس صفات الايديولوجي اندفاعا وسلوكا وايمانا، غير ان ايمانه قابل للمراجعة والنقد، والاحتكام الى العقل. وبالتالي يكون بناؤه العقائدي بناء عقليا قائما على الدليل والبرهان، وليس الايدولوجي كذلك، لانه يرتكز الى منطق العاطفة وتأجيج المشاعر، والتعصب للافكار. ويعتمد اسلوب الكبح والاقصاء مع الاخر المختلف.

وتفصيلات الموضوع يتولاه كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، وايضا كتاب: تحديات العنف، وكلاهما للكاتب نفسه.

 ***

ماجد الغرباوي

 

في المثقف اليوم