قضايا

بين ثقافة السؤال والسلام الثقافي

كثيرا ما نقف أمام أسئلة مصيرية وجوهرية استفزازية لأنها تصنع التحرر وتغني الوعي وتبعث روح الصدق فينا، أسئلة ترتب الفوضى المقلقة والضاغطة على تفاصيل حياتنا، أسئلة في الذات ومعها ونحوها وحول الآخر بكل تمثلاته وعلاقته بالذات، إن أول ما يتصدر الواجهة  حول هذه الاسئلة هو فن الإجابة عنها، أي العناية بها لكن يبقى السؤال حمال اوجه بعدد الأنفس وحمولاتها وغاياتها ومسؤوليتها، السؤال ذاته بحاجة لجهد معرفي ومنهج وصدق أي عقل وحركة وأخلاق، السؤال ليس دوما بريئا بل لابد أن يكون مختلفا حتى يطرح إشكالا ويستقطب مشكلات لمشرحة الفهم والنقد والإصلاح والتجديد، السؤال كما هو فن هو كذلك تجربة ثقافية تعمل على فتح صناديق المسكوت عنه والمغيب والمموه والمشوه والمضخم والمقدس والمدنس، إنه لا يقبل المراوغة السؤال عندما يكون متكاملا في تشكله الكلي..

ضمن هذا السياق تكون الكتابة سؤال مخبوء في ثنايا النص المكتوب، إنها فن السؤال بمسؤولية واستفزاز بريء من رهانات الأدلجة والعصبيات والاحاديات الفكرية، حيث لا يمكننا أن نكتب بمسؤولية ما دمنا نراهن على التزكية الوضعية لأن الكتابة مشروع حياة، والكتاب هو استثمار في صناعة السلام الثقافي، فالكتاب في أدق تعريف واقعي له هو استثمار إنساني  أي حركة رأسمال ثقافي في الحياة الإنسانية..الآن سأكتب!!؟

مجتمعاتنا العربية أهم ظاهرة تسيطر عليها تتمثل في فوبيا ثقافة السؤال، هذه الظاهرة هي أساس كل المعضلات والمشكلات من تطرف وطائفية وإقصاء ونرجسيات وأدلجة واسطرة ونفاق وتمويه وتسقيط، إنه واقع تكتنفه ثقافة التضليل في الإعلام والتدين والتربية والعمل وكل عناوين حركة المال والأعمال المشوهة وغير الأخلاقية والمشبوهة، فالفقرنتيجة لفساد علاقة  المال بالثقافة، وهلم جرا هناك فقر في كل جنبات وعينا الثقافي سمها كما شئت تخلف جهل فساد انحراف الاهم أنها نتاج حركة اقتصادية ثقافية مشبوهة جعلت الفرد ثم المجتمع حبيس اوهام وأساطير وأعراف وقيم ثقافية خطيرة على سلامته الثقافية التي من شأنها صناعة الوعي الحضاري وتمكين ثقافة الكرامة الإنسانية في شبكة علاقاتنا الإجتماعية...

عودا لذي بدء، الكتابة والكاتب والكتاب منظومة اقتصادية ثقافية مصيرية لدى المجتمعات المتحضرة والمتحررة من أغلال المال الفاسد وثقافة الوهم، السؤال: ماذا أقرأ؟ يسبقه في مختبرات الصحة الثقافية سؤال: كيف أكتب؟ وليس لماذا أكتب؟ لأن الكتابة واجب لتحقق المسؤولية الاجتماعية للقراءة، هل أكتب مع التيار؟ أم اكتب لأداهن أو اجادل أو أضخم الأمور أو استفز لأجل التمويه أم ماذا؟

سؤال الكتابة هام جدا ضمن مشروع السلام الثقافي، والسلام اوسع من الأمن، كون الأخير كثيرا ما يدفع المجتمعات للخوف مما يتصور أنه حرج وتهديد ومؤامرة وخدش للعمق الهوياتي، السلام الثقافي يعني التعامل بحكمة وموضوعية ورزانة وانفتاح مسؤول على التنوعات والاختلافات وتجاوز عقلية الغيتو الثقافية التي أسهمت في العديد من مجتمعاتنا في نشر الغرور والحماقة والنكوص والصراع مع الآخر وأسئلة الذات والكون والحياة والتنمية والدين والإنسانية، السلام ينطلق من الانسجام المعرفي والموضوعية العملية والبصيرة والرشد الاجتماعية كما أنه منظومة عدالة وكرامة واقتصاد ورقي وليس رد فعل مثل الأمن ثقافيا في مواجهة التيارات المنحرفة والصراعات الهوياتية، دون أن نغفل أن شعار الأمن الهوياتي هو مرتبة من مراتب السلام الثقافي ولا يعني التقوقع وبناء السياج العازل ورفض الآخر بلا تساؤل ولا حوار ولا موضوعية ولا تنمية ثقافية سليمة لمواردنا البشرية..

هذه مطارحات حول دور الكتابة النابعة من أسئلة مصيرية الإجابة عنها تؤسس لسلام ثقافي يبني الوعي في كل مستويات الإجتماع العام.. يمكننا القول أن هناك تقدما في ثقافة السؤال عربيا على مستوى الكتابة، وغياب على مستوى القراءة، فالسلام الثقافي من طنجة الى مسقط بحاجة إلى ما يشبه الاستثمار الذي يعيد للقراءة   حيويتها واولويتها في مسارات التنمية الإجتماعية كلها، حيث لا يمكننا الاستثمار في بناء سلام ثقافي حقيقي إلا بعد أن تنتقل مجتمعاتنا من سؤال الثقافة إلى ثقافة السؤال بدءا من الكاتب إلى القارئ.

***

أ. مراد غريبي - كاتب وباحث في الفكر

في المثقف اليوم