قضايا

تأملات (تزفيتان تودوروف).. النقد العقلاني لهوس القوة

ثامر عباسغالبا"ما يستحوذ على المرء هاجس أو يتملكه انطباع مفاده؛ إن المثقف الحقيقي حالما (يدس أنفه) في أمور السياسية دون تحسب لعواقبها، ويترك العنان لتطفله على وقائع التاريخ دون دراية بمخاطرها، حتى يشرع بفقدان هالة البريق المعرفي التي تحيط به، ويفرط بسلطان الاعتبار الاجتماعي الذي يمتح منه، ليس لأن الحيادية التي يزعمها تغيب عنه في الحالة الأولى، والموضوعية التي يدعيها تعزّ عليه في الحالة الثانية فحسب، بل لأنه سرعان ما يتحول – بالتدريج – إلى داعية إيديولوجي في مضامير السياسة، وملفق إخباري في ميادين التاريخ. والحقيقة إن هناك حافات فضفاضة وحدود هلامية تفصل ما بين وظيفة المثقف (كفاعل اجتماعي) يستنطق أطياف الماضي للبوح عن المستور والمخبوء والممنوع، ويستقرأ أنماط الحاضر للكشف عن الغامض والمبهم والمشوش، ويستطلع تخوم المستقبل للإفصاح عن المتوقع والمحتمل والممكن من جهة، وبين وظيفة السياسي (كصائد فرص) تغويه المطامع العاجلة على المنافع الآجلة، وتستهويه المكاسب الشخصية على المطالب الاجتماعية، وتستدرجه الامتيازات الفئوية على الغايات الوطنية من جهة أخرى. بحيث إن لم تراعى هذه الخصوصيات وتؤخذ بالاعتبار تلك التباينات، فان من السهولة بمكان انثلام تلك الحافات واندراس تلك الحدود، على خلفية ضياع المعالم بين شخصية هذا الكاتب أو ذاك، وانطماس الشواهد بين هذه الوضعية أو تلك، وهو الأمر الذي قلما أتيح لمن آثر ولوج مفازات الثقافة واستمرأته مضارب الفكر.

هنا يبرز جليا"الباحث والمفكر البلغاري الأصل والفرنسي الجنسية والأوروبي الهوى (تزفيتان تودوروف) كنموذج لامع لمثل هذه المقاربة المعرفية المركبة، لا في إطار تخطيه مسبقات الهوية وما تنطوي عليه من نوازع التمركز والتعصب، وأصوليات الوعي وما يشي عنها من خرافات القدامة والعراقة، التي طالما أخفق في الإفلات من إغوائها كبار الكتّاب والمفكرين سواء من الشرق أو الغرب فحسب، وإنما حيال الكيفية التي مارس من خلالها ضروب التعرية لمطمورات التاريخ الاستعماري ونقد سياسات القوة الغاشمة، لا سيما وانه يعدّ من أعمدة المفكرين الذين أسهموا بتطوير النظريات الأدبية واغناء تاريخ الأفكار وإثراء حقول الثقافة واللافت إن هذا الباحث / المفكر حين عمد إلى نقد هوس القوة الذي تلبس العقل السياسي الأمريكي إزاء بلدان العالم الثالث، عقب هجمات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر عام 2001 وما تمخض عنها من تداعيات ومعطيات لا تزال آثارها فاعلة لحد الآن، عبر صفحات كتابه القيم (اللانظام العالمي الجديد : تأملات مواطن أوروبي)، الذي يعد بحق وثيقة أساسية ليس فقط على صعيد إدانة الممارسات اللاانسانية التي تنتهجها الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتحقيق مآربها وتسويغ تصرفاتها تحت يافطات ؛ تشجيع الأنظمة الليبرالية، ونشر القيم الديمقراطية، وتوطين مبادئ حقوق الإنسان، وبناء مؤسسات المجتمع المدني وما إلى ذلك من ادعاءات وتلفيقات فحسب، وإنما لترفّعه عن صغائر الأمور الدعائية وإشاحته عن توافه القضايا السجالية، بعد أن اتخذ خيار المنهجية العقلانية سبيلا"لنقد الخطابات الاستحواذية وتفكيك المنظومات الهيمنية، للحدّ الذي تجاوز فيه السياقات التقليدية التي تكتفي بنقد المظاهر الشاخصة والتواضعات الآنية، منتقلا"، من ثم، إلى محاكمة الأسس ومساءلة المرجعيات التي تتخذها تلك القوى منطلقا"لها في حملاتها الاستعمارية. وهكذا فقد كتب يقول انه في (القرن التاسع عشر كانت القوى الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا قد انخرطت في حروب استعمارية تم تبريرها بوجوب تعميم الخير على الجميع. وهذا الخير كان المعادل لما نسميه (الحضارة). باسم هذه (الحضارة) فرض المستعمرون سيطرتهم على البلدان الآسيوية والأفريقية. وفي ماض أبعد أيضا"، كانت جيوش نابليون بونابرت تحمل قيم الثورة الفرنسية : الحرية، والمساواة والإخاء، على رؤوس الحراب).

ولأن فضائل تلك الحضارة (=الغربية) اقترنت على الدوام – من وجهة نظر العالم الغربي – بأفكار الليبرالية والديمقراطية ذات النشأة والتكوين الأوروبي، فان (تودوروف) لم يعدم اللجوء إلى تحليل طبيعة تلك الأفكار من حيث المقصدية الإنسانية العامة التي شرعت لأجلها على مستوى التنظير من جهة، ويسهب، من جهة أخرى، بإماطة اللثام من حيث المغزى الذي وظفت في سبيله على مستوى التدبير، بعد أن تم تجريدها من حمولاتها القيمية والأخلاقية، لتغدو – في نهاية المطاف – أداة من أدوات القهر السياسي وخدعة من خدع التضليل الإيديولوجي. ولهذا فقد (ولدت الليبرالية السياسية، علينا أن نتذكر ذلك، من الحاجة الضرورية للتسامح الديني. لقد نشأت من اللحظة التي قررنا فيها، مع اقتناعنا بان الدين الذي ننتمي إليه هو خير الأديان، التخلي عن فرضه على الآخرين بالقوة. تنحاز الفكرة الليبرالية للاعتراف بالتنوع والتعددية وبحرية العيش والعمل. لكننا حين نذهب للآخرين في بلادهم لأسباب تتعلق بأمننا الخاص، ونفرض عليهم نظاما"نرى انه الأمثل، نكون قد خرجنا عن منطق الليبرالية، لندخل منطق الامبريالية).

ولما كانت الديمقراطية التي يروج لها دعاة العالم الحرّ المنتشي بالردع والمهووس بالقوة حيال الآخر (تعني إن كل شعب سيد، وهو من يمتلك الحق في أن يحدد بنفسه ما يراه خيرا"، لا أن يفرض عليه هذا الخير من الخارج. بالنتيجة، حين تخوض القوى الغربية حروبها الاستعمارية باسم الديمقراطية التي تعتبر نفسها تجسيدا"لها، فأنها تتبع من الوسائل ما يبطل غايتها المنشودة. إذ كيف يمكن (الإعلاء من شأن الكرامة الإنسانية عند الآخرين) حين لا نترك لهم حرية تقرير المصير؟ إننا حين نفرض الحرية على الآخرين نكون قد أذلناهم، وحين نفرض عليهم المساواة نكون قد حكمنا بأنهم أدنى منزلة). ومن منطلق إن النظام الديمقراطي هو الوسيلة الأكثر تعبيرا"عن إرادة الإنسان الحرة والأصدق تمثيلا"لتطلعاته المشروعة، فان (تودوروف)، ولكي يتجنب تهمة الانغماس بالرؤى والتصورات الطوباوية في عالم فقد براءة المثل وعفة الأخلاق، بعد أن أدمن لغة القوة واستمرأ شهوة التسلط – كما يراه ويؤمن به دعاة الأصولية الجديدة وأسلافهم من منظري الواقعية السياسية – فانه لا يفوته التأكيد على حقيقة إن (المثال الديمقراطي الليبرالي، بالمقابل، لا يقبل بالخضوع للعالم كما هو والاكتفاء بتأمله بهدوء وسلام. انه يقف ضد الطغاة هو الآخر، ولكنه يسعى للنضال ضدهم عبر وسائل مختلفة عن تلك التي تبناها الأصوليون الجدد : بعدم الاعتراف بشرعية حكوماتهم، بوضع بلدانهم خارج نطاق الشرعية الدولية وعبر كل أشكال المبادرات الدبلوماسية، الاقتصادية والسياسية الأخرى).

ومن زاوية كون صاحب التأملات (= تودوروف) خبير بشؤون اللغات وضليع بأنظمتها السيميائية، فانه لا يكتفي بتحليل أنماط العلاقة الملتبسة بين المفاهيم المجردة والواقع المعاش، لكي يفضح أنواع الزيف الذي تمارسه وسائل الميديا المعاصرة، بغية تجريف الوعي وتحريف المعنى وتزييف المواقف فحسب، بل انه يقتحم مجاهل المفاهيم ذاتها حاملا"إياها على الإفصاح عن مضامينها الابستمولوجية والكشف عن فضاءاتها الدلالية. ولهذا فان مفهوم (المحافظة) الذي غالبا"ما يرد ضمن صيغة (المحافظين الجدد) لوصف طاقم الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بوش الابن، لا يحمل ذات المضمون / المقصود الذي يوحي بالمسعى الرامي لصيانة الأوضاع السياسية القائمة، والانخراط بالدفاع عن القيم السائدة والأفكار المسيطرة. ولأجل أن يزيح النقاب عن الدلالة المغايرة التي يحملها مصطلح (المحافظة) خلافا"لمعهود التواضعات المؤدلجة، فانه لا يتردد حيال الاستشهاد بمقطع ينسبه لأحد أقطاب هذا التيار (فرانسيس فوكوياما) يشير فيه إلى أن (المحافظون الجدد لا يريدون أبدا"الدفاع عن الوضع القائم. فالتقاليد التي تقوم على التراتبية تمثل رؤية متشائمة لطبيعة البشر)، مستخلصا"عبر هذا النص نتيجة مؤداها (أنهم لا يستحقون وصفهم بالمحافظين – لا الجدد ولا القدامى – ربما كانت الكلمة الأكثر دقة لتوصيفهم هي الأصوليون الجدد : أصوليون لأنهم يستندون إلى خير مطلق يريدون فرضه على الجميع. وجدد لأن هذا الخير لا يتمثل في الله، بل في القيم الديمقراطية الليبرالية. في الحقيقة، إن كلا الأمرين ليس جديدا". الجديد هو الربط بينهما. يؤمن الأصوليون بالقيم المطلقة، ولذا يرفضون السببية السائدة والأعذار التي تختلق للالتفاف على الديمقراطية من قبل أنصار التعددية الثقافية، كما يرفضون لغة (الصواب السياسي) المتخشبة. ولأنهم ليسوا محافظين فهم يبتغون نشر مثالهم في العالم عن طريق القوة).

وفي معرض هجاءه (للقوة الناعمة) التي كان منظر العلاقات الدولية (جوزيف ناي الابن) قد ابتدع صياغتها ونحت مفهومها في عقد التسعينات من القرن الفائت، فان (تودوروف) لم يجد أفضل من أستاذ الفكر الاجتماعي (ريمون آرون) من التقاط المفارقة القارة في الخطاب السياسي الأمريكي، حين أشار إلى انه (لا تكفي اللغة المهيبة لضمان سيادة القانون، لكنها تضمن سيادة النفاق. من الآن فصاعدا"، يتقدم الإمبرياليون وهم يرتدون الأقنعة، فيما يطلقون اسم الحرية على ما كان البشر يسمونه في عصور سابقة قمعا"واضطهادا"). ولعل هناك من يعتقد بان المشروع النقدي (لتودوروف)، لا يخرج عن كونه ردة فعل عاطفية طارئة حيال ما خلفته القوة الأمريكية (الصلبة)، إبان عمليات غزو العراق واحتلال إقليمه وإسقاط نظامه وتقويض دولته، وهو الأمر الذي شاطره إياه ليس فقط شريحة واسعة من كبار المثقفين وقادة الرأي وصنّاع القرار فحسب، بل والعديد من أمم وشعوب المعمورة أيضا". تساوقا"مع ما أثارته الانتقادات العارمة التي وجهت ضد نزعات التفرد والغطرسة الأمريكية، لا في مضمار الاستهانة بالشرعية والقانون الدوليين، على خلفية تجاوز صلاحيات الأمم المتحدة ومجلس الأمن فيها فحسب، وإنما في مضمار الإخلال بتوازن العلاقات الدولية وتعريض الأمن والسلم الناجم عنهما للخطر.

بيد إن الخلوص إلى هذا الاستنتاج المبتسر ينطوي على نظرة ضيقة وأفق محدود، علاوة على كونه يشي بالجهل والإجحاف بحق هذا الباحث الموضوعي، الذي حالما نطّلع على غنى المواضيع وكثافة الحقول التي جاسها خلال مؤلفه السابق (فتح أمريكا : مسألة الآخر)، حتى ندرك إن أحكامه السياسية الصائبة واستبصاراته التأويلية السديدة، لم يكن لها أن تأتي من العدم أو تنبثق من الفراغ، بقدر ما كانت حصيلة إطلاع واسع واستقراء عميق ليس فقط لتواريخ الإمبراطوريات الاستعمارية التي لم تألوا جهدا"في التعتيم على مسلسل الجرائم الانسانية التي ارتكبتها بزعم نشر التمدن وتعميم التحديث، وهو الأمر الذي لخصه الباحث (فالتر بنيامين) بصيغة هجائية عميقة الدلالة حين أشار إلى (إن كل وثيقة من وثائق الحضارة، هي في الوقت نفسه وثيقة من وثائق البربرية) فحسب، بل وكذلك لتواريخ الشعوب الأصلية التي خضعت لعمليات الاستئصال والابادة، منذ حملات التطهير الأسباني وحتى طقوس المذابح الأمريكية. بمعنى إن تواريخ هذه وتلك كانت حاضرة في وعيه وشاخصة في ذاكرته، بحيث قيض لمنهجه النقدي أن يأخذ هذا المنحى العقلاني الصارم ويتميز بذاك الدفق الإنساني المتأجج، ومستخلصا"في الوقت ذاته نتيجة مفادها : (إن مجمل تاريخ اكتشاف أمريكا، أول أحداث الفتح، يتميز بهذا الالتباس: إن الآخرية البشرية تكتشف وترفض في آن واحد)، وهو ما دأبت على انتهاجه ومواصلة العمل بمقتضاه سياسة القوة الأمريكية عبر مسارها التاريخي الحافل بردع المختلف وقمع المغاير، تطبيقا"لشعار؛ من ليس معنا فهو ضدنا.

***

ثامر عباس

 

في المثقف اليوم