قضايا

مراد غريبي: سؤال القراءة وتعدد القارئ.. مقاربة أولية

عندما نعاين واقع القراءة في مجالنا العربي والإسلامي نجد انفسنا أمام إشكالات جوهرية مهمة ومشكلات ثقافية حساسة، وأهم هذه الإشكالات هو القراءة بوصفها سؤالا سوسيوثقافيا، تقابلها مشكلة القراءة بلا منهج ولا غاية، وهذه المشكلة في جذرها هي صورة من صور الاشكال الأهم، حيث مقاربة هذه المشكلة في إطارها العام يعكس جدلية العلاقة بين القراءة وثقافة المجتمع، من جهة كيف ينظر المجتمع للقراءة؟ ومن جهة ثانية ما موقع القارئ في الحركة الثقافية للمجتمع؟ أي هناك بعدين في العلاقة، التصور والحركة للقراءة كمحرك ثقافي للمجتمع.

البعد الأول: «القراءة بوصفها سؤالا اجتماعيا»،

هنا يمكننا الوقوف على عدة مقتضيات:

- تكون القراءة سؤالا حيويا في أبعاد وآفاق وتطلعات المجتمع، عندما تشكل عنوانا بارزا من عناوين التعارف والحوار والتجديد والاهتمام بالبعد الثقافي للتنمية والتربية والتقدم والنهوض،

- القراءة كسؤال إجتماعي يعني بناء وعي جمعي يتشكل لتفكيك جل معطلات التكامل والتعاون بين أطياف الفكر وكذا دفع عجلات النهوض والخلاص من صور التدهور والجاهليات والأساطير للعبور نحو ضفة العقلانية المدنية السليمة وتمكينها..

- القراءة كقيمة حضارية تنبثق من عمق الانضباط الثقافي للمجتمع في ملاحقة مشكلات الواقع،

- القراءة كتوجه نحو بناء أنساق معرفية متنوعة لرسم صورة المجتمع المتمدن.

أما البعد الثاني: «القارئ بوصفه محركا إجتماعيا».

هنا نستحضر عدة صور للقارئ في جغرافيتنا:

- القارئ بشتى تعريفاته ومستوياته ومواريثه الفكرية والفنية ومجالات القراءة التي يعنى بها أي شخص اقتحم عالم القراءة، مقيد بمسؤولية شخصية ذاتية وإجتماعية لديه حقوق وعليه واجبات والا القراءة المتهافتة والقابعة ضمن دائرة مغلقة لا يمكنها أن تنير فضاء القراءة في مجتمعها ..

- القارئ المتخصص أو الشمولي الواقعي هو مشروع كاتب ومفكر وأديب وناقد تنويري اذا ما كانت أهدافه تندرج ضمن مسارات بناء الوعي الاجتماعي بالنهوض والتقدم ونظم الأمور..

- القارئ كظاهرة اجتماعية تتحقق بالسعي نحو تحرير القراءة من الطابع الأيديولوجي والرهان المادي عبر تسويق ثقافة القراءة وتحرير القراءة من بورصة السوق

- القارئ روح القراءة ودليلها اجتماعيا، كونه يشكل مركز أي مشروع للقراءة سواءا كاتبا أو مكتبيا أو ناشرا أو ناقدا، لأنه مكون للكل الفكري والثقافي في المجتمع..

عند النظر لقضية القراءة كسؤال اجتماعي من جهة وللقارئ كمؤثر اجتماعي من جهة أخرى، نجد أن قضية القراءة ودور القارئ مجتمعيا تنطلق في الأغلب الأعم من المنطلقات التالية:

المنطلق الأول: التقليد، القضية تمثل نقل تجارب أجنبية بحذافيرها دون الالتفات للخصوصيات الثقافية والمنهج المعتمد في تنمية القراءة وتكوين قراء مؤثرين في حركة النهضة اجتماعيا..

المنطلق الثاني: الأدلجة، لدى البعض القراءة مشروع استقطاب للجماهير نحو رؤية وحيدة وفكر أحادي، في الغالب اصحاب هذا المنطلق قراء تحت الطلب الايديولوجي دون الأدب والفلسفة والثقافات المنفتحة على الهواء الطلق، حيث منهج القراء المأدلجين الصراع عبر التاريخ والعقائد السياسية والدينية واحتكار الحقائق والواقع، فنشاطهم الثقافي المضاد للتعدد والتنوع في المجتمع يعطل أي اشتغال حضاري خلاق على مطلب القراءة في المجتمع ..

المنطلق الثالث: هواية، حيث القراءة جزء ثانوي او من الدرجة الثانية في برنامج القارئ الهاوي كالمتقاعدين او الرياضيين وغيرهم، على الرغم من ان هذا المنطلق يشكل الأثر الاجتماعي التنويري على المدى البعيد لكنه يبقى ذا ثقل واهمية في صياغة الوعي بالقراءة ومقاربة الصورة الحية للقارئ الفعال اذا ما تم تفعيله وتمكينه مجتمعيا..

المنطلق الرابع: هناك منطلق "القراءة كرامة إنسانية" تعكس النباهة والمبادئ والقيم والأخلاق في سلوكيات القارئ العامة والخاصة وتناضل من أجل حماية حقوق الإنسان والبيئة والأفكار والمستقبليات، لأنها تهدف لتحرير الإنسان بكل أبعاده وآفاقه وتطلعاته من الحرج والتطرف والتسلط والظلم بشتى أنواعها، وهذا المنطلق يرسم معالم أجوبة القارئ النموذج على سؤال القراءة الحية اجتماعيا..

جماع القول، دون أن نغفل عن الملاحظة الاهم بخصوص هذه المنطلقات، أنه الاستغراق في نهج المقارنة بخصوص سؤال القراءة مع مجتمعات أخرى، قد يسقطنا في دوامة التقليد كما التهافت من خلال أحادية الفكر والصراع، هناك العديد من التجارب والمحاولات بعدة بلدان عربية باءت بالرجعية وانتشار القراءة الميتة أو القاتلة للإبداع بسبب المنطلقات الثلاثة السابقة، بينما هناك تجربة حية ورائدة بالخليج العربي عرفت تطورا كبيرا مع مرور السنين، كوني كنت شاهدا عليها، حيث استطاعت التطور والتأثير والنفع والإبداع في مجتمعها بفضل مجهودات أصحابها بدءا من صاحب الفكرة وصولا للقارئ الذي احتضن الفكرة وآمن بها، فحسن آل حمادة مبدع بسطة حسن وعش الكتب والمدير العام لدار نشر بسطة حسن بالمملكة العربية السعودية وهو قبل كل هذا القارئ والكاتب والأديب والمثقف المهتم بمستقبل مجتمعه رمى بفكرة القراءة التي احتضنها عشاق الكتاب وفن القراءة فأخذوها بقوة إلى أن أصبحت إبداع ثقافي مميز يزداد تألقا كل سنة..

في هذه المقاربة الأولية نؤكد ان كل المجتمعات التي وصلت إلى مستويات راقية في مجال القراءة وتنمية الحس المدني لدى شعوبها عبر بوابة القراءة، لم تبلغ ما بلغته دون عراقيل وتحديات، وإنما واجهت الكثير من الصعوبات، وإن المطلوب ليس الخضوع للتخلف الذي ينخر في أجساد مجتمعاتنا، وإنما مواجهته وتجاوزه عبر مواصلة مشروع صياغة المجتمع القارئ لأن حقائق التقدم في الفضاء الاجتماعي من شروطها المركزية رأسمال بشري يجيد القراءة الحية ومبدع للرشد الثقافي الإجتماعي.

من هنا فإن سؤال القراءة في المجال العربي والإسلامي وما يختزنه من شروط القارئ المؤثر في مجتمعه وأمته، يبقى مسألة حيوية لمواجهة تحديات العصر بشتى أبعادها الثقافية والمعرفية العلمية والإقتصادية والحضارية المستقبلية..

***

بقلم: أ. مراد غريبي

*كاتب وباحث في الفكر

في المثقف اليوم