قضايا

عبد الجبار الرفاعي وموقفه من علم الكلام الجديد

يعد الدكتور عبد الجبار الرفاعي واحدا من الكتاب والباحثين العراقيين المعاصرين الجادين في مجال الفلسفة الإسلامية، وله رؤية فلسفية حول الإصلاح، وتجديد علم الكلام، وهو مترجم نشط لعدد كبير من الأبحاث والإصدارات الإيرانية للغة العربية، ولد عام ١٩٥٤، وحصل على بكالوريوس دراسات إسلامية 1988، ثم الماجستير في مجال علم الكلام عام 1990، ثم الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية سنة ٢٠٠٥.، وقد عمل عبد الجبار الرفاعي مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ومستشار تحرير لمجلات ودوريات متعددة، يرأس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة منذ إصدارها عام 1997 وحتى الآن. أصدر سلسلة كتاب "فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد". من بين كتبه: "الاجتهاد الكلامي"، و"مقاصد الشريعة "وفلسفة الفقه" و"فلسفة الدين"، و"علم الكلام الجديد"، و"إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين".

قال عنه الصديق الحبيب مراد غريبي :" عندما يكتب عبد الجبار الرفاعي لا بد أن تقرأ، وعندما يحاضر لابد أن تنصت، إنها تجربة معرفية عمرها أكثر من خمس عقود من المطالعة والدراسة والبحث والحوار والنقاش والتأمل والتفكر، والغوص في غمار الفلسفة وعلم الكلام والفقه والأصول والآداب والعلوم الحديثة. لا يمكنك العبور مرور الكرام على البستان الثقافي للصديق عبد الجبار الرفاعي، لأنك ستخسر اصطياد الكثير من الخبرة المتراكمة، والمنهج، والرؤية، والصبر، في معارف الدين والفلسفة والثقافة والأخلاق والإنسانية والتربية. هكذا عرفت واكتشفت وعايشت فكر هذا العربي المسلم العراقي الأصيل منذ أكثر من ثلاثة عقود. الرفاعي معلم مثقف رزين يأسرك تواضعه وسعة أفقه. الدكتور الرفاعي خلال كل أحاديثي معه أزداد إعجابا بإنسانيته، ناضل هذا الإنسان لينال كنوز المعرفة والفقه والفلسفة وعلم الكلام والثقافة، صارع كل ألوان القهر والاغتراب والارهاب والتقييد والتسقيط. عمل طيلة عقود في الظل بعيدا عن الأضواء، بروح المتبصر العارف بزمانه، المتأمل للواقع الثقافي والديني بحكمة وروية. لم يحب البروز تحت أضواء مسرحيات الفكر والثقافة والتدين المغشوش، بقي متمسكا بالقيم والمبادئ التي حملها منذ طفولته عبر مخاضات الحياة كلها، فكانت النتيجة شخصية إنسانية ذات لمسات حضارية في كل تفاصيل حياته (1).

ويستطرد مراد غريبي فيقول: "ابتسامة دائمة على محياه، كتابات عميقة تكسبك فن التعامل مع متغيرات الفكر والثقافة والحضارة، لطف في معاملة الناس، خطابه الفيصل بصوته الأبوي الحنون التي يبهرك بنظم الخام الفكري في موسيقى اللغة ونسق التعبير ولغة التهذيب. الرفاعي يختزن في تجربته ومسيرته تجارب ومحطات متعددة ومتنوعة ومختلفة، استجمعها ببراعة واتقان، ليقدمها بإحسان في أسلوبه، ومدرسته الأخلاقية الإنسانية التي أصبحت رائدة في تجديد إنسانية الإنسان في المجال العربي والإسلامي، عبر خطاب صادق وعابر لفنون الكلام المنمق الخاوي. من أجمل ما يزيد القارئ انفتاحا وتطلعا للنهل من فكر الرفاعي معادلاته الأساسية التي محورها: الدين، الإنسان، المعنى، الحياة، الأخلاق، والفعل التجديدي. بين كل ذلك كنوز تربوية وإضاءات فلسفية ومحطات منهجية ومقاربات فكرية تغني القاصي والداني بلمعان جواهرها، وتبعث في نفوس أهل الظمأ المعرفي طاقة عجيبة من الاستزادة في السؤال والاطلاع والنقاش (2).

بعد هذه الشهادة الطيبة التي أدلاها مراد غريبي في حق "عبد الجبار الرفاعي" (مع حفظ الألقاب) ننتقل للحديث عن موقفه من تجديد وتطوير علم الكلام، حيث كتب موسوعة رائعة في فلسفة الدين، وكان الجزء الثالث منها بعنوان " علم الكلام الجديد – مدخل لدراسة اللاهوت الجديد وجدل العلم والدين، وقد شرح عبد الجبار الرفاعي هذا الكتاب في سلسلة من المقالات نشرها في مواقع ورقية والكترونية عديدة، ونحاول هنا أن ندرس موقفه من علم الكلام الجديد.

وأبدأ حديثي بقوله:" علم الكلام كغيره من العلوم الإسلامية، تأثر في نشأته ومساره بمجمل الأحوال السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والإثنية في الاجتماع الإسلامي، فعندما يكون المجتمع في حالة نهوض؛ يشكل الإطار الاجتماعي الملائم لنمو المعرفة وتطور العلوم، فينمو ويتكامل التفكير الكلامي كغيرة من أبعاد التفكير الديني في الإسلام الأخرى. أما إذا دخل المجتمع مسار الانحطاط، فسوف يتداعي الإطار الاجتماعي لتطر المعرفة، وتسود حالة من تشتت العقل وتشوه رؤاه، تدخل معها معارف الدين وعلومه مسار الانحطاط، تبعا لما عليه أحوال المجتمع، فيتراجع دور العقل، ويضمحل التفكير الكلامي (3).

ولهذا السبب دعا عبد الجبار الرفاعي إلى مراجعة سريعة لمسار التفكير العقل الكلامي عبر أربعة عشر قرنا، وذلك للوقوف عند عدة مراحل مر بها التفكير، وبعد الجهود المضنية الذي بذلها عبد الجبار الرفاعي عبر تلك المراحل، اكتشف أن جهود علماء الكلام تمخضت عن تبلور المدارس الثلاث الكبرى في الكلام ألا وهي: "المعتزلة، والشيعة، والأشاعرة" ؛ لكن إزدهار التفكير الكلامي لم يمضي في درب لاحب، من دون أن يدخل في متاهات من الجدل والسجالات، التي أسهم مناوئو علم الكلام بدور تحريضي واسع، مضافا إلى تسيس المواقف الكلامية، وانتقال المناظرات من دور العلم "وهي المساجد وقتئذ" إلى قصور السلاطين، مثلما جري في مسألة خلق القرآن وغيرها حتى انتهي ذلك إلى تصفية مدرسة الاعتزال والقضاء عليها قضاء تاما بقرار سياسي في فترة لاحقة (4).

غير أن المخاض الذي التهم، كما يقول عبد الجبار الرفاعي، التفكير الكلامي، واستنزف الطاقة العقلية لعلماء الكلام لسنوات طويلة، لم يعطل هذا التفكير، وإنما استطاع التفكير الكلامي أن يجتاز هذا المخاض بمعاناة بالغة وجهود شاقة، وظهرت في القرون: الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، أهم الدونات الكلامية، مثل: " المغني" للقاضي عبد الجبار (415 هـ)، وأخيرا " التجريد" لنصير الدين الطوسي (672هـ)، الذي كان خاتمة للمرحلة الثانية في مسار التفكير الكلامي، ولعب دورا بارزا في تأسيس الفلسفة الكلامية، التي تبدو كأنها خالية من شوائب وزيادات وإضافات المتكلمين المصطرعة مع تيار الفلسفة، حتى امتد تأثيره إلى زمان يتاخم عصرنا الحديث. ولقد صار كتاب " التجريد" منذ الربع الأخير للقرن السابع نموذجا يترسمه المؤلفون في علم الكلام، ومن أمثال ذلك الكتب المعتمدة فيه عند الباحثين، ككتاب "المواقف لعضد الدين الإيجي (756هـ)، وكتاب المقاصد لسعد الدين التفتازاني (792هـ)، وكتاب المجلي لابن أبي جمهور الإحسائي (901هـ). ولم يشهد التأليف في علم الكلام أعمالا إبداعية بعد ظهور كتاب الطوسي "التجريد"، وظلت سائر المؤلفات المتأخرة عنه، إما شروحا له ولمتون الكلام السابقة، وإما مدونات ومتونا جديدة، غير أنها ما فتئت تكرر آراء وفهم تلك المدونات ومسائلها، وكان ذلك إيذانا بانتقال علم الكلام إلى مرحلة ثالثة، بدأت بركود التكفير الكلامي، واستئناف للتراث الكلاسيكي، وتواصلت هذه المرحلة مدة طويلة تناهز خمسة قرون – من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر الهجري – تعطل فيها التفكير الكلامي، ولم تتجاوز اهتمامات الدارسين ألفاظ التراث الكلامي ومعمياته وألغازه، فأسرفوا في تدوين الهوامش والشروح التوضيحية، وبهرتهم براعة القدماء في اختزال الأفكار وتكثيف النصوص، فشاع لديهم شعور موهوم بأن الآراء التي تحكيها تلك النصوص هي آراء أبدية، يجب تعميمها لكل زمان، ولا يجوز أبدا التفكير خارج مداليلها وفحواها، واستحالت مهمة المهتمين بهذا العلم إلى حراسة متونة، والمبالغة في اطرائها وتهويل مضمونها، ومقاومة أية محاولة للتفكير خارج مداراتها (5).

هنا يؤكد عبد الجبار الرفاعي بأنه لا بد من وضع علم كلام جديد؛ فنجده يقول: (كل تجديد في علوم الدين لا يبدأ إلا من خلال فتح باب الاجتهاد في علم الكلام ... علمُ الكلام الجديد ليس شعاراتٍ مفرغة من المعنى، أو صيحةً في فراغ، وليس أمراً مغلوطاً، كما يدعي بعضُ "الأشاعرة الجدد"، بدعوى أنه لم يزحزح علمَ الكلام القديم، ولم يتجاوز الوعودَ والدعوات، وكأنه يفهم علمَ الكلام الجديد على أنه علمُ الكلام القديم نفسُه مصحوباً بضجيج. هذا كلامٌ غيرُ دقيق؛ لأنّ علمَ الكلام الجديد كسر شيئاً من أغلال التقليد في العقيدة المترسخة منذ قرون، وأعاد النظرَ بوظيفةِ علم الكلام التقليدية، فانتقل بها من الدفاع المحض، بناءً على مسلّمات اعتقادية نهائية صاغها أئمة الفرق، إلى تفسير وفهم وتحليل حقيقة المعتقدات في ضوء معطيات الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع. كذلك انتقل من النزاع حول حقيقة "الكلام الإلهي"، بوصفها المسألة المركزية في الكلام القديم، إلى دراسة ظاهرة الوحي، بوصفها المسألة المركزية في الكلام الجديد، واكتشاف أفق بديل لبحثها خارج المدونة الكلامية التقليدية. لأن موضوع "الكلام الإلهي" متأخر رتبياً في بحثه عن "الوحي"، إذ إنّ تقريرَ الموقف من حقيقة "الوحي الإلهي" هو الذي يحدّد حقيقةَ "الكلام الإلهي" ويرسم حدودَ تعريفه) (6).

وبعد أن عرف عبد الجبار الرفاعي لنا مقصده من علم الكلام الجديد، انتقل للحديث عن التمييز بينه وبين علم الكلام القديم فيقول: إننا أمامَ عِلمين: "علم الكلام القديم"، و"علم الكلام الجديد"، وليس عِلماً واحداً، فعلى الرغم من اشتراكهما بالاسم، لكنّ توصيفَ "الجديد" يجعله مفارقاً للقديم بشكلٍ كبير، فهو وإن كان يشترك معه في بحثِ جملةٍ من الموضوعات نفسِها، لكنه لا يضيف موضوعاتٍ جديدةً لم يعرفها علمُ الكلام القديم فحسب، بل إن طريقةَ بحثه ونتائجَه ومراميَه مختلفةٌ، ذلك أنّ كلاً منهما له مقدماتُه المعرفية، ومنهجُ بحثه، وأدواتُ تفسيره، ومفاهيمُه المفتاحية، وكيفيةُ رؤيته للعالم (7).

ثم يستطرد فيقول: (ربما يُقال إنّ الاصرار على تسميةٍ دون أخرى لا يغيّر من المحتوى شيئاً، لكن هذا الكلام غير دقيق؛ لأن كلَّ تسمية تفرضُ سلطتها، التسميةُ بوصلةٌ ترسمُ خريطةَ الطريق التي يسلكها الباحث. "علم الكلام الجديد" هو التسميةُ التي أتبنّاها. (علمُ الكلام الجديد مصطلحٌ تداولت استعمالَه وأشاعته بالعربية مجلةُ قضايا إسلامية معاصرة، وخصّصت له ولموضوعاته تسعة أعداد، هي 14-22 للسنوات 2001-2003، وواصلت هذه المجلة دراسة مختلف موضوعاته في بعض أعدادها حتى العدد الجديد 69-70 الذي صدر عام 2018. ومن قبلها أشار لمصطلح الكلام الجديد بعض الباحثين العرب، وبعد ذلك اتسع استعمالُه، حتى بدأ يتوطن المجالَ التداولي العربي بالتدريج)، ويتبنّى هذا الاستعمال كلُّ من يعتقد بعجزِ علم الكلام القديم، ويعرفُ قصورَه عن الوفاء بالمتطلبات الاعتقادية للمسلم اليوم، ومن يدعو لمفارقةِ ذلك العلم، وبناءِ علم كلامٍ بديل يكون جديداً في مقدماتِه المعرفية ومعناه ومبناه ونتائجه) (8).

ولم يكتف بذلك بل يقول: لا أستعمل تعبير "علم الكلام الحديث"؛ لأنّ "علم الكلام الجديد"، الذي مضى على استعماله أكثرُ من قرن في كتابات الباحثين المسلمين في الهند وإيران والبلاد العربية، صار مصطلحاً مستقراً في اللغات الأردية والفارسية والعربية ينطبق على هذا العنوان لا على غيره، ومضمونه لا يتطابق مع مضمون "علم الكلام الحديث"، وإن كان يشتركُ معه في بعض دلالاته. إنّ تعبيرَ "علم الكلام الحديث" يلجأ إليه من يذهب إلى أنّ تجديدَ علم الكلام يتحقّق برفده بمسائل وحجج جديدة، مع الاحتفاظ ببنيتِه التراثية، وطرائقِ تفكيره، ولغتِه الخاصة. لذلك لجأ هؤلاء إلى استعمال كلمة "الحديث" حذراً من الدعوةِ للخروج على علم الكلام القديم، واستبدالِه بعلم يستجيب لإشباع حاجة المسلم الى رؤية توحيديةٍ لا تكرّر أكثرَ المقولات والجدالات المعروفة عند المتكلمين قديماً (9).

وملخص الكلام في هذا الموضوع كما يقول عبد الجبار الرفاعي: أنّ "علم كلام جديد" هو محاولة للاجتهاد في علم الكلام اليوم، كما اجتهد مؤسسو الفرق الكلامية في الماضي، فدونوا تصوراتِهم ومفاهيمَهم لأصول الدين المشتقة من عقلانية وعلوم ومعارف عصرهم، فلماذا لا يجوز أن يجتهد علماء الإسلام في عصرنا لإنتاج تصوراتهم في التوحيد والمعتقدات. لكنّي لا أستغرب ذلك ممن يصر على غلق باب الاجتهاد في الفقه ومازال لا يجرؤ على الخروج على فتاوى أئمة المذاهب وفقهاء الأمس المعروفين، إذ إنّ من ينكر الاجتهاد في فروع الدين كيف يقبل الاجتهاد في أصول الدين، الذي هو أبعد مدى وأعمق من ذلك بكثير؟" (10).

وفي نهاية حديثي أقول: تحية طيبة للأستاذ الدكتور عبد الجبار الرفاعي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر العراقي الموسوعي – الجميل الذي يذكرنا بالدكتور علي الوردي والدكتور مصطفي كامل الشيبي، والذي نجح في أن يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لعبد الجبار الرفاعي والذي لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

.......................

المراجع:

1- مراد غريبي: الرفاعي صديق الإنسان.. من ظمأ السؤال إلى استلهام الحكمة، جريدة العالم الجديد، مقال منشور يوم السبت 5 آذار 2022.

2-المرجع نفسه.

3- عبد الجبار الرفاعي: علم الكلام الجديد – مدخل لدراسة اللاهوت الجديد وجدل العلم والدين، ضمن موسوعة فلسفة الدين، دار التنوير للطباعة والنشر، تونس، لبنان، مصر، 2016، ص 20-21

4-المصدر نفسه، ص 21.

5-المصدر نفسه، ص 22.

6- أ. د. عبدالجبار الرفاعي: علم الكلام الجديد والأشاعرة الجدد، حفريات، الانطولوجيا، مقال منشور في السادس من أكتوبر 2019.

7- المصدر نفسه.

8- المصدر نفسه.

9- أ. د. عبدالجبار الرفاعي: علم الكلام الجديد وإشكالية التسمية الجدد، حفريات، مقال منشور في الثامن من سبتمبر 2019.

10-أ. د. عبدالجبار الرفاعي: علم الكلام الجديد وإشكالية التسمية الجدد.

في المثقف اليوم