قضايا

الأفكار والعقول!!

يقول إبن رشد: "إنّ للأفكار أجنحة وهي تطير لأصحابها"!!

وقد أدهشني هذا القول وأنا أبحث في طبيعة الأفكار، ومداراتها وآلياتها التفاعلية، وقدراتها التوالدية، وكيفيات إحلالها في الأدمغة.

وماهيات الأفكار وجوهرها ربما لم يُطرق من قبل إلا فيما ندر، والبحث عن ماهية الأفكار، يدفعني للتأمل في الأعراض العقلية وما يبوح به المريض النفسي، فأحاول أن أجد أسلوبا لفك رموز الشفرات التي نسميها هلاوسا وأوهاما وغيرها من العلامات، والأعراض المعروفة للأمراض العقلية والنفسية.

ربما  الأفكار جسيمات طاقوية ذات طبيعة كهرومغناطيسية، ويمكن دراستها، فهي كأي طاقة أخرى في هذا الكون الطاقوي المتسع الحالك الإظلام.

فالفكرة وفق هذا الإقتراب  عبارة عن طاقة كهرومغناطيسية ذات قدرات تنافرية وتجاذبية، وتملك دريئة من ذاتها تحميها وتحتويها، وما أن تجد الصيرورة العُصيبية التواصلية القادرة على إستدعائها أو طردها فأنها تتصرف وفقا لذلك.

والموجودات الحية تعبيرات مادية عن الطاقات الفكروية، فالبشر فكرة ووسيلة للتعبير عن الفكرة التي يتمكن من إقتناصها من فضاء وجوده، أي أن الأفكار تتجاذب وتتدامج وتتفاعل بإيجابية أو سلبية.

وهذه الأفكار يمكن تسجيلها وتصويرها وتفريغ الأدمغة منها، وهذا يعني أن المستقبل سيحبل بقدرات سحب الأفكار من الأدمغة وفك رموزها!!

وستتم قراءة الأدمغة كما يُقرأ أي كتاب، وهذا يعني أن البشر في هذا القرن سيتعرى تماما!!

وما النشاطات العدوانية المتكررة إلا نشاطات لتحفيز القدرات الإبتكارية للوصول إلى إختراع أجهزة ذات قدرات فائقة على قراءة ما تحتويه الأدمغة، وعندها يتم التعرف على البشر الذي يزمع القيام باي نشاط عدواني أو شرير.

أي أن البشر سيمر من خلال أجهزة تكشف ما يحتويه دماغه أو رأسه من أفكار، وسيتم توجيه التهمة له بما يحتويه دماغه.

ولكن هذا الإحتواء لن يصل إلى حالة الفعل أو العمل والتنفيذ إلا بتوفر قدرات التملك المطلق للبشر من قبل الفكرة الفاعلة الناشطة في دماغه، أو التي تمكن دماغه من إصطيادها أو إستنزالها من فضاءات وجودها وأكوان صيروراتها وإنتاجها.

وأعراض الأمراض العقلية ما هي إلا ظواهر فيزيائية، ولا يمكن تحقيق الشفاء والتعافي منها إلا بالإقتراب الفيزيائي!!

فالبشرية أمضت سبعة عقود أو أكثر مكبلة بالإقتراب الكيميائي، وهذا لا يمثل الصورة الكاملة للعرض النفسي والعقلي، فالنشاطات الكيميائية في الدماغ لها علاقة بالطبيعة الفيزيائية، لأنها تتسبب بنشاطات كهرومغناطيسية ذات قدرات تفاعلية مع جسيمات الأفكار الطاقوية، والتعبير عنها بالسلوك الناجم عن إمتلاك الفكرة للدماغ، وكلما تعاظمت سيادة الفكرة على الدماغ، إستطاعت أن تؤثر في الذات البشرية وموضوعها.

ويبدو أن البشرية قد هيمنت على وعيها وآليات تفاعلاتها أفكار معينة متوارثة عبر الأجيال، حجّمت قدرات أدمغتها وصفّدتها في صناديق تصوراتها وتطلعاتها المتأسنة والمتمحنة بمواضعها، ومنعت عنها إستنشاق نسائم الرؤية المطلقة، الخالية من التشويهات والتحضيرات الكفيلة بتقليص قدرات الوعي والإدراك، والتفاعل الإبداعي التواق.

وذلك سلوك بقائي وضروري للتواصل البشري فوق التراب، لأن إطلاق العنان للأدمغة لتتشكل وفقا لما تحتويه من القدرات التواصلية الذاتية يتسبب بإضطرابات موضوعية ذات تداعيات خطيرة ومدمرة للحياة الآمنة المستقرة.

وقد تأكد ذلك في المجتمعات التي ما أن أزيل عنها غطاء الطغيان حتى تشظت، وتماحقت مفرداتها وإنحدرت إلى مزالق الإمحاق المتواجع.

وكأن الفكرة مثل رأس البصل!!

فالقوة الكبرى تكمن في أصغر ما فيها وهو قلب رأس البصل!!

ذلك أن الطاقات المضغوطة تحقق الإستحالات الكبرى.

فالتصاغر الأعظم يحقق إنفجارا أعظما، وإذا تدامجت الصغائر أوجدت إنفجارا هائلا يعيد تشكيل عناصر الحياة من جديد.

فالقوة الإندماجية أقوى من القوة الإنفلاقية، والأفكار لها طبائع وقدرات تتحول بواسطتها إلى إنفجارات مدوية في أركان المكان والزمان الذي يحتويها.

وما الحروب العظمى إلا تعبيرات عملية عن إنفجارات إندماجية أو إنفلاقية للفكرة التي عصفت بأدمغة الملايين، وأهلتهم للتحول إلى أدوات أو آلات للتعبير عن إرادتها أو طاقتها، وهذا يفسر السلوكيات المتنوعة العاصفة في المجتمعات البشرية، والتي تنامت بسبب سهولة وسرعة التواصل والتفاعل عبر وسائل الإتصالات السريعة جدا.

وهذا يعني أن  الإنفجارات الفكروية بأنواعها ستتواجد في وقت واحد.

أي أن الأرض ستزدحم بالأحداث والنشاطات المدوية في كل مكان، والناجمة عن إنفجارات فكروية ذات طبيعة إندماجية أو إنفلاقية.

وما دامت قدرات السيطرة على بث الأفكار المستنزلة من معاقلها ضعيفة، فأنها ستتفاعل وتتقاطع وتسعى لتشكيلات متوالدة، ذات تأثيرات غير محسوبة ولا تخطر على بال الأجيال المعاصرة.

ووفقا لهذا فأن البشرية مقبلة على عصور ذات أدمغة مغايرة لأدمغة الأجيال في جميع العصور، لأنها ستكون ذات قدرات إستحضارية لأفكار بقيت محلقة في فضاءاتها منذ الأزل، وستتمكن هذه الأفكار من صناعة التغيرات الأصيلة،  لما تكتنزه من طاقات هائلة إكتسبتها بفعل بقائها الطويل في مكامنها الكهرومغناطيسية متكاثفة مكبوسة، وما أن تلامس آلة دماغية تستوعبها حتى تحقق الإنفجار الإندماجي أو الإنفلاقي المهول .

فهل أن هذه الأفكار هي التي ستكون القوة القادرة على فناء الإنسان؟

وهل أن المخلوقات الأخرى كانت ذات قدرات فكروية عالية فقضت على وجودها، وأبقت أنواعها المجردة من القشرة الدماغية الكفيلة بالقضاء على وجودها؟

فالقشرة الدماغية بما تمتلكه من عُصيبات تميّز ما بين المخلوقات كافة، والبشر يتفوق عليها بما يحتويه من عُصيبات مضغوطة ذات نشاطات كهرومغناطيسية فائقة، ويمكنه أن يوفر لها الطاقة اللازمة لعملها، وتأهيلها للوصول إلى أقصى قدرات إمساكها بالأفكار ورفضها أو الإمتثال لأمرها.

وبما أن البشر غير قادر على التخلص من قشرته الدماغية فأنها ستتخلص منه!!

وهكذا فأن العالم المعاصر بكل ما توصل إليه وأنتجه في مصانع قشرته الدماغية سينقلب وبالا عليه!!

ذلك أن من بين البشر مَن لديه أدمغة ذات قشرة مكثفة ومقتدرة على تحقيق الإنفجارات الإندماجية والإنفلاقية في آن واحد، وإن أمسكت بعنق زجاجة الحياة المعاصرة فأنها ستنفجر حتما وسينسكب ما فيها فوق رمال الفناء الأبيد.

والنفس طاقة وتنطبق عليها قوانين الطاقة، وأن الحالة النفسية لأي مخلوق مرهونة بفكرة ذات قدرة على التسيّد والتملك الذاتي، وما نسميه بالأنا والأنا العليا والإد، ما هي إلا مستويات تصارعية ما بين طبقات فكروية حالّة في الأدمغة ومتراكمة في أوعيتها، وتتناسب قوتها مع ما يعززها ويراكمها وينميها، فقوة ألف لتر  في وعاء أكبر من قوة عشرة لتر في وعاء.

وقد لا تحتوي النفس على أفكار بمستويات ثلاثة، لكنها الاصناف الرئيسية التي تمكنا من تحديدها، بينما الواقع الوعيوي يشير إلى أن النفس مجال كهرومغناطيسي لأفكار لا تعد ولا تحصى،

ولهذا فأنها لا تتطابق أو تتشابه، وإنما هي كبصمات الأصابع التي لا يمكنها التطابق في شخصين.

فالطاقة تلد أفكارا، أو تنعكس في فكرة تسعى لكينونة مادية أو طاقوية، وتتسبب في حث مجالها الكهرومغناطيسي الذي يمكن القول بأنه النفس.

وعليه فأن العقود القادمات ستشهد إنقلابات وتطورات نوعية حادة في علوم الدماغ، وستصل إلى أعماق العُصيبات وستتمكن من تنميتها، وتأهيل الأدمغة لإعادة ترتيب إرتباطاتها العُصيبية وتحقيق التفاعلات المطلوبة، والتي تساهم في الحفاظ على أبجدية الحياة.

فالدماغ فيه خلايا يمكنها أن تلد دماغها أو أي جزء يتلف أو يُصاب بمرض وعَرض، شأنه شأن باقي الأعضاء الموجودة في الجسم.

ومن الملاحظات المتكررة أن النباتات تسعى للحياة وتقاوم الموت، ولهذا عندما تقطع جزءً منها وتغرسه في التراب فأنه ينمو ليكون شجرة كالتي قُطع منها، وكذلك البذور، وهذه الإرادة الصيرورية يمكنها أن تنطبق على الخلايا الدماغية، إذا تعلمنا أو إكتشفنا الخلايا ذات القدرة التوالدية والخلقية.

فيبدو أن في كل مخلوق مهما كان نوعه إرادة تكوّنية تقاوم الإنقراض، وتسعى للتعبير عن ملامحها ودورها ورسالتها المحكومة بسلطة الدوران.

إن المهتمين بالنباتات يعرفون كيف أن في الغصن المقطوع من النبتة أو الشجرة قدرة لا محدودة على صناعة الحياة، وإستحضار صورة الشجرة التي كان فيها أو النبتة التي قُطِع منها.

وقبل بضعة سنوات وجدتني أقف واجما أمام طوابير من العقول الشابة المتخرجة حديثا، وهي تسعى للتخصص بعلوم الدماغ وتبحث في ماهيته وأسرار ما فيه، ومَن يتأملها يدرك تماما بأنها ستكشف الغطاء عن حجب توارثتها الأجيال.

ترى هل تنطبق هذه القاعدة أو القانون النباتي الصيروراتي على الأفكار؟!

بمعنى أن الفكرة كالثمرة الساقطة من شجرة كونية كبرى، ويمكنها أن تتحقق إذا وجدت الوعاء البيئي المناسب وتصنع شجرة أصلها وترتقي بوعائها إلى قِوى أخرى ذات مروج مكتظة بالفِكر والصور والخيالات الواعدة.

وهل أن الأفكار آلات جديدة يمكن تسخيرها للقيام بالأعمال الصعبة، فطاقات الأفكار ذات قدرات كونية كبرى ومطلقة، وهذا ربما يفسر بناء الشواهق الخارقة في الأزمان الساحقة، كالأهرامات والأبراج والزقورات والنصب العالية كما في الكرنك، وربما أن طاقة الأفكار وما تتمكن منه نطلق عليه بالخوارق وغيرها من التسميات.

ويبدو أن الحالة التنافرية القائمة ما بين الأفكار تؤسس لفلكية كونية ذات تفاعلات تكوّنية.

فالفكرة مثل الأرض لها طاقات جذب إنضمامية كابسة قادرة على التصنيع والتنويع والتسرمد في ذاتها المُدرَكة بالمجال الكهرومغناطيسي، ومتى ما فقدت الفكرة هذا المجال الحاني الحامي الراعي فأنها تحقق موتها .

والفكرة ذات قدرات دفاعية وعدوانية وإنتحارية أي أن الأفكار تنتحر!!

والأفكار تتدامج والطاقة المتحررة من السلوك الإندماجي للأفكار يكون مدويا ومتوالدا، وهذا ما تحققه العقائد، وحالما تسعى للإنفلاق أو التفلّق فأنها تحرر طاقات مضادة لوجودها، وبهذا فأنها تفقد قدرات التدامج وتسقط في مهاوي التغالق والتماحق.

وهكذا نرى سلوك الأحزاب المنغلقة أو المنشقة التي تحول إلى صيرورات طاقوية إستنزافية، وتمترسات إستضعافية إندحارية إنتحارية مجردة من القيمة الحضارية والدور المؤثر في صناعة المسيرة الأفضل.

والأفكار تتدحرج على السطوح، ولكي يتم القبض عليها لا بد لها من التأخدد أي الوقوع في أخدود، وهذا يفسر أخاديد القشرة الدماغية، ففيها يتم إصطياد أو قنص الأفكار، ولو أن الدماغ تسطح لفقد قدرات التفاعل مع الأفكار التي يزدحم بها فضاء الوجود الكوني، ولا يُعرف هل سنتمكن من قياس النشاطات الكهرومغناطيسية في أخاديد الأدمغة وقدراتها على الجذب أو الإصطياد الفكروي.

إن الغوص في مجاهيل الدماغ يأخذنا إلى مجاهيل الكون البعيد، وكلما إزدادت معارفنا بالكون كلما إقتربنا من فهم الدماغ وما يدور في عوالمه الظلماء.

فليس من العبث أن يكون الدماغ في ظلمة، لأن الكون معظمه ظلام دامس، وهذا يعني أن الظلام لا بد أن يكون طاقة ونحن ما زلنا بعيدين عن إدراك طاقات الظلام.

لكن وضع الدماغ في غرفة ظلماء يشير إلى أنه في محيط طاقوي عظيم يمده بالقدرات اللازمة لإستحضار الأفكار من ظلمات عليائها، أو توفير البيئة المناسبة لتفاعلاتها وإنباتها ونموها والتعبير الرمزي والمادي عنها.

أي أن الفكرة تأتي من فضاءاتها الظلماء إلى صناديق صيرورتها الظلماء في جماجم الأحياء، وهذا يعني أن الفكرة تنتقل من كونها الأظلم الأكبر إلى كون أظلم آخر أصغر، وهذا يمنحها طاقة هائلة للتعبير عن ذاتها وجوهر ما فيها.

فالفكرة بحاجة لوعاء مغلق تتخلق فيه وتتبرعم وتتوالد، وتندمج وتنفلق وفقا للحالة التي تمكنها منها العُصيبات التواصلية، بدوائرها وحلقاتها النشطة التعبيرات والتخاطبات والتكونات المتجددة لعناصر ما تحتويه، وآليات إطلاقها بجسيماتها الطاقوية التي تمدها بنسغ التبرهن والتصدح والوضوح.

ويبقى السؤال الغريب العجيب الذي مفاده هل أن الأفكار كائنات حية؟!

وهل أنها جسيمات موجية لا بد من التوصل لقياسها وقوانينها ومعادلاتها التفاعلية؟!

ستجيب على هذه الأسئلة وغيرها الأجيال المتبحرة في علوم الدماغ، وسيكون جوابها حاضرا في القرن الحادي والعشرين حتما!!

***

د-صادق السامرائي

في المثقف اليوم