قضايا

ثامر عباس: مواضيع ثقافية لم يفت أوانها بعد (1)

في عام 2013، وبمبادرة كريمة من الأخ والصديق (ياسر المتنبي) صاحب مكتبة عدنان، صدر لنا كتاب تحت عنوان (أقنعة وأساطير: مقاربات نقدية في سوسيولوجيا الثقافة العراقية)، ضمّ بين دفتيه مجموعة من المقالات والدراسات تناولت من منظور نقدي مواضيع متنوعة حول (الثقافة) و(المثقف) العراقيان، والتي أتيح لبعضها النشر ضمن صحفنا المحلية (الصباح، والعراق، وطريق الشعب)، في حين آثرنا الإبقاء على بعضها خارج مجال النشر الإعلامي ؛ إما لعدم تناسب حجمها مع متطلبات المقالة الصحفية التي تعتمد الإيجاز والاختزال، أو لإيثارنا جمعها ونشرها في كتاب مستقل حرصا"منا على إبقائها قيد التداول الثقافي والتفاعل الفكري، وهو ما لم يحصل – ويبدو انه لن يحصل – للأسف الشديد، لأسباب ودواعي لا تخفى على من يعنى بالِشأن العراقي وملابساته المتقادمة والمتراكمة .

ولأني أعتقد جازما"بان غالبية تلك المواضيع / الهموم لا زالت قائمة بين ظهرانينا ولم يفت أوانها بعد تمارس تأثرها الخفي وتطرح إشكالاتها المضمرة . هذا من جانب، أما من جانب ثان، ومن منطلق تحفيز الحوار الثقافي، وتنشيط التفاعل الفكري، وتعميم الفائدة المعرفية، أرجو أن يسامحني الأخوة والأصدقاء إزاء إعادة نشر بعض تلك المواضيع / الهموم التي أرى إن مضامينها لا زالت راهنة، بل قل ملحة، على صفحتي الشخصية في الفيسبوك، مع التأكيد على إن أمر (التعليق الحر) متروك لجميع من يرغب بالمشاركة والإدلاء بما يراه مناسبا"من أفكار وآراء . ولأن حيّز النشر في مثل هذه المواقع (محدود) و(ضيق)، مثلما لتجنب الوقوع في محظور الإطالة المملة، فقد آثرنا تقسيم تلك المواضيع على شكل (حلقات) موجزة – قدر المستطاع - لتسهيل قراءتها وتمكين فهمها، ومن ثم إتاحة الفرصة للرد عليها أو المشاركة فيها . مع وافر المحبة وعاطر التحية للجميع

(الموضوع / الهمّ الأول): وباء السياسة وشقاء الثقافة    

غالبا"ما كانت العلاقة بين حقول السياسة وميادين الثقافة ؛ قلقة، حذرة، ملتبسة، إشكالية . ليس لأن مجال الأولى هو الواقع بكل تفاعلاته وصراعاته، وان مجال الثانية هو الفكر بكل إرهاصاته وتمظهراته فحسب، بل لأن نزوع السياسة يرمي إلى نشدان المحافظة وبلوغ الثبات وتحقيق الاستقرار، هذا في حين إن توق الثقافة يبغي التطلع إلى التغيير في الواقع، والتطوير في المجتمع، والتنوير في الوعي . وإذا ما كان الحال هكذا، فما الداعي لربط هذه بتلك واستنتاج رذائل الأولى بدلالة فضائل الثانية ؟! .

الحقيقة إننا لا نروم، عبر هذه المقارنة المتطرفة والمقاربة الحديّة، دفع التعارضات والتمايزات بينهما إلى حدودها القصوى، بحيث يستحيل الفعل السياسي الذي يفتقر إلى بوصلة الثقافة، إلى موقف ذهني فج وتصرف إجرائي أهوج . كما لا نعتزم، للأسباب ذاتها، عزل الثقافة عن واقعها الحيّ وانتزاعها من بيئتها المتعضيّة، وبالتالي فصلها عن السياسة ببرزخ من المحارم والممنوعات، لكي نجعل كيانها طاهرا"وروحها نقيّة . لذلك إن مجرد التصور باحتمال وجود مثل هذا التقاطب والتصالب، قمين بإحالة المسألة إلى نوع من اليوتوبيا على صعيد الواقع والميتافيزيقيا على مستوى الوعي، وإلحاق الضرر، من ثم، بكلا المبحثين المتلازمين وما ينطوي على ذلك الفصل من إشكالات نظرية وتداعيات واقعية .

وعلى ذلك فان كل ما في الأمر هو إننا – وان كنا نسعى ضمنيا"إلى ترسيخ فكرة وتكريس معلومة مؤداها ؛ إن طابع العلاقة بين السياسة والثقافة يتسم بالتفاعل جدليا"، والتواصل عضويا"، وبالتالي لا يمكن الحديث عن حدود قطعية وتخوم نهائية بين مجالات هذه وفضاءات تلك – توخينا تضمين الموضوع رسالة مفادها ؛ إن السياسة متى ما أصبحت مطية لكل راكب وموئلا"لكل لكل راغب، فان مسألة تحوّلها إلى وباء يصيب الجميع ومسّ يتلبس الكل، ستصبح أمرا"واقعا"وعرفا"بديهيا"، لا مناص من تحمل عواقبه الوبيلة والرضوخ لويلاته المدمرة . وحينذاك لا فرق بين الأكاديمي الذي يمتهن تدريس العلوم والمعارف في المعاهد والجامعات، وبين الراعي الذي يقود قطيع من الإبل في البراري والفلوات . وبين العالم الذي لا ينفك يمتحن فروضه في مراكز البحوث والمختبرات، وبين صاحب الدكان الذي يتعاطى التجارة بالكماليات والعطاريات . بين المثقف الذي يعكف على قراءة النصوص ويكدح في تحليل الأفكار وتأويل السرديات، وبين الدرويش الذي يلقم مريديه عجائب الأساطير وغرائب الخرافات . بين السياسي الجامح الذي لا همّ له سوى الفوز بصولجان السلطة والإمساك بأعنة النظام، وبين رجل الدين المرائي الذي يتقن فن المزج بين العسل والدم، والخلط بين المقدس والمدنس، والتمويه بين الحق والباطل، لأجل أن يكون ظهيرا"للزعيم الأوحد والرئيس الطاغية، إن لم يسعى للانقلاب على الأول والحلول محل الثاني .

 

ثامر عباس

..........................

 ملاحظة : تكملة الموضوع ستنشر يوم غد بإذن الله

 

في المثقف اليوم