قضايا

ثامرعباس: الأطر الحضارية للعلوم الإنسانية

يبدو نافلا"القول؛ انه ما من تجمع بشري فوق ثرى المعمورة - لكي يصون وجوده الطبيعي ويحفظ كيانه البنيوي ويضمن تواصله التاريخي ويديم تفاعله الحضاري، فضلا"عن توقه لبلوغ التوازن في إطار تجاذباته الداخلية، ورغبته لنشدان التفوق في مجال علاقاته الخارجية - لا يحتاج إلى منظومة متجانسة من القيم (تقاليد وأعراف)، ونسق متناغم من الثقافة (أفكار وتصورات)، ونمط متآلف من المعارف (علوم ومنهجيات)، ونظام موحد من الخطاب (مفاهيم ومصطلحات)، ومرجعية متماسكة من الرموز (تمثلات وذاكرات) . يجسد فيها ويعبر من خلالها عن؛ طبيعة تكوينه النفسي، وخصائص شخصيته الاجتماعية، وفرادة هويته الوطنية، وتميّز ذاكرته التاريخية . يستوي في ذلك بالطبع ذلك المجتمع الذي لم يتخطى بعد عتبة طفولته الحضارية، ولما يزل يتخبط خبط عشواء لعبور مرحلته البدائية، والانخلاع عن أوهامه الأصولية، والانسلاخ عن تصوراته الخرافية . أو ذاك الذي بلغ أوج التطور في مضمار الإنتاج الحضاري، وطاول الذرى في ميادين الإبداع الثقافي، بحيث تتساوق عنده مقادير التكامل في شخصيته الاجتماعية، مع درجات استبطانه لعناصر وحدته واجتيافه لمقومات كينونته، مثلما تتناسب فيه مستويات التبلور في مكونات هويته الوطنية، مع معطيات نضوج وعيه لذاته الجماعية .
وبالرغم من كل هذه المؤشرات فان المفارقة لابد وأن تقع والإشكالية لابد وان تحصل؛ ليس فقط لأن الاختلاف من طبيعة الإنسان والتنوع من طبيعة المجتمعات والتباين من صميم الحضارات فحسب، وإنما لأن بعضا"من تلك المجتمعات تحاول قبل الأوان استباق محطات نضوجها واختزال فترات رشدها، للحدّ الذي تتوهم معه إن محاولات حرقها للمراحل دون أساسات بنيوية، وتنطعها لاختصار الفواصل دون تراكمات رمزية، كفيل بانتشالها من مستنقع التخلف الذي تعوم فوقه، وتحررها من قيود الجهل الذي ترزح تحته . ومن ثم تتهيئ أمامها فرص اللحاق بركب سواها من المجتمعات التي انتهجت سبل الرقيّ في الذهنيات، ورجّحت خيار التمدّن في العلاقات . ولعل المفكر التنويري (نصر حامد أبو زيد) قد أجاد التعبير عن هذه الإشكالية حين كتب يقول إن (العلة في تقديري أننا نظرنا إلى تفوّق (الغرب) طوال هذين القرنين بوصفه تفوقا"في العلم والتكنولوجيا وحدهما، من دون مجالات الفكر والفلسفة والثقافة والفنون، أي من دون مجال النشاط الروحي الذي تصورنا أن رصيدنا التراثي منه يتفوق على انجاز الحضارة الحديثة فيه . وما تزال دعوات (النهوض) و(التقدم) التي تتردد الآن وبقوة تركّز على قضايا (العلم) و(التكنولوجيا) بمعزل عن تطوير علومنا الإنسانية بالتفاعل مع انجازات مناهج الإنسانيات في الحضارة الحديثة) .
وهكذا فلك أن تقارن وتضاهي – وفقا"لهذا المنظور – بين الممارسات الأصلية التي شهدتها شعوب العالم المتقدم، لاسيما تلك الواقعة ضمن جبهة الفالق الغربي من جهة، مع ما يناظرها من تجارب مقتبسة ومحاولات منتحلة لشعوب العالم الثالث، سواء تلك التي انخرطت في أتون التوجهات الليبرالية / الرأسمالية، وتلك التي انضوت تحت لواء التيارات الاشتراكية / الشيوعية من جهة أخرى . ففي الوقت الذي شهدت فيه العلوم الاجتماعية والإنسانية في بلدان العالم الغربي، حصول (ثورة) غير مسبوقة في ابتكار النظريات السوسيولوجية، وإبداع الأفكار الفلسفية، واستنباط الطرائق المنهجية، تمشيا"مع خصائص أطرها الحضارية وبناها الاجتماعية؛ إن من حيث إيمانها بالنسبية التاريخية، أو تبنيها للعقلانية المعرفية، أو اعتقادها بالدينامية التطورية، أو احتضانها للمرونة العلمية، أو انخراطها بالشمولية الإنسانية . وهو الأمر الذي زعزع يقينياتها الدينية المسبقة، وقوض مسلماتها الفكرية المتعصبة، واكتسح تواضعاتها السردية المؤسطرة من جانب، وأتاح لها من جانب ثان ليس فقط أن تكون مهيأة أبستمولوجيا"لاكتشاف كل ما هو جديد في ميادين العلوم والتكنولوجيات، ومستعدة سيكولوجيا"لحصول كل ما هو مغاير في مضامير الأفكار والإيديولوجيات، ومتوقعة سوسيولوجيا"لحدوث كل ما هو مخالف في حقول القيم والاعتقادات، وقادرة انثروبولوجيا"لاستيعاب كل ما هو وافد من أنواع الأجناس والحضارات فحسب، وإنما جعلها بمأمن عن عواقب ما قد يتمخض من الصراعات السياسية، والنأي عن مصائب ما قد ينجم عن الاحتقانات الاجتماعية، والاستعداد لتفادي نوائب ما قد يرشح عن الأزمات الاقتصادية .
هذا في حين نلاحظ حدوث العكس لدى بلدان العالم الثالث – والعراق يعتبر نموذجا"للمقارنة في هذه الحالة – المؤمثل بالخرافات الطائفية، والمكبل بالكراهيات العنصرية، والمجلل بالانقسامات القبلية . حيث تتشكل - بوحي من أطماع قادة الطوائف ومآرب أمراء الأصوليات ومصالح زعماء القبائل – لدى نخبها وسراة قومها، تصورات لا تخلو من وجاهة واعتقادات لا تفتقر إلى الواقعية مؤداها؛ إن مجرد وجود العلوم الإنسانية في تلك البلدان الموسومة بالتخلف حضاريا"، مرجح لها أن تسهم - بحكم طبيعتها النزّاعة إلى التجديد والتغيير – في تثوير بنى الوعي الراكدة، وتنوير أنساق الثقافة المنمطة، وتغيير أنماط العلاقات المتكلسة، وتطوير منظومات القيم البالية . وهو الأمر الذي يشكل – من وجهة نظرها – تهديدا"جديا"لمقومات سلطاتها، ويغدو مانعا"فعليا"لمصادر امتيازاتها . ولهذا فليس من سبيل أمامها دون أن تطرقه أو وسيلة دون أن تجربها؛ ليس فقط لتقليص دور العلوم الإنسانية والحد من تأثيرها فحسب، بل وكذلك لمحاربة وجودها الشكلي أصلا"، سواء بإصدار التشريعات المناوئة للأفكار العلمية والنظريات العقلانية والمنهجيات التأويلية، أو بتقليص الميزانيات المالية والتوظيفات الأكاديمية والخدمات الإدارية . ولعل علوم من مثل (السياسة، القانون، الفلسفة، علم الاجتماع، علم النفس، التاريخ، الاقتصاد) هي الخاسر الأكبر من تلك الإجراءات والقرارت، طالما أنها تبحث في أصل السلطة وآليات تداولها، وأصل الحقوق والواجبات وأنماط توزيعها، وأصل المجتمع وخلفيات تكوينه وديناميات تطوره، وأصل الأفكار ومصادر انبجاسها وأواليات انتشارها، وأصل الوعي ومقومات صيرورته وعوامل تنوعه، وأصل الثروة وسبل تحصيلها وطرق توزيعها، وأصل الذاكرة وأشكال علاقاتها بالمكان والزمان وأنواع صلاتها بالتراث والهوية .
وهكذا يستدل من خلال فحص الروابط وتشخيص العلاقات، بين خصائص الأطر الحضارية للمجتمعات من جهة، وبين مستوى حضور وفاعلية العلوم الإنسانية والاجتماعية من جهة أخرى . إذ انه بقدر ما تترسخ قواعد الأولى في بنى الواقع المعاش وتتعمق قيمها بين طيات الوعي الاجتماعي، بقدر ما يتعاظم شأن الثانية في عقلنة الذهنيات وأنسنة العلاقات وشرعنة الخيارات . ولكي لا نذهب بعيدا"للبحث في دهاليز التاريخ، لاستخلاص الحالات المعيارية للمتلازمة هذه، فان لنا في درس التجربة العراقية خصوصا"والعربية عموما"، إبان العصر العباسي – رغم كل المآخذ التي تساق ضده - الذي يعدّ في عرف مؤرخي الحضارات جميعا"، انه كان بالمقاييس السياسية الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية، العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية بلا منازع، لا من حيث تقدم الأطر الحضارية والمنظومات القيمية والأنماط الثقافية، بل ومن حيث تطور العلوم الطبيعية والدينية والفقهية واللغوية والإنسانية . الأمر الذي أخذت عنه بلا عقد ولكن بتدرج، واستفادة منه دون حساسيات ولكن بروية، بلدان العالم الغربي بكل أصقاعه حين كان ظلام القرون الوسطى يخيم فوق ربوعها . واليوم حيث تضرب مظاهر التخلف الحضاري أطنابها في بلد الحضارات، وتلقي ظواهر التقهقر الاجتماعي مراسيها على أرض الرافدين، أصبحنا ندرك لماذا تشهد ساحات العلوم الإنسانية والاجتماعية تراجعا"مستمرا"وتقهقرا"متواصلا"؛ إن كان على مستوى المضامين الفكرية والمعرفية والثقافية، أو كان على صعيد المنهجيات التأويلية والجينالوجية والتفكيكية .
والمفارقة هنا في حقيقة الأمر لا تقتصر على المواقف المعيبة والمخجلة للنظام السياسي الحالي، إزاء إهماله التام للعلوم الإنسانية والاجتماعية وما قد تحتويه مضامينها من أفكار ومنهجيات فحسب، إنما حيال المؤسسات العلمية والمراكز البحثية ذات العلاقة، والتي تحولت إلى حواضن لتفريخ العصبيات وتناسل العنصريات . نقول إن المفارقة لا تنتهي عند حدود النظام السياسي القائم، بل أنها ترتد نحو تخوم النظام السياسي السابق، الذي كان لصناع الرأي في مؤسساته الثقافية والإعلامية الصلاحيات المطلقة للجم أية محاولة تستهدف إدخال؛ ليس فقط ثقافات وقيم العلوم الإنسانية والاجتماعية الرائجة ضمن خارطة الفكر العالمي آنذاك فحسب، بل وكذلك الحدّ من استخدام المفردات اللغوية والمصطلحات المعجمية ذات المنزع التحليلي والنقدي، ناهيك عن التأويلي والتفكيكي . وهنا أستذكر طرفة تأتي في سياق هذا الموضوع، مفادها إن أحد رؤساء تحرير صحف النظام السابق كان يأمر العاملين ضمن صحيفته، بعدم ترويج المقالات التي تحتوي على عبارة (العولمة)، التي كانت تعتبر مرادفة لعبارة (الأمركة) وما تنطوي عليه هذه الأخيرة من إيحاءات تتسم بالحد من سيادة الدول الضعيفة، وتقويض اقتصادات الحكومات التابعة، ومسخ ثقافات الشعوب المخترقة، ونسخ هويات الأمم المنتهكة .
والواقع إن موقف ذلك الشخص جاء متوافقا"ومنسجما"، لا مع كون تاريخ السياسة الأمريكية يشهد على كونها، لم تعدم وسيلة متاحة دون توظيفها لتحقيق تلك المآرب والأطماع فحسب، وإنما دفاعا"عن مصالحه الذاتية وامتيازاته الشخصية، المرتبطة بمصالح النظام الذي كان يعمل لديه، والمتماهية مع قيم السلطة التي كان يعيش في كنفها . والعبرة التي نريد استخلاصها هنا إن أية محاولة يراد من خلالها تمكين العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة من نشر أنوارها وسط هذا الظلام الفكري ستمنى بالفشل، وان أي مسعى يتوخى عن طريقه توطين قيمها وسط هذا الخراب الاجتماعي سيواجه بالخذلان، ما لم يفيق المجتمع من سباته الحضاري ويتعافى الوعي من كبوته التاريخية .

 

ثامر عباس

 

 

 

 

في المثقف اليوم