قضايا

فخاخ الاقتراض

مصعب قاسم عزاويالاقتراض والاستدانة جزء عضوي من مفاعيل تعقد النظم الإنتاجية البشرية خلال تحول تلك الأخيرة إلى نموذج الاقتصاد الزراعي ومن ثم التصنيعي، والتي لا بد فيها من الاستثمار في أحياز إنتاجية ذات مردود متأخر بعد حين، وليس مباشراً متاحاً للفرد مثلما هو الحال في مجتمعات الصيد والالتقاط. وهذا يعني أن هناك ضرورة للاستدانة والاقتراض بين البشر والمجتمعات لضمان تمكن فرد أو مجموعة أفراد ما من اكتساب سرعة ابتدائية تمكنهم من الدخول في الحلقة الإنتاجية، ومن ثم إنتاج قيمة فائضة في المستقبل يتمكنون من خلالها من سد ديونهم وتحسين شروط حياتهم ومن هم مسؤولون عن إعالتهم.

ولكن واقع الاقتراض أصبح يكتسي بصفات أكثر تعقيداً مع صعود الرأسمالية أساساً، والتي أدت إلى تراكم قيمة فائضة كبيرة، أصبحت بحد ذاتها قوة إنتاج مستحدثة على شكل رأس مال مالي عملاق، ينتج قيمة فائضة بحد ذاته عبر إقراض أفراد أو مؤسسات أو دول بفوائد عالية، وباشتراطات معقدة يصعب الفكاك منها، بما حول ذلك النظام إلى شبكة أفعوانية من إمكانيات الهيمنة على المقترضين، مثالها العياني الأكثر تشخيصاً «صندوق النقد الدولي»، الذي لا بد أن تلجأ إليه كل الاقتصادات النامية في حال تعثرها اقتصادياً للاقتراض منه، لكونه المؤسسة المالية العالمية الأكثر ثراء، إذ أن جل الدول الصناعية المتقدمة تستثمر فيه، وللولايات المتحدة حصة الأسد من رأس ماله، والقدرة التصويتية الأعلى على سياساته وتوجهاته. وهو صندوق النقد الدولي الذي يبدي استعداداً لإقراض أي من الدول النامية وفق شروط معقدة عنوانها العريض «سياسات التصحح الهيكلي»، والتي تعني وصفة علقمية جوهرها الخصخصة لكل أدوار الدولة، وبيع أصولها المالية، وإلغاء دورها الرقابي على الاقتصاد، وتحرير الأسواق، وفتح الأسواق المحلية على أعنتها للاستثمارات الأجنبية، ورفع الدعم بكل أشكاله عن السلع الأساسية، وإلغاء كل شبكات الحماية الاجتماعية للفئات المستضعفة؛ وبمعنى آخر تحويل الدولة من وكيل لتنفيذ وصيانة العقد الاجتماعي إلى جابي ضرائب ومدير تعاقدات مع الشركات الخاصة التي يجب تفويض كل شؤون المجتمع إليها، والتي يفضل أن تكون شركات عابرة للقارات لاتساقها  أكثر مع رؤية ونهج صندوق النقد الدولي الانفتاحية،  وآليات عمله وأهدافه المرحلية والاستراتيجية.

وذلك النموذج من الاقتراض لا يمكن بأي شكل من الأشكال الإلمام توصيفاً بمفاعليه البائسة على المجتمع، وخاصة الفئات المستضعفة فيه، والتي لا بد أن تتحسس على جلدها المتقرح مفاعيل تنكس حيواتها من معاناة وضنى سرمدي إلى جحيم لا يطاق، وهو الواقع الذي يمهد لكل نزعات التطرف في المجتمع والمفاعيل السوداوية للاكتئاب الجمعي التي لا بد أن تفصح عن نفسها بتهشيم و تذرية كينونة الإنسان و الفضاء الاجتماعي الذي ينتسب إليه.

وبشكل أكثر تبئيراً فإن الاقتراض الداخلي الذي يتم من خلال الاقتراض ممن لديه فائض قليل أو كثير من الثروة سواءً كان فرداً أو مؤسسة لأجل إنجاز تنمية حقيقية عبر الاستثمار في تطوير البنى التحتية في المجتمع سواء كانت مدارس أو طرق أو مستشفيات أو خدمات للمياه والكهرباء والصرف الصحي أو جسوراً أو وسائل نقل عام وخطوط سكك حديدية أو مرافئ و موانئ، فإن ذلك ضروري و مفيد لكل مجتمع بغض النظر عن مستوى تقدمه أو غناه أو فقره، إذ أن الهدف الاقتصادي الذي أثبت صحته دائماً هو الاستثمار الحقيقي في تحسين شروط حياة البشر والبنى التحتية للمجتمعات التي يتشاركون تكاليف ومنافع تلك البنى التحتية فيها.

ولكن مبدأ الاقتراض بغض النظر عن الجهة التي يتم الاقتراض منها يفقد بوصلته حينما يصبح موجهاً لأهداف غير إنتاجية، وخاصة استهلاكية، وفي أخطر حالتها لأهداف تدميرية ومضيعة للثروة من قبيل تكديس الأسلحة، كما تفعل الكثير من الدول العربية، بينما الكثير من أبنائها لا يجدون مساكن لائقة أو غير لائقة للعيش فيها، أو من قبيل تمويل حروب ذات حاصل صفري لا غالب أو مغلوب فيها، وتوسعة القدرات القمعية والرقابية والأمنية في المجتمع، وسرقة الأموال المقترضة وتحويلها إلى حسابات سرية في جنات ضريبية ومصارف تسيطر عليها نفس الشركات العابرة للقارات السالفة الذكر، بحيث تصبح الأموال المسروقة عبئاً ثقيلاً يتوجب على الأجيال القادمة سداده، و هي التي يصعب عليها استعادة تلك الأموال بعد استيلاء الجهات المودعة فيها عليها بعد موت من يتحكمون بها، وهو ما كان حكاية الكثير من الطغاة النهابين السارقين في غير موضع من أرجاء الأرضين، والكثير منهم كان و ما يزال مشرئباً في العالم العربي.

***

دكتور مصعب قاسم عزاوي

 

في المثقف اليوم