قضايا

الزهاوي والمكان والزمان (6)

ويقودُكَ الزهاوي في المُجْمَلِ ممّا رآهُ  - شئتَ أم أبيت - الى قصةِ المكانِ والزمانِ فيقول:  أمّا الابعادُ عندي فهي بعدان لا غير، بعدُ المكانِ الذي يلبسُهُ الجسمُ ويخلعُهُ ليلبسَ غيرَه على التمادي حين يكون متحركا، وبعدُ الزمانِ وهو السكونُ الذي يتخلَّلُ حركةَ الجسمِ ثابتًا كخطِّ الحديدِ الذي يجعلُ المراقبَ يظنُّ أنَّه يُسرعُ حين يمرُّ عليه القطار، وهو في الحقيقة يكون بمعيةِ المكانِ لا ينفصلُ عنه في جميع الأحوالِ، اذ لا يمكن أن توجَدَ  المادَّةُ الواحدةُ في  نقطتينِ منه.

واستنادًا إلى ما تقدمَ يقول لك فإني لا أِقِرُّ أنِشْتايْنَ في تعريف الأبعادِ على أنَّها أاربعة.  فالأبعادُ الثلاثةُ التي اخذها في الاعتبارِ من طولٍ وعرضٍ وعُمقٍ إنَّما هي امْتِداداتُ المكانِ وليست أبعادًا قائمةً بذاتِها.

هنا تجدُرُ الْإشارةُ الى أنَّ أنِشْتايْنَ في النظرية النسبية الخاصة (The special theory of relativity) اقترح مفهومَ   الزَّمَكانspacetime)  ( كنموذجٍ رياضيٍّ (Mathematical Model)  يربط بين المكانِ بأبعادِهِ الثلاثةِ والزمانِ كبعدٍ رابع.

والذي أراهُ أنْ ليس هناك من فارقٍ بين ما يقوله الزهاوي وذاك الذي يقوله أنِشْتايْن، وربما وقع الزهاويُّ في إيهامِ الكلماتِ، فأنِشْتايْنَ لم يقلْ أنَّ الابعادَ المكانيةَ منفصلةٌ عن الجسمِ او الكتلةِ فوجودُ ايِّ كتلةٍ في الفضاءِ تخلقُ تحدُّبًا فيه، بناءً على هذه الابعادِ الثلاثة. والتحدُّبُ يتناسبُ طردِيًّا مع الكتلةِ،  وهو لا يختلفُ عن اعتبارِ الزهاوي أنَّ هذه الابعادَ هي امتداداتُ الكتلةِ في المكانِ الذي تحِلُّ فيه.

هنا يجدرُ بنا ان نُشيرَ الى أنَّ استعمالَ ثلاثةِ ابعادٍ مكانيةٍ أساسُهُ ما نُحِسُّهُ ونلمسُهُ في الواقع اليومي، ولكن لا يُستبعَدُ ان تكونَ هناك ابعادٌ اكثر لتركيبةِ النسيج الكوني كما يُنَظِّرُ بعضُ الفيزياويين الان في وجودِ مثل هذه الأبعاد وإنْ لم تُرَ ظاهرةً للعيانِ كالأبعادِ الثلاثةِ المألوفة.

ثم يقول الزهاوي انه منذ (30) سنةً قد قال بوحدة القوى، وان جميع القوى تتولدُ من الاثير او الفضاء الذي هو ام الاثير.  وهنا اقول ان الزهاوي أنهى مخطوطتَهُ "المُجْمَل مما أرى" عام 1923، ولذا أسْتَنْتِجُ أنَّ الرجلَ كان يقول "بوحدة القوى" منذ 1893 وهذا يحسب له كمصطلح، إذ أنَّ أنِشْتايْن بدأ بنظرية المجالِ المُوَحَّد(unified field theory)   في عام 1920 كمحاولة لوصفِ القوى الرئيسية في الكون بعلاقاتٍ رياضيةٍ موحدة، ولم تكن في ذلك الوقت كلُّ القوى معروفةً عدا قوتين هما القوةُ الكهرومغناطيسية وقوةُ الجاذبيةِ، بالاضافة الى ذلك لم يكن معروفًا غير البروتون والالكترون كجسيماتٍ أولية.

بقي أنْ نؤَكِّدَ أنَّ قولَ الزهاوي ان جميعَ القوى تتولَّدُ من الأثيرِ فيه خلطٌ ، كما قلنا في مقالات سابقة، ولا نريد التكرارَ بالاضافة الى انه لم يقل ماهي القوى واكتفى بكلامٍ اقرب الى فلسفةِ القدماءِ منه الى لغةِ العلمِ الحديثة على أنَّ المادةَ هي القوةُ مركبةً، والقوةَ هي الاثيرُ مركبًا تركُّبًا اخف، والاثيرَهو المكانُ الممتدُّ، والمكانَ هو الزمانُ المستمر.

يقول كان القدماء يزعمون ان الزمانَ غيرُ مُستقِرِّ الذات ظانين انه هو الذي يجري علينا من المستقبل الى الماضي مع ان الحقيقةَ نحن سائرون من الماضي إلى المستقبل، وهذا مقبول.

وعن وجود المكان يقول انه مؤمنٌ بأنَّ المكانَ موجودٌ، ويعارض من يقول أنهُ غيرُ موجودٍ او معدوم.  لا بد لي من الاشارة الى ان غالبَ الفلسفات القديمة تؤمن بأن المكانَ والزمانَ موجودان، إلاّ أنَّ بعضَها يقول بعدم وحودِهما بصورةٍ مستقلةٍ عن بعضِهِما، ولربَّما قصدَ الزهاوي الفلاسفةَ المثاليين في اعتبارهم ان الزمان والمكان ليسا إلا وهمٌ، ولا وجودَ لهما إلا بعقولنا.

ثم يمضي قائلًا ان المكانَ موجودٌ لأننا وإن كنا لا نحسهُ بمشاعرِنا لكنه يُقاسُ، فالمسافةُ بين الارض والشمس هي  اقلُّ من تلك التي بين الارض والشعرى اليمانية كمثال.   فاذا لم يكن للجسم امتدادٌ ذاتيٌّ فإنه  يلبسُه من المكانِ الذي يحِلُّ فيه ولا يمكن ان يكون هناك امتدادان لكل من الحسم والمكان في آنٍ واحد.

ان الزمانَ امتدادٌ مستقِرٌّ، وهو السكونُ يتخلَّلُ الحركاتِ، ولما كان كلُّ جسمٍ وجوهر وألِكرتون متحركًا، فكلٌّ من هذه ذو حصَّةٍ من الزمان.  اني أُصِرُّ على أنَّ الزمانَ سكونٌ، ولا حركةَ الا يتخلَّلُها السكونُ سواء كانت بطيئةً او سريعة، غيرَ ان السريعةَ  تكون أقلَّ سكونًا من البطيئة.  إنَّ السكونَ هو خاصِّيَّةٌ للمكانِ وهو الذي يقاوم الحركةَ فيؤدّي بالمادةِ المتحركةِ الى توقُّفاتٍ اثناءَ الحركةِ سواء كانت طويلةً او قصيرةً تبعًا لما للحركةِ من شدَّةٍ او ضَعْفٍ، يقول لك الزهاوي.

ثم يضرب لك مثالًا أن الجسمَ اذا تحرك في مسافةٍ طولها 60 مترًا وفرضنا أنه يقطع مترًا واحدًا في كل ثانية، فيكون هذا الجسم قاطعًا هذه المسافة في دقيقة.  وان السببَ في قطعه هذه المسافة بدقيقةٍ هو حركةُ ذلك الجسمِ لاغير. فاذا ما ضاعفنا سرعتَه فجعلناهُ يتحركُ مترين في كل ثانية، فإنه سيقطعها في 30 ثانية، وهذا مقبولٌ فان الحركةَ التي تقطع مسافة  60 مترًا في ستينَ ثانيةٍ في الحالة الاولى، تقطعها في نصف الزمان الاول اي 30 ثانية في الحالة الثانية، والسببُ في اختصارِ الزمنِ هو السرعةُ لا غيرها، وكان المفترض ان يقطع الجسمُ المسافةَ عينها في لا شيئ  من الزمنِ اذا زيدتْ سرعتُه ضعفا اخرغير الذي زدناه اولا فجعلناه يتحرك في كل ثانية ثلاثةَ امتارٍ، اذ لا فرقَ بين الضعفين فاذا كلن الضعف المزيد اولا قد اكسبنا 30 ثانية فلا مانعَ أنْ يُكْسِبَنا الضعفُ المزيدُ ثانيًا مثله، وهو ما يوجب كما اسلفنا  ان يقطع الجسم المسافة من غير زمان، والمشاهد خلاف ذلك فانه بقطعها حسب السرعة الاخيرة في 20 ثانية لا اكثر.  ذلك لان الحركة مهما اشتدت فلا تخلو من السكنات التي تتخللها واذ قد شاهدنا ان الزمان يقل بالسرعة ويكثر بالبطء، فالزمان هو السكونُ والسكونُ هو الزمان. 

بقيَ أنْ أخْتِمَ هذه الحلقةَ، بأني كما قلت في الحلقاتِ السابقةِ، لا ابتغي الا ان القي الضوء على هذه الشخصية العراقية الفريدة، فحسب الرجل دون دراسة اكاديمية، نظر في مواضيع حساسة ربما تطلبت فرق بحث لتغطيتها، معتمدا على فكره الثاقب، واطلاعه في زمن يصعب على دوائر مختصة الحصول على المعلومة بالسرعة المطلوبة، ان لم نقل  ان بعض المفاهيم كانت في بدايتها.  ولاتقولن لي بعد ذلك ان الزمان والكتلة بأبعادها يتغيران بتغير السرعة، اذا كانت السرعة فائقة جدا او تقرب من سرعة الضوء، فإني أعرف ما جاءت به النسبية في ذلك، ولا أريد أن أصدع رأسك بمعادلاتها، لكني حاولت ببساطة ان أُميطَ الِّلثامَ عن الجانب العلمي والفلسفي لهذا الشاعر، على الرغم من نشاطاته المعروفة في الثقافة والسياسة والاجتماع طيلة حياته، فتحية اكبار لك ايها الزاهي الزهاوي.

***

عبد يونس لافي

 

 

في المثقف اليوم