قضايا

الدين والنفس والسلوك!!

صادق السامرائيالأديان في جوهر رسالاتها تتوجه نحو النفس الأمّارة بالسوء، وتجاهد لتهذيبها والإرتقاء بها إلى آفاق النفس الإنسانية المعطرة بأريج النفحات السماوية السامية العبقة الضَوْع، الفوّاحة بالطهر والصفاء والنقاء.

وهذه المنطلقات تشترك بها الأديان، ويميزها عن بعضها أساليب المواجهة والكدح وكيفيات القبض على نوازعها ورغباتها التي تسمى شيطانية، أي ذات درجة عالية من الشر وأدواته للإنقضاض على الخير.

وعندما نأتي للإسلام نجد القرآن أورد العديد من الآيات الموضِّحة لمعنى النفس وماهيتها، والإقترابات الفاعلة لتهذيبها والأخذ بها إلى مستويات إدراكية علوية، ذات إشعاعات نورانية وتأثيرات سلوكية راضية مرضية.

ومنها:

"وفي أنفسكم ألا تبصرون"

"يا أيها الناس إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة...."

"ونفس وما سواها..."

"...إن النفس لأمّارة بالسوء..."

"...ولا أقسم بالنفس اللوّامة..."

"...يا أيتها النفس المطمئنة..."

ويمكن الإسترسال بإستحضار الآيات التي تناولت النفس من عدة زوايا، وقدمت بمجموعها صورة كاملة عن المحتوى الإنساني وديناميكيات السلوك الفاعل القائم بين البشر منذ الأزل.

فالقوانين السلوكية ثابتة، ومتأثرة بالظروف المكانية والزمانية، التي تتسبب بتطويعها وتحويرها، لكي تتوافق مع إرادة البقاء والتواصل فوق التراب.

وأول إشراقة إدراكية، تشبه الصرخة المدوية في آفاق الأعماق البشرية : "...وألهمها فجورها وتقواها"

فقدمها على أنها خليط من المتناقضات التي تتجانس ولا تتجانس، وينجم عن هذا التفاعل قوانين متنوعة تسمى نظريات توصل إليها علماء النفوس والعقول، بعد أن نطق بها القرآن، وأطلق فحواها العلماء المسلمون، وأسسوا ملحمة الحضارة الإنسانية الدفاقة بالإنبثاقات المعرفية الأصيلة، المعبّرة عن الفهم الأصدق لمعاني الخلجات النفسية المتموجة في دياجيرها الصاخبة الجريان في وهاد غياهب البعيد.

فالعديد من النظريات النفسية لها أساس من الآيات، التي تقدم ذكرها، فالتنافر الذهني التوافقي،  نظرية جاء بها (ليون فيستنجر) عام 1957 تؤكد ميل البشر للتبرير وتسويغ ما يقوم به من أفعال تتناقض وما يؤمن به ويعتقده ويراه، فيستحضر ما يجعل الفعل المناهض لمعتقده متوائما ومنسجما معه!!

وتأملوا (فجورها وتقواها)، وهي تشير إلى أن النفس تكنز متناقضات وعندها القدرة على التوفيق بينها.

ولو قارنا بعض النظريات النفسية التي نحسبها حديثة، لتبين أن هناك آيات تشير إليها، وأن القرآن قد غاص بأعمق ما يمكن الغوص في بواطن النفس وتجلياتها، وأغفلنا ذلك، وإنشغلنا بعبثية متكررة بالبحث عن ماهية النفس وكأنها متخيلة وخارجة عن إدراكنا، وهي مسطورة في كتابنا.

ولا توجد بحوث ودراسات تقارن بين النظريات النفسية وما جاء في الآيات القرآنية، وينعدم النشاط الترويحي الإرشادي النفسي في الجوامع والمساجد ومراكز العبادة، بعكس الديانات الأخرى التي تهتم بالإقترابات النفسية الدينية من الناس، وتتفاعل معهم في أوقاتهم الصعبة.

ومن المعروف أن المهتمين بالدين يجب أن يكونوا من العارفين بأعماق النفوس، وكذلك الشعراء فهم القادرون على قراءة كتاب نفس البشر.

والتدين سلوك وعي النفس، لأن الرب ينظر إلى النفس ويعلم ما فيها، فالفهم النفسي من ركائز الإيمان السليم، ولهذا فأن الأمية النفسية الفاعلة في المجتمعات من أهم أسباب تدني الوعي الديني، وفقدان الدين لطاقة العمل وتنامي التخندق في أوعية الأقوال الفارغة.

فلو كانت النفوس صادقة، ومعروفة للشخص المعتقد بدين لتهذبت آليات التفاعلات بين البشر، فكلما عرفنا أكثر عن طبائع النفوس إستطعنا أن نكون أقوى وأقدر، وأكثر قربا من الإيمان، ونترجم إيماننا بالعمل المتوافق مع ما ندرك.

ومن هنا فأن نشاطات التوعية النفسية لها تطلعات إيمانية، وهي مجاهَدة إنسانية تزيدنا قربا من عرش الرحمن الرحيم، ويمكن القول أن الإجتهاد بفهم النفس ونشر الوعي النفسي في المجتمع له قيمة إيمانية، وقدرة على محاصرة النفس الأمّارة بالسوء وردعها، وحماية المجتمع من شرورها وآثارها الوحشية الخطيرة.

وعليه فأن التعبير النفسي المخلص من صدق الإيمان، وهو قوة ذات معطيات إيجابية تبني إرادة مجتمعية صالحة للحياة الطيبة الرحيمة.

فالجهاد الحقيقي نفسي الطباع والتوجهات، والإرادة البشرية عليها أن تتوجه نحو النفس الأمّارة بالسوء المسببة للتفاعلات السلبية بين الناس.

وها هي تتأسد في بعض المجتمعات وتكشر عن أنيابها، وتتأهب لنشب مخالبها في فرائس تتحين الفرص للإنقضاض عليها.

والشعوب القوية تبني سبائك أعماقها النفسية، وتصونها من التدمير والخراب، والشعوب الضعيفة تطلق العنان للنفس الساعية لتأمين إرادة الغاب والعذاب.

وإذا تحدثنا عن التحليل النفسي، فعلينا أن ننطلق من أصلنا المعرفي  الإدراكي البعيد عن نظريات الآخرين، فتراثنا يكنز ما لم يخطر على بال غيرنا من الرؤى والنظريات، والتصورات المنبثقة من الفهم الأعمق للآيات القرأنية الشارحة لمفردات وعناصر النفس وطينتها، ومكوناتها الترابية.

فما عندنا أغنى وأثرى مما عند الآخرين، الذين يشترون منا ويبيعون علينا، وكأننا بلا جذور ولا أنوار كالبدور.

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم