قضايا

الحضارة الصينية وبدايات التكنولوجيا

محمود محمد عليذكرنا في المقالة السابقة كيف أسهمت حضارة الهند في قضايا كثير تخص النهضة العلمية، وهنا في هذه المقالة نقف عند حضارة الصين، حيث تعد الحضارة الصينية من أقدم الحضارات التي ازدهرت فى أقصى الشرق من العالم القديم، حيث قدمت هذه الحضارة اختراعين عظيمين : أحدهما صيني خالص هو فن الطباعة والآخر لفن قديم وهو صناعة الورق الذى بدأه المصريين القدماء قبلهم بسبعة وعشرين قرناً من الزمان، حيث يرجع اختراع الورق فى الصين إلى القرن الثاني بعد الميلاد .

وتمتاز الحضارة الصينية دوناً عن سائر حضارات الشرق القديم فيما يذكر مؤرخ العلم العظيم " جوزيف يندهام " بوفرة ما لديها من المعلومات الخاصة بماهيتها المستفادة من مصادرها الأصلية، فهي ليست كالحضارة الهندية مثلاً حيث الجدولة الزمنية للأحداث التاريخية مازالت مشكوكاً فيها بدرجة كبيرة . ففي الصين يمكن فى أغلب الأحوال تحديد ليس العام فقط، بل الشهر وجميعها مكتوبة بقدر من الحيدة وشدة الانتباه ؛ إلا أنه ولسوء الحظ لم يترجم منها إلى اللغات الأوربية سوى النذر اليسير للغاية .

ولو ألقينا نظرة موجزة لتاريخ الصين، نجد أن أوائل السكان الذين عاشوا فى أرض الصين هم ذلك الجنس الذى ينتمى إلى " إنسان بكين " الذى عاش فى بداية أواسط عصر " البلستومين " "حوالى 400000 ق.م " أى فى زمن أسبق من زمن إنسان "نياندرثال "Neanderthal man الذى عاش فى أوربا وحوض البحر المتوسط، وهناك شواهد معينة على وجود سكان عاشوا فى الصين فى العصر الحجرى المتأخر Neolithic  حوالى 12000 ق. م . أما بعد ذلك فهناك فجوة واسعة التواصل؛ حيث لا توجد سائر المراحل التالية من عصور ما قبل التاريخ إلا فى منشوريا .

وفجأة وبعد حوالى 2500 ق.م، تبدأ الأرض الشاغرة فى استطافة عدد كبير من السكان النشطين وتظهر مئات، بل آلاف القرى يسكنها أناس يرعون قطعان الحيوان في إطار إقتصادي زراعى، وعلى دراية بالمنسوجات والنجارة وصناعة الخزف، وتبدو الحاجة واضحة إلى العمل الأثرى المكثف من أجل إلقاء الضوء على هذه الفجوة الغريبة بين سكان العصر الحجري ومن أعقبوهم فى العصر الحجرى المتأخر .

وأول حضارة صينية هامة تكشف عنها الحفائر هى حضارة " يانجشاو " Yangshao التى كانت تتواجد فى حزام من الارض الممتدة من الغرب للشرق يشمل المحافظات الحالية التالية: كانسو، سنسى، شانسى، هوانان، شانتونج، وكان محصول الحبوب الرئيسى غالباً هو الدخن ثم صار الأرز فى حقبة تالية، وحيث أن أي من هذين النباتين ليس صيني المنشأ فمن المحتمل أنهما جلبا من جنوب شرق أسيا، وقد عثر على عظام الكلاب والخنازير وعظام للغنم وعظام للماشية تنتمى لحقبة زمنية تالية، كما تأكد وجود عظام الخيل أيضاً، لكنها قد تكون عظام فيل برية من النوع الذى ظل يعيش في منغوليا إلى عهد قريب، ولعل أبرز سمات حضارة " يانجشاو " هى خزفها المطلي الذى كان يصنع حوالي 2500 ق.م بطريقة اللف الحلزونى لاسطونات رفيعة من الطين لا باستخدام " عجلة الفخراني ".

ولقد أعقبت حضارة " يانجشاو " فى هونان وشانس حضارة أخرى تنتمى للعصر الحجرى المتأخر أطلق عليها " جهينج – نسو ياى Chheng-Tsu-Yai " أو " لونج – شان –Long -shan " وهما اسمان لموقعي حفائر أثريين، ومع أن أصحاب هذه الحضارة لم يعرفوا المعادن، فقد استخدموا أواني خزفية سوداء ناعمة الملمس ومتقنة التراكيب وجيدة اللمسات النهائية، كما أن آناس لونج – شان استانسوا كل الحيوانات التي عرفتها حضارة بانجشاو، والتي من المحتمل أن من بينها الحصان، ومن أن أناس لونج – شان، قد عرفوا المركبات ذات العجلات، وإن كان الدليل على ذلك غير مؤكد، وكان هذا أيضاً هو الوقت التي ظهرت فيه ابتكارات شتى مثل س" عجلة الفخراني " واستخدام التراب المدكوك فى أعمال البناء، وهما ابتكارات كانا معروفين منذ أمد طويل فى الشرق الأوسط، ولكنهما كانا قاصرين على الصين .

تصل بناء حضارة لونج – شان إلى عام 1600 ق.م، وبعد ذلك وخلال قرن واحد إذا بنا نقع فجأة على حضارة ناضجة تنتمى لعصر البرونز Bronze age هى حضارة أسرة "شانج"، وقد استمرت هذه الأسرة فى الصين إلى أن غزا الاسكندر الأكبر الحضارة الصينية حوالى 327 ق.م .

وبالنسبة لملامح النهضة التكنولوجية فى الحضارة الصينية، ففي ظل عهد أسرة شانج تميزت حضارة الصين بكل سمات الحضارات القديمة مثل حياة المدن واختراع الكتابة، واستخدام المعادن والفن الزخرفى فى العمارة، وانقسام المجتمع إلى طبقات وظهور التخصص المهني، وتقسيم العمل وازدهار التجارة وظهور النزعة العسكرية، ونمو الصناعات المتعلقة بها وتطور العلوم الفلكية والرياضيات والطب والدواء والتقويم، إلى أخره، ومن المرجح أن عناصر حضارة الصين قد نمت وتطورت بانتشار عناصر حضارية من الغرب وتفاعلها مع عناصر حضارة العصر الحجري الحديث فى المنطقة، ويختلف نظام وأسلوب الكتابة فى الصين عن مثيلاتها فى مصر ووادي الرافدين، على الرغم من أنها اتبعت مبادئ متشابهة، وربما كان ذلك من خلال انتشار فكرة الكتابة من الحضارات المجاورة الأقدم.

ومن ناحية أخرى فقد تميزت حضارة الصين بنمط فنى معين فى صنع القوارير والمزهريات البرونزية والأدوات المعدنية الأخرى، واستخدم الصينيون القدماء الرصاص لتزييف العملات المصنوعة من الفضة منذ الألف الثاني قبل الميلاد، مما يعد دليلاً على معرفتهم الفائقة بخواص المعادن فى ذلك الوقت .

تلك هى أهم ملامح النهضة التكنولوجية فى حضارات الشرق القديم، وهى إن دلت على شئ فإنما تدل على أن تلك الحضارات سبقت اليونان بأجيال عديديه من الزمن، وأن اليونانيين مدينون لتلك الحضارات، وإن كانت الأقدار لم تشأ أن يكمل أبناء حضارات الشرق القديم مشوار العلم الذى بدأوه فى شتى مجالات العلم والمعرفة، حيث خبأت ثم انطفأت الروح العلمية لدى أبناء تلك الحضارات ثم اليونانيون، فأكملوا المسيرة وساروا بالعالم خطوات هائلة، وذلك بعد أن تعلموا هذا الدرس من الحضارات السابقة عليهم .

 

بقلم د. محمود محمد علي

كلية الآداب – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم