قضايا

وهم العقل العربي وعدم تفرقته بين العلوم الاجتماعية وعلم الفيزياء والرياضيات

قاسم خضير عباسإنَّ  بعض المفكريين العرب في مرحلة السبعينيات والثمانينيات دار بينهم جدلٌ لاختيار أفضل المصطلحين (التكامل، أو الوحدة) من أجل ترشيد (السياسة الاقتصادية العربية)، ونشأت اتجاهات فكرية عديدة حول الموضوع، إلى أن استقرّ الرأي في تلك الفترة على (العمل الاقتصادي العربي المشترك)، الذي حاول التوفيق بين (التعاون العربي) و(الوحدة العربية)، لكنه ظل أمنية بدون تحقيق بسبب السياسات المتخلفة، التي لا ترى إلا مصالحها القطرية، ولا تعتبر التعاون مع الآخرين ذا فائدة!!

والذين أيدوا موضوع (العمل العربي المشترك) رأيناهم قد اعترفوا بصراحة بأنَّ: التنمية الشاملة لابد أن تكون مستقلة ومطردة، تجمع الجميع في إطارها، وتتوجه إلى الجماهير لتؤكد (الشخصية الحضارية العربية القادرة على إيقاظ قوى الإبداع والتجدد في مجتمعاتنا).

لكن هؤلاء بعد اعترافهم بأهمية (الشخصية الحضارية)، لم يستطيعوا أن يبلوروا لنا منهجاً حضارياً أصيلاً مستقلاً، لأنهم ارتبطوا في بحوثهم ودراساتهم بـمنهج الغرب وتصوراته، التي تريد أن تقضي على حضارات الآخرين، وتلتهم ثقافاتهم. وقد أوضح الدكتور (إسماعيل صبري) في كتابه القيّم (في التنمية العربية) حقيقة  وهم الارتباط الفكري بالغرب قائلاً:

(وإن كنا نحن الاقتصاديين في البلدان النامية، كثيراً ما ننسى الإطار التأريخي للعلم الذي ندرسه في جامعات العالم الصناعي أو في كتب أساتذتها فنظن أن لقوانين الاقتصاد ثبات قوانين الفيزياء).

وهذا الاعتقاد الخاطئ وعدم التفريق بين العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وبين علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات، أدى إلى تبني تصورات خاطئة عند البعض، حيث جعلتهم يؤمنون بأنَّ: (النموذج الغربي هو الوحيد للتقدم والتحديث)!!

لهذا فإنَّ (السياسة الاقتصادية العربية) الحالية، إذا أريد لها أن تحقق (تنمية حضارية)، عليها أن تتحرر من تبعيتها الفكرية للغرب، وتفك ارتباطها بسياساته الاقتصادية، لأنَّ ذلك هو الذي يعيق دورها وإبداعها وحركتها، ويجعلها خاضعة لضغوطات (الشركات المتعددة الجنسية)، واستثمارات (الدول الصناعية) الكبرى، وتحكّم (صندوق النقد الدولي) وشروطه، التي ترهق كاهل الدول الفقيرة بفوائد الديون.

وعملية التحرر من التبعية الأجنبية لابد أن يرافقها تغيير كل (السياسات المتغربة) التي أثبتت فشلها، وتبني سياسة تستمد نظمها وقواعدها من مبادئ الإسلام الخالدة. وأي افتراق مع هذا التصور يقود إلى ترسيخ تبعيتنا للغرب، حتى ولو رفعنا شعارات الثورية، والتحرر، وتصفية مخلفات الاستعمار.

كما أنَّ حالة العداء للإسلام عند بعض المفكريين العرب ولمشاريعه الثقافية، يؤدي بالنتيجة إلى تبني قواعد وآليات (المنهج الغربي)، لأنَّ هذا (المنهج) ـ حسب ما عبّر عنه الرسام والمعمار الايطالي (روفائيل بتايي) ـ يعدّ: (ظاهرة ثقافية معينة يقتبس المجتمع أو جزء منه الثقافة التي برزت في الغرب بعد عصر النهضة وتبدل أنظمة الحكم والثورة الصناعية اقتباساً تاماً أو جزئياً).

ومثل هذا التشخيص والتحليل... يكشف طبيعة الإشكالية المعرفية التي يقع فيها العقل الثقافي والسياسي العربي، الذي يؤكد دوماً على إعادة الشخصية الحضارية المميزة للمنطقة، لكنه يحاول من جهة أخرى أن يقضي على ملامح ومقومات هذه الشخصية بتبعيته الثقافية للغرب، واقتباسه للنظم والقيم المتناقضة مع طبيعة المجتمع.

وأعتقد أنَّ مراحل النمو الاقتصادي وفق المنظور الغربي لا تدرك الأسباب الحقيقية للأزمة، التي يمر بها العالم العربي، وكان الأولى للسياسات العربية أن تتجرد عن أفكار الغرب وتصوراته، وتبحث عن حلول داخلية تعالج بها مشاكلنا وتخلفنا، لأنَّ النمو الاقتصادي لابد أن يرتكز في انطلاقته وحركته إلى قواعد وأصول موجودة في المجتمع، وهذا ما نسميه بالترابط الخلاّق بين علم الاقتصاد والعلوم الاجتماعية المتعلقة بنوعية السياسة المطبقة، وطبيعة المجتمع، والتأريخ، وخصوصية الأمة.

***

د. قاسم خضير عباس

كاتب سياسي وخبير القانون الجنائي الدولي والوطني

 

في المثقف اليوم