قضايا

محمد بنيعيش: السلم العالمي والإجراء المحمدي للمِّ شمل الفرقاء ورفض الإقصاء

محمد بنيعيشلا أريد أن أخوض مباشرة فيما يجري حولنا في هذه اللحظة الراهنة من أحداث قد تهدد السلم والأمن العالميين،كما لا أحبذ أن أحدد من صاحب الحق من الظالم في بؤرة هذا الصراع العالمي بين أهل الشرق والغرب،والذي لا يكاد ينتهي ولا يمل ولا يكل.إذ الجواب عنه لا يتأتى عبر المقالات والمناظرات والتحليلات والمهاترات التلفزية وغيرها،لأن غالبية هذا أو ذاك،عند تحكيم ظواهر الأمور، حسب رأيي المتواضع، عبارة عن هراء متهور وتزمير مزعج ومزمجر قد لا يعطي حقيقة ولا يوصل إلى نتيجة...إذ أهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل العربي...

بل سنعتمد هنا بالموازاة نموذج قصة بناء الكعبة ومنهج النبي (ص) في حقن الدماء وحفظها من السفك بغير حق وذلك حينما تحتدم الطائفية وتطغى على زعمائها الأنانية.

أ) فحينما تعرضت الكعبة للهدم الطبيعي- كما قلت- هب الجميع للبناء مع التحفظ كما يروي أصحاب السير، وهو تحفظ في الإقدام على عمل لم يسبقوا إليه في ذاكرتهم، وتحفظ في نوعية المادة المستعملة لبناء الحرم المحرم. بحيث فيما اشترطوه أن لا يدخل في نفقاتها مهر بغي ولا بيع ربا...!

فأبو وهب، الذي أخذ حجرا من الكعبة حين أجمعت قريش لهدمها فوثب من يده، حتى رجع إلى موضعه، سيقول عند ذلك: (يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا تدخلوا فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس)1 .

هكذا،إذن، تم البناء بالاتفاق حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه: كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى (فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة وسموا لعقة الدم، فمكثت قريش أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا ... وكان أسن رجل في قريش إذ ذاك أبو أمية بن المغيرة المخزومي عم خالد بن الوليد فقال لهم: يا قوم لا تختلفوا وحكموا بينكم من ترضون بحكمه، فقالوا نكل الأمر لأول داخل !.

فكان أول داخل عليهم حينذاك رسول الله (ص) فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد !، لأنهم كانوا يتحاكمون إليه، إذ كان لا يداري ولا يماري، فلما أخبروه الخبر بسط رداءه وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم وضع فيه الحجر وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه ووضعه فيه...

بهذا، كما يقول محمد الخضري بك في كتابه (نور اليقين من سيرة سيد المرسلين ): (انتهت هذه المشكلة التي كثيرا ما يكون أمثالها سببا في انتشار حروب هائلة بين العرب لولا أن يمن الله عليهم بعاقل مثل أبي أمية يرشدهم إلى الخير وحكيم مثل الرسول (ص) يقضي بينهم بما يرضي جميعهم) .

على ضوء هذه الصورة التاريخية للعرب والمرتبطة بالسيرة النبوية الشريفة ينبغي أن نقف لنستلهم العبرة من المنهج السليم لحقن الدماء والتوحيد بين الطوائف والنزعات العرقية، كيفما كان نوعها وجنس أصحابها، مسترشدين بهدي النبي (ص) وحكمته قبل بعثته وبعدها، وسعيا إلى حقن دماء إخواننا الأشقاء في كل العالم.

فلقد سد النبي (ص) الطريق أمام لعقة الدم حتى لا يحققوا نواياهم وعزمهم السيئ، وأيضا، وهذا الأهم والأولى، على مداخل إبليس اللعين - كما مر بنا-.إذ أعطى لهم الحل الأمثل والمعجز والنموذجي في إطفاء نار الفتنة الطائفية ونزعة الأثرة لدى كثير من الأشخاص والانتهازيين المتطلعين إلى بث الفوضى والظنون السيئة، تارة باسم الحفاظ على المقدسات، وأخرى تحت غطاء حماية حقوق الإنسان والانتقام من رواد الإبادة الجماعية، في زعمهم، وما إلى ذلك مما قد يوظف كقميص يوسف لتبرير وتغطية نواياهم ونزعاتهم الشريرة . فسواء أكان أهل هذا البلد وذاك سنة أو شيعة، أو عربا وعجما أو بيضا وسودا وغيرهم، بل حتى ممن يعتبرون أقلية طائفية، دينية كانت أو عرقية ولغوية، ينبغي عليهم أن يعتبروا بهذا الإجراء النبوي في علاج الحيرة الإنسانية حينما تسد أمامها الأبواب وتتوقع مع القرائن بأن ما هو آت أسوأ مما هو كائن أو قد كان، فتلجأ بغريزتها إلى الحد من الانجراف الذي قد لا يعرف بعده عودة إلى القمة أو اليابسة.

 

ب) فالعناصر الممهدة لنجاح إجراءات حقن الدماء ومناهضة لعقته يمكن تلخيصها في الآتي:

1) وجود الطائفية ينبغي أن يعترف به كامتداد طبيعي للتجمعات البشرية واختلاف تقاليدها وأنماط سلوكها ومعايشها، وتفاوت تقدمها بين التوحش والتأنس، كما عبر عنها ابن خلدون، أو جدلية البداوة والتحضر، وهي تتمظهر على شكل مذاهب وملل ونحل وعشائر وقبائل ولغة ولهجات، وهذا التنوع قد عرفه العرب منذ التاريخ، ومع ذلك فقد كان التعايش قائما لديهم.

2) وجود موحِّد رمزي للطائفية من حيث المبدأ كما هو نموذج الكعبة المشرفة عند العرب في الجاهلية والإسلام.

أما بالنسبة إلى المسلمين، العرب خاصة، فقد توفرت لديهم عوامل متعددة كفيلة بتوحيد صفهم من أهمها: اللغة والدين والحضارة والتاريخ...

3) وجود مرجعية لكل طائفة تحركها أو تسكِّنها بحسب ما تراه مناسبا لطائفتها بالتفويض أو الاستشارة والتسليم .

4) توفر عنصر الصدق في تعظيم هذه المرجعيات أو الرموز الموحدة للطوائف، على رأسها مسألة: الوطنية والقواسم الاجتماعية المشتركة بين أي شعب في العالم .

5) الحرص على تحقيق السبق في خدمة هذا الموحِّد ونيل شرف التقرب منه .

فلما جاءت مرحلة بناء الكعبة، محل استلهام حقن الدماء، كانت كل هذه العناصر متوفرة في العربي، بالرغم من جاهليته، وكانت أيضا متداخلة فيما بينها بشكل متناسق !

ج ) لكن المختلف بين حال العرب حاليا وحال إخوانهم عند بناء الكعبة هو ما سنراه في التالي:

1 ) إن الخلاف قد كان قائما بين العرب في الماضي داخليا ومن ثم سيتم حسمه في الحين وسيلجئوا إلى التحكيم الذي يخضعون له جميعا، وبدون نية لنقضه أو التلاعب بنتائجه لصالح طائفة دون أخرى !

وعلى عكس الوضع لدى العرب في عصرنا، فإن الخلاف بينهم قد دخله عنصر ثالث في المعادلة وهو التدخل الخارجي، كعدو ظالم، وكافر في نفس الوقت، ومعه قوى أخرى إمبريالية وخائنة ومتحينة ومتآمرة، ومن ثم فإن التحكيم قد لا يتم طالما هناك من يوالي هذا العنصر الغريب ضدا على المجتمع العربي وطوائفه السياسية والمذهبية والعرقية على حد سواء...

من هنا فقد كان لزاما على كل عربي، مسلم، حر يريد المصلحة لبلاده ولو كان يتعامل مع المستعمر سياسة ومداراة أن يتساءل: لماذا لم نتوصل إلى حقن دمائنا في الحين قبل إهدارها وسفكها بهذا الشكل الفظيع، رغم أننا مسلمون أو حتى مجرد عرب أو شعوب متآلفة يجمعنا وطن واحد ولغة واحدة أو لغات متجانسة وتاريخ مشترك، بينما إخواننا العرب في الجاهلية قد استطاعوا أن يحولوا بين إهدار دمهم باللجوء إلى التحكيم والتزام نتائجه؟ !!!.

إن الجواب هنا سهل وقريب: وهو أن المسلمين سواء أكانوا سنة أو شيعة أو عربا وعجما أو بربرا وأكرادا، أو أردا وملاوي، ليس من طبعهم قتل بعضهم البعض بسبب التمذهب عبر تاريخهم، لولا وجود لعبة سياسية، ماكرة ونفعية، أدت بهم من حيث لم يتفطنوا إلى هذا المآل المؤلم والمخزي.

فالتعايش قد كان قائما بينهم منذ زمن قريب، والتواصل بين الطوائف- وخاصة أهل السنة والشيعة- كان متينا ومتراصا، بدليل التجاور في السكن والتضامن أثناء الحصار الظالم للشعب العراقي خاصة، وكذلك باقي الدول الأخرى على نسب متفاوتة...

لكن هذا التعايش بين عشية وضحاها قد افتقد بشكل مريع، وبمجرد اختلال الأنظمة القائمة ومعها الشعوب بفعل التحريض والتشكيك وتلفيق التهم من طرف العدو الخارجي وموافقته لأهواء بعض المتربصين بالكراسي من الداخل .

إن النتيجة المنطقية والملاحظة العلمية والاستقراء يقولان: إن المسبب والمذكي للطائفية والتقاتل بين أهل السنة والشيعة وغيرهم من الطوائف والمذاهب هو الطغيان والإغراء الخارجي المتربص بالأمة، ومعه كل ذي وجهين من أصحاب الجوار وأنماط أبي رغال !

فلتتفطن شعوب وكل زعماء وحكام الدول العربية والإسلامية من شرقها إلى غربها وكل من في قلبه مسكة أو ذرة غيرة ووعي بالمسؤولية، وخاصة رواد المرجعيات وزعماء الأحزاب والعشائر، لهذا الاستنتاج وليلتزموا التحكيم لحقن دماء بعضهم البعض والحيلولة دون لعقته من تحقيق أغراضهم في إسالته...

لكن، من سيحكمون وهم في هذه الظروف الحالكة والمضطربة ؟.فلقد حكم العرب في الجاهلية كما رأينا في بناء الكعبة بصورة جزافية ظاهرا: كل من يدخل عليهم من هذا الباب !كما في الرواية .

لكن هذه الجزافية لم تكن مطلقة وعشوائية أو عفوية وإنما كانت مضبوطة وحاسمة، إذ هذا الباب يمثل عين المكان الذي يوجد فيه الحرم المكي، كما أن الداخل منه سيكون حتما واحدا من أهل الحرم وليس أجنبيا !

هذا درس ينبغي أن يعتبر به كل العرب والمسلمين الشرفاء ممن حاروا في تخليص دماء أبنائهم من لعقته وسافكيه، سواء أكان هؤلاء الشرفاء، عربا أو عجما، سنة أو شيعة، وأكرادا أو أفغانا، أو حتى من ينتمون إلى الطوائف الدينية غير الإسلامية وخاصة مسيحيي لبنان ومصر، لأن الخطر محدق بهم جميعا، أفرادا وجماعات بدون استثناء، سواء أكانوا من الموالين للاستعمار أو المعارضين له .

إذ العدو يبقى عدوا ولا يرضى حتى ينال ما يرى فيه مصلحته الذاتية وتسخيره المطلق لمن استعمره لغاية الإشباع الذاتي الذي لا ينتهي ! بل هو يدور بين الباعث الشهوي البهيمي والباعث الغضبي السبعي مع توظيف الكيد الشيطاني للوصول إلى أهدافه كما سبق وقدمنا علميا في هذا المجال !

فليعمل أهل كل بلد أوطن ممن ذكرنا على تحكيم كل من يدخل عليهم من حرم وطنهم ودينهم، أي باللجوء إلى أهل الرأي والحكمة ممن يرونه سليم النية وحسن السلوك ونظيف السيرة، إضافة إلى بعده كل البعد عن موالاة المستعمر أو التآمر معه ضدا على مصلحة وطنه وشعبه لأنه: (من يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )2 .

فإذا لم يجدوا من يحكمونه في وطنهم الصغير فليبحثوا عنه في وطنهم الكبير، عبر العالم العربي والإسلامي بغير تسييس أو تيئيس.

فإن لم يطمئنوا إلى أحد من هؤلاء فليحكموا ما لديهم من مرجعية لا يضل عنها إلا هالك ألا وهي: كتاب الله وسنة رسوله (ص)، على النموذج الذي اخترناه لتحليل واقع الطائفية في العالم الإسلامي والسبيل الأمثل لحقن دمائهم لأنها من دمائنا.

يقول النبي (ص): (المسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم يرد مشدهم على مضعفهم ومتسريهم على قاعدهم لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده)3 .

لكن كأن يحكم البعض طغاة العالم وعملاءهم بعدما رأوا فظائعه في بلدانهم وبلدان غيرهم حيثما حلوا ببلد، مسلم وغيره، فهذا لعمري سيكون من الغباوة والخسة ما بعدها من خسة في مسخ تاريخ العرب التليد، وهو ما لم يعهدوه ولم يقدموا عليه ولو في أوج الانحطاط وسقوط الدولة العباسية على يد هولاكو وجنوده !.

د) أخيرا وفي سيرنا مع المنهج النبوي والقدوة في حقن الدماء نتمعن في الطريقة التي وظفها لإرضاء الجميع:

فلقد سلك الرسول (ص) طريق التوحيد والتأصيل لجمع شمل عشيرته، وذلك باستعمال الوسائل الخاصة والشخصية لتحقيق هذا الهدف، ودون الاستعانة بأية أدوات خارجية أو استعارتها من طرف ثالث تكون له عليه وعليهم بها منة أو تبرير وضغط لفرض الشروط والتدخل في الشؤون الداخلية وتحديد المصير للآخرين .

هـ) فلقد كان الرداء الذي استعمله النبي (ص) لحقن الدماء ولمّ الشمل رمزا للستر والتغطية وغض البصر عن العيوب والنقائص حتى يتم التراضي بدون أحقاد أو خلفيات.

كما أن هذا الرداء قد كان رداءه الشخصي، أو قد أصبح في ملكه بالمناولة الطواعية، ولم يكن مستعارا أو مزيفا . ومن ثم فسيضحي به في سبيل حقن دماء قومه، لا يهمه أن يصيبه مكروه أو يتعرض للبلى أو أن يخلق بفعل هذه العملية .

في حين لم يستثن أي أحد من المختلفين بإشراكهم في هذا المشروع الشريف المقصد والغاية، ولم يستعمل انحيازه الشخصي إلى فئة دون أخرى لأسباب عشائرية أو حسابات وتنافر شخصي ربما يكون قد حصل بينه وبين بعضهم قبل هذا التحكيم.

إذ لما بسط رداءه طلب من الجميع المشاركة في العملية على التساوي وبدون اعتبار الأغلبية من الأقلية ؛ لأن الحقوق لا تخضع للعدد، والدماء تتساوى وتتكافأ لأن: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)4 .

وبالمقابل فكانت الاستجابة جماعية، لم يتخلف عنها أي فريق، أي أن الحل قد كان متناسبا بين نوع الاقتراح وطبيعة الاستجابة، وبذلك تم حقن الدماء ونال الكل شرف الانتماء، خاصة وأن الذي سيضع الحجر الأسود في مكانه هو نفسه المحكَّم في الخلاف، سيدنا محمد (ص)، رسول رب العالمين لإسعاد الناس والخلق أجمعين، فاعتبروا يا أولي الألباب من الراغبين في السلام والصواب بمنهج هذا النبي الأمين (ص) !.

 

الدكتور محمد بنيعيش

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة

........................

1- ابن هشام: سيرة النبي (ص)، ج1 ص194

2- سورة المائدة آية 51

3- سورة المائدة آية 22

4- رواه أبو داود في السنن،كتاب الجهاد

 

في المثقف اليوم