قضايا

الثابت والمتغير في التفكير العقلي

قاسم خضير عباسإنَّ معيار الثابت والمتغيّر في الدراسات العلمية يقضي بأن يكون المتغير أميناً لثوابته العامة ولا يتناقض معها، وهذا ما أكد عليه المنهج العلمي الأكاديمي، فالباحث يضع ثوابت علمية ومنطقية لكي يستند إليها في بحثه. ولذا لابد أن تبقى الأصول على حالها، ومنها ننطلق في دراساتنا لمعالجه الأزمات، أو كتابه بحث علمي ما.

أما خدعة تأصيل الثوابت والأصول، التي أطلقها بعض المفكرين العرب مؤخراً أثناء حديثهم عن التراث، في حين أنهم كانوا سابقاً يرفضون مجرد الحديث عنها، فتندرج ضمن منهجية فلسفية للقضاء على ثوابت الإسلام باسم الإسلام، وإدخال توجهات الغرب وأخلاقياته إلى مجتمعاتنا تحت غطاء تأصيل الأصول، وترويض العقل العربي على قبول نظريات أخلاقية غربية، لتغيير مفاهيم المجتمع المسلم وقيمه، واستبدالها بـقيم وأخلاق نفعية ومادية ترتبط بجشع الإنسان وطمعه واستغلاله للآخرين.

فالمعروف أنَّ النظريات الغربية أعادت بناء ثوابت الأخلاق وفق منهجية تنحدر بالفرد والمجتمع إلى الحضيض، بحيث تم تكييف حتى حقوق المثليين تكيّفاً قانونياً. ولذا فإنَّ دركايم مثلاً ربط الأخلاق بـالعقل الجماعي للمجتمع، وفرويد فسّر القيم وفقاً لتحليله النفسي الجنسي، وسارتر هاجم المثل العليا في فلسفته الوجودية.

بلحاظ أنَّ تغيير الثوابت عند المفكرين الغربيين، رافقها إسقاط أوجاعهم النفسية في نظريات وصفت بأنها (علمية)!! وهي غير ذلك، فنرى فرويد قد أذاب (حزن اليهود وعقدهم) في تحليله النفسي الخرافي، وكذلك فعل دارون، وسارتر. وقد انتقلت هذه الإسقاطات النفسية حتى إلى الأدب الأوروبي كله، حيث أدخل كافكار (عذابات اليهود وشقاءهم) المزعوم في أدبه وأعماله.

ولكيلا يأخذنا الاستطراد بعيداً... نعود إلى صلب الموضوع لنؤكد على قوانين الثابت والمتغيّر في التفكير العقلي، فمتبنيات علم المنطق بقت ثابتة منذ أرسطو، ولم يتغير منها غير تنظيم الأقيسة المنطقية بعد انتقاد الفيلسوف بيكون لها.

ولذا فإنَّ مباني المنطق الثابتة حفظت العقل من الوقوع في الخطأ لأنها آله قانونية تعصم العقل، فالكلي والجزئي، والمفهوم والمصداق، والنسبة بين نقيضي الكليين وعكس النقيض وقاعدة نقض المحمول، ومباحث الاستدلال والاستقراء والاحتمال والقياس، كلها مباني علمية ثابتة فرضها العقل بالتجربة والملاحظة.

إضافة إلى أنَّ الزمان والمكان لم يتغيّرا بما يوجب تغيّر قوانين الاجتماع الإنساني الطبيعية المتمثلة بالقانون الطبيعي والقوانين الكونية: فالليل والنهار يدوران في حياة البشر بعينهما منذ آلاف السنين، والأرض لازالت هي كما كانت منذ آلاف السنين أيضاً. إنّ ما طرأ عليه التغيير حقاً هو طراز حياة الإنسان وذلك بفضل التقدم المطرد، بحيث أخذت حاجات الإنسان ورغباته تزداد يوماً بعد آخر أو يطرأ عليها التغير.

وبناء على ما تقدم فإنَّ ثبات القواعد والمبادئ العامة (العقلية المنطقية) شيء طبيعي يفرضها التفكير العقلي، وهو مناط بثبات الاحتياجات الطبيعية المنبثقة من البنية الوجودية للإنسان. ولطالما بقي الإنسان إنساناً فإنَّ بنيته ستبقى ثابتة، يرافقها ثبات للاحتياجات الطبيعية المترتبة عليها، والتغيير ينصب فقط على طراز حياته نتيجة التقدم، مما يستدعي أن يكون هناك ترابطاً بين الثابت والمتغيّر.

وهذا الترابط المنطقي في التفكير العقلي نجده في تفاعلات القواعد الثابتة الإسلامية مع الأحكام المتغيرة، وهي قواعد عامة ليست جامدة بل متحركة في مناطق الفراغ التشريعي، بحيث تستند إليها الأحكام المتغيرة والقابلة للتغيير دوماً بتغيير الزمان والمكان.

والقوانين التي تشير إليها هذه الأحكام المتغيرة ترتبط بالتحولات الحياتية، التي تطرأ على حياة الإنسان على إثر التقدم المدني والحضاري، وهنا نكون أمام قانون علمي ومعادلة تثبت بالتفكير العقلي الفلسفي، يمكن التعبير عنها بأنها ترابط بين الثابت والمتغيّر.

وقد أوضح المفكر الإسلامي المبدع الشهيد محمد باقر الصدر هذا الترابط العلمي بين الثابت والمتغيّر بأسلوب استقرائي، في كتابه رسالتنا قائلاً بأنَّ: (ما يطرأ على مظاهر الحياة الإنسانية من تغيّر تارة يمس الطبيعة المادية التي تحيط بالإنسان، وأخرى يمس النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بهذه الحياة).

واستطرد الصدر كلامه ليبيّن الحقيقة العلمية المرتبطة بالتفكير العقلي والمتغيرات الحضارية فقال: (لا يقف الإسلام موقفاً سلبياً من هذا التقدم الذي أحرزه الإنسان المعاصر في هذا المجال، بل هو يدعو المسلم إلى الاستمتاع به والمشاركة والإبداع في مجالاته، لأنه ليس عدواً للتقدم والمدنية. بل هو حافز إلى التقدم وإنشاء المدنية).

إذن المتغيرات بالمعيار العقلي التي تطرأ على النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فليس من الحكمة رفضها بالمطلق ولا قبولها بالمطلق أيضاً، إنما تكون ضمن معادلة الترابط بين الثابت والمتغير؛ ولا يمكن أن يقبل العقل المنطقي الإخلال بهذه المعادلة لأنها ستؤدي إلى اضطراب اجتماعي ومشاكل مستدامة.

واستناداً لذلك فإنَّ العقل المنطقي يرفض وجهة النظر الغربية في حيوانية الإنسان وماديته، وحقوق المثليين والسحاق، وما إليها من قضايا هي بالأساس تتناقض مع إنسانية الإنسان وطبيعته الثابتة غير المتغيرة. وهذه القضايا غير المنطقية منشؤها الوهم العقلي وإشكاليات التفكير، الذي أشار إليها الفيلسوف بيكون؛ وهي سموم فكرية وافدة يعمل أعداء الإسلام على نشرها بين المسلمين ليجردوا الإسلام من حيويته وأصالته وقدرته على الصمود.

***

د. قاسم خضير عباس 

‏كاتب سياسي وخبير القانون  الجنائي الدولي والوطني

في المثقف اليوم