قضايا

تساؤلات حول مسار المجتمع العراقي.. خيارات الفوضى أم رهانات العقلنة

ثامر عباسلعله من نافل القول ان أول ما يثير القلق ويستدعي الخوف ويستجلب الارتياع في المشهد العراقي الحالي، هو غياب اليقين وانحسار المعنى ازاء طبيعة المسار الذي ينتوي المجتمع العراقي اجتراحه لنفسه، أو حتى يرشح احتمال معين لما سيؤول اليه مصيره في نهاية المطاف . اذ ان أغلب التكهنات المتفائلة لا تزال، في اطار هذا الشأن، وجلة ومترددة حيال الرؤى والتصورات المستقبلية التي تتوقع حدوثها أو ترتأي حصولها . اما تلك التي لم تبرح متشبثة بخيار الآمال والأماني الطوباوية فهي لا تعنينا هنا ولا يهمنا أمرها بشئ .

وبادئ ذي بدء، فان المسألة المثارة هنا هي ذات طابع اشكالي بامتياز، الا أن البحث فيها والنقاش حولها يستلزم معالجة اشكالية أخرى تسبقها من حيث الأهمية وتتقدم عليها من حيث الضرورة، ليس هنا محل التذكير بها ولفت الانتباه اليها الا من قبيل مراعاة السياق المنهجي وانتظام مستويات الطرح المعرفي، تلك هي إشكالية تبلور وعي جمعي بحقيقة وجود (مجتمع عراقي) يرتكز على أسس راسخة من (الشخصية الاجتماعية)، ويمتح من أصول ثابتة نسغ (الهوية الوطنية)، ويتمأسس بالتالي على كينونة (الوعي بالذات) التاريخي والحضاري . وبرغم رواج الطروحات التي تعتمدها أدبيات التحريض السياسي والترويض النفسي، التي عادة ما تستهدف الطارئ من الأحداث والآني من الظواهر، بحيث ان اهتمامها لا يتعدى نطاق المكشوف من المواضيع والمألوف من القضايا، الا ان المرء لا يمكنه مجاراتها فيما تشيعه من قيم وما تؤكد عليه من معايير، وذلك لاعتمادها المخاتلة بدلا"من المواجهة والتسويف بدلا"من الجدية . كما ليس من الحكمة أن يمحض تأييده المجاني لذلك النوع من الخطابات المولعة اما بتمجيد (الأنا) لحد الهوس أوجلدها لحد التحطيم، بوحي من سرديات عقائدية منزهة أو دينية مقدسة أو قومية معظمة أو رمزية مبجلة .

وهكذا برغم حاجة المجتمع العراقي الماسة، لا بل المصيرية، الى من ينقب في أخاديد ذاكرته التاريخية، ويحرث في حقول وعيه الاجتماعي، ويفكك عناصر مخياله الأسطوري، لاستخلاص الحقائق المندرسة وتبديد الأوهام العالقة، فان هناك من يسرف – بوحي من تلك السرديات المتعالية والمتخندقة – في حمل الواقع على اظهار ما ليس فيه والزام المجتمع على قول ما لا يعنيه، مما استتبع أن يتحول التاريخ بكل ما يعتريه من انعطافات وانكسارات الى سيرورة خطية صاعدة، وينقلب الاجتماع برغم ما يعانيه من انحرافات وصراعات الى وحدة مقدودة متجانسة، وتستحيل الثقافة برغم ما شهدته من انقطاعات وانقلابات الى صيرورة معرفية متواصلة، ويستحيل الدين برغم ما تمخص عنه من حساسيات واستقطابات الى بوتقة ايمانية لصهر الطوائف والمذاهب . ولتبديد مثل هذه الانطباعات المؤدلجة والحيلولة دون اجتياحها منظومة العقل الجمعي واكتسابها صفات الثبات والديمومة، تكفي مراجعة سريعة لبعض المصادر التاريخية المتيسرة حتى نكتشف ان خلف ذلك المجد الحضاري التليد والعمق التاريخي الباهر، تكمن سلسلة متواصلة من الحروب والصراعات والانقسامات، نجمت عنها وترتبت عليها كوارث سياسية وفواجع  اجتماعية وتصدعات نفسية وانزياحات قيمية وانسلاخات جغرافية وملابسات تاريخية قل نظيرها في تواريخ المجتمعات والأقوام الأخرى، ليس فقط من حيث استمرار حضورها في التاريخ وتحولها الى ما يشبه الاساطير في الموروث الرمزي فحسب، وانما من حيث استمرار تأثيرها في بنية الوعي الاجتماعي والتحكم بانماط السلوك الفردي لحد الآن .

وفي واقع الأمر فان طبيعة المجتمع العراقي، وفق هذا المنظور، لا تعتبر في المقاييس السوسيولوجية والمعايير الانثروبولوجية، حالة شاذة أو ظاهرة استثنائية ضمن المسارات التاريخية والحضارية التي سلكتها بقية المجتمعات غداة قطعها أشواط التحول من الأطوار البدائية الى الأطوار الحداثية، بحيث يخشى أن تكون مؤشرا"على عدم نضوج (شخصيته الاجتماعية) ودلالة على اندثار (هويته الوطينة)، وهو الأمر الذي أعاق – ومازال – قدرته في التغلب عى الصعوبات التي رافقته كظله، ومن ثم فشله في معالجة مشاكله ومواجهة أزماته . على ان ذلك حري به الا يجعلنا نستأنس لهذه الأطروحة الطباقية ونهمل البحث في معطياتها التي لا تكف عن الظهور على مسرح الحياة العراقية، ولا تعدم التأثير على أدوار الفاعلين فيها، كلما وقعت نازلة أو طرأ حادث، دون أن تلوح في الأفق المنظور فصولها الأخيرة . وهنا لا أفترض – كما يحلو للبعض دون تحفظ – ان كل ما يعانيه المجتمع العراقي من حالات التطرف في مواقفه والتطيف في علاقاته، ما هي الا نتيجة من نتائج تكوينه النفسي وأثر من آثار موروثه الطبعي، وهو ما ينقلنا من عالم الثقافة الى عالم الطبيعة، حيث تتلاشى ارادة الفعل البشري وتضمحل معالم العقل الانساني .

وفي ظل مثل هذه المواقف المناقبية التي تستلهم العواطف وتستدرج الانفعالات، لكي يكون مشروعا" غمط الاسئلة المحرجة وقمع الاعتراضات المربكة، لا مناص من التباس العلاقة بين حدود الواقعي والافتراضي، وبين تخوم الملموس والمجرد، وبين حقول العقلي والأسطوري، وبين مجالات العلمي والخرافي . فيتم، تبعا"لذلك، اقحام ما هو كائن في تصورات ما يجب أن يكون، وحشر عناصر السوسيولوجيا في بطانة الايديولوجيا، بحيث يغدو الانتقال من العكس الى العكس أو التحول من الضد الى الضد أمرا"ميسورا"وفعلا"مباحا". لاسيما وأن (الدالول الايديولوجي – كما يجادل ستيوارت هال - متعدد اللهجات على الدوام، وله وجه جانوس ؛ أي أن من الممكن أن يعاد الافصاح عنه خطابيا"بحيث يبني معاني جديدة، ويتصل بممارسات اجتماعية مختلفة، ويموقع الذوات الاجتماعية على نحو مختلف شأن التشكيلات الرمزية أو الخطابية الأخرى، فان الايديولوجيا تجمع عبر مواقع مختلفة بين أفكار واضحة التباين، بل ومتناقضة في بعض الأحيان . ووحدة الايويولوجيا هي من ذلك النوع المعقد والذي يوضع بين أقواس على الدوام، حيث تخيط معا"عناصر ليس لها أي (انتماء)ضروري أو دائم . وبهذا المعنى، فان الايديولوجيا تنتظم على الدوام حول منغلقات اعتباطية وليست طبيعية) .

وبصرف النظر عن اختلاف المرجعيات وتباين المنطلقات، فانه من الضرورة بمكان أن تثير اهتمامنا وتحفز تفكيرنا تلك القضايا الاشكالية التي طالما كانت مثار جدل ومصدر خلاف بين العديد من الكتّاب والباحثين ؛ ليس أولهم العالم الاجتماعي (علي الوردي) ولن يكون آخرهم – بكل تأكيد – الباحث التاريخي (حنا بطاطو) من مثل : لماذا يتصرف العراقيون خلافا"لما يقولون ؟ ولماذا يعلنون غير ما يكتمون ؟ ولماذا يعملون بعكس ما يؤمنون ؟ ! واذا كانت هناك عوامل تاريخية وظروف اجتماعية وأوضاع سياسية وتراكمات نفسية ورواسب اسطورية، هي المسؤولة عن صياغة مثل هكذا شخصية فما هي طبيعة كل من هذه وتلك وكيف أثرت بهذا القدر أو ذاك على مسار تكوين المجتمع العراقي ورسمت معالم خارطته الفكرية وتضاريس وعيه ؟! . وعندي – ان كان لي عند كما قال الجاحظ – ان تلك الأسئلة هي التي ينبغي أن نحرص على أثارتها الآن ونقدح زناد الفكرحولها لنجيب عليها بلا عقد أو ممانعات مسبقة، قبل أن تخامرنا رغبة الشروع بتهويل المعقول في تراثنا وتأويل المنقول عن تاريخنا.

وبالنظر لسخونة الوضع الراهن وبشاعة طابعه الدراماتيكي، لم يكن بمقدور العقل العراقي (النخبوي) – وهو المأخوذ بهول الصدمات وانثيال التداعيات وتدفق المعطيات -  أن يطرح، من منظور مستقبلي، رؤاه ويصوغ تصوراته لما ستؤول اليه مجريات الأحداث، وهي تتفاعل تارة وتتصارع تارة أخرى خارج سياقها الجدلي . بحيث تتيح لعناصره المنضوية في أتون البحث عن مخارج افتراضية، تحديد مواقع الحلقات المركزية في سلاسل تلك الأحداث والملابسات، التي من المرجح أن يفضي تشخيصها وكشف النقاب عنها، الى ترصين قدرة العقل التحليلية، لتسعفه في استشراف الاتجاهات العامة التي يفترض بالمجتمع العراقي أن يسلك سبلها، وتمكنه من استطلاع التخوم القصوى التي يتوقع أن يحط رحاله عندها . ولهذا نجد ان كل ما أنتجه ذلك العقل وما تمخض عنه، لا يعدو أن يكون مجرد ردود أفعال متشنجة، أو رجع باهت للصدى، لا تعبر عن فضيلة الاحتكام الى الواقع الفعلي والاستئناس بمعطياته، بقدر ما يعبر عن رذيلة الانهزام أمام زخمه والاحتراس في مواجهته . وهو ما أبقى طروحاته عائمة فوق السطوح / المظاهر دون أن تلامس الأعماق / الجواهر، لاكتشاف القوى الفاعلة وتعيين التيارات العميقة . وتحاشيا"من الانجرار خلف تهويمات التعالم الساذج والتنطع النزق، التي غالبا"ما تراود المرء وتستحوذ على تفكيره، وهو في غمرة الانفعال النفسي والتمترس الايديولوجي، بخصوص قدرته على استنطاق المجهول من الأمور واستجواب المستغلق من القضايا . فاننا سنعمد الى حصر هذه المسألة / الاشكالية ضمن نطاق الحدية الاحتمالية التي لايمكن أن تخرج عن سياق المزوج الافتراضي ( اما / أو )، بحيث لا تأتي حصيلة الوقائع والاحداث اللاحقة مباغتة وغير متوقعة لفرشة الاحتمالات والافتراضات السابقة . مع الأخذ بنظر الاعتبار ضرورة توسيع حقول التنوع في الاتجاهات وهوامش التباين في المسارات، التي يعتقد انها ستكون المرشح الأبرز لقيادة مسيرة المجتمع العراقي صوب المستقبل المنظور .

وعلى خلفية المشهد البانورامي المضطرب، فانه يتضح ان المجتمع العراقي قد وضع على مفترق طرق تبدو المفاضلة بينها صعبة ولكنها غير مستحيلة، اذا ما أريد – فعلا"لا قولا"- الخروج من هذا الخانق التاريخي والسعي لمشاطرة العالم المتمدن انغماسه في تخطي عيوبه وتجاوز مثالبه . ولعل هناك من يعترض علينا بالقول ؛ وهل الشعوب، في هذه المسألة، تحتاج إلى رهانات المفاضلة بين ايجابيات التقدم وسلبيات التقهقر، وحسنات التطور وسلبيات التأخر، ومزايا التحديث ورزايا التحجر، ومناقب النهوض وعواقب الانحطاط، لا سيما وان سيرورة تكونها الحضاري وتموضعها الإنساني، مبثوثة بين ثنايا ذاكرتها الجمعية ومنقوشة على صفحات وعيها التاريخي ؟ .

الواقع إن ضرورات المفاضلة ضمن الشأن البشري واردة في كل زمان ومطلوبة في كل مكان، لا من حيث كونها عوامل مشتركة بين المجتمعات القديمة / البدائية والمجتمعات الحديثة / المتمدنة فحسب، وإنما لاختلاف أنماط القيم التي تؤطر علاقاتها، وتباين أنظمة الفكر التي تبلور تصوراتها، وتنوع بنى الوعي التي تنمذج سلوكها، وتعدد أطر الثقافة التي تحدد تفاعلها . وهو الأمر الذي يفضي إلى تعارض المصالح وتضارب الاتجاهات وتقاطع الأهداف، على صعيد العلاقات الخارجية بين الأمم والدول والحكومات من جهة، وعلى مستوى التوافقات الداخلية بين الطبقات والأديان والطوائف والمذاهب من جهة أخرى، وبالتالي فان خيارات الأولى ستختلف عن خيارات نظيرتها، إن من حيث تخوم المعاني والدلالات التي تضفيها على مفاهيم الحداثة وما يشتق منها وينسب إليها، أو من حيث وتائر الحراك الاجتماعي والتحول القيمي المتمخض عنها والمعول عليها، لاسيما وان (الحداثة) كما يراها عالم السوسيولوجيا الفرنسي (آلان تورين) (هي إبداع مستمر للعالم على يد كائن بشري يتمتع بقدرته وباستعداده ليبدع إعلاما"ولغة في الوقت نفسه الذي يحتمي فيه من إبداعاته حالما ترتد هذه الإبداعات عليه).

هذا في حين إن الأمر مع الثانية لا يخلو هو الآخر من إشكاليات ليست سهلة ؛ إذ كيف تفسر المكونات الاجتماعية ضمن المجتمع الواحد مضامين تلك المفاهيم وكيف تنظر إلى معطياتها، على خلفية أنها لا تبصر بذات العين بواعث العلاقات، ولا تستوعب بذات الفهم مصادر التفاعلات، ولا تعي بذات العقل دوافع الصراعات، ليس فقط على مستوى أنماط التحديث وأطوار النهوض واتجاهات التطور فحسب، بل وكذلك على صعيد ما يتمخض عن ظواهر الطبيعة وتجليات الفكر وجدليات الواقع ؟ . ناهيك بالطبع عما يجيش في رحم المجتمع من تيارات ذهنية صاخبة، وتحولات بنيوية حادة، وانزياحات قيمية مفاجئة . وهو الأمر الذي حمل الفيلسوف الألماني (فردريك انجلس) على الاعتقاد بان سيرورات الحركة الاجتماعية تمتاز بأعلى دراجات التعقيد والتجريد ضمن إطار قوانين الجدل الكوزمولوجي .

وهكذا تتمظهر أمامنا حصيلة هائلة من الصعوبات النظرية والممانعات العملية، التي غالبا"ما تحيل تواضعاتنا اليومية وحدوسنا الفكرية إلى مجرد قناعات ذاتية لا قيمة لها حيال غنى الواقع وثراء التجربة . لاسيما وان حالة المجتمع العراقي تتوفر على جميع تلك الاحتمالات، التي لا مناص من اشتداد التنافس حولها والتنازع عليها والتخندق فيها، كلما التمس الأفراد والجماعات المنخرطين في اتونها، سبل بلوغ مآربهم الفئوية وتحقيق غاياتهم الحزبية من جانب، والسعي لفرض خياراتهم السياسية ورهاناتهم الإيديولوجية كما لو أنها خيارات عامة ورهانات مشتركة من جانب ثان .

وإذ توحي فكرة الموضوع بضرورة نبذ خيارات الفوضى التي لم تبرح تمسك بخناق المجتمع عبر شقوق وعيه وصدوع قيمه وتذرر أطيافه، فضلا"عن لزوم التمسك برهانات العقلنة المعول عليها تهدئة الأوضاع المضطربة، وتحسين الظروف المتفاقمة، وتشذيب الذهنيات المتعصبة، وتهذيب السلوكيات المتطرفة، فانه لا يستوحي عناصر ومبادئ تلك العقلنة الجافة / المتصلبة، التي  تمخضت عن تجربة والواقع السياسي والاجتماعي للغرب، والتي تلوح لنا بها تيارات الفكر الكولونيالي المؤدلج كما لو أنها طوق للنجاة، بحيث نصل إلى ذات النتيجة التي استخلصها (تورين) غداة نقده لاصول الحداثة على الطراز الأوروبي، مبينا"إن ((النضال ضد الماضي والعهد القديم والعقائد الدينية، والثقة المطلقة بالعقل كانت تمنح صورة المجتمع الحديث قوة وتماسكا"، لم يلبثا أن اختفيا عندما حلّت التجربة محل الأمل، وعندما أصبح المجتمع الجديد واقعا"وليس فقط الوجه الآخر أو القفا للمجتمع الذي أريد تدميره أو تجاوزه)) . الشيء الذي أوقع تلك المجتمعات في أتون مشاكل قيمية ومعاناة وجودية وارتكاسات نفسية، يبدو إن مستويات تقدمها العلمي / التكنولوجي ومؤشرات تطورها الثقافي / الحضاري، لم تشفع لها سوء اختيارها لتلك الأنماط من العقلنة المتوحشة ولمسارات ذلك التحديث الأحادي .

وبالرجوع إلى خواص المجتمع العراقي ؛ إن من حيث طبيعة تكوينه الاقوامي وتنوعه الديني واختلافه الطائفي وتعدده اللغوي من جهة، أو من حيث تشظيه السياسي وتمزقه الاجتماعي وتوتره النفسي وتبعثره الثقافي وترديه الاقتصادي وتذرره الرمزي من جهة أخرى . فإننا سنكتشف حقيقة إن خيارات الفوضى الماثلة أمامه ستكون متاحة ومهيأة، لا تستلزم لكي يطلق لها العنان سوى قدحة زناد لا أكثر، بقدر ما لرهانات العقلنة من حظور شاخص، لا تستدعي لكي تفعّل سوى توفر الإرادة الصادقة والنية السليمة . بيد إن هذه المسألة لا تبدو كما لو أنها مرهونة برغبة هذا الفرد أو ذاك، أو توق هذه الجماعة أو تلك، أو طموح هذا الحزب أو ذاك، طالما أن قيود العادات والأعراف لا تزال تحكم قبضتها على مفاتيح (الشخصية العراقية)، إضافة إلى تحكمها بنوابض تفكيرها ومحركات سلوكها، للحد الذي إن مفكرا"من طراز (جون ستيوارت ميل) اعتبر إن (طغيان العادة) لدى شعوب الشرق كامل (فالعادة هناك، في كل شيء، هي المرجع الأخير)، في حين ارتأى (لينين) إن أصعب ما في تغيير الشعوب هي العادة، نظرا"لقوة تشبثها بطراز وعيه وأطر تفكيره، واستئثارها بأعنة سلوكه وأنماط تصرفاته .

ولذلك حينما نستهدف التعويل على مسارات العقلنة التي نأمل أن تلجها، دون إبطاء، مكونات المجتمع العراقي، علينا أن لا نتوقع حصول معجزة أو حدوث كرامة، تلهم العراقيين للتحول الطوعي من طور التبربر إلى طور التحضر، والانتقال من مرحلة التدجن إلى مرحلة التمدن، ومن حالة الانكفاء إلى حالة الارتقاء، ومن وضعية التناحر إلى وضعية التحاور . إذ ينبغي، عند الحديث عن فرشة الخيارات الآنية والرهانات المستقبلية المبثوثة فوق ثرى الواقع، مراعاة ما خلفته تأثيرات عقود متطاولة – إن لم نقل قرون متقادمة – من القمع السياسي والتجويع الاقتصادي والتضييع الاجتماعي والترويع النفسي والتسليع الرمزي، التي حفرت بصماتها وغرزت سمومها بين أخاديد وجدان الإنسان العراقي، محيلة إياه إلى كائن صلصالي سهل التشكّل وقابل للاحتواء ؛ يضمر في كينونته تناقضات أجيال جرى ترويضها على مفارقة التعايش بين كونه يرسف في أغلال الخرافات والعبوديات، ويقال له انه سليل أولى الحضارات والمدنيات، ويتمرغ في مثالب العصبيات والاستقطابات ويشاع انه وريث أرقى الثقافات والأبجديات . وهو ما أفضى إلى تشويه شخصيته وتسطيح وعيه وتوحش طباعه وتعصب آراءه وتطرف مواقفه وعنف سلوكه، تساوقا"مع حقيقة إن (الإنسان المسحوق – كما جادل الدكتور مصطفى حجازي-  الذي حمل السلاح دون ثقافة سياسية كافية، توجه وضعه الجديد، قد يقلب الأدوار في تعامله مع الجمهور أو من هم في إمرته، فيتصرف بذهنية المتسلط القديم . يبطش، يتعسف، يزدري، وخصوصا"حين يستغل قوته الجديدة للتسلط والاستغلال المادي والتحكم بالآخرين، مما يوقعه في تحيزات تشكل عقبة فعلية في وجه التحرر الحقيقي).

والأنكى من ذلك كله هو إن معظم الحوادث السياسية وأغلب الانعطافات التاريخية التي شهدها المجتمع العراقي، لم يتسنى لمفاعيلها الواقعية والافتراضية استئصال شأفة العوامل المسؤولة عن حصول مثل هذه الارتدادات والانتكاسات، بقدر ما وظفت بطريقة متعمدة ولكنها همجية لتنكأ الجراح وتعمق الخلافات وتوطن الحساسيات، التي حبل بها رحم هذا المجتمع الفريد في تكوينه والنادر في خصائصه والأوحد في تاريخه . ولما كانت معطيات الواقع الاجتماعي بكل أبعاده المنظورة على الأقل – دع عنك منغصات الوضع السياسي المزري – تشير بوضوح إلى استمرار تحكم خيارات الفوضى بزمام إرادة المجتمع العراقي واستحواذها على إرهاصات عقله الجمعي، فان رهانات العقلنة التي تتطلب، من جملة ما تتطلب، ذواتا"تتمتع بمستوى عال من الوعي ودرجة متقدمة من المسؤولية، حيال قيمة تغليب الولاء الوطني على الانتماء العصبوي، وترجيح كفة الصالح العام على مصلحة الشأن الخاص، وتفضيل سلطات دولة القانون على تجاوزات نخوة القبيلة وحضوة الطائفة، وهو الأمر الذي سيؤول إلى بقاء حالة المراوحة بين واقع يضج بالمفارقات والتصداعات، وقوى وتيارات لا يهمها سوى تعزيز نفوذ الخرافات والانحرافات، في بيئة فقدت نقاء المثاليات الدينية وعفة الطوبائيات الأخلاقية .

***

ثامر عباس

 

في المثقف اليوم