قضايا

تشريح الذاكرة.. أحداث التاريخ وأضغاث المؤرخين

ثامر عباسلكي تنجو الكتابة التاريخية من الإسفاف الخطابي المؤدلج، وينأى المؤرخ بنفسه عن الأسلوب الوعظي المؤمثل، لا مناص من الإقلاع عن مظاهر تحنيط التاريخ في الحالة الأولى، وتنميط سيرورته في الحالة الثانية. إذ إن حقيقة التاريخ لا يمكن أن تختصر في وعي المؤرخ أو تبتسر في خطابه، كائنا"ما يكون عياره المعرفي ومستواه الأكاديمي وتفرده الفلسفي وتنوعه المنهجي. وربما لهذا السبب رأى الفيلسوف الألماني (هانز جورج غادامير) إن (خبرة التاريخ التي نتمتع بها جميعا"، لا تغطيها ما نسميه الوعي التاريخي إلاّ بدرجة ضئيلة فقط). ومما يضاعف من إشكاليات التعاطي مع فحوى التاريخ، ويضفي على وقائعه وأحداثه مغزى الاختلاف في الرؤية والتباين في التقييم؛ ليس فقط كونه يكتب بوحي من إرادة الفاعل الاجتماعي – سواء أكان فاعل السلطة أو فاعل المعارضة – وينسج باستلهام معين تصوراته ويحبك بدواعي الإيثار لمصالحه فحسب، بل ولأنه، كذلك، لصيق بمعطيات الأسطورة ومندغم بإيحاء سردياتها، باعتبار إن (الأسطورة تاريخ ما) كما أوجز الانثروبولوجي الشهير (ماليونفسكي)، أو كما قال الفيلسوف الفرنسي (فولتير) (حين نقرأ التاريخ، لنكن حذرين من الأساطير) من جهة، ورفيق لمخزونات الذاكرة، من منطلق إن (التاريخ - كما يقول المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني – في جانب منه ذاكرة تاريخية حاضرة وثقيلة)، وقريب لهذا المعنى يشير المؤرخ الفرنسي (جاك لوغوف) إلى (إن التاريخ يضيء الذاكرة ويساعدها على تصحيح أخطائها) من جهة أخرى.

ولعل هذه ليست الصعوبات الوحيدة التي يمكن أن يواجهها الباحث في شعاب التاريخ والمنقب في مطمورات أحقابه. إذ إن هناك عوائق كثيرة ليس أقلها تلك المتعلقة بطبيعة العلاقة بين المجتمع المعني وأنماط التمظهر التاريخي، التي تكثف وتعكس في الآن ذاته إرهاصات ذلك المجتمع وأنماط خياراته؛ فكلما اتّسم الأول بقدم وجوده الإنساني، واتّصف بعراقة إسهامه الحضاري، وتفرد بأصالة حضوره الديني، كلما تضخم تاريخه وتراكمت ذاكرته وتشعبت ثقافاته وتنوعت موروثاته. ولذلك فقد اعتبر المؤرخ الفرنسي (ميشيل فوفيل) (إن التاريخ الحقيقي مثل الحياة الحقيقة يوجد بعيدا").

وبرغم كل ما قيل عن المجتمع العراقي المجدول بالغرائب والعجائب، وكتب عن فرادة تاريخه المكتنز بالأساطير والملاحم، فان الحاجة تبقى قائمة، لا بل ملحة، لأن يعاد النظر بتلك الأمور التي اعتبرت بداهات مقدسة في وعيه، وان تستأنف المساءلة لتلك القضايا التي عدّت مسلمات محرمة في علاقاته. وهو الأمر الذي يتيح لنا إدراك دواعي إحجام البعض، عن التورط في تناول الذهنيات والخلفيات والمرجعيات، التي تشكل الناظم الأساسي للوعي الجمعي العراقي، فضلا"عن تفهّم أسباب تهيب البعض الآخر من الانخراط في مناقشة الأصوليات والفرعيات والتحتيات، التي تتحكم بمصادر السلوكيات ومصائر العلاقات.

والغريب في الأمر انه بدلا"من أن تشكل مزايا من مثل؛ الباع الطويل في الحضارة، والقاع العميق في التاريخ، والإبداع المتميز في الثقافة، كمحفزات لإثراء الدراسات في حقول السياسة، واغناء البحوث في ميادين الاجتماع، وإنماء التنظير في مضامير الوعي. فقد استحالة، من جهة، إلى كوابح ذاتية تمنع المؤرخ من الولوج إلى مناطق الظل / الرخوة في الشخصية العراقية، لتفكيك مكوناتها الأولية، ونقد تصوراتها البدائية، وتشريح معتقداتها الخرافية، وانقلابها، من جهة أخرى، إلى مصدات موضوعية تلجم من يتجرأ على البوح بما لا يجوز الحديث عنه من عيوب كامنة، أو التفكير فيه من مثالب قارة. بوازع من وهم الحفاظ على نقاء الصورة التي كونها الشعب العراقي عن ذاته، وطهارة القيم التي يجتافها عن نفسه، وخلود الرسالة التي يورثها لأجياله. ولذلك فليس غريبا"أن تتزاحم الآراء وتتراكم الدعوات، التي يتبارى من خلالها المؤرخين و (المتأرخين) – إن جاز لنا استخدام هذا الاشتقاق - لإظهار سخونة حميتهم الوطنية على صعيد القول دون الفعل، وعمق روابطهم الاجتماعية على مستوى الخطاب دون الممارسة.

وإذا كان من حق الشعوب على نخبها (مفكرين، مؤرخين، باحثين، شعراء، كتاب) أن يمجّدوا ماضيها ويشيدوا بمآثرها ويتغنوا بفضائلها، فان عليهم بالمقابل – كواجب وكضرورة – ألاّ يتردّدوا في الكشف عما تخلل تاريخها من نوازل سياسية، وألاّ يتهيبوا في إماطة اللثام عما أفرزته قيمها من مهازل اجتماعية، وألاّ يكلوا أو يملوا من تعرية عما استبطنته ذهنياتها من أباطيل دينية، وألاّ يتهاونوا في هتك الحجب عما تواضعت عليه أعرافها من أوهام مناقبية. وعليه فلماذا – يتساءل أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية الدكتور محمد الطاهر المنصوري – (ما زلنا نتذكر فقط عصر هارون الرشيد، ولماذا لا نتذكر إلاّ صلاح الدين الأيوبي أو غيره؟ لا لشيء إلاّ لأنهم أشخاصا "ايجابيين، ولكننا نتغافل عمدا" في الوقت نفسه عن الفترات الحالكة من تاريخنا، ولا نحاول فهما من الداخل، بل ما زلنا دائما"نحمل مسؤولية ضعفنا التاريخي ووضعنا الراهن للأجنبي، ونعلل ذلك بالغزو والحروب الصليبية التي لا تزال متواصلة في الأذهان، وبالاستعمار وغيرها من أشكال الهيمنة ؟).

والحال فقد أدمن المؤرخين أو الذين يشاطرونهم تخصصهم ويحايثونهم اهتماماتهم – حقا"أو باطلا"- على ترديد صيغ المديح المطلق للتاريخ العراقي، كما لو كان مساره يجسد الاستقامة في أنقى صورها والمثالية في أرقى مراحلها. حتى ليظن المرء إن تاريخه كان أقرب إلى تاريخ الملائكة منه إلى الشياطين، وأدنى إلى تاريخ الأبرار منه إلى الأشرار، والأشبه  بتاريخ الأبطال منه إلى الجهّال، بحيث يبدو وكأنه خال فعلا"من مظاهر الصدوع والشقوق والنتوءات، إن لم نقل الكوارث والفواجع والمآسي. هذا في حين أنهم تحاشوا – كما الوباء – التطرق لأي حدث أو واقعة، تفيد بأنه لم يكن بهذه الصورة الطوباوية المؤمثلة، أو تلك اللوحة الهارمونية المؤسطرة، التي لم يفتأ يغدقها عليه كل من واتته الفرصة، للحديث عن تاريخ العراق القديم والحديث والمعاصر، كما لو كان يسرد تفاصيل فلم سينمائي أطرت مضامينه الدرامية، أو ينسج قصة / رواية قننت حبكتها الفنتازية. وهو ما يتعارض منهجيا"ومعرفيا"مع متطلبات البحث العلمي والكتابة الموضوعية، لاسيما في مجال التاريخ الاجتماعي الذي عدّه المؤرخ (جاك لوغوف)، بمثابة (موسوعة يجب أن ندخل فيها كل شيء من علم الفلك إلى الكيمياء، ومن الفنون المالية إلى التقنيات الصناعية، ومن معرفة الفنان والنحات والمهندس المعماري إلى عالم الاقتصاد، ومن دراسة القوانين الدينية والمدنية والجنائية إلى القوانين السياسية).

وبدلا"من إن يتم توجيه الذهنية العراقية المتماهية دوما"مع فكرة القوة دون قوة الفكرة، والمسكونة بهاجس حق الغلبة دون غلبة الحق، صوب إدراك حقيقة انه لا يوجد – ولا يمكن له أن يوجد – تاريخ يخلو من ندوب الهزائم والانكسارات، أو برئ من ذنوب الجرائم والقباحات، فان حدث ووجد مثل هكذا تاريخ، فتوقع، إذن، أن يكون نتيجة لتهويمات الخيال والأساطير، وليس حصيلة ترسبات دنيا الواقع الإنساني وزمان المعاش الاجتماعي. بحيث يتكون لدى العامة والخاصة انطباع يشي؛ بان تاريخ العراق لا يختلف عن تواريخ الأمم والشعوب الأخرى، إن من حيث البطولات والانتصارات والإنجازات التي اجترحها، أو من حيث الانحرافات والتقهقرات والانقطاعات التي عانى منها، وتبعا"لذلك فان برامج الإصلاح الاجتماعي ومشاريع النهضة الحضارية، التي تتبارى من خلالها تلك الشعوب والأمم لإظهار حيويتها وتأكيد فاعليتها، لا تستقيم مع إشهار فضائل الأولى وإنكار رذائل الثانية، بقدر تنسجم مع جرأة المبادرات وجسارة المحاولات الرامية لتسليط الضوء، على ما يمنع التفكير فيه، ويحرم النقاش حوله، وتجرم الكتابة عنه. لا لشيء إلاّ ليقال بنبرة خطابية مؤدلجة إن من سمات (أهل العراق – كما يكتب أحد المؤرخين العراقيين المعاصرين - عبر تاريخهم الطويل هي نظرتهم الواسعة وأفقهم الرحب الذي يتجاوز الأنانية المقيتة، والعنصرية الضيقة، والإقليمية المحدودة؛ كل ذلك مع ثقة بالذات واعتداد بالخصائص المميزة، قائم على الإدراك الفطن للمفيد لأبناء الأمة والإنسانية).

هذا في حين يرى المؤرخ العراقي (سيار الجميل) إن العراقيين عاشوا (طوال أحقاب تاريخية في جدلية صعبة جدا"، إذ كانوا متخندقين منذ قرابة ألف وأربعمائة سنة ضمن ثنائيات واضحة، وخصوصا"بين خط شارع سياسي وخط مشروع حضاري، ولم يلتقيا إلاّ لماما". ومن المفجع أنهم بقوا يستلهمون الافتراق من أسس تلك الانقسامات الحادة ويعيشون على تشظياتها. وعليه فان الثنائية (أو الازدواجية) في الذهنية العراقية والتفكير معا"، قد ولدت كل مشكلات العراق الداخلية، بل وولدت عنها كل الصراعات السياسية العراقية على امتداد تاريخ طويل جدا"، والتي تكمن من ورائها جملة هائلة من الأسباب والمسببات والدوافع والمعلولات، التي قد تبقى خفية مسكوت عنها وهي تذكي تحت الرماد نارا"كي تندلع بين زمن وآخر ضمن مسميات شتى). والحقيقة إن هناك مآخذ أخرى لا يسع حيز الموضوع إيرادها هنا، ولكننا آثرنا التطرق إلى واحد منها وهو؛ إن كتابة التاريخ العراقي نحت عموما"باتجاه ماهو سياسي صرف، دون أن تحفل بالأبعاد والجوانب الأخرى؛ السوسيولوجية والانثروبولوجية والرمزية والمخيالية وسواها، التي وان كان دورها لا يظهر بصورة مباشرة وعلى نحو آني، إلاّ إن تأثيرها العميق واللامباشر أثبت انه يفوق بأضعاف تبعات نظيره السياسي.

وهكذا فقد انصب اهتمام كتب التاريخ على الأحداث السياسية المتعلقة؛ بحياة القادة المتميزين والحكومات القوية والدول المركزية والأحزاب المسيطرة، بحيث خلت فيها الإشارة إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة بين العامة (= الجمهور) أنفسهم من جهة، وبينهم وبين الطبقات الحاكمة والمسيطرة من جهة أخرى، أو التطرق لماهية القيم الاعتبارية التي كانت تغذي وعيهم وتتحكم في سلوكهم. بحيث توصل المؤرخ العراقي (عبد اللطيف عبد الرحمن الراوي) من منطلق ماركسي، إلى استنتاج مفاده إن الانهيار الاجتماعي الذي وقع في العراق خلال القرن الرابع الهجري (لم يكن مقصودا"أدخلته أقوام أخرى أو فئات شعوبية بقصد تحطيم الدين أو العروبة – كما يدعي بعض الباحثين – فقد كان نتيجة طبيعية للبنية الاقتصادية الاستغلالية التي ارتكزت عليها الدولة العباسية، ولم ننكر ما للغزو الحضاري وصراعه مع القيم العربية البدوية من تأثير في انحراف الأعراف والأخلاق). كما جرى طمس الكثير من الأحداث التاريخية ذات المنحى المحرج للذاكرة، وإخفاء الأكثر من الحقائق الاجتماعية ذات المغزى المخجل للوعي، إرضاء لرغبة هذا الحاكم أو ذاك، واستجابة لنوازع هذه السلطة أو تلك، دون أن يضعوا بحسابهم إن كل ما يغمط من أمور واقعية، وكل ما يبعد من قضايا فعلية لا بد إن يثأر لنفسه إن عاجلا"أو آجلا"بطريقة غالبا"ما تكون مأساوية.

والأنكى من ذلك كله، انه حتى البعد السياسي - الذي يعد في عرف المؤرخين قاصرا"لوحده في تفسير التاريخ وتبرير أحداثه -  لم يؤخذ في إطار وحدته الكلية ولا ضمن سياقه الشمولي، الأمر الذي يظهره كما لو أنه ممارسة وقعت خارج الزمن وحدثت بعيدا"عن الواقع. وهكذا فالتاريخ السياسي – يكتب لوغوف – (كان في الوقت نفسه تاريخ وقائع وتاريخ أحداث، فهو عبارة عن واجهة يختفي وراءها الدور الحقيقي للتاريخ، الذي تدور أحداثه في الكواليس وفي البنى الخفية، التي يتوجب الكشف عنها وتحليلها وتفسيرها). أو بعبارة الفيلسوف (ميشيل فوكو) فانه يظهر (خلف ناريخ الوضعيات تاريخ أكثر تجذرا"، وهو تاريخ الإنسان. تاريخ يتعلق الآن بكينونة الإنسان ذاتها؛ إذ يظهر انه ليس فقط محاطا"بتاريخ، بل هو ذاته، في تاريخيته الخاصة، هو الذي يرسم تاريخ حياة البشرية وتاريخ الاقتصاد وتاريخ اللغات).

***

ثامر عباس

في المثقف اليوم