قضايا

مفاعيل اتفاقات تحرير التجارة العالمية

مصعب قاسم عزاويمن الناحية الأساسية فإن جل اتفاقات تحرير التجارة العالمية تقوم على مبدأ أساسي يتمثل في إلغاء الحواجز الحمائية التي يمكن أن تفرضها مجتمعات بعينها من خلال سلطات دولها السيادية لحماية منتجاتها المحلية من الاندثار لعدم قدرة منافستها لمنتجات مماثلة لها يتم إنتاجها في مجتمعات ودول أخرى بتكلفة أقل سواء بسبب مستوى الكفاءة الإنتاجية في تلك الدول، أو بسبب دعم تلك الدول لمنتجي تلك المنتجات بشكل مباشر مالياً، أو عبر إجراءات غير مباشرة من قبيل التخفيضات الضريبية وتسهيلات أخرى تنتج نفس مفعول الدعم المالي المباشر في المآل الأخير.

ويهدف ذلك العنوان العريض لاتفاقات تحرير التجارة «من الناحية النظرية» إلى تعزيز التجارة البينية والتبادل التجاري بين الدول، والذي لا بد أن يفضي «بحسب رأي منظري تحرير التجارة العالمية»، والمنافحين عن اتفاقياتها إلى زيادة معدلات النمو والثروة في المجتمعات المساهمة في عملية التجارة البينية بعد إلغاء الحواجز الحمائية فيما بينها.

وذلك التوصيف الأخير لرؤية أنصار اتفاقيات تحرير التجارة العالمية ينطوي على عنصري عوار مضمرين يحاول كل المنافحون عن تلك الاتفاقيات التعامي عنهما، أول ذينك العنصرين يتمثل في أن تحرير التجارة وفق تلك الاتفاقيات يقوم بين أطراف غير متوازية في مستوى النمو الاقتصادي والبنية التحتية الإنتاجية، وخاصة التصنيعية؛ وهو ما يعني أن مجتمعات الأثرياء الأقوياء في العالم الصناعي المتقدم لن تخشى على صناعاتها المتقدمة، والمستندة إلى تنظيم عالٍ وأتمتة معقدة تجعل من كلف الإنتاج حتى لأبسط المنتجات أقل كلفة في العالم الصناعي المتقدم مما هو عليه في معظم الدول النامية التي لا تمتلك تلك الإمكانيات لتخفيض نفقات إنتاجها. و يمكن إيراد أمثلة كثيرة لتوضيح التوصيف الأخير، و التي قد يكون أكثرها جلاءً صناعات الصلب والمعدات الثقيلة، والتي تمثل عماد التنمية الحضرية في المجتمعات النامية والمتقدمة على حد سواء، فمن الناحية النظرية يمكن لأي دولة نامية أن تشرع بإنتاج ما تحتاجه من صلب ومعدات ثقيلة لتنافس بها في السوق العالمية، ولكن الواقع العياني المشخص يخالف ذلك إذ أن جل المجتمعات النامية لا تمتلك أي بنية تحتية إنتاجية ولا خبرات بشرية كافية لإنتاج معدات ثقيلة وصلب بأي مستوى من الكفاءة الإنتاجية يمكنها من المنافسة في سوق العرض والطلب المحلي حينما يتم عرض منتجات مجتمعات الأقوياء الأثرياء بأسعار في معظم الأحيان تكون أقل من تكلفة إنتاج تلك المنتجات محلياً، وهو ما سوف يعني عملياً اندثار جل فرص التنمية الإنتاجية المحلية سوى في الحقول التي يوافق الأثرياء الأقوياء على تركها حصة للمجتمعات النامية؛ وهو ما يتجلى عالمياً في الواقع الإنتاجي المؤوف الذي ترى فيه الكثير من الدول النامية، ومن ضمنها كل الدول العربية، محصورة في إنتاج المواد الأولية التي يوافق الأقوياء الأثرياء على تخصصهم بإنتاجها، ليقوموا بأخذها بأسعار بخسة وشبه مجانية في معظم الأحوال، ومن ثم تصنيعها في بلدانهم، ومن ثم إعادة توريدها إلى المجتمعات النامية لتصريفها فيها، وإرغام أبنائها على استهلاكها بقوة «اتفاقات تحرير التجارة العالمية» عينها.

وعنصر العوار الثاني الذي لا بد من الإشارة إليه يتمثل في إعلان أن تحرير التجارة لا بد أن يفضي إلى زيادة الثروة ومعدلات النمو في المجتمعات المتآثرة تجارياً فيما بينها، وهو إعلان ينطوي على الكثير من المخاتلة والتورية لحقيقة ذلك «النمو الاقتصادي» الظني الذي لا بد من تحققه. والحقيقة أن هناك زيادة في معدلات النمو الاقتصادي في جل المجتمعات المنخرطة في ركاب اتفاقات تحرير التجارة العالمية سواء على المستوى الكوني أو الإقليمي، ممثلاً بزيادة معدلات الناتج الوطني الكلي Gross Domestic Product، وهي زيادات رقمية تخفي في طياتها سؤالاً مهماً عن انعكاس تلك الأرقام في تحسن مستويات حيوات أبناء المجتمعات النامية في أكلهم وشربهم وصحتهم وتعليم أبنائهم، والجواب الصارخ على ذلك السؤال هو «لا قاطعة جازمة»، إذ أن جميع منحنيات زيادة معدلات النمو مقاسة بزيادة معدلات الناتج الوطني الكلي في المجتمعات النامية، ترافقت دائماً مع تقهقر في معدلات نمو الاقتصاد الصغري Microeconomics، التي تعكس واقع حيوات البشر المعاشة يومياً، والتي قد يكون أهمها زيادة في معدلات الفقر، والبطالة، والأمية، والمرض، ومستوى التغذية، كناتج طبيعي لإرغام أبناء تلك المجتمعات على العمل في اقتصادات محلية قائمة على استخراج الثروات الطبيعية، أو إنتاج المواد الأولية وتصديرها إلى مجتمعات الأقوياء الأثرياء بأسعار بخسة، ومن ثم الاضطرار إلى العمل في أسوأ الظروف و في كل أيام الأسبوع ولساعات لا تنتهي يومياً، من أجل سداد تكاليف شراء منتجات مجتمعات الأقوياء الأثرياء التي يحددون سعرها بالشكل الذي يلائمهم، حتى لو كان ذلك يعني موات الكثير من الفقراء في سبيل الحصول عليها،؛ وقد تكون أدوية مرضى نقص المناعة المكتسب، وأدوية مرض السرطان الحديثة، وخاصة البيولوجية منها، والسيارات وحافلات النقل أحدث أكثر الأمثلة وصفية عن بؤس وشواه تلك العلاقة التي لا تستقيم بين مجتمعات صناعية متقدمة تنادي بتحرير التجارة على المستوى الكوني بعد أن تمكنت من تنمية صناعاتها المحلية على حساب سرقة المجتمعات التي استعمرتها وهشمتها سابقاً، وبقوة عمل من استعبدتهم من أبنائها، وبشكل يمنع أحفاد أولئك الأخيرين في مجتمعاتهم المنهوبة من تحقيق أي نمو حقيقي في مجتمعاتهم يتجاوز حيز العمل بشكل سرمدي بكرة وعشياً لخدمة مستعمريهم القدماء، عبر استخراج الثروات الباطنية وإنتاج المواد الأولية التي يحتاجونها لاستدامة ثرائهم «القائم على الباطل تكوينياً وتاريخياً»، وليس سوى ذلك.

ولا بد في هذا السياق من الإشارة إلى حقيقة أن هناك مظهراً موازياً لتسيد اتفاقات تحرير التجارة العالمية المشهد الاقتصادي العالمي يتمثل في زيادة التقاطب في معدلات الثروة في المجتمعات النامية بشكل فاقع مشخصاً بزيادة ثروات حفنة قليلة من الأفراد من مجموع أبناء تلك المجتمعات، وهم الأفراد الذين يقومون بمهمة السهر على الحفاظ على ذلك التوازن الأشوه في ميدان الإنتاج على المستوى المجتمعي، عبر التحول إلى نواطير يقومون بمهمة إدارة مصالح الأثرياء الأقوياء كمدراء ووسطاء ووكلاء في المجتمعات النامية، أو أدوات لترسيخ هيمنة الأقوياء الأثرياء على مفاتيح إدارة علاقتهم المختلة مع المجتمعات النامية من خلال عملائهم واستطالاتهم المشخصة بأجهزة الاستبداد والقمع بالحديد والنار لمن قد تسول له نفسه «الأمارة بالانعتاق» التفكر «بالانقلاب» على ذلك الواقع الأشوه المؤوف.

وقد يخامر خلد المتلقي بأن التوصيف السابق قد لا ينطبق كلياً على الصين، والتي أصبحت موئل جل الإنتاج التصنيعي على المستوى العالمي، وذلك صحيح بالنسبة لجل الصناعات سوى تلك المتقدمة من قبيل المعالجات الحاسوبية وصناعات التقانات الحيوية التي لا تزال محتكرة بشكل شبه مطلق بيد مجتمعات الأثرياء الأقوياء في دول الشمال الصناعي المتقدم. والحقيقة الكامنة وراء الحالة الخاصة للصين تتمثل في تحويل نفسها من خلال تبنيها لإيدلوجية «اشتراكية السوق» التي تحاول خلط «الزيت بالماء»، واستخدام شرور الدولة الشمولية فيها وأدواتها القمعية الجلمودية لتسخير قوة عمل أبنائها المظلومين لخدمة  مؤسسات إنتاجية لا تعود «القيمة الفائضة» من عملهم إلى تلك المؤسسات التي يعملون بها أو إلى مجتمعاتهم، وإنما إلى الشركات العابرة للقارات التي تقيم الغالبية المطلقة من مالكي أسهم إدارتها في دول الشمال الغني؛ ومثالها الأكثر نصاعة هواتف شركة آبل الأمريكية التي يتم تصنيعها في الصين مثلاً، دون أن يعود أكثر من 10% من ثمن تلك الهواتف لكل الشركات التي ساهمت في إنتاج تلك الهواتف، وبحيث تعود حصة الأسد بنسبة لا تقل عن 90% إلى شركة آبل Apple الأم التي تقوم بتهريب أرباحها إلى جنات ضريبية في غير موضع من الكرة الأرضية، ولا تدفع عنها أي ضرائب في أي مكان من أرجاء الأرضين، لتزيد من ثرواتها الفلكية بشكل مضطرد يصعب على أي عاقل استبطان أي «أخلاقية أو عدالة» في طياته.

وقد يكون المدخل الأجدى في تفهم آلية عمل اتفاقيات تحرير التجارة العالمية، استعادة المنهج الفكري المؤسس لها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي الولايات المتحدة أساساً، والتي كانت تهدف إلى استئصال ما دعته «فلسفة الوطنية الجديدة» The Philosophy of New Nationalism، والتي فحواها «بأن أبناء الشعوب النامية لا بد أن يكونوا المستفيدين الأساسيين من ثروات و قدرات مجتمعهم»، وهو ما استوجب حله على الطريقة الأمريكية بإرغام أبناء المجتمعات النامية على «تحرير التجارة»، وتحويل اقتصاداتهم إلى «متممة وتكميلية» لاقتصادات الأثرياء الأغنياء بحيث يعمل فقراء المجتمعات النامية لخدمة وتعظيم ثروة المجتمعات الصناعية المتقدمة، ملتزمين دائماً وأبداً بذلك الدور الذي لا محيد عنه بقوة مفاعيل اتفاقيات تحرير التجارة العالمية وما كان على شاكلتها.

****

دكتور مصعب قاسم عزاوي

 

في المثقف اليوم