قضايا

محمد بوفلاقة: اللِّسانيات وتحليل النصوص

محمد بوفلاقةشهدت اللسانيات التطبيقية خلال السنوات القليلة المنصرمة حراكاً فاعلاً، ومؤثراً مؤذناً بتطورات علمية كبيرة، فعلم اللغة التطبيقي كما يسميه المشارقة، واللسانيات التطبيقية كما يستعملها المغاربة تؤدي دوراً بارزاً في تحليل العملية التعليمية، وترقيتها، حيث إنها تجيب على مختلف التساؤلات العلمية والبيداغوجية التي تواجه معلم اللغة، واللسانيات التطبيقية لا تقتصر على جانب واحد فقط الذي يحصره البعض في التعليمية، بل تنفتح على الكثير من الحقول المعرفية، مثل:صناعة المعاجم واللسانيات الآلية، واللسانيات الاجتماعية والنفسية، والتخطيط اللغوي، والتحليل الأسلوبي، والإلقاء، وعيوب النطق وأمراض الكلام، إضافة إلى أنظمة الكتابة، وعلم اللغة الإحصائي، وتعدد اللغات في المجتمع، والترجمة التي يعدها الكثير من المتخصصين في هذا المجال ميداناً خصباً لاستثمار التجربة العالمية في مجال اللسانيات التطبيقية واللسانيات التقابلية التي توظف بشكل كبير لترقية طرائق تعليم اللغات ومن ثمة تعليم الترجمة، ويمكن أن نستشهد في هذا المجال بقول الدكتور أحمد حساني بغرض التمييز بين اللسانيات التطبيقية واللسانيات التقابلية، حيث يقول: «فإن اللسانيات التقابلية بوصفها فرعاً من اللسانيات التطبيقية لها شرعية الحضور الإلزامي في حقل الترجمة لتقدم إجابات علمية كافية ومعززة، مرجعياً وإجرائياً، لكثير من الأسئلة التي تثيرها إشكالية التداخل بين الألسن، ولتذلل الصعوبات والعوائق التي تعترض الأستاذ أو الطالب أو هما معا في الوسط التعليمي للترجمة بوصفه وسطاً متعدد الألسن والثقافات.

إن أدنى تأمل في المسار الذي سلكته اللسانيات في جيلها الثاني (اللسانيات التطبيقية، واللسانيات التداولية، واللسانيات النصية، ولسانيات المدونة، ولسانيات الملفوظ...) يهدي إلى أن اللسانيات التقابلية هي فرع من اللسانيات التطبيقية أخذت مسارها العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية بخاصة ابتداءً من سنة:1950م، كانت في بداية أمرها مقارنة دقيقة بين لغتين على المستوى الصوتي والتركيبي والدلالي من أجل إبراز أوجه الاختلاف والتمايز، ومن ثمة وضع طرائق تعليمية لتذليل الصعوبات التي تعترض المتعلم للغة أجنبية تختلف عن لغته الأم.

تضطلع اللسانيات التطبيقية بمهمة لسانية تطبيقية وتعليمية إجرائية هادفة في مؤسسات تعليم اللغات، إذ لها حضور فعلي في تحضير المحتويات التعليمية، وتكوين التمارين والاختبارات ذات التصحيح المسبق التي لها علاقة مباشرة بالاختلافات، أو ما يسمى بنقاط الارتكاز بين اللغات.

تقر اللسانيات التطبيقية منذ البدء بأن اللغات مختلفة بالضرورة، وأن اللسانيات بوصفها العلم الذي يعكف على دراسة اللغات متجانسة، فهي إذ ذاك ليست مطالبة فقط بوصف هذه اللغات، وإنما هي مطالبة أيضاً بالمقارنة بين هذه اللغات لمعرفة نقاط التلاقي ونقاط التباين، مهما يكن من أمر فإن نظريات بعض اللسانيين الأنثروبولوجيين حول عدم قابلية اللغات للاختزال، ونوعية الرؤية إلى العالم، وحول فرضية وحدة اللغة وعلاقتها بالفكر، هي التي عمقت أكثر أهمية اللسانيات التقابلية التي تنتمي إلى المقاربات اللسانية التطبيقية في ميدان تعليم اللغات، فهي إجراء تقابلي يسعى إلى إيجاد إجابات علمية كافية للمشاكل التي يطرحها التعدد اللغوي في الوسط التعليمي، بخاصة فيما يتعلق بتعليم لغة أجنبية بالطرائق نفسها المستخدمة لتعليم اللغة الأم » (يُنظر:تعليميات اللغات والترجمة، بحث في المفاهيم والإجراءات، مجلة المجمع الجزائري للغة العربية، العدد الأول، ربيع الأول1426ه/ماي2005م، ص:108 وما بعدها) .

ونود أن ننبه إلى أن اللسانيات التطبيقية لها علاقة وشيجة بتكنولوجيات الاتصال الحديثة ومدى إمكانية توظيفها في خدمة اللغة العربية من خلال حوسبتها، فمشروع «الذخيرة العربية»، وهو المشروع الذي يُشرف عليه العلاّمة الجزائري عبد الرحمن الحاج صالح، يعُرف بأنه عبارة عن «بنك آلي من النصوص العربية القديمة والحديثة مما أنتجه الفكر العربي، فهو ديوان العرب في عصرنا فسيكون آلياً أي محسوباً وعلى شبكة الأنترنت، وهو بنك آلي أي قاعدة معطيات حسب تعبير الاختصاصيين في الحاسوبيات، وهو بنك نصوص لا بنك مفردات أي ليس مجرد قاموس، بل مجموعة من النصوص مندمجة حاسوبياً ليتمكن الحاسوب من المسح لكل النصوص دفعة واحدة أو جزء منها كبيراً كان أم صغيراً أو نصاً واحداً وغير ذلك، فهذا المسح الآلي للنصوص (العجيب السرعة) هو شبيه بالمسح المؤدي إلى فهرسة الأعلام والمفاهيم وأسماء الأماكن وغير ذلك من جهة، أي إلى استخراج كل هذا وحصره وترتيبه مع شيء إضافي جديد وهو استحضار سياقاته وذكر المرجع الكامل الدقيق.ويزيد على ذلك الحاسوب الإحصاء وتحديد تردد العناصر في النص الواحد أو في أكثر من نص، للذخيرة صفة أخرى تمتاز بها عن غيرها، وهي أنها ذخيرة مفتوحة على المستقبل غير معّلقة مثل أكثر ما هو مكتوب فهي قابلة للزيادة والتجديد للمعلومات العلمية والتقنية وفوق كل شيء قابلة لتصليح الأخطاء في كل وقت.

وبالنسبة إلى محتوى الذخيرة، فهي تنقسم إلى جانبين:

- ثقافي (و علمي تربوي) وجانب خاص باللغة العربية وذلك بحسب توظيفها ونوعية الأسئلة الملقاة عليها إلا أن محتواها من النصوص يُهم الجانبين معاً.

فسيكون فيها في المرحلة الأولى والثانية (وربما تكفي الأولى بالنسبة للتراث):

- النص القرآني بالقراءات السبع وكتب الحديث الستة.

- أهم المعاجم اللغوية (الوحيدة اللغة والمزدوجة) .

- الموسوعات الكبرى العامة العربية الأصل والمنقولة عن اللغات الأخرى.

- عينة من الكتب المدرسية والجامعية القيمة (الرائجة في الوطن العربي أو في بلد واحد) .

- عينة من الكتب الخاصة بإكساب بعض المهارات (منها تعليم اللغة العربية) على الطريقة الحاسوبية.

- عينة من الكتب التقانية القيمة.

- عينة كبيرة من البحوث العلمية والثقافية القيمة المنشورة في المجلات المتخصصة.

- عينة كبيرة من المقالات الإعلامية الصحفية والإذاعية والتلفزيونية والحوارات والمداخلات المنطوقة في اللقاءات العلمية وغيرها.

- أهم ما حُقّق ونُشر من كتب التراث الأدبية (والشعرية خاصة) والعلمية والتقنية من الجاهلية إلى عصر النهضة.

وحجم هذه النصوص هو- حتى في المرحلة الأولى- ضخم جداً، ويبرر أصحاب المشروع هذا الحجم الكبير جداً بضرورة التغطية الواسعة للاستعمال الحقيقي للغة العربية قديماً وحديثاً، لأنه يمثل أولاً اللغة الحية النابضة بالحياة في كل الوطن العربي وثانياً أفكار العرب وتصوراتهم وفنونهم وعلومهم وأحوال حياتهم الاجتماعية والدينية والسياسية وبالتالي تاريخهم الاجتماعي وتطور كل ذلك عبر الزمن» (يُنظر: من أخبار مشروع الذخيرة العربية (أو الانترنت العربي) ، وثيقة رسمية أعدت من طرف مجموعة من الخبراء بطلب من الأمين العام لجامعة الدول العربية لدراسة هذا المشروع وتقديمه للجامعة، مجلة المجمع الجزائري للغة العربية، العدد الثاني، ذو القعدة1426ه/ديسمبر2005م، ص:263 وما بعدها) .

وفيما يتعلق بأهداف الذخيرة المحوسبة وفوائدها، فمن الجانب الثقافي «فهدف الذخيرة هو تمكين أي باحث أو طالب أو تلميذ (وأي مواطن) أن يتحصل في وقت وجيز وفي أي وقت المعلومات التي يحتاج إليها للقيام ببحث أو إنجاز مشروع أو لسد ثغرات في معلوماته أو تحصيل كل ما جد في ميدان معين أو استفسار عن معلومات في شتى الميادين في الوقت الحاضر أو فيما مضى وغير ذلك ثم من جهة أخرى ولمن يرغب في ذلك:الحصول على مهارات معينة في ميادين معينة توجد فيها طرائق تعليم يتم بالحاسوب.

أما الجانب اللغوي فيمكن للباحث أن يتحصل على معلومات أيضاً في وقت وجيز ولولا الحاسوب لتعذر عليه ذلك تماماً في أغلب الأحوال أو قضى للعثور على بغيته الأسابيع والشهور، وذلك لحصوله على معرفة وجود كلمة معينة أو عدم وجودها في نص أو عدة نصوص أو في عصر كامل وترددها إن وردت مع حصر جميع سياقاتها وكذلك هو الأمر بالنسبة للجذور والصيغ والتراكيب وأنواع الأساليب والأمثال وكل ما يخص اللغة وعناصرها وبناها ومجاريها على اختلاف أنواعها.

ويعتقد مجموعة من الخبراء الذين يشرفون على مشروع الذخيرة اللغوية أنه سيكون دافعاً قوياً للكثير من الحركات والأعمال العلمية وغيرها:

- سيكون حافزاً قوياً لنشر اللغة العربية السليمة في جميع الميادين العلمية والتكنولوجية.

- وحافزاً للشباب لاختيار الشعب العلمية والتكنولوجية.

- و حافزاً قوياً لحركة تحقيق المخطوطات وإحياء التراث.

- ودافعاً لتوحيد المصطلحات العلمية والتقنية العربية.

- ودافعاً للتعريف الواسع والعميق للتراث العربي.

- ومساعداً عظيماً لتوسيع معلومات النشء الصغير وطلاب الجامعات والمثقفين عامة.

- ومساعداً عظيماً لا مفرّ منه لأعمال المجامع اللغوية العربية كمرجع موثوق به.

- ومساعداً في إكساب المهارات في شتى الميادين.

- و مصدراً عظيماً لشتى الدراسات اللغوية والاجتماعية والتاريخية والعلمية وغير ذلك.

- ومصدراً آلياً ومرجعاً لا بد منه في صنع المعاجم على اختلاف أنواعها:المعجم التاريخي للغة العربية، معجم ألفاظ الحياة العامة، معجم المترادف والمشترك والمتجانس ومعاجم المعاني وغير ذلك»» (يُنظر:من أخبار مشروع الذخيرة العربية (أو الانترنت العربي) ، وثيقة رسمية أعدت من طرف مجموعة من الخبراء بطلب من الأمين العام لجامعة الدول العربية لدراسة هذا المشروع وتقديمه للجامعة، مجلة المجمع الجزائري للغة العربية، العدد الثاني، ذو القعدة1426ه/ ديسمبر2005م، ص:266، وص:274) .

إن اللسانيات بمفهومها المبسط هي الدراسة العلمية للغة البشرية، وهي تركز أبحاثها على اللغة، وتتخذها موضوعاً رئيساً لها، وتنظر إليها على اعتبار أنها غاية، وليست وسيلة، وقد اشتهرت دعوة سوسير إلى دراسة اللغة لذاتها وفي ذاتها، وهذا ما اعتبره الكثير من الدارسين فتحاً علمياً جديداً، حيث يقول الدكتور عبد السلام المسدي مبرزاً أهمية اللسانيات:«...ومن المعلوم أن اللسانيات قد أصبحت في حقل البحوث الإنسانية مركز الاستقطاب بلا منازع، فكل تلك العلوم أصبحت تلتجئ- سواء في مناهج بحثها أو في تقدير حصيلتها العلمية- إلى اللسانيات وإلى ما تفرزه من تقريرات علمية وطرائق في البحث والاستخلاص.ومرد كل هذه الظواهر أن علوم الإنسان تسعى اليوم جاهدة إلى إدراك مرتبة الموضوعية بموجب تسلط التيار العلماني على الإنسان الحديث، ولما كان للسانيات فضل السبق في هذا الصراع فقد غذت جسراً أمام بقية العلوم الإنسانية من تاريخ وأدب وعلم اجتماع، يعبُره جميعها لاكتساب القدر الأدنى من العلمانية في البحث، فاللسانيات اليوم موكول لها مقود الحركة التأسيسية في المعرفة الإنسانية لا من حيث تأصيل المناهج وتنظير طرق إخصابها فحسب، ولكن أيضاً من حيث إنها تعكف على دراسة اللسان فتتخذ اللغة مادة لها وموضوعاً ... (يُنظر: التفكير اللساني في الحضارة العربية، الدار العربية للكتاب، ليبيا، ط:02، 1986 م، ص:9- 10) .

وفي السياق نفسه يؤكد الدكتور محمد الحناش على أن اللسانيات فرضت وجودها على كل ميادين المعرفة الإنسانية، لأنها تبحث في أصول آلية الإنتاج العلمي التي تفرز بها كل العلوم:اللغة، فقد استطاعت إعادة هيكلة ومنهجة جل العلوم الإنسانية الحديثة وجعلتها سهلة التناول كما جعلت المثقف يجدد نفسه باستمرار، فدور«اللسانيات الحديثة هو إعادة هيكلة قواعد النحو العربي من منظور جديد فتقدمها بطرائق أخرى تكون أكثر ملاءمة مع التطور الذي حصل في المجتمع العربي، وهذا التمنهج لا يعني الانتقاص من قيمة التراث اللغوي بل هو تأكيد لقيمته لأن نقطة الانطلاق سوف تكون هي التراث، ونعتقد أن اللسانيات ستمكن القارئ العربي للتراث أن يموضع نفسه في موضع قوة من حيث إنه سوف يتطرق إليه بأداة علمية ومضبوطة يحسن تقديمه للآخرين بطرائق سهلة تمكنهم بدورهم من إعادة قراءة التراث ومسايرة ركب التطور، وخلاصة هذا هي أن التراث واللسانيات الحديثة يجب أن يدخلا في علاقة الألفة والتمنهج وبذلك تدخل الأصالة والمعاصرة في تحالف لا ينفك إلا بعد أن يكتمل المنهج اللغوي الذي نرجوه لهذه الأمة» (يُنظر:البنيوية في اللسانيات، دار الرشاد الحديثة، الدر البيضاء، المغرب الأقصى، ط:01، 1980 م، ص:6) .

 

بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة

كلية الآداب واللُّغات-جامعة عنابة-الجزائر

 

في المثقف اليوم