قضايا

عداء الغرب وتشويه مفاهيم الحضارة الجديدة

ماهر الشمريمحاربة الغرب ومفاهيم الحضارة الحديثة

لقد تمت عملية انسجام ومحاكاة واضحة بين المؤسسات الدينية في العالم عن طريق تحميل المفاهيم والمصطلحات الكبرى للحضارة الجديدة القائمة، كمفهوم الحرية والحداثة والعقلانية والديمقراطية والعلمانية والفردية، من خلال ربط هذه المفاهيم والمصطلحات بمصاديق ضيقة مجتزئة ثم تصديرها وبثها في المجتمعات بهذه الحمولات التي ينفر منها المجتمع الديني بحسب بنيته المؤدلجة من الأساس بهذه الايديولوجية والثقافة الدينية،

فالحرية التي تعني إعطاء الأفراد حقهم في حرية الاختيار بالقبول والرفض ضمن الضوابط القانونية والعرفية التي تتلائم مع المجتمع بما لا يُتعدى بها على حقوق وحريات الاخرين، يفسرها لنا رجل الدين والمؤسسة الدينية على أنها تعني الخلاعة والابتذال ومضاجعة اي امرأة حتى من تحرم عليه دينياً، فيختزلون ذلك المفهوم (الحرية) والحق العظيم للانسان بهذه المصاديق (الجنسية) المبتذلة في ذلك المجتمع بحسب بنيته الثقافية العامة .

ومصطلح العلمانية الذي تتبناه هذه الدول الغربية التي فررنا إليها بأدياننا ومقدساتنا لم يكن يعني في يوم من الايام محاربة الدين عقيدة وطقساً وممارسة (اذا لم تكن عدوانية مخلة بالامن والنظام)، فلماذا صُدِّرت إلى تلك المجتمعات على أن العلمانية كائن مرعب يقتفي أثر الدين والمتدين والاله ليقضي عليهم بمنتهى الخبث والشيطنة ؟!

وهكذا دواليك تأتي المفاهيم العظيمة التي كونت دولا ومجتمعات سليمة وقوية ومنتجة الى عقل المتدين بشكل اما سطحي او مبتذل او يتعارض مع المشروع الإلهي المدّخر لآخر الزمان .

دعونا نتفق اولا على أن أوربا وحدها من دفعت الفاتورة الباهضة لهذه الحداثة والحرية والعقلانية والحضارة الجديدة التي تأسست على هذه المفاهيم، فلا أمريكا ولا الشرق ولا غيرهم من استطاع أن ينقلب على النظام القيصري او الملكي او الكنسي او ما يمكن ان نسمية بالنظام القديم، فمن كوبر نيكوس إلى جردانو برونو المقتول بالتعذيب الكنسي إلى گاليليو گاليلي ثم ديكارت وايمانويل كانت وجون لوك وجورج باركلي وفولتير وروسو ومنتسكيو وهوبز وآخرين كثر قدموا عصارة أفكارهم في سبيل العقل والحرية وكل ما يمكن ان ينتشل هذا العالم من قبضة حراس المعبد ودكتاتورية الحاكم المستبد.

فلو صح تعريف الحضارة الغربية على أنها مجموع الأفكار والنضريات العقلية الإنسانية في القانون والسياسة والاجتماع والآداب والمنهج العلمي وما نتج عن كل ذلك من تحول في مظهر العالم الجديد بعد عصور الظلام التي مرت على أوربا والعالم بأسره، فنحن بهذا التعريف المختزل المتواضع لا يمكن أن نقصد بمصطلح (الحضارة الغربية) كل الغرب بافراده وبما صدر عن الساسة والقادة الغربيين من حروب واجرام ومجازر واستعمار وتجارة عبيد وعنصرية، كما لا يجوز لنا اتهام كل الغرب وحضارته بتلك الجرائم والموبقات.

فكما أن المفكرين والعلماء والمنظرين الأوائل لهذه الحضارة العظيمة كانوا افرادا ارتقت الإنسانية والبشرية بهم، كان هنالك زعماء ومجرمون وطغاة أوقعوا العالم في اتون حروب وكوارث انسانية لا يمكن للمرء الا ادانتها وتجريمها كجرائم هتلر وموسوليني او الاستعمار الأوربي في الشرق وأفريقا الشمالية وغيرها .

واحترازاً عن تساؤلٍ قد ينقدح في ذهن القارئ من ملاحظة الفرق الواضح بين نظرة المجتمع المتدين المسيحي في الغرب وبين المجتمع الديني في الدول الإسلامية للحضارة الغربية وعلمانيتها وحداثتها، نوضح اهم الأسباب التي شكلت هذا التمييز والتفاوت.

اولاً: وجود مشتركات بين الكنيسة واتباعها وبين الفكر العلماني وأتباعه في المجتمع الغربي، من وحدة التا يخ والقوميات والعرق واللغة والثقافة العامة .

ثانياً: اشتراك بعض رجال الكنيسة في عملية التنوير في أوربا ومشاركة الكنيسة في انشاء أولى الجامعات الأوربية، جعلها تحاول التكيف مع الحضارة دون العداء الفج لها بأعتبار ما لها من مشاركة جادة في هذه الحضارة.

ثالثاً: نجاح التجربة العلمانية في أوربا بعد عزل السلطة الكنسية عن السياسة العامة للدولة، جعل الكنيسة غير قادرة على المقاومة وتجييش الاتباع ضد المنجزات للدولة الحديثة وعلمانيتها، مع ثبوت واقع جديد لم يحاول القضاء على الكنيسة بقدر ما حيّدها وعزلها عن السلطة الدنيوية هناك.

هذه الأسباب جعلت نفس المجتمع الأوربي بمتدينيه يرتقي من ناحية الوعي ومنح الثقة للدولة الحديثة والكف عن معاداتها والانخراط في تشييدها وتحصينها وحمايتها بدلا عن ذلك العداء .

وهذا كله لم يكن متاحا للحضارة الغربية والحداثة والعلمانية في واقع الدول العربية او الإسلامية، فلا مشتركات تاريخية او عرقية او قومية او لغوية او ثقافية بين الغرب الأوربي وبين الشرق الديني والإسلامي بشكل خاص، ولا مشاركة لرجل الدين في تلك الحضارة ولا في صياغة مفاهيمها الإساسية من الحرية والعقلانية والفردية والعلمانية والديمقراطية، فلم يكن بمقدور هذه المجتمعات أن تتمثل الحضارة الأوربية ومفاهيمها بشكل طبيعي وسلس، وكان هذا كله مدعاة للمؤسسة الدينية والاسلام السياسي بوجه خاص لوضع اللبنات الاساسية الاولى في تشويه تلك المفاهيم والحضارة الغربية في عقل المجتمع الديني الإسلامي الشرقي، وتصوير كل ذلك على أنه هو العدو الذي يجب أن يحذر منه ويستعد لمقاومته ومحاربته على اي حال او افرازات ذلك العدو.

لقد تم بالفعل تسطيح العقل وتجهيل المجتمع واخذ يستشعر التناقضات بين ما يراه من النتاج الغربي الحضاري الذي لايمكنه انكاره بل يستفيد منه كل آن ولحظة، وبين ما عليه تبنيه من معاداة الغرب ومفاهيم حضارته الجديدة بحسب التلقين والتشكيل الديني والسياسي الديني الذي تشكلت عقليته وشخصيته عليه. فهذا الغرب المتطور في كل المجالات والذي يعالجه وينبّئه عن الفضاء والمجرات وعن كيفية بناء المدن والطرقات ونظم التعليم والمنهج العلمي وطرق إنتاجه وعن دولة القانون والمؤسسات، هو نفسه الغرب الكافر العلماني الذي يريد أن يقضي على الدين وعلى الأسلام والمسلمين .

ومما زاد في الطين بلة وسريان مفعول التجهيل والتسطيح العقلي لدى المجتمع المتدين الشرقي، هي الحركة الاستعمارية التي قامت من الغرب على الشرق من الهند والدول العربية إلى أفريقيا الشمالية كلها، والجرائم البشعة التي قام بها قادة وسياسيون غربيون، حيث قامت الماكنة الاعلامية الشرقية، بألقاء تبعات كل ذلك على كل الغرب وحضارته وعلى تلك المفاهيم الرائعة واتهامها .

فأصبح هتلر والاستعمار كما صوّره الاسلام السياسي والمؤسسة الدينية، هم الممثل الأوحد او الابرز للحضارة الجديدة وللحرية وللعلمانية وغيرها من مفاهيم.

***

ماهر الشمّري

في المثقف اليوم