قضايا

في الإنصاف والاعتساف

علاء شدهان القرشيفرقُ ما بين الإنصاف والاعتساف، هو فرقُ ما بين العدل والظلم، والخير والشر، والنفع والضر، والجمال والقبح، والصدق والكذب، والحقيقة والزيف.

فالإنصاف أن تعطي من نفسك النَصَف، وتهب من ضميرك الحق، في لحظةِ حكم، وساعة استحقاق. والاعتساف خلافه، وضدّه، سيرًا على غير هدًى، أو مجانبة للإنصاف بعلمٍ، وتدبيرٍ، ومكايدةٍ.

وتحرّي الإنصاف صعبٌ، وطلب الاعتساف سهلٌ، لأنَّ في الأول جهد التحقيق، ومشقّة التوثيق، وإجالة الخواطر في تحليل الظواهر، أو إعمال الفكر، وإعادة النظر، مرة بعد مرة، طلبًا للتماسك في القول، والانسجام في مضمون النصّ، ومدلولاته، وانتقالاته المنطقية، ولوازمه العقلية التي الضرورة تقتضيها، بين عبارةٍ وعبارةٍ، وقضيةٍ وأخرى متولدة عنها.

والثاني، لا يتطلب من ذلك شيئًا، فلا إجالة فكرٍ، ولا إطالة نظرٍ، تشغل الكاتب بقدر انهماكه في ترقيم سطوره، أو تلميع جُـمَلِه، أو نشر نصوصه.

في الاعتساف، لا يريد الكاتب إرهاق ذهنه بشيء أكثر من تفكيره بمنصّات النشر، وشكل الانتشار وإذاعة النصّ الذي اهتم بشكله لا بمضمونه. وللأشكال تأثيرها الخاطف، لا سيما إذا كان الكاتب خبيرًا بأساليب الإقناع، وطرق الخداع، بعلمٍ أو دون علمٍ.

وأقول: «دون علم» وأقصد ذلك حقًّا، وأعنيه صدقًا، لأنَّه، أحياناً، يكون قاصرًا في نشأته العلمية، وتعليمه الدراسي، وتثقيفه الذاتي، ومستواه الذهني، ولا يبعد ذلك في أكاديميات الشرق الأوسط، لأنَّ مشكلها الأساس هو مناهج التعليم والتربية، منذ دور الحضانة ورياض الأطفال، إلى كتابة رسائل الدكتوراه في جامعاتها.

ولكن في الإنصاف لذّة دونها لذّة الانتشار، ونشوة يتمنّاها، لو جرّبها، الملوك وأبناء الملوك. وللاعتساف خفّة تعتري الجاهل، سرعان ما تحرق جوانحه، من حيث لا يشعر، فتضيق عليه الدنيا، فيفرغ همه سُمًّا ذعافًا، وقولًا جُزافًا، دائمًا وفي كلّ مرة.

وما أحوجنا إلى الإنصاف، وما أغنانا عن الاعتساف، في فترة ربما تكون أحرج برهةٍ تمرُّ بها بلادنا العربية، تصرخ فينا، وتعتب علينا، عتب الأم الرؤوم. ما أحوجنا إلى إنصاف غيرنا من أنفسنا، ونبذ أحقادنا، وغلق أبواب الذرائع التي الخداع آلتها، والتمويه طريقها، والوهم مبررها.

للنصّ المنصف تأثيرٌ بالغٌ في النفس، لا يزول، ينطبع فيها نقشًا على حجر، ويرتسم بها لونًا مشرقًا، لا تغيـّره الليالي والأيام، ولا ينفكّ يُـحْدِث فيها تغييرًا يلمس الآخرون أثرَه نموًا، وتطورًا، ووعيًا.

وللنص الـمُعْتسِف تأثيره الشنيع، بالضدّ من النصوص المنصفة، هدمًا، وتخريبًا، وتجهيلًا. لهذا وذاك، لا يكون الاعتساف إلا من كاتب أراح نفسه، ولا يكون الإنصاف إلا من كاتب أتعبه التفكير المسبق، وأضناه حديث النفس، وأرهقه فائض المعنى.

***

علاء شدهان القرشي

في المثقف اليوم