قضايا

محمود حيدر وإشكالية نقد التأسيس الأنطولوجيّ للحداثة في فكر الخشت

محمود محمد عليتسعي في هذه الورقة ـ إلى التعريف بالمنجز الفكري للمفكر اللبناني محمود حيدر، وذلك بهدف تحقيق مقصد أساسي، يتجسد في الإبانة عن شمولية الأطاريح الفكرية التي صاغها وهو في إطار تدبر الإشكاليات الكبرى المؤسسة للفكر العربي المعاصر، متخذين من مقاربة إشكالية نقد التأسيس الأنطولوجيّ للحداثة - تنظير الغرب في منظومة محمّد عثمان الخشت في فكره

ولكن قبل ذلك نود التعريف لشخصه الكريم،  فهو مفكّر وباحث في الفلسفة، أستاذ محاضر في الفلسفة والإلهيّات والأديان المقارنة. رئيس مركز دلتا للصحافة والأبحاث المعمَّقة. (حالياً). مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب" (حالياً).

من أهمّ أعماله: ما بعد العلمانيّة، هيرمينوطيقا الوحي،  مفهوم الدولة، الحكمة البالغة في الحكمة المتعالية – القرآن في فلسفة ملا صدرا، الفقيه الأعلى – ماهية العارف الكامل وهويّته ... ال نقد التأسيس الأنطولوجيّ للحداثة تنظير الغرب في منظومة محمّد عثمان الخشت.. الخ.

ولم يكن الدكتور محمود حيدر ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان في عمله العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكان في ذلك متسقاً مع نفسه تمام الاتساق، فقد كان يبحث دائماً عن النوعية من الحياة، ويعرف كيف يتذوقها ويُرضي بها حسه المرهف . ولكن لعل السبب الأهم في عزوفه عن الإنتاج الغزير، برغم قدرته عليه، هو أنه كان من ذلك النوع النادر من الأساتذة، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث .

وقد شهد له كل من عرفه بأنه كان يخلص في العمل، ويتفاني في أداء واجباته، ويقرن إخلاصه في كل ذلك بالإعلان عن الرأي بوضوح، ومن غير أن يخشي في الله لومة لائم. وكما حظي الدكتور حسن بتقدير عظيم وبإعجاب بالغ في ندوات فكرية، وفي مؤتمرات علمية، أو حلقات نقاش، استهدفت الكشف عن الجوانب الابستمولوجية في كل العلوم والمعارف الأخرى .

لقد حظي الدكتور محمود حيدر بكل ذلك التقدير والإعجاب والإكبار نظراً لما كان يتميز به من خلق رفيع، وأسلوب منطقي هادئ ورصين في عرض الحجج والآراء الفلسفية، فضلاً عن استلهام الدين في دفع الشبهات عن العقيدة السمحاء، وقد كان الدكتور محمود حيدر رجلاً فاضلاً ذا خلق رفيع، قبل أن يكون رجل علم ذا معرفة وافرة وثقافة واسعة، ولا أظن أحد ممن عرفه يري في ذلك أي غرابة، فلقد ترعرع في بيئة إسلامية صالحة وتشبع – منذ صغره – بتعاليم الدين الحنيف، فكان ذلك خير معين له علي التماس طريق الحق والصواب في الفكر والسلوك، وخير زاد له علي بلورة نظرته الفلسفية حول الكون والإنسان والحياة .

كان الدكتور محمود حيدر قد زار جامعة القاهرة قبل عامين وطرح في حلقة نقاشية بعنوان "ما بعد العلمانية" بقسم الفلسفة كلية الآداب جامعة القاهرة، ضمن فعاليات الموسم الثقافي لقسم الفلسفة بالكلية ورقة حول مفهوم العلمانية والحضارة وعلاقتهما بمفهوم وجوهر العلمانية، وقال في سياقه إن مفهوم ما بعد العلمانية لم يكتمل بعد.

وعن معنى ما بعد العلمانية، قال إن العلمنة تطورت مع تطور حركات رأس المال وحركات تطورها والمنظمة الإدارية التي أدارت تلك الحركة وهى من أقصت الجانب الدينى للعلمنة. وأن العلمانية الفرنسية تتميز بحدتها وطبيعتها الأيديولوجية وتحولت إلى عقيدة للأمة الفرنسية والسلطة الحاكمة بينما جرى نوع من التركيب والتزاوج بين العلمانية والفكر الديني في الولايات المتحدة الأمريكية التي استطاعت أن تشكل دستورًا بين العلمنة والشأن الديني وكانت تجربة مميزة. ومؤخرا أنجز الدكتور محمود حيدر دراسة علمية حديثة حول فكر الدكتور محمد عثمان الخشت المتخصص في علم الأديان ورئيس جامعة القاهرة لفهم الغرب تحت عنوان: "نقد التأسيس الأنطولوجي للحداثة تنظير الغرب في منظومة محمّد عثمان الخشت".

وتسعى هذه الدراسة كما يقول محمود حيدر إلى تعيين الأسس المعرفيّة لنقد الغرب في المشروع الفكريّ عند المفكّر المصريّ البروفسور محمد عثمان الخشت؛ ولأجل الإحاطة بهذا المسعى، تمضي الدراسة التي كتبها المفكر اللبناني د. محمود حيدر إلى استقراء منهجيّته النقديّة من خلال سلسلة ثريّة من أعماله في ميدان الفلسفة وعلم الاجتماع واللاَّهوت النقديّ وفلسفة الدين. ولسوف يتبيَّن للناظر في منظومة الخشت النقديّة إلى أيّ مدى اقترن نقد الغرب الحديث بمراجعة عميقة لذهنيّة النخب العربيّة والإسلامّية التي عاشت دهشة الحداثة ولمّا تتخلّص من سطوتها بعد.

ويستطرد محمود حيدر  فيقول:" لو أطللنا على أعمال المفكر المصري محمد عثمان الخشت لَلاَحَظْنا أنّه يستمع إلى خطبة الغرب بأذن واعية، ثم أن يقرأها بعناية من أجل أن يقف على ما تختزنه من مسائل ومشكلات. وأميل إلى القول إنّ الرجل لمّا كتب على نفسه متاخمة الغرب انطلاقًا من خصوصيّته العربيّة والإسلاميّة، كان يدرك أنّ الحداثةَ هي لغةٌ من قبل أن تكون بنيانًا حضاريًّا، وأنّ لغة الغرب هي الوعاء الحضاريّ للشعوب الأوروبيّة والأميركيّة، وهي حاوية لكلّ ما يعرب عن مذاهبهم وميولهم وأهوائهم. ولمَّا قَصَد إلى فهمها فلثلاثة دواعٍ: أولًا، ليقف على اختباراتها ومعارفها، وثانيًا، ليعاين وينقد ما استتر منها من معاثر، وثالثًا ليتحرّى مآلات الحداثة بعدما آل أمرُها إلى ظلاميّة السلطة الكولونياليّة ومظالمها.

ثم يعلن محمود حيدر  فيقول :" سوف يأخذ محمّد عثمان الخشت بهذه المنهجية وهو يجول محاريب الحداثة وقيمها. ولقد بدا للناظر في أعماله النقديّة لثقافة الغرب أنّه وهو يهاجر إلى منازلها القصيّة في اختباراتها والتباساتها ومطارحها الغامضة، لم ينفصل عن مشرقيّته وثقافته الإسلاميّة. الأمر الذي سيكون له مكانة حاسمة في تشكيل دربته الجامعة بين منهجين يبدوان متناقضين لأهل العقل المحض: منهج الوحي، ومنهج الاستدلال العقليّ.

وفيما يخص المنهج وآليات النقد يقول محمود حيدر :" لأجل تظهير غايته التنظيريّة، أخذ محمّد عثمان الخشت بمنهجيّة مركّبة تقوم على تفعيل ثلاثة خطوط متوازية ومتلازمة في الوقت عينه:

الأوّل: التعرّف على المجتمعات الغربيّة كما هي في واقعها، من خلال مواكبة تطوّراتها العلميّة والفكريّة والثقافيّة والسياسيّة، وكذلك عبر ما تقدّمه نخب هذه المجتمعات من معارف في سياق إعرابها عن القضايا والمشكلات التي تعيشها في مطلع القرن الحادي والعشرين.

الثاني: التعرّف على المناهج والآليّات التي اعتمدها الغرب حيال الشرق والمجتمعات الإسلاميّة على وجه الخصوص، وذلك بقصد جلاء كثير من الحقائق وتبديد الأوهام التي استحلّت تفكير شريحة واسعة من المثقّفين العرب والمسلمين بسبب الاستشراق الكولونياليّ.

الثالث: وهو خطّ المراجعة النقدية لقيم الغرب ومعارفه التأسيسية.

وتبعًا لهذه المنهجيّة سعي محمود حيدر إلى تظهير مشروعه الفكري ضمن ثلاث دوائر رتَّبناعلى الوجه الآتي: السؤال المؤسِّس كمنهج للتنظير، نقد البيان الفلسفيّ للحداثة، وفيه مساجلة لظاهرتين فلسفيّتين: نقد العقلانيّة النقديّة عن كانط، ونقد العقلانيّة المنحازة عند هيغل.، نقد أطروحات هيغل حول الإسلام.

ثم ينتقل محمود حيدر  للحديث عن الدائرة الأولى: السؤال المؤسّس كمنهج للتنظير، فيقول: يجاوز المسرى الذي سرت فيه مجهودات البروفسور الخشت، ما أَلِفَته الدراسات والأبحاث الأكاديميّة الكلاسيكيّة. مال إلى مساجلة الأسئلة المؤسِّسة التي أخذت بها الميتافيزيقا وحوَّلتها إلى أيقونة لا تقبل المجادلة والنقض. وهذه خاصِّية لا ينالها إلّا الأقلّون ممن امتهنوا الدرس الجامعيّ أو انشغلوا بالمقرّرات التعليميّة الصارمة، بهذه المجاوزة جازت مناظرته بوصف كونه منظِّرًا يمسك بناصية السؤال استمساك السائل المسؤول. أدرك أنّ التنظير في مآلاته القصوى غير موقوف على توصيف ظواهر الأفكار والأحداث، وأنّه قبل أيّ شيء، مجهود متبصِّر يروم معاينة القابليّات الكامنة وراء الظواهر، والمفضية من ثمّة إلى ولادتها؛ من أجل ذلك يمتدّ الأفق الذي يتّخذه المنظِّر مسلكًا له، إلى عمق الفكرة ومنشأ الحدث ليستظهرَ منهما ما يشقَّ على الفهم. أدرك أيضًا أنّ الأمر نفسه ينبغي أن يجريه التنظير حيال الزمن العربيّ الراهن وأحداثه، من أجل أن يعاين ما يحتجب في تحوّلاته، وجلاء ما يحيط به من لَبْسٍ واشتباه، وعليه فإنّ مهمّته كمنظِّر سلكت في اتجاهين متلازمين: أنطولوجيّ وتاريخيّ. ومثل هذا التلازم هو شأن أصيل وجوهريّ في الجهود التي يبذلها المنظِّر حتى يتعرّف على العالم وفهم حقائقه المعلنة والمستترة؛ من أجل ذلك حقّ التفكّر بهما معًا، وذلك خلافًا لما درج عليه الفصل القهريّ الذي اقترفته الفلسفة الأولى وامتداداتها المعاصرة بين الظواهر ومصدرها الأصيل. بهذا المعنى رمى مسلكه في التنظير النفاذ إلى قلب الحوادث التاريخيّة لاستكشاف أسباب ظهورها، أي متاخمة المبدأ الذي بسببه ولدت الأحداث من الأفكار، والأفكار من الأحداث، ثمّ أن ينتقل إلى طور أعلى ليتاخم ما لا يتناهى التفكُّر فيه، وتلك مهمّة مركبة تستحثُّ على التقدّم نحو فتوحات فكريّة تملأ مناطق الفراغ في الحيّز الحضاريّ الذي تنشط فيه، مثلما تسهم في تخصيب فعاليّات التفكير على نطاق الحضارة الإنسانيّة ككلّ.

ثم يري محمود حيدر أنه في سيرته المعرفيّة لم يكن الخشت غافلًا عن استعادة سؤال التنظير كضرورة للتفكير الخلاَّق. فهو من الذين انبروا إلى القيام بتظهير هذا السؤال في حقل العمل، ولم يأخذه الادعاء بالإحاطة الشاملة بالموضوعات الداخلة في مجال عمله، فالمنظِّر الأصيل في دربته عقلانيّ بقدر ما هو أخلاقي، وبقدر ما يسعى إلى رؤية الأشياء كما هي في الواقع، فإنّه لا يحكم على شيء إلّا وجد فيه إضاءة، ولو كان من عند خصمه، فالمنظِّر العقلانيّ الأخلاقيّ يدرك أنّ الذات المفكّرة قادرة على الفعل والإيجاد متى غادرت كهفها وتكاملت بالغير.

وأما الدائرة الثانية: مساجلة البيان الفلسفيّ للحداثة فيحبرنا عنها محمود حيدر فيقول : تزخر أعمال الخشت بمتاخمة القضايا التأسيسيّة للحداثة، وهنا يتبيّن لنا من خواص هذه المتاخمة رؤيته كيف تهافتت المفاهيم التي حكمت مذاهب التفكير، وكيف راحت تفتقد تدريجًا إلى الجاذبيّة التي حظيت بها طيلة القرون المنصرمة. وما ذلك على غالب الظن، إلّا لأنّ هذه المذاهب بلغت درجة الإشباع، الأمر الذي أُتيح فيه للتفكير النيوليبراليّ فرصة إعلان نهاياتها في ختام القرن العشرين. ولو كان لنا أن نتجاوز عن الدوافع والمتكّآت والغايات الأيديولوجيّة لهذا الإعلان، لوجدنا أنّ المآلات التي بلغها التطوّر العالميّ في بدايات القرن الحادي والعشرين ستوفّر الشروط الضروريّة لولادة فكرة النهايات. كان واضحًا أنّ الإعصار الذي عصف بعالم الأفكار لم ينحصر بأرض الغرب، حيث أذيع بيان نهاية التاريخ، بل مضى ليشمل الشرق بعامّة، والعالم العربيّ والإسلاميّ بصفة خاصّة. ومن المفارقات التي تثيرها هذه النقطة بالذات، أن نشأ ضربٌ من الفراغ الفكريّ المتوازي شمل الغرب والشرق معًا، وأعرب عن نفسه بضمور فكريّ لا يمكن إحياؤه إلّا بفتح الآفاق لتنظير يؤسّس لقيم ومعارف مستحدثة.

ويستطرد محمود حيدر  فيقول: قرَّر الخشت أن يبتدئ رحلته التنظيريّة من الأسئلة التأسيسيّة التي انبنت عليها الحضارة المعاصرة، فقد استشعر باكرًا الأثر غير المحمود الذي أحدثته معارف الغرب في وعي النخب العربيّة والإسلاميّة؛ لذلك سنجده يتّخذ من البيان الفلسفيّ للحداثة منفسحًا لاستقراء تشكّلات الوعي الغربيّ حيال الإسلام والشرق؛ لذا جاءت أعماله أقرب إلى حفرٍ معرفيّ يستظهر ما يختزنه العقل الغربيّ من تنظيرات مهَّدت لثقافة الهيمنة والاستحواذ، ولو كان من مقاربة إجماليّة لمساعيه في هذا المضمار فسيتبيّن لنا أنّها تخطَّت التوصيف المحايد لتتموضع على جبهة المساجلة العلميّة والتفكيك المنطقيّ للأفكار. وما هذا إلّا ليقينه أنّ الأحكام الأيديولوجيّة القطعيّة -على أهمّيّتها في لحظات الاحتدام والصراع على الهويّات- تبقى قاصرة عن إنجاز إحيائيّة فكريّة ذات آفاق حضاريّة شاملة؛ من أجل هذا سنجد أنّ أحد أبرز مكوّنات المشروع الفكريّ عند الخشت هو الانطلاق من فرضيّة مؤدّاها أنّ الفكر الإقصائيّ الغربيّ هو حيِّزٌ متأصِّلٌ في فلسفة التنوير، والدليل على هذا المدّعى ما درج عليه عدد من الرواد المؤسِّسين من فلاسفة وعلماء الطبيعة في القرن الثامن عشر من كارل فون لينيه (Karl Von Linne)  إلى هيغل  (Hegel)، وإلى من تلاهما من رموز الحداثة الفائضة، فقد عكف هؤلاء على وضع تصنيفات هرميّة للجماعات البشريّة وفقَ مبدأ الأرقى والأدنى وثنائيّة السيد والعبد، وكان لهذا الشيء عظيم الأثر في تحويل نظريّة النشوء والارتقاء الداروينيّة -على سبيل التمثيل لا الحصر- إلى فلسفةٍ سياسيّةٍ عنصريّةٍ.

والدائرة الثالثة: نقد أطروحات هيغل حول الإسلام ويقول عنها محمود حيدر :" يسعى الدكتور الخشت إلى معاينة الرؤية الهيغليّة حيال الإسلام والشرق، مستظهرًا ما تختزنه من مضامين عنصريّة هي في حقيقتها حاصل منطقيّ لمجمل منظومته الفلسفيّة. في دراسة له تحت عنوان: “نقد صورة الإسلام عند هيغل” يستقرئ ما حوته محاضرات هيغل التي ألقاها عام 1831، حيث تعدّدت إشارات هيغل إلى الإسلام، واصفًا إيّاه بأنّه لا يزال على هامش تاريخ الأديان،  في تلك المحاضرات لم تكن رؤيته للإسلام حاصل دأبٍ ذاتيٍّ في التعرّف على واحد من أبرز أديان الشرق، بل هو نتيجة تحقيقات استشراقيّةٍ ولاهوتيّةٍ في الغالب الأعمّ، فقد استعان هيغل ببعض هذه التحقيقات ليعزّز متونه بهوامش عن الشرق والإسلام في سياق محاضراته في فلسفة التاريخ. وما يجدر ذكره في هذا الصدد أنّ ما سمّي بـ “علم اللاهوت المتحرّر” للقرن التاسع عشر، الناشئ عن التلاقي بين ليبراليّة المجتمع المدنيّ الأوروبيّ وبين علم اللاهوت الإنجيليّ، قد وَجَدَ بشائره التاريخيّة تحديدًا في علم اللاهوت عند شلايرماخر وفي فلسفة الدين لدى هيغل[.

كما تبين الدراسة منظومة د. الخشت النقديّة ومدى اقتران نقد الغرب الحديث بمراجعة عميقة لذهنيّة النخب العربيّة والإسلامّية التي عاشت دهشة الحداثة ولم تتخلّص من سطوتها بعد. وفى مستهل بحثه عن الدكتور الخشت وفيما يشبه المدخل والتوطئة واصفًا الذهنية البحثية للدكتور الخشت ومنهجيته النقدية، يقول حيدر: «تسعى الدراسة لتعيين الأسس المعرفية لنقد الغرب في المشروع الفكرى عند المفكر المصرى محمد عثمان الخشت واستقراء منهجيته النقدية من خلال سلسلة ثرية من أعماله في ميدان الفلسفة وعلم الاجتماع واللاهوت وفلسفة الدين»، إلى قوله: «ولو أطللنا على أعمال المفكر المصرى محمد عثمان الخشت للاحظنا أنه يستمع إلى خطب الغرب بأذن واعية».

وأشار محمود حيدر إلى أن د. محمّد عثمان الخشت يأخذ بهذه المنهجية وهو يجول محاريب الحداثة وقيمها، ولقد بدا للناظر في أعماله النقدية لثقافة الغرب أنه وهو يهاجر إلى منازلها القصية في اختباراتها والتباساتها ومطارحها الغامضة، لم ينفصل عن مشرقيته وثقافته الإسلامية، وهو الأمر الذي ستكون له مكانة حاسمة في تشكيل دربته الجامعة بين منهجين يبدوان متناقضين لأهل العقل المحض: منهج الوحى، ومنهج الاستدلال العقلى.

وأوضح محمود حيدر أنه لأجل تظهير غايته التنظيرية، أخذ محمّد عثمان الخشت بمنهجية مركبة تقوم على تفعيل ثلاثة خطوط متوازية ومتلازمة في الوقت نفسه وهى: الأول: التعرف على المجتمعات الغربية كما هي في واقعها، من خلال مواكبة تطوراتها العلمية والفكرية والثقافية والسياسية، وكذلك عبر ما تقدمه نخب هذه المجتمعات من معارف في سياق إعرابها عن القضايا والمشكلات التي تعيشها في مطلع القرن الحادى والعشرين. أما الثانى فيتمثل في التعرف على المناهج والآليات التي اعتمدها الغرب حيال الشرق والمجتمعات الإسلامية على وجه الخصوص، وذلك بقصد جلاء كثير من الحقائق وتبديد الأوهام التي استحلت تفكير شريحة واسعة من المثقفين العرب والمسلمين بسبب الاستشراق الكولونيالى، والثالث: هو خط المراجعة النقدية لقيم الغرب ومعارفه التأسيسية.

وتابع محمود حيدر  في دراسته: تجاوزت مجهودات البروفيسور الخشت ما ألفته الدراسات والأبحاث الأكاديمية الكلاسيكية، حيث نجح في كسر القوالب الجامدة ومال إلى مساجلة الأسئلة المؤسسة التي أخذت بها الميتافيزيقا وحولتها إلى أيقونة لا تقبل المجادلة والنقض، وهذه خاصية لا ينالها إلا القليلون ممن امتهنوا الدرس الجامعى أو انشغلوا بالمقررات التعليمية الصارمة، بهذه المجاوزة التي قام بها الخشت يمكن وصفه بأنه فيلسوف يمسك بناصية السؤال استمساك السائل المسؤول، ويدرك أن التنظير في مآلاته القصوى غير موقوف على توصيف ظواهر الأفكار والأحداث، وأنه قبل أي شىء مجهود متبصر يروم معاينة القابليات الكامنة وراء الظواهر.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

........................

المراجع

1- محمود حيدر: نقد التأسيس الأنطولوجيّ للحداثة تنظير الغرب في منظومة محمّد عثمان الخشت، المعارف الحكمية  معهد الدراسات الدينية والفلسفية،

2- ماهر حسن: «حيدر»: مفهوم ما بعد «العلمنة» لم يكتمل.. و«الخشت» غير منفصل عن الثقافة الإسلامية، المصري اليوم، الثلاثاء 24-08-2021 18:42 .

 

في المثقف اليوم