قضايا

الذهنية الراديكالية.. الإدراك العربي لمفهوم السياسة

ثامر عباسنادرا"ما نتصفح كتابا"، أو نقلب دراسة، أو نقرأ مقالة، دون أن تشير بأصابع الاتهام وتوحي بمشاعر الإدانة، نحو أنظمة الحكم العربية المعاصرة باعتبارها ؛ مصدر كل المشاكل السياسية، ومنبع كل الشرور الاجتماعية، ومنتج كل المعاناة الاقتصادية. وكأنها ليست من نتاج الواقع الذي انسلخت عنه، وليست من رحم المجتمع الذي ولدت منه، وليست من صنع الانسان الذي انقلبت عليه. وإنما هي فكرة هبطت على الأرض من السماء، وانبثقت إلى الوجود من العدم، وانعكست على الواقع من الخيال. ولذلك يبقى الإدراك العربي لطبيعة السياسة إدراكا"سطحيا"ورؤية قاصرة ومنظور ملتبس، يعجز عن اكتناه ماهيتها الإشكالية وسبر أغوارها العميقة واستيعاب علاقاتها الجدلية.

وهكذا فنحن حين نتحدث عن فساد الأنظمة السياسية القائمة، غالبا"ما نهمل التطرق إلى تضعضع الأطر الاجتماعية التي تحكم باسمها. وحين نشير إلى استبداد السلطات الحكومية الفعلية، عادة ما نتجنب الإشارة إلى تخلع الأنماط الثقافية التي تعتمد عليها. وحين نتعامل مع الدول الشمولية السائدة، قلما نلّمح إلى تصدع البنى النفسية التي تمتح منها. وهو الأمر الذي نعتقد واهمين انه يجيز لنا جلد السياسة ومقاضاة السياسيين، دون الحاجة إلى نقد المجتمع ومساءلة مكوناته وتجريم ذهنياته. بمعنى آخر إننا نبالغ في أهمية ما هو ملموس في واقع الناس، على حساب ما هو مجرد في وعيهم. ونغالي في تقدير ما هو ظاهر في سلوكهم، على حساب ما هو مضمر في قيمهم. ونسبغ قيمة أكبر على ما هو منفعل في علاقاتهم، على حساب ما هو فاعل في أصولهم.

ولعل هذا المنحى في رؤية الأمور، وذاك التصور في تقييم الوقائع، طالما أفضى إلى تكريس النظرة الاختزالية للواقع، وترسيخ الفكرة الواحدية للمجتمع. بحيث يتم تجزأة وحدة المقومات وتفكيك شبكة العلاقات وتعطيل أوالية التفاعلات، التي لا يكاد أي حدث تاريخي أو أية ظاهرة اجتماعية، الاستغناء عنها والصيرورة دونها، باعتبار كونها المدخل الطبيعي لتحليل معطيات الأول وتأويل تجليات الثانية. ومما لا شك في إن هذه الإشكالية المعرفية تحيلنا – وبصورة مباشرة - إلى مضامين النظرية الماركسية الكلاسيكية، لاسيما في شقها المتعلق بالمادية التاريخية، الرامي إلى تأطير العلاقة ما بين الوعي والوجود بشكل عام، والبنية الفوقية والبنية التحتية بشكل خاص، وفقا"لأسبقيات النظرية الفلسفية والمنهجية الجدلية، التي تعطي الأولوية للمظاهر المادية مقابل الظواهر الروحية، وتمنح الأقدمية لعناصر الأنطولوجيا مقابل خواطرالايديولوجيا.

ولأن ديالكتيك العملية الاجتماعية يتسم بالتشابك والتعقيد، أكثر مما هو حاصل في مجال الطبيعة بما لا يقاس، الأمر الذي فطن إليه مؤسسي الماركسية الأوائل، حين شرعوا بإعادة قراءة المعطيات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية،  لتدارك العيوب المتوقع وجودها على صعيد النظرية، وتصويب الثغرات المحتمل حصولها على مستوى الممارسة. وذلك عبر نقد التيارات التحريفية البرودونية والفوضوية بالباكونية، التي كانت قد تكونت وترعرعت ضمن أجواء الفكر الماركسي وتحت جناحه. ولذلك لن يتردد (انجلس) حين يقرّ (بأننا، ماركس وأنا، ملومان حتى درجة ما لأن الشباب يشددون أحيانا"على الجانب الاقتصادي أكثر مما يجب. فلم يكن لنا بدّ من التشديد على المبدأ الرئيسي حيال خصومنا الذين أنكروه، ولم يتوفر لنا دائما"الوقت أو المكان أو الفرصة كي نعطي العناصر الأخرى المشتركة في التفاعل حقها).

ولما كان الفكر السياسي العربي لم يبرح يعاني الانشطار على ذاته إلى تيارات ثلاث ؛ الأول (متقومن) لا يكاد يرى الواقع الاجتماعي إلاّ من خلال وحدته المفترضة، التي – حسب لازمته التقليدية - جزأها الغرب وفرقها الاستعمار، بعدما كانت حقيقة تاريخية قائمة، من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال. ولهذا فقد ركز جلّ اهتمامه على التقيد بالمعايير (العنصرية / الشوفينية)، خلال تعاطيه مع القضايا السياسية الكبرى، وما ترتب عليها من حقوق وواجبات، وما تمخض عنها من مكاسب وامتيازات. بحيث لم يتردد لبلوغ مآربه في (احتواء) بقية الأقوام والأعراق والاثنيات، باللجوء إلى ممارسة شتى صنوف (قمع) التباينات الكائنة في صلب تلك المكونات السوسويولوجية والانثروبولوجية. وهو الأمر الذي عزز مظاهر التحسس والتوجس لدى تلك المكونات، حيال نوايا أقطاب هذا التيار، لاسيما الأحزاب القومية التي اغتصبت السلطة في بعض الأقطار العربية، بالتعاون أو بالتآمر مع العسكر، وبالتالي ساهم في زيادة معدلات (التعصب) والتعصب المضاد من جهة، وعمق، من جهة أخرى، مشاعر النفور والكراهية بين الجانبين، باعتبار إن (الكراهية تزداد إذا قوبلت بالكراهية) كما قال الفيلسوف (باروخ سبينوزا).

هذا في حين ركز التيار الثاني (المتمركس) رؤيته على واقعة - وان كانت حقيقة اجتماعية، إلاّ أنها نسبية في معايير الجدل التاريخي - انقسام المجتمع إلى طبقات متعارضة / متصارعة، يتمحور اهتمامها بالدرجة الأساس حول مصالحها الاقتصادية، وان مستوى وعيها لذاتها يقاس بنسبة قربها أو بعدها من قوى الإنتاج. فهي (تقدمية) بالمعيار السوسيولوجي، حين تكون على تماس من تلك القوى ومحايثة لإرهاصاتها، إلاّ أنها لا تلبث أن تصبح (رجعية) بالمعيار الحضاري، عندما تتخلف عن ديناميتها وتتقهقهر عن مجاراتها. ولهذا فقد تمحورت طروحاته حول لازمة (الطبقة / الصراع)، إثناء انخراطه في المنافسات السياسية والسجلات الإيديولوجية، التي طالما كان الواقع الاجتماعي مسرحا"لجولاتها وحلبة لصولاتها. الشيء الذي حال دون تبلور قيم الممارسات الديمقراطية داخل الهياكل التنظيمية للأحزاب من جهة، وأضعف، من جهة أخرى، قدرة الكوادر التنظيرية والتعبوية لديها على صياغة أطر معرفية ترتقي إلى مستوى التحولات الاجتماعية العميقة وتستوعب طبيعة التقلبات الاقتصادية الجذرية، هذا بالإضافة إلى استعصاء نضوجها الفكري وركود تطورها السياسي. أما اهتمام التيار الثالث (المتأسلم) فقد تمحور حول صيغة التقديس / التعالي لتسويق مواقفه وتسويغ تصوراته وتبرير تصرفاته. قاطعا"بذلك الطريق على أي ضرب من ضروب الحوار البيني والتعايش المشترك، سواء كان على صعيد التنوع الديني / الإيماني أو على مستوى الاختلاف المذهبي / الطائفي، بحيث استعيض عن وحدة العقيدة في (الدين) وما تنطوي عليه من تماسك في الانتماء، إلى تعدد الشرائع في (التدين) وما تشتمل عليه من تفكك في الولاء.

ذلك لأن كل فعل أو عملية تستهدف توظيف الدين في السياسة، واستثمار المقدس في المدنس، وإقحام اللاهوت في الناسوت، لابد أن تفضي – وقد أفضت بالفعل –  إلى تصنيف الناس إلى ملائكة وشياطين، أبرار وأشرار، مماليك وصعاليك. الأمر الذي حتم على الأطراف والجماعات المنخرطة في هذه الأنشطة والممارسات البدائية، ليس فقط تبني ظاهرة (التطرف) في النظر إلى الآخر الجواني، إنما تجويز السلوك العدواني في التعامل مع المغاير الداخلي، وهو ما كرّس نزعة الاستئصال الاجتماعي، ورسّخ شرعة الإقصاء السياسي، وأباح موقف التهميش الاقتصادي. وهكذا لم يعد مفهوم السياسة في الوعي الجماعي العربي / العراقي يعني (القيام بالأمر بما يصلحه)، كما كان متداولا"في أدبيات تراثنا الديني والفقهي – يستثنى من ذلك التصور الخلدوني في هذا المجال - أو ما بات يعرف في أدبيات العلوم الحديثة (فن إدارة الأزمات وتسوية الخلافات وعقلنة الصراعات)، إنما أضحى يشير في عرف الذهنية الراديكالية العربية / العراقية المعاصرة، إلى (القيام بالأمر بما يفسده) وفقا"لصيغته القديمة من جهة، والى (فن استفحال الأزمات وتسعير الخلافات وتأجيج الصراعات) وفقا"لصيغته الجديدة من جهة أخرى.

وفي مثل هذه الأجواء الملبدة بالشكوك البينية والمكفهرّة بالمخاوف المتبادلة، على  خلفية فقدان المعايير الموجهة، وضياع المؤسسات الضابطة، واندثار القوانين الملزمة، لا يغدو فقط العنف (سيد الأحكام) فحسب – كما قال أستاذ الانثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية الدكتور فؤاد أسحق الخوري -  وإنما يتحول إلى عنصر مصيري من عناصر الوجود الاجتماعي، ومقوم أساس من مقومات السلطان السياسي، ومكوّن ضروري من  مكونات الاستحواذ الاقتصادي، ومعطى جوهري من معطيات التفوق الثقافي. وفي ضوء هذا الفهم الراديكالي / الأصولي لمفهوم السياسة، فقد أباحت الذهنية العربية / العراقية المعبئة بالهذيانات والمسكونة بالخرافات، حملات التطهير العرقي باسم (قومولوجيا) مؤسطرة، وأجازت قبائح الاستئصال الحزبي باسم (إيديولوجيا) مؤمثلة، وبررت جرائم الاجتثاث الطائفي باسم (يوتوبيا) متخيلة. وحيث إن هواجس الاستحواذ والهيمنة أضحت ((أسلوبا"للتعامل بين البشر – يضيف الأكاديمي والباحث المذكور – فالعنف أو التهديد به يصبح سيد الموقف. اللجوء إلى العنف أو التهديد به لفض المشاكل البسيطة والمعقدة أمر محتوم يبرز في كثير من تفاعلاتنا اليومية. التهديد بالضرب والقتل والاغتيال والاحتلال والتهجير والتدمير وقطع الأعناق وسفك الدماء يصدر عنا بشكل تلقائي عفوي لا شعوري. فالعنف من صلب تراثنا. العنف كأسلوب للتعامل جزء من شخصيتنا الاجتماعية والنفسية. حتى إننا نفهم الحب، الحب المقدس، وممارسة العشق والوصال نفهمه (فتحا")، و(خزقا")، و(قرطا")، و(حرثا"). اللجوء إلى الهيمنة والعنف، أو التهديد بهما، أسلوب شامل عام. يهيمن الله القادر الفاتح والناصر على الكائنات، ويهيمن الإنسان على الطبيعة، والأمير أو الإمام على أخيه الإنسان).

***

ثامر عباس

في المثقف اليوم