قضايا

التسامح والتعارف: ثنائية التنوير والتجديد

لا يمكننا الاقتراب من حقائق التسامح دون الدنو من ثقافة التعارف، كون التلازم بين المفهومين والثقافتين دقيق وعميق، وذات تفاعل بشكل منهجي وموضوعي. فكلما ناقشنا قيمة التسامح فرض التعارف حضوره التنويري وثقافته التجديدية في تركيز ماهية التسامح، ومتى ما تضاءل إشعاع التعارف انكمش نور التسامح واتسعت رقعة التعصب والتطرف. بحضور التسامح تنتشر ثقافة التعارف ويكون نصيب التنوير والتجديد كبيرا مع تطور قيم التسامح والتعارف لدى أي مجتمع من المجتمعات.

لأن ثقافة التعارف معادلة نتيجتها التسامح  نقيض التعصب والتطرف والأحادية الفكرية، ليس هذا فحسب، وإنما لأن التسامح  والتعارف لا يتيحان مجالاً للعداوة والسلبية والتعصب والعنف، بل  يشكلان سدا منيعا أمام متواليات التعصب والتطرف ويؤكدان بما لا يدع مجالا للشك أن العنف بكل اوجهه خيار ممقوت ونهج مرفوض..

ولأن التسامح  اساسه الاختلاف رحمة وخير ومنفعة عامة، ومؤشر تطور وارتقاءو ثراء وتجديد للحياة، ونهج  لتكامل الرؤى وتلاقح الأفكار وتأسيس للأرضية المشتركة.

ولأن التعارف يجعل من المكاشفة الصادقة فضيلة، ومن اللقاء مكسباً، ومن الإنغلاق تحجراً، ومن النكوص سبباً للرتابة والجمود. فالتعارف فضيلة لأنه الأصل في جعل الناس شعوبا وقبائل..

كما أن تبادل المعارف والرؤى وتفكيك الإشكالات عبر الحوارات البناءة واللقاءات الهادفة والخلاقة  مكسب فعال لأنها مدخل أساسي لتعاون الطاقات وتنقية البواطن وتصحيح التصورات وتجديد الثقة، كون الأحادية الفكرية والتعصب الأعمى تنتهي إلى الجاهلية والوحشية لأنها تفسد فرص ومشاريع وآفاق التنمية والتطور والسلم الأهلية، والتعصب يكون سبباً للجهل المركب والعقد النفسية والأمراض الأخلاقية لأنه يفتقد إلى آفاق التسامح.

ولأن التسامح إشعاع أخلاقي لمبدأ الكرامة يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، كما يفتح المجال عبر التعارف بينهم حتى لا يشعروا بالقصور في الفهم والوعي ويزيد من فرص التنوير، فإنه يعطي لمشروع التجديد الثقافي مساره الطبيعي وأفقه التنويري الأمثل..

ولأن التعارف فيه تعظيم للحقيقة، فالحقيقة هي تلك التي يتوزع نورها وإشعاعها على عقول الناس عبر نفوسهم المتسامحة،  ومن يريد أن يصل إلى الحقيقة فعليه أن يؤسس معرفته بحكمة التسامح، وهذه هي الحكمة التي جعلت ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، ومن يريد الحقيقة  فعليه أن يفتش عنها في عقول الناس بتسامح يعكس تواضعه أمام الحقائق ولا أن يبحث عنها في عقله فحسب وإنما عبر الوصول إلى عقول الناس، من خلال نهج التعارف، هذه هي عظمة التعارف الذي يفكك ويحطم صخور التعصب ويهزمها ليستخرج لؤلؤة الحقيقة..

و عليه يمكننا القول : إن التسامح والتعارف صنوان لنجاح التمدن الاجتماعي، وهكذا يكون التسامح الذي يضفي على حياة الناس متعة التعارف المسدد للتعايش, والتعارف الذي بممارسته الاجتماعية كثقافة يترسخ ويتعزز قانون التسامح الحضاري بين أبناء المجتمع  أي أن التسامح والتعارف  كلاهما يترسخ بالآخر ليتجدد الاجتماع الإنساني ويتقوى السلم الأهلي.

***

أ. مراد غريبي

كاتب وباحث في الفكر 

في المثقف اليوم