قضايا

محمود محمد علي: فكرة التنوير عند المعتزلة

أنا من المؤمنين بأن فكرة التنوير- قضية أوروبيةٌ محضة، انبثقت في المحيط الأوروبي، نتيجة ظروف كانت تسود المجتمعات الأوروبية، وكردّ فعل لهيمنة الكنيسة الغربية على الحياة العقلية والفكرية والثقافية في أوروبا. ولذلك فإن قيام مفهوم التنوير الأوروبي على إلغاء دور الدين في الحياة، مسألةٌ طبيعية، إذا نظرنا إليها من زاوية ما كانت تمارسه الكنيسة الغربية من ضروب الاستبداد وألوان القهر، وما كانت تُشيعه من أباطيل وخرافات، وبحكم أن أوروبا كانت منذ ذاك، تعيش العصور المظلمة، في حين كان العالم العربي الإسلامي يعيش ازدهاراً حضارياً واسع الإشعاع.

ومصطلح التنوير يعني الاستخدام العام لعقل الإنسان في جميع القضايا، وتبني شعار "لا سلطان على العقل إلا للعقل،" وهو شجاعة استخدام العقل ولو كان ذلك ضد الدين وضد النص، والدعوة إلى تجاوز العقائد الغيبية، والإيمان بقدرة الإنسان الذاتية على الفهم والتحليل والتشريع، والدعوة إلى الدولة العلمانية، وتجاوز النص الديني أو إهماله أو تفسيره تفسيرات بعيدة عن سياقه وعن قواعد التفسير الموضوعي، وهو الدعوة إلى المنهج التجريبي الحسي المادي واعتباره المنهج الوحيد الجدير بالثقة والاتباع.

والسؤال الآن: هل هناك تنوير عند المعتزلة؟.. وهل أشعلوا قلق البدايات التنويرية في الفكر الإسلامي، فكانوا كما يري الكثير من الباحثين بأنهم يمثلون مشعل التنوير في الفكر الكلامي الإسلامي؟

اعتقد أن مصطلح التنوير لم يرد عند المعتزلة  ولا عند كثير من الفرق الكلامية، ولكن بدائله قد وردت مثل، التقدم، والتمدن، والتحضر وغير ذلك من معاني تعبر عن التنوير بشكل مضمر وليس ضريح، وهنا في هذه الورقة أحاول أن أتلمس بعض مظاهر التنوير عند المعتزلة، ففي نهاية القرن الأول الهجري، توسعت الفتوحات الإسلامية، ودخلت شعوب كثيرة الإسلام، لذلك حدث اختلاط بين المسلمين، والثقافات الأخرى. وبدأت الفلسفة تطرق عالم العقل الإسلامي، وكان ذلك أول استفزاز، لبعثه للتفكر، والدخول إلى منطقة السؤال، والجدل، فلم يعد المنهج النصوصى النقلي، كافي ليروي ظمأ أسئلته، أصبح قاصر عن الرد على شطحات العقل، جداليته، أسئلته، وحده منهج العقل، هو السيد في هذه الحالة، هو القادر على إخماد ثورة السؤال، بدخول السؤال، والجدل، عالم العقل الإسلامي ظهرت لنا المعتزلة، سيدة الفرق الإسلامية بامتياز فهم أول اتجاه فلسفي حقيقي في الإسلام، وإن ظل في منطقة علم الكلام، ولم يتعمق أكثر فلسفيا، إلا أنهم رغم ذلك أهم المذاهب الكلامية، لأنهم أكثرهم عقلنة.

ومن مظاهر فكرة التنوير عند المعتزلة كلامهم فيما يخص نظرية الإمامة، فقد كانت لهم أفكارا تنويرية مثل، دعواتهم للثورة علي الحاكم في حالة إن بغي وتجبر، إذ يرتبط الموقف من الثورة في فكر المعتزلة بواحد من أصولهم العقائدية وهو (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فما دامت الأمة عندهم هي التي اختارت الإمام وتعاقدت معه عبر ممثليها أو نوابها من أهل الحل والعقد. فهي وحدها إذا صاحبة الحق في خلع الإمام إذا ما أحدث أمرا أو حدث له أمر يوجب خلعه، وبذلك فقد جعل المعتزلة خلع الإمام حقا من حقوق الأمة؛ لأن اختياره يستند إلى إجماعها الذي يكسبها الحق في خلعه كما كان لها الحق في تنصيبه، ولهذا فالإمامة عند المعتزلة كما أكد القاضي عبد الجبار الهمذاني في المعني بأنها عقد يجوز فسخه إذا ما فقد أطرافه شرطا أو عنصرا من شروطه أو عناصره الأساسية أو أخل أحد الأطراف بشروط التعاقد وخرج عنها، واعتبروا (فسق) الإمام سببا كافيا يجيز للأمة خلعه، بل إنهم جعلوا الخروج على أئمة الضلال وولاة الجور أمرا واجبا، ورأوا وجوب نصرة الخارجين عليهم فلا يحل لمسلم أن يخلي أئمة الجور إذا ما وجد أعوانا وغلب في ظنه أنه يتمكن من منعهم من الجور، يعكس هذا الموقف وجهة نظر المعتزلة المتفقة خطوطها العامة على حرية الإنسان وقدرته على اختيار أفعاله ومن ثم مسئوليته عنها وتحمله لعواقبها خيرا وشرا، ويستتبع ذلك أن يكون الإمام قادرا على أفعاله متحملا لمسئوليتها والرعية قادرة على أفعالها مسئولة عنها.

ومن مظاهر التنوير أيضا عند المعتزلة، انفتاحهم علي التراث اليوناني في آخر العصر الأموي وبداية العصر العباسي حيث تواردت على العقل العربي الفلسفة الهندية والفلسفة اليونانية، عن طريق الفرس؛ لأن الثقافة الفارسية قبيل الإسلام كانت متأثرة بالفلسفة اليونانية، كما جاءت عن طريق السريان، لأنهم قد ورثوا الفلسفة اليونانية، وألبسوها لباسهم الديني، ومسوحهم اللاهوتية، عن طريق اليونانيين أنفسهم؛ لأن بعض الموالي من المسلمين كان يجيد اليونانية.

وقد تأثر المعتزلة بهذه الفلسفة في آرائهم، وأخذوا عنها كثيرا في استدلالهم فظهرت في أدلتهم ومقدمات أقيستهم، وقد دفعهم إلى دراسة هذه الفلسفة، هو أنهم وجدوا فيها ما يرضي نهمهم العقلي وشغفهم الفكري، وجعلوا فيها مرانا عقليا جعلهم يلحنون بالحجة في القوة، وأن الفلاسفة وغيرهم لما هاجموا بعض المبادئ الإسلامية، تصدى للرد عليهم، واستخدموا بعض طرقهم في النظر والجدل، وتعلموا كثيرا منها ليستطيعوا أن ينالوا الفوز عليهم، فكانوا بحق فلاسفة المسلمين، وبفضل تسلّح المعتزلة بسلاح الفلسفة، والمنطق، وعلم الكلام، وأساليب الجدال والمناظرة فإنهم قد أدّوا دوراً كبيراً وبارزاً في الدفاع عن العقيدة الإسلامية إزاء المعتقدات والديانات الأخرى السماوية المحرّفة منها كالمسيحية واليهودية، والمشركة والإلحادية كالمجوسية، والثنوية، والمانويّة، وقد تمثّل هذا الدور إما في مناقشة وإبطال حجج أصحاب تلك المعتقدات والديانات أو في دعوة غير المسلمين الطالبين للحقيقة إلى الإيمان بالعقيدة الإسلامية.

أيضا من مظاهر التنوير عند المعتزلة  هو إرسائهم لدعائم حركة عقليّة واسعة كان لها أكبر الأثر في صياغة الحضارة الإسلامية؛ نظراً إلى أن مذهبهم كان يقوم في الأساس على احترام العقل وتمجيده، والتعويل عليه في استنباط واستنتاج الكثير من الأحكام الشرعية من جهة، وأساليب التفكير السليم من جهة أخرى.

ولهذا نجد يقول جولد تسيهر في هذا الصدد: "نحن لا نستطيع نكران أنه كان لنشاط المعتزلة نتيجة نافعة، فقد ساعدوا في جعل العقل ذا قيمة حتى في مسألة الإيمان، وهذا هو الفضل الذي لا يجحد والذي له اعتباره وقيمته، والذي جعل لهم مكاناً في تاريخ الدين والثقافة الإسلامية".

وعلى أثر اعتماد المعتزلة على العقل كمرجع أساس في استنباطاتهم، وتقريراتهم، ونتيجة لعدم جمودهم على النصوص، وتعبّدهم بها بشكل مبالغ فيه، فقد كان لهم دور كبير في إشاعة أجواء حريّة التفكير، والعقل، ونحن نلاحظ هذا الاتجاه بشكل واضح في عصر المأمون، وفي القرن الرابع الهجري.

وقد بلغت هذه النهضة العقلية الجديدة التي أرسى المعتزلة دعائمه أحداً من العمق والتأثير والاتّساع بحيث أنهم كانوا يعتمدون – في الاستدلال لإثبات العقائد – على القضايا العقلية إلا فيما يعرف إلا بالعقل، وكانت ثقتهم بالعقل، لا يحدها إلا احترامهم لأوامر الشرع. فكل مسألة من مسائلهم يعرضونها على العقل، فما قبله أقروه وما رفضه رفضوه.

وكان من آثار اعتمادهم المطلق على العقل كما يقول الشهرستاني في الملل والنحل:أنهم كانوا يحكمون بحسن الأشياء وقبحها عقلا، وكانوا يقولون: "المعارف كلها معقولة بالعقل واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبح".

وتكمن أهمية فكر المعتزلة في اعتمادهم على العقل وتقديمهم إياه على ظاهر النصوص عند توهم التعارض، بخلاف الأشاعرة الذين يأخذون بظاهر النصوص ويطرحون الدليل العقلي، كما يرجع الفضل إليهم في تقرير مبدأ حرية الإرادة الإنسانية وأن الإنسان ليس مجبرا على أفعاله، فجعلوا القدر غير متعلق بأفعال الإنسان، وأكدوا على استقلالية أفعال البشر عن الإرادة الإلهية، بعكس الأشاعرة الذين يربطون بين أفعال الإنسان والإرادة الإلهية فيما يسمى بنظرية الكسب، والتي تعنى أن الإنسان يكسب أفعاله بإرادته ويحاسب عليها بذلك الكسب، وبذلك كان موقف الأشاعرة وسطا بين الجبر المحض كما هو الأمر عند الجهمية والحرية المطلقة التي نادى بها مذهب الاعتزال.

ان صياغة المعتزلة للمسألة الدينية صياغة عقلانية واضحة لا تقتصر على وحدانية الله وحسب، بل تناولت النبوة والايمان والاخلاق، ولم يعد النقل محور المعرفة، وانما العقل، الذي شكل في الحقيقة، تحولا حاسما في تاريخ الفكر العربي الاسلامي، حيث أخذ المرء منذ ذاك يجرؤ على ان يخضع الوجود كله لمقاييس العقل واحكامه وينظم العالم الديني والارضي تنظيما عقليا. وقد ارتبط التوكيد على العقل بالتوكيد على الحرية، فلا عقل دون حرية ولا حرية دون عقل، والعقل يفهم الواقع، والحرية تغيره أو تعيد تشكيلة وفقا للعقل.

وهذا القول يعني مبدأ استقلال العقل، الذي يستطيع الانسان بموجبه التمييز بين الحق والباطل وبين الخير والشر، وأن إعطاء العقل هذه الاهمية الأولية، انما يعني ردا مباشرا على الذهنية التقليدية التي تقول بعجز الانسان عن بلوغ الحق والخير بعقله او بقدرته الانسانية وحدها. وبهذه الصيغة فصل المعتزلة بين الدين والسياسة، بالرغم من انهم رأوا بانه لا يوجد بين العقل والدين تناقض.

ومن مظهر التنوير عند المعتزلة قضية الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة فى قضية خلق القرآن فهو لا يعد مجرد خلاف فرعى، أو خلافا يزكيه التلاعب بالألفاظ، بل كان خلافا جوهريا ومركزيا يعبر عن انحياز فئة معينة إلى العقل ورفضها كلَّ ما يتعارض معه من رؤى وتصورات، ودلالة على تطبيق المعتزلة منهجهم العقلي بدون خوف أو مجاملة، فكل ما استقر لديهم من أسس اعتقادية وفكرية دافعوا عنها دفاعا قويا مستميتا. والقول بخلق القرآن هو انتصار للتنوير والعقلانية والحداثة، لأن اعتماد هذا الرأي يؤدى عملا إلى الإيمان بتاريخية النص الديني وأنه جزء من الواقع والتاريخ والثقافة وليس متعاليا عليهم، وأنه ليس هناك نص خارج إطار الزمان والمكان، بل إن النص نشأ من الواقع وتشكل من رَحِمه، وفى هذا دعوة لإعادة تأويل النصوص، ورفع الحرج التاريخي عن المسلمين إذا ما قرروا اتباع ما يريدون من نظام تشريعي أو اجتماعي، حيث يغدو الماضي تجربة تاريخية، ولا يصبح للنص سلطان على العقل؛ إذ تبين أن النص تاريخي بلا إشكال.

ومن خلال تلك المظاهر الخاصة بفكرة التنوير عند المعتزلة، فإنني أعارض بشدة ما ذكره المفكر السوري هاشم صالح في كتابه «الانسداد التاريخي.. لماذا فشل مشروع التنوير فى العالم العربي»، والذي يري أن العرب يعانون انسدادا تاريخيا يمنعهم من الانطلاق بسبب التناقض المطلق بين النص الذى يتمسكون به وبين التطورات العلمية والسياسية والفلسفية التي جاءت بها الأزمنة الحديثة، فالالتزام بحرفية النص يؤدى بالمسلم إما إلى إنكار منجزات الحداثة أو إعلان الحرب على العصر الذى نعيشه بكل ملامح التحضر والتقدم به، وإما إلى إنكار النص نفسه مما يولد شعورا رهيبا بالخطيئة والذنب، وهكذا يقع العربي والمسلم فى تناقض قاتل لا مخرج منه إلا بالتأويل المجازي للنص والاعتراف بالمشروطية التاريخية له كما فعل المسيحيون في أوروبا بعد التنوير عندما فرقوا بين ما هو عرضي وما هو دائم، ولكن العرب فشلوا في تحقيق المصالحة الكبرى بين الدين والعقل أو بين الإسلام والحداثة، وهو ما اعتبره صالح في كتابه «الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ» مقدمات تسببت فى مآلات الثورات الأخيرة التي شهدها الربيع العربي، من صعود الأصوليات وعودة جماعات الفكر التقليدي على يد من اختطفوا هذه الثورات الشعبية، وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين والتيارات السلفية التي تنتهج أساليب التلقين الإيديولوجي والهيمنة المطلقة على عقول الأتباع وتطويعهم وتدجينهم

ولكن أؤيده صالح هاشم عندما أكد أن عودة روح الحضارة إلى المنطقة العربية الإسلامية بعد أن هجرتها قرونا، لن يتحقق سوى بالإصلاح الديني والتنوير الفلسفي في آن واحد، كما أؤيده عندما شدد على أهمية التخلص من الخطابات الأيديولوجية المسيطرة على الفكر العربي وإعادة النظر فيها، وأؤيده عندما أشار إلى أن شعوب أوروبا المتقدّمة لم تتخلص من الاستبداد إلا بعد أن استنارت وخرجت من سجن الأصولية المسيحية، وتحرّرت من العصبيات الطائفية والمذهبية بفضل التنوير، معتبرا أن سبب فشل ثورات الربيع العربي هو أنه لم يسبقها تنوير فلسفي كما حدث في أوروبا. فالغرب تسيطر عليه المرجعية الفلسفية والسياسية الحديثة التي فصلت اللاهوت الديني عن السياسة. أما العالم الإسلامي فلا يزال هذا الفصل مستحيلا حتى الآن. ولهذا السبب فإن الحركات الأصولية مازالت تتمتع بشعبية وتستقطب المزيد من التابعين كل يوم.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة بكلية الآداب وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

المراجع:

1-ألبير نظري نادر: فلسفة المعتزلة - فلاسفة الإسلام الأسبقين، دار الوراق للنشر، 2019.

2- زهدي جار الله: المعتزلة، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1974.

3-محمد صالح: مدخل إلى علم الكلام، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 2001.

4-محمد صالح: عمرو بن عبيد وآراؤه الكلامية، نهضة الشرق، 1985.

5- محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي/ دار الساقي، بيروت 1989

6- ابراهيم الحيدري: النزعة التنويرية في فكر المعتزلة، الحوار المتمدن، -العدد: 3920 - 2012 / 11 / 23 - 20:33

7- أحمد هيكل: المعتزلة وأزمة العقل المسلم مع التنوير، الحوار المتمدن-العدد: 6936 - 2021 / 6 / 22 - 01:55

8- جيهان خليفة: المعتزلة فرسان التنوير العربي، الأهرام، نشر في كاب 24 تيفي يوم 08 - 07 – 2021

9- هاشم صالح: الانسداد التاريخي.. لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي، دار الساقي، بيروت، 2011.

10-إجناس جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة محمد يوسف موسي وآخرون، دار الكتب الحديثة ومكتبة المثني ببغداد.

11-أنظر مقال بعنوان. ولماذا تعثر التنوير فى العالم العربى؟، الأهرام، الثلاثاء 16 من رمضان 1440 هــ 21 مايو 2019 السنة 143 العدد 48378

 

في المثقف اليوم