قضايا

جمال العتّابي: ماركس.. هل يصلح لهذا العصر؟

جمال العتابييطرح الكاتب رضا الظاهر أسئلةً عديدة تبدأ منذ السؤال الأول (ماركس هل كان على حق)، وهو عنوان كتابه الصادر عن دار الرواد المزدهرة في بغداد عام2021، والأسئلة تتوالى حتى آخر فصول الكتاب، وإعتمد الظاهر بتحوير منه السؤال الأهم الذي طرحه الباحث الماركسي البريطاني، والناقد الأدبي المرموق تيري إيغلتون في كتابه (لماذا كان ماركس على حق)، الصادر في 2011، وهو كتاب مثير للجدل، يطرح أسئلة حارقة، كما يصفه الظاهر، وبين الشك في عنوان الأول، والإثبات في الثاني، مسافة تدعو للتدقيق في الحالين، بين الماضي بفعل (كان)، والتأكد واليقين بسؤال تيري، وإزائهما سيكون السؤال الأجدر للجدل بتقديرنا: هل يصلح ماركس لهذا العصر؟ أو للمستقبل كذلك؟

تبدو المهمة عسيرة، لأننا نخاطب الجانب الأعمق والأدل في الفكر الماركسي، ولكي نتبين هذا الإفتراض، علينا أن نجد أكثر من برهان خشية الوقوع في إستنتاجات خاطئة.

تضمن كتاب الظاهر محاورعديدة، وأسئلة وأجوبة، وهي مجموعة مقالات كانت منشورة سابقاً، وسواءً إتفقنا أم إختلفنا حولها، فهي قائمة وجديرة بالإنتباه، كونها تفتح أمامنا نوافذ جديدة في قراءة الماركسية، ومن شأنها تحقيق حوارات ثرية لاحقة تعمق الصلة بالأسئلة المطروحة، وجهد كهذا الذي قدمه الظاهر يحقق تفاعلا مع الآراء والطروحات الجديدة التي شكلت بمجملها تياراً فكرياً مختلفاً مع الماركسية، ونحن بحاجة لحوار من هذا النمط وصولاً إلى فهم متجدد لدروس التاريخ.

إستهل رضا كتابه بفصل عنوانه: ماركس يعود.. الماركسية تولد من جديد، ويخلص فيه بالقول: إذا أردنا لماركس أن يبقى حياً، أي أن نعيده من الصقيع الجامد إلى دفء الحياة، فعلينا أن نفعل، كما فعل هو مع ديالكتيك هيغل، أي أن نوقف ماركس على قدميه بعد أن أوقفناه طويلاً على رأسه، المشكلة إذاً تتمثل بإزالة التشويه الذي أُلحق بماركس من قِبَل من يسمون أتباع ماركس، كما يرى (أريك فروم) وهو مفكر أمريكي كبير من خارج الصف الماركسي، في كتابه مفهوم الإنسان عند ماركس، ويعتقد رضا الظاهر ان ماركس يظل راهناً فاعلاً، وسط كل الضجة التي يثيرها خصومه، ويبقى تحليله الإقتصادي مسألة لا جدال فيها، ويستند بهذا الرأي الى ان عصرنا الراهن، عصر تطور الرأسمالية وتقدمها، يشهد الكثير من الشروط والإتجاهات التي حددها ماركس في نقده للإقتصاد السياسي، ولعل من بين أفكار ماركس التي يؤكدها واقع اليوم أن رأس المال هو أساس تيار إغتراب البشر. ولا يزال إكتشاف قوانين الرأسمالية في الرأسمالية المتعولمة المعاصرة.

3391 رضا ظاهرقبل أكثر من 170 عاما، كتب ماركس وانجلز البيان الشيوعي، جاء فيه: إن ما تخلفه البرجوازية، قبل كل شيء، هم حفّارو قبرها، ان سقوطها وإنتصار البروليتاريا أمران حتميان، غير أن الرأسمالية العالمية عوّمت حفاري قبرها لكي تبقي حية، فهل إنتهى ماركس؟ يجيب الكاتب بالنفي البّات، انما يجعل ماركس جديراً بالقراءة في عصرنا، ليست تنبؤاته (المتفائلة)، إنما تشخيصاته التي تتردد أصداؤها حتى اليوم.

ما من شك ان النظام الفكري الذي طلع به ماركس، وأصبح من بعده عقيدة وأسلوب عمل، يعدّ من أكثر النظم التي قُدّر لها أن تلعب دوراً بالغ الأثر في تطور المجتمع الإنساني، ولكن ماركس بنى مذهبه في ضوء رأسمالية القرن التاسع عشر، ولم يتناول في حينها المسائل التفصيلية، وخاصة ما يتصل منها بالتطبيق، وما كان له أن يفعل ذلك، وإلا تحول فإندرج في عداد أصحاب اليوتوبيات، وعالم المتخيل، وكان من الطبيعي ان ينشب الجدل في صفوف تلامذته وأتباعه حول المعاني الحقيقية التي تنطوي عليها تعاليم المعلّم الأول، وكانت الأممية الثانية، الساحة التي شهدت الجدل العظيم، وراح من يدّعون التمسك بالماركسية الأرثودوكسية، يرمون من يخالفهم الإجتهاد في التفسير، بالإنحراف تارة، وبالمروق تارة أخرى، وبالإنتهازية تارة ثالثة، ومع هذا ظل الجدل لا يتعدى نطاق التجريدات والتعميمات النظرية البحتة، ومن هنا لم يكن من السهل التعرف على مواضع القصور التي لا تتكشف إلا عند التجربة.

وكانت. ثورة أكتوبر 1917 الروسية، التجربة الأولى للماركسية في تنظيم المجتمع وفقاً لممفهومها في سير التطور الإجتماعي، وحسب جورج لوكاش، فأن هذه الثورة كان يجب ان تنفجر حسب توقعات ماركس في الدول الرأسمالية، وليست في بلد متخلف إقتصادياً، لذلك يعد لينين هذا الحدث شيئاً إستثنائياَ. وإثر ذلك تنوعت المدارس الفكرية، وتباينت في الإطار النظري للماركسية، وكان المفكر الإيطالي غرامشي في مقدمة من تصدى لذلك، بإبتكار مفاهيم جديدة جمعت بين صيغ النضال السياسي، وتعميق وتطوير الوسائل المعرفية في تحليل النظام الرأسمالي (غرامشي في العالم العربي، تحرير بروندينو، الطاهر لبيب).

وأثارت السنوات التالية للحرب العالمية الثانيةعدداً من القضايا الخلافية المتصلة بالفكر الماركسي، ولعل أولها، موضوعة ملكية وسائل الإنتاج، والتطبيقات الاشتراكية في بلدان شرق اوربا، وديكتاتورية البروليتارية التي تحولت الى دكتاتورية فرد في الفترة الستالينية، ثم النهاية الدراماتيكية للنظام السوفيتي، وما يعرف بالنظام الإشتراكي في أوربا الشرقية.

ومع ذلك وبالرغم من كل الإخفاقات،يقول الظاهر: ماتزال أفكار ماركس تواصل إلهامها للشغيلة والمثقفين والحركات الإجتماعية في سائر أنحاء عالمنا. ويبق إرث ماركس حياً وفاعلاً، وما حققه كارل عبر فكره المادي، هو الأسلحة النقدية لتقويض زعم الرأسمالي الأيديولوجي من أنها الشيء الوحيد القائم.

لقد ظل ماركس راهناً ومثيراَ للجدل على الدوام، ان لهذا الإسنتاج واقع التجارب والمواقف العديدة، ويبدو هو الأكثر مقبولية في الموقف من الراهنية، ان المبالغة في النبؤات، وهي ظاهرة لاتقتصر على ماركس لوحده، انما يوقعنا في شرك التعظيم والتفخيم بالإستناد الى تبرير من هنا وهناك، وفي الوقت نفسه الحذر من الإنزلاق الى مصيدة التبخيس والتقليل من شأن النظرية، غير ان الموضوعية تقتضي ان نضع الماركسية في نصابها الفكري الحقيقي، وان نزن هذا النصاب في تاريخيته، وراهنيته على السواء، وان نعود لماركس كمفكر وإنسان، صحيح ان عبقريته في كشف القوانين التي تتحكم في العالم الرأسمالي القائم على الإستغلال، كانت حدثاً عالمياً مدوياً، وفي مقدمتها قوانين الصراع الطبقي، وفائض القيمة، وهو بهذا الإكتشاف تصدر إقتصاديي عصره البرجوازيين منهم، أم الإشتراكيين.

يقول الكاتب البريطاني الساخر جورج برناردشو: كان ماركس مفاجأة مذهلة لي، لقد فتح عيني على إتساعهما على حقائق التاريخ والحضارة (قصة حياة ماركس - فرنسيس وين).

لقد قدمت الثورة التكنولوجية العالمية، وتقدم وسائل الإتصال إنجازات حاسمة في ميادين البحوث والتسابق في ميدان المنافسة وتحقيق الارباح، والتاربخ بالمفهوم الماركسي هو مجرى الصراع الطبقي (مستغِل ومستغَل)، من الصعب قبول هذه الثنائية كونها تتحكم بالمسار التاريخي في العالم، ان ما تحقق يعود بالأصل إلى العقل كمصدر للمعرفة، أو كمرجع في شؤون الكون والإنسان والمجتمع، وغالباً ما تعارضت الماركسية مع هذا النسق المعرفي الأوربي، مثلما إختلفت مع تيارات الحداثة الغربية، في حين ينبغي ان تكون الماركسية وريثاً حقيقياً للحداثة والتغيير، وان أي تجاهل لهذا يسقط عن الماركسية وجهاً معرفياً تحتاجه المجتمعات التي تنشد التقدم والنهوض.

ان الحديث عن راهنية الماركسية، أو قدرتها على الحضور المتجدد في الساحة الفكرية العالمية، يقتضي وضع الاحلام والخيالات جانباً، والإبتعاد عن الإدعاء بأن الماركسية لوحدها تمتلك الحقيقة، والحلول الجاهزة لمشاكل العالم، في كل زمان ومكان، وبشكل مطلق. ان لغة العواطف والتمني، التي هي إنعكاس غير صادق للواقع، هي لغة زائفة. والوعي النقدي الجديد يفهم الماركسية كإحدى مرجعيات الفكر في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كنظام معرفي موجّه نحو التغيير، إذ لا حتمية في التاريخ، فالقانون التاريخي ليس إتجاهاً ثابتاً، إنما هو إتجاه إحتمالي في واقع واسع وغني بالممكنات. ومهما يكن من أمر فالكاتب الظاهر ألقى أضواءً كاشفة على زوايا من الماركسية يغشاها الظل. ونشاركه السؤال بصيغة أخرى: هل تصلح الماركسية لهذا العصر؟

 

د. جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم