قضايا

تغليب الانتماء الطائفي وتغييب الولاء الوطني

ثامر عباسإعاقة التحول الديمقراطي من المجتمع المدني إلى الطائفية السياسية (2)

بداية نشير إلى أن حالة الانتماء التي يكون عليها الفرد أو الجماعة، لاتستولد بشكل تلقائي الإحساس بغبطة الولاء الذي يمحضانه لهذا الحزب أو تلك الطائفة في لاحق نشاطهما السياسي أو الاجتماعي، برغم إن حقيقة الأول سابقة على الثاني ومتقدمة عليه من منظور أنثروبولوجي محض. إذ إن واقعة الانتماء تعبر عن معطى تأريخي ينسم بطابع الضرورة الاجتماعية / الموضوعية. في حين إن ظاهرة الولاء تعبر عن معطى حضاري يشي بطابع الاختيار الفردي / الذاتي. فالإنسان، وفقا" لذلك، لا يختار طبيعة المجتمع الذي يولد فيه، أو نوع القومية التي ينتمي إليها، أو نمط الدين الذي يؤمن به. بيد إن انخراطه في حزب سياسي أو انتسابه إلى منظمة اجتماعية أو ضلوعه بنشاط جمعية ثقافية، يأتي في سياق اختياره الذاتي ورغبته الشخصية، بعد أن يعتقد / أو يقتنع بأن تلك الأنشطة يمكنها أن تلبي جزء من طموحاته، وتنسجم مع بعض ميوله وتطلعاته. وهذه الحقيقية أعطت للباحث العربي (ناصيف نصار) المسوغ المنطقي لأن يقول في أحد كتبه ما نصه : (إن الفرد، من حيث هو عضو في طائفة، موجود إذن في كيان يحيط به من جميع الجهات. وهذه الاحاطة الشاملة مفروضة عليه بصفة كيانية غير قابلة للنقاش. فهو (الابن) للطائفة كما هو الابن للعائلة). على إن هذا الفصل النظري والتمييز الافتراضي لا يتبغي أن يقودنا إلى تفسير ظاهرة الولاء للوطن أو الأمة، على سبيل المثال، وكأنها تتعارض مع واقعة الانتماء للطائفة أو للعشيرة. فالذي لا يحسن تقدير روابط انتمائه الطائفي أو القبلي، ويدرك حدود كل منهما بالنسبة لعلاقاته الاجتماعية، لا يستطيع أن يثمن قيمة ولائه الوطني ويستشعر أهميته في إطار بلورة هويته السياسية. وبالعكس فان الذي يسهل عليه التفريط بفروض ولائه الوطني والتخلي عن رموز ثوابته، لا يمكن أن يضمر الاحترام لطقوس انتمائه الطائفي أو انتسابه العشائري. هذا من ناحية، أما من الناحية الثانية، فان الحديث عن ضرورات ارتباط الولاء بالوطن وواقيعة الانتماء للطائفة، لايعني إن المشاعر الوطنية تنبعث في وجدان المواطن من العدم بغير مقدمات تتداخل فيها الاعتبارات المادية والمعنوية، للتفصح عن مغزى تعلقه بأصوله العضوية على خلفية رواسب التأريخ والاجتماع والثقافة والدين، باعتبار إن (التماهي مع الطبيعة – كما يقول عالم النفس الأمريكي اريك فروم -  مع العشيرة، مع الدين يعطي الفرد شعورا" بالأمان. فهو ينتمي إلى كلّ منظم، ويشعر بجذوره فيه، ويعرف إن له فيه مكانا" أكيدا". قد يشعر بالجوع والحرمان، ولكن لن يبتلى بأسوأ أنواع الأوجاع وهي العزلة الكلية والشك). كما إن إعلان المرء عن تمسكه بأعراف انتمائه الطائفي وإذعانه للالتزام بها، لايعني التنصل عن الولاء أو التخلي عن ثوابت الهوية السياسية للوطن الواحد.

والواقع إن التجربة التأريخية لمجتمعات العالم الإسلامي بشكل عام ونظيرها العالم العربي على وجه الخصوص، تشير إلى إن هناك مجموعة من العناصر السوسيولوجية والمكونات السيكولوجية، تنتظم فيما بينها – عند حصول الأزمات الاجتماعية الحادة التي تستهدف البنية التحتية للشخصية الوطنية – على وفق آليات معينة من المدخلات القيمية والمخرجات السلوكية، لتشكل معادلة حضارية غاية في التعقيد والحساسية، تتكون أطرافها من مخلفات الانتماء الطائفي وما يترتب عليه من جهة، ومحددات الولاء الوطني وما يستلزمه من جهة أخرى، بحيث إن أي تغيير يطرأ على محمولات هذا الطرف أو ذاك، دون أن يفطن إلى حسابه بدقة ومراقبته بانتباه، فان مردوده السلبي سيكون كارثيا" ليس فقط على سلامة الوحدة الوطنية المجسدة للعلاقات الاجتماعية القائمة على أساس قيم التعايش ومعايير التضايف فحسب، وإنما على توافق الانتماءات الفرعية بكل أنماطها الطائفية والقبلية والأثنية أيضا". لاسيما وان التداخل بين الحدود والاختلاط بين الفواصل بات من الصعوبة بمكان فصلها أو عزلها الواحدة عن الأخرى دون أضرار سياسية ومضاعفات اجتماعية وإشكالات ثقافية.

ولأغراض الدراسة المقارنة يمكننا اتخاذ المجتمع العراقي كحالة عيانية ملموسة، بعد أن أرهقت كيانه الحروب العبثية، ومزقت نسيجه السياسات الهمجية، للقدر الذي لم يكن بوسع منظماته المدنية أن تبادر إلى تأسيس هوية وطنية عامة تكون بمثابة القاعدة / المرجعية لكافة أطيافه وتياراته، وبالتالي تتيح للجميع فرص الارتقاء بوعيهم التقليدي إلى مستوى إدراك ولائهم الوطني الموحد، الأمر الذي دفع بكل فرد عراقي إلى تلمس سبيل خلاصه بنفسه والبحث حقيقة وجوده بمفرده. ولهذا كانت المؤسسات الطائفية والقبلية – برغم عجزها عن بلورة مبدأ المواطنة، فضلا عن تقاطعها مع قيم المجتمع المدني – هي الملاذ الوحيد والملجأ الأخير التي تؤمن له حاجاته المادية كشخص وتعزز ثقته بنفسه كمواطن، مما أستتبع أن تهيمن في وعيه قيم الماضي على قيم الحاضر، وتستبعد هموم الحاضر ازاء انشغالات الماضي. وصار الوضع شبيها" بما وصفه المفكر المغربي (محمد عابد الجابري)

بقوله (في ميكانزم الدفاع تلجئ الذات إلى الماضي وتحتمي به لتؤكد من خلاله وبواسطته شخصيتها، ولذلك يعمد الإنسان إلى تضخيمه وتمجيده ما دام الخطر الخارجي قائما". أما في ميكانزم النهضة فالإنسان لا يطلب الماضي بذاته بل يختزله في (أصول) يعيد إحيائها على صعيد الوعي، بالصورة التي تساعد على تجاوز الماضي والحاضر، على صعيد الوعي كذلك، والانطلاق إلى المستقبل، تفكيرا" وممارسة). ولهذا نجد إن الطائفة أو القبيلة تتحول ببطئ ولكن باستمرار من حاضنة اجتماعية لتلقين القيم الدينية وغرس المبادئ الأخلاقية، إلى مؤسسة سياسية تتطلع نحو السلطة عن طريق تسييس الدين وتوظيف رموزه في السياسة، الأمر الذي يسوقها – كما يقول الكاتب اللبناني جوزيف مغيزل – إلى أن تضع (بين المواطنين وبين الدولة والوطن تبعية وسيطة، هي التبعية الطائفية. لا بل تضع التبعية الطائفية قبل التبعية الوطنية، وبالنتيجة تحل التبعية الطائفية محل التبعية القومية، وبالنهاية يحول ذلك دون بلوغنا كجماعة مستوى الوجدان أو الوعي القومي).

ولأن الولاء الوطني يستلزم – لكي يستوطن عقل المواطن ويمتلك جوارحه – تجاوز النعرات الطائفية وتخفيف حدة خطابها التعبوي، المبني على المفاضلة المناقبية وتغليب المطالب الجزئية على حساب المصالح الكلية، فان الحركة الطائفية لا تملك، بما إنها كذلك، سوى التأكيد على أهمية الانتماء الطائفي والتركيز على خصوصية الهوية الطائفية، عبر إحياء الموروث الديني في المخيال الشعبي باستخدام الرموز والشارات، ناهيك عن التعويل على تأثيرات السير الشخصية والملاحم البطولية التي تحمل مغزى سلطان المقدس وهيبة المتعالي في بنية الوجدان الجمعي لأفراد الطائفة المعنية، مما يمنحها أفضليات ليس فقط القدرة على التمأسس في تجمعات أو منظمات حزبية ذات طابع شبه عسكري يتمتع بمستوى عال من الانضباط ولالتزام فحسب، ولكن أيضا" قوة الشعور بالتواصل والترابط والتوحد إزاء غيرها من الطوائف الأخرى، التي يفترض إنها سيقت إلى ذات المنزع الطائفي لعقلنة أهدافها ومثلنة طروحاتها .

ومع اشتداد أزمة المجتمع المدني، وتآكل مبدأ المواطنة، وانشطار وحدة الهوية، تأخذ العلاقات الطائفية المشحونة بالأضاليل الإيديولوجية والمشوبة بالمغالطات التأريخية، طابعا" يساعد على تغيير المواقف وانقلاب الأدوار. إذ بدلا" من أن تكون الطائفة لبنة أساسية في كيان المجتمع لتماسك وحدته وترابط علاقاته وتعظيم قيمه على الأقل لحين تجاوز محنته وتخطي كبوته، فإذا بها تسهم في نسف أسسه وتصديع مقوماته وتمزيق نسيجه، بحيث يكون السعي باتجاه تغليب الانتماءات الفرعية وتغييب الولاء الوطني هو المثل الأعلى للطائفية السياسية المدججة بأفكار التعصب ضد قيم المجتمع المدني، والتطرف ضد رموزه ومؤسساته، مما يعتبر بمنظور التحول الديمقراطي خطوة نحو الانكفاء والتقهقر.

***

ثامر عباس  

 

في المثقف اليوم