قضايا

الطيب تيزيني.. عاشق الجدلية التاريخية

3618 الطيب تيزينييعد الدكتور طيب تيزيني (1934- 2019) من أنصار الفكر الماركسي السوريين، الذين اعتمدوا على الجدلية التاريخية في مشروعه الفلسفي لإعادة قراءة الفكر العربي منذ ما قبل الإسلام وحتى اليوم، وقد حمل الدكتور طيب تيزيني شهادة الأستاذية في العلوم الفلسفية، وتمّ تصنيفه من قبل مؤسسة فلسفية ألمانية كأحد 100 فيلسوف عالمي في القرن العشرين من مؤسسة Concordia الفلسفية الألمانية الفرنسية

والطيب تيزيني (مع حفظ الألقاب) يعد أيضا من المولعين بالتراث والمهتمين  بالدفاع عن حرية الفكر وحرية الانسان وكرامة الوطن، ويتصف بسجالاته الحوارية الحادة ونقده الصارم لكل المشاركين في اغتيال ومحاصرة الوعي والعقل وتهميش وتدمير المشروع النهضوي الحضاري، الثقافي والفكري العربي، كما يتمتع بالشفافية وبأتساع المعرفة وبالارتكاز على الإرث الأخلاقي والعمق السياسي والفكري، ويؤدي دوره الخلاصي، ويواصل مغامرة الكتابة بنفس مغامرة الحياة نفسها، في هذا العصر الذي تتراكم فيه المحرمات والمحظورات، ويحرص أن يكون مختلفاً ليلغي الخطر المحتمل.

علاوة على أنه أيقظ بقلمه الناري وفكره الوضاء العقول الصدئة في صناديق الماضي، وأكثر ما يشدد اليه طبيعته السجالية وخطابه النقدي واختراقه للمنوعات والطابوات واقتحامه دائرة الحظر الفكري وحقول الألغام أمام الفكر ونقده الحاد والقاسي لأفكار التجمد والتكلس الديني، ومعاركه الأيديولوجية ضد كل ما هو كابح ومعيق لقضايا الفكر والتقدم والتنوير.

ونتذكر هنا مقولة طرحها تيزيني أثناء مشاركته في منتدى الاتحاد السنوي عام 2007، والذي كان عنوانه «تحديات الثقافة العربية في عصر العولمة»، مفادها "أن الهوية العربية مكتملة وثابتة، ولكن التجارب والتحديات تجعل من الضروري بين حين وآخر إعادة ترتيب عناصرها.. والنهضة العربية وسجالاتها وجدلياتها شغلت حيزاً كبيراً في نتاج تيزيني الفكري، فهو الداعي إلى مشروع نهوض عربي تنويري جديد، ولطالما نوّه لضرورة البحث في أسباب فشل النهضة العربية، والاتفاق على مشروع نهضوي، بعيداً عن السلبيات التي طرأت على المشاريع النهضوية القديمة. وترسخت لدى تيزيني قناعة بأن التفكير بمشروع نهوض عربي جديد يستوجب خطوتين كبيرتين، الأولى في التأسيس المعرفي لهذا المشروع من موقع التاريخ العربي الحديث، في حين أن الخطوة الثانية تقوم على التأسيس الفكري الفلسفي النقدي له، ويدرك كذلك أن التاريخ العربي عامة، والحديث منه خاصة، يحوي تجارب نهضوية تدل على أن فكرة النهضة ليست غريبة على تاريخنا، خصوصاً في القرن التاسع عشر، وذلك عبر صيغ متعددة قد تكون في طليعتها تجربة محمد علي في مصر وخير الدين التونسي في تونس، وداود باشا في العراق وبعض

وطيب تيزيني من مواليد حمص عام1934، وتلقى علومه في المدينة ذاتها، ثم غادر إلى تركيا بعد أن أنهى دراسته الأولية، ومنها إلى بريطانيا، ثم إلى ألمانيا لينهي دراسته للفلسفة فيها ويحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة عام 1967 أولاً في أطروحة معنونة "تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة" والتي نشرت بالألمانية عام 1972، والدكتوراه في العلوم الفلسفية ثانياً عام 1973، وعمل في التدريس في "جامعة دمشق" وشغل وظيفة أستاذ في الفلسفة.

وقد شارك "طيب تيزيني" في العمل السياسي قبل سفره خارج سوريا للتعليم، يقول عن ذلك  في حوار له بجريدة الراية: “في الحقيقة هنالك بعض الجذور التي تشدني إلي السياسة فكراً وممارسة، فلقد أسهمت في بعض الأحزاب اليسارية التي نشأت في سوريا لفترة زمنية كنت بعدها أعود إلي العمل الفكري خصوصاً بصيغة الفكر السياسي، لذلك فالتجارب التي عشتها في أحزاب سياسية معينة كانت تقدم لي تجربة عميقة، سعيت وأسعى إلي التنظير لها في إطار الفكر السياسي العربي، وقد تعمق هذا الاتجاه لدي حين لاحظت ضرورة العودة إلي الفكر السياسي العربي في التاريخ العربي علي نحو العموم، فكتبت مثلاً بعض كتاباتي التي امتزجت باهتمام عميق بالسياسة وبالفكر السياسي”.

ولهذا فقد تبلورت أطروحته باعتبارها نواة لمشروع فلسفي عند نشر كتابه الأول باللغة العربية وهو "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط" عام 1971 الذي طبع بعد ذلك خمس طبعات، حيث يعبر عن فلسفته القائمةً على إثبات فكرة واحدة احتلت الصدارة والنواة في اعماله، ألا وهي أن الفكر العربي - متضمناً للفكر العربي قبل الإسلام والذي اصطلح على تسميته جهلاً و عدواناً بالعصر الجاهلي - هو مرحلة أساسية على سلم تطور الفكر العالمي. هذا التأكيد الذي جاهد البروفيسور الطيب في مناقشته و تحليله و إثباته اتي نتيجة الجور الواقع على هذه الحضارة سواءً من اعتبارها أولاً تابعة للدين الإسلامي؛ أي انتفاؤها عن الوجود إلا بوجوده والتي نفاها من خلال الفلسفة المادية الجدلية التي طورها كل من كارل ماركس وفريديريك إنجلز.

وتتلخص فكرتها في مبدأ تطور العالم الطبيعي و انبثاق نوعيات جديدة من الوجود في مراحل مستحدثة من ذلك التطور، أو ثانياً كونها ناقلة فقط لما أبدعته الحضارة الإغريقية وهي الفكرة المسيطرة على الغرب والمسماة بالمركزية الأوروبية والتي يعتبر مؤيدوها الحضارة صناعةً غربيةً بحتة مجتثين بعقليتهم تلك وناكرين لأي فضلٍ أسهمت به الحضارات الشرقية أو اللا أوروبية و اعتبارهم صلة وصل فقط بتجريدهم من أية إبداعات حضارية أو إسهامات حقيقية في تطور الحضارة.

وعلى هذا فإن إسهامات الدكتور تيزيني تعمل على تحرير الفكر العربي المعاصر من السيطرة الغربية والتبعية العمياء له على اعتبار أنه ليس وحده من ساهم بإيصالنا نحن البشر إى هذا المستوى من الحضارة و أنهم - الغرب - على الرغم من الكثير الذي طوروه في الحضارة ما هم إلا مرحلة حضارية على السلم التطوري الطويل. كما ان كتاباته و أبحاثه التريخية و الفلسفية تعطي القدرة من جديد للعرب على استئناف التفكير العربي كجزء من تطور الفكر الإنساني. إضافةً إلى ذلك فإن فكر الدكتور الطيب ينحو بالفكر العربي نحو الاستقلالية عن الفكر الإسلامي دون إنكار أن الأخير قد لعب دوراً هاماً في تطور الحضارة شأنه في ذلك شأن أنواع الفكر الأخرى.

وعلى هذا فإن فكر هذا الفيلسوف العظيم يضعنا أمام مسؤولية كبيرة و ضرورية؛ ألا وهي وجوب إعادة قراءة الفكر العربي على ضوء المعطيات والنتائج التي خلص لها البروفيسور وذلك حتى نتمكن من استئناف فكرنا العربي والتوقف النهائي عن محاولة الانصهار في أنواع الفكر المختلفة من حولنا والتي تضفي إلى تشويه فكرنا بل والتبرأ منه في كثير من الأحيان كما فعل الكثير من المفكرين العرب والكتاب والشعراء الذين نبذوا الفكر العربي وراء ظهورهم. هذه المسؤولية لم يلقها الطيب تيزيني على من سيأتي بعده ويمشي مبتعداً معللاً فعله بأن رسالته قد انتهت بوضعنا على الطريق الصحيح فحسب، بل على العكس تماماً كان ذلك التجلي عن الفكر العربي هو أساس مشروعه الفلسفي.

يقول تيزيني مختصراً مشروعه: "إن مشروعنا يرفض القول ببداية ونهاية مطلقتين في العمل الفكري الثَّقافي، ذلك لأن ما يبدو لنَّا أنه بمثل بداية مطلقة، يحتوي في ثناياه في حقيقة الأمر عناصر مِن البُنى الفكرية السَّابقة، وما يبدو لنَّا كذلك، أنه نهاية مطلقة، يمثل باعتباره تمهيداً لبنية فكرية مطلقة (من التُّراث إلى الثَّورة). في ما كتبه تيزيني جعله تحت نظرية عنوانها:«جدلية تاريخية تُراثية". وعندما بدأ مشروعه لم يدعِ أنه الأول والأخير والأصح، هذا ما ثبته في المقدمة، بل كان اجتهاداً، يحتمل الخطأ والصَّواب.

كذلك ترك تيزيني، مؤلفات عِظام كلها صَبت في جدليته التُّراثية:" من الإستشراق الغربي الى الاستغراب المغربي؛ حيث يقدم لنا تزيني في هذا الكتاب بحثًا ودراسة في منهج وقراءة المفكر المشهور محمد عابد الجابري للفكر العربي وآفاقهما التاريخية. وخلال استعراض هذا المنهج يناقش تيزيني العديد من الموضوعات والأفكار التي أثارها محمد عابد الجابري ويناقشها بشكل موضوعي وعلمي يوضح الخطأ فيها، مثل مسألة الاستقلال التاريخي التام، ورأي الجابري تجاه العقلية- البنية العربية الأزلية، ومسألة الصراع على التراث، وكذلك يناقش المؤلف فكرة الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان، والمسألة الاجتماعية والنهوض العربي في الأفق الجابري، وغير ذلك من الموضوعات المنهجية الخاصة بفكر محمد عابد الجابري يطرحها هذا الكتاب للنقاش.

ثم يأتي  بعد ذلك كتابه "التصوف العربي الإسلامي حيث يناقش التصوّف من حيث هو- في أحد تعريفاته الأولية - نمط من المجاهدة والرؤية النفسية، التي قد يرافقها سلوك عملي جسدي، في حين يُراد منها أن تستجيب لحاجات ‹‹التصوّف›› الروحية والنفسيّة والمجتمعية العامة. وهو بوصفه نتاجاً ذهنياً، نُظر إليه على أنه مادة متممة للفلسفة العربية. لذلك سنعود إلى الوراء قليلاً،  لتبيُّن ذلك في أوّلياته. فالفلسفة العربية لم تنشأ - كما يقول مستشرقون - مستقلة استقلالاً أًوّلياً، بل هي ظهرت بوصفها حيثية يونانية.

وهنا تبرز فضيلة العودة إلى الماضي المتمثلة في وضع يدينا على خصوصية الفلسفة العربية. وقد تبين لنا أن هذه الخصوصية ظهرت من موقع أنها نشأت على نحو مغاير لنشأة الفلسفة اليونانية، حيث إن نشأة هذه الأخيرة كانت في صلب الدين، بينما اليونانية قد اقتضت مواجهة الدين والأسطورة. فخصوصية الفلسفة اليونانية كمنت في أنها قامت برفض الدين والأسطورة؛ أما خصوصية الفلسفة العربية فقد كمنت في أنها قد نتَجتْ داخل الدين، ثمّ عملت على تجاوزه.

ثم يأتي كتابه " النص القرآني أمام اشكالية البنية والقراءة" حيث شكلت قراءة النص القرآني محور الدراسات الحداثية العربية، باعتباره العنصر الأساس في تشكيل العقل العربي، وباعتباره المرجع المحوري لكل القراءات الإيديولوجية في زمن استقالة العقل العربي لحساب السلطة. وإذا كان القدماء قد عالجوا النص القرآني باعتباره مصدرا للاستثمار التشريعي والتوظيف العلمي داخل الزمن البشري، فإن القراءات الحداثية قد سعت إلى تأسيس نوع من القطيعة المعرفية والمنهجية مع الكتابات القديمة تحت دعاوى التجديد والأنسنة والعقلنة.... مما وسم هذه القراءات بطابع التجرؤ على قداسة النص الديني وإخضاعه لسلطة المنهجية العقلانية بحثا عن تجاوزه معرفيا ونقله من مستوى التعالي والمفارقة إلى الاعتراف باتصاليته وخضوعه لمؤثرات الزمن الطبيعي.

لم تمرّ مؤلفات وأبحاث تيزيني، ولا غيرها مما ذَكرنا، هباءً، إنما تركت أثرها في الأجيال، ومازالت تلد الجديد، حتى أن العديد مِن رجال الدِّين أنفسهم، ممَن حاربوا تلك الدِّراسات وفسّقوها، عادوا يلحون بإعادة الاعتبار لها، بما لا يقل عما كان بين داروين ورجال الكنيسة. لكن ذلك لم يعجب أصحاب التشدد والإسلام السِّياسي عموماً، فمشروع التُّراث التَّنويري هو النقيض لمشروعهم ذي البداية والنهاية المطلقتين، المبني على فكرة مقدسة في الثقافة والسِّياسة كـ"الحاكمية".

وقد رحل عن دنيانا الطيب تيزيني، مساء يوم الجمعة 17 مايو 2019 في مدينة حمص السورية.

فتحية طيبة للعلامة الطيب تيزيني الذي يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الماركسي الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

***

المراجع:

1- أنظر مقال بعنوان: الطيب تيزيني... المفكر الذي حذر مبكراً من الانفجار بكى سوريا قبل أن تبكيه، الأحد - 15 شهر رمضان 1440 هـ - 19 مايو 2019 مـ رقم العدد [ 14782]

2- أنظر مقال بعنوان: طيب تيزيني.. فيلسوف «المشروع النهضوي» في ذمة الله، أبوظبي (الاتحاد)، 19 مايو 2019 04:14

3- أنظر مقال بعنوان: طيب تيزيني.. التنوير عبر تثوير التراث، ميدل ايست اون لاين، الأربعاء 2019/05/29

4- حسام الحداد: الطيب تيزيني.. ونقد الفكر العربي والإسلامين، بوابة الحركة الإسلامية، الأحد 19/مايو/2019 - 12:43 م

في المثقف اليوم