قضايا

الاضطهاد والمظلومية التاريخية

ماهر الشمريلقد دأب أتباع الاديان التي نعرفها على صناعة ادبيات تتحدث عن الاضطهاد والظلم الذي مورس في حق المؤسسين الأوائل واتباعهم والتركيز على الصبر العظيم في قبال ذلك الاضطهاد في سبيل تثبيت تلك الديانة والعقيدة .

ولسنا هنا في معرض تكذيب اصل تلك الادبيات ونفيها من الأساس، إذ لا سبيل لذلك الإنكار الا من باب التعسف والتّقوّل بلا دليل ولا منطق معقول .

إذ أن من الطبيعي أن تجابه كل الحركات والأفكار المغايرة للسائد الفكري او الديني او الثقافي بشكل عام والذي عليه المجتمع بنوع من التصدي والردع والرفض وعدم القبول، وكلما كان ذلك الأمرالجديد أعظم واخطر كلما كان الردع والرفض بتلك الدرجة المناسبة له حتى يصل الأمر إلى الاضطهاد بأنواعه والذي قد ينتهي بالتعذيب والقتل كما حدث في فترات معينة لاتباع تلك الاديان وقادتهم وانبياءهم .

ولكننا بعد ان تفحصنا ورصدنا ما ورد في تلك الادبيات والتاريخ الذي كتبه أتباع تلك الديانات وبنوع من الرويّة والحذر في تسليم كل ما يقال او يدعى في تلك الاضطهادات، تبين لنا أن تلك الفترات من الاضطهاد والقهر لم تتجاوز الا فترات قليلة ومحدودة جدا، فاليهودية كديانة لم تكن لها أي مشكلة مع الدولة الرومانية الا بعد قيام الثورة اليهودية سنة سبعين ميلادية على يد الإمبراطورية الرومانية، وما يمكن أن يقال عن قبل ذلك فلا عين له ولا أثر تاريخي موثق يمكن الاعتماد عليه .

وأما المسيحية وعصر الشهداء القديسين وما جرى عليهم من اضطهاد وقتل فهو صحيح ولكن ذلك لم يستمر أكثر من سنتين على عهد الإمبراطور (داسيوس) وسبع سنوات على عهد الإمبراطور (دقلديانوس) بعد ان كانوا من المقربين له ومحترمين في دولته حتى كان طبيبه الخاص مسيحياً مؤمناً، كما كان منهم ضباط في جيش الإمبراطورية، ولكن يمكن أن نعتبر الفترة من ٣٠٤م إلى ٣١٣م في عهد دقلديانوس هي الفترة الحقيقية لاضطهادهم ومنعهم من دخول الجيش ومصادرة الأماكن التابعة لهم وقتل القديسين منهم .

وأما في الإسلام فلا يمكن أن نتجاوز السنوات الأخيرة في مكة والتي كتب عنها المسلمون واستفاضوا في وصفها وما تلقاه أتباع النبي من ظلم وقهر واضطهاد حتى وصل إلى القتل بعد التعذيب وثم الهجرة الى الحبشة ثم المدينة، لينتهي بتلك الهجرة الثانية عصر الاضطهاد الذي قد لا يتجاوز السنوات الخمس الأخيرة كما عليه الدكتور هشام جعيط في ثلاثيته القيّمة في (السيرة النبوية)

ونحن بعد تلك القراءة الدقيقة لم نجد في هذه الادبيات الدينية الا كل تضخيم وتهويل ومبالغات واضحة لتلك المظلومية وذلك الاضطهاد . ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة لو قلنا أن أتباع تلك الديانات ومؤسساتها الدينية بعد ذلك قامت بأشد من ذلك الاضطهاد والاقصاء و بشتى انواع القهر ضد نفس اتباعها او الآخر المخالف لها في الدين او المذهب او الفكر.

فمحاكم التفتيش الإسبانية وحرب الثلاثين عاما في أوربا خير دليل على ما ندعي هنا ونقول. كما أن الدولة الإسلامية الأموية او العباسية او العثمانية لم تكن دول سلام ومحبة مع أتباع الديانات الاخرى بعد غزوهم واحتلالهم وأخذ ثرواتهم واستعباد أبناءهم ورجالهم وسبي نساءهم وبيعهن في أسواق المسلمين .

فما يمكننا أن نقوله بعد هذه المقدمة في طبيعة الاضطهاد الذي تعرضت له تلك الاديان وما تم ترسيخه في عقول الاتباع هو في نهاية الأمر لا يعدو كونه مبالغة واضحة لا تعتمد المصداقية والموضوعية بوجه من الأوجه، حتى مع الاعتماد على الكتب التاريخية التي كتبتها اقلام تلك الديانات .

ولو أردنا أن نخرج بحقيقة موضوعية لدراستنا لتلك الاحداث والاضطهادات وما تناولته أقلام الاديان المنتصرة من تعظيم ذلك الاضطهاد، لامكننا من ايجازها في هذه النقاط التالية .

اولاً: كان الاضطهاد والقهر في السنوات الأولى أو في سنوات محدودة وقصيرة حتى تم اعتناق تلك الاديان بشكل واسع وتبنتها دول ترعاها حتى أصبح رأس الإمبراطورية او الدولة من أتباع تلك الديانة.

ثانياً: استعادة التذكير المستمر لذلك الاضطهاد والتركيز عليه في الخطاب الديني كعملية تبرير لاخطاء المؤسسات الدينية وعجزها في مواكبة الواقع ورفد الحضارة القائمة والمشاركة فيها .

ثالثاً: المبالغة والتهويل في تعظيم تلك المظلومية والاضطهاد بما لا يتوافق مع القراءة الموضوعية للأحداث والواقع في ذلك الوقت .

رابعاً: التركيز واستحضار تلك الادبيات التي تتحدث عن تلك المظلومية والاضطهاد، ومحاولة ربطه بالواقع المعاصر من خلال اختلاق أعداء وهميين يمكن أن يتخيله الاتباع كأمتداد طبيعي لذلك الظالم والمضطهد الذي مات قبل الف او الفين سنة .

خامساً: الاستفادة من خطاب المظلومية في تجييش الاتباع والتحذير الدائم من وجود مؤامرات تحاك في الشرق والغرب للقضاء على ذلك الدين المضطهد والمظلوم .

ملاحظة

لعل غيرنا سيفهم شيئا اخرا من قراءة تاريخ هذه الاديان، والمحن التي مرت بها، وله تمام الحق في ذلك، سواء كانت قراءة آيديولوجية لا يستطيع صاحبها الانفكاك منها، أو قراءة موضوعية محايدة من خلال منهجية وادوات واسلوب علمي للخوض في ذلك المضمار الوعر (القراءة الموضوعية لتاريخ الاديان)

اما نحن فنحاول الادلاء بفهمنا كما هو، من خلال هذا المقال وغيره كمحاولة في كشف وايضاح ما تم ستره او خلطه او تهويله او عدم إلقاء الضوء عليه بشكل صحيح كما نعتقد . ونحن بذلك نبذل الوسع في تفسير وتوجيه حركة المجتمعات الدينية ومؤسساتها واتباعها وتفاعلهم مع الواقع المعاش واحداثه .

***

ماهر الشمري

 

في المثقف اليوم