قضايا

التَّطَرُّفُ الدِّينِيُّ مِن الاستِهْدافِ إلى الاحتِواءِ

بليغ حمدي اسماعيللأنها ليست الأكثر غموضاً فهي سريعة السقوط وقليلة الصمود إزاء إحداثيات الوطن، هكذا يمكن توصيف حال ومقام تيارات الإسلام السياسي أو الجماعات السيسيودينية التي اعتلت صدارة المشهد السياسي في الشرق الأوسط تحديدا منذ استقرار نظرية الفوضى الخلاقة أمريكية التصنيع والتعليب والتي تجسدت بوضوح فيما عُرف بثورات الربيع العربي وإن كانت أسوأ خريف يمر بالمنطقة كلها، وهي في حقيقة التأويل السياسي لم تخرج عن فلك الانتفاضات الشعبية غير المنظمة، وبرغم أن الصورة الإعلامية التي صورت تلك التيارات السياسية التي استهدفت جمهورها من بوابة الفقر الديني لديهم انحصرت في كونها تيارات سرية وغامضة مما يعتقد الكثيرون أنهم الأكثر حراكا وقدرة على التنظيم والاستهداف المباشر، إلا أن الحقيقة النفسية لتلك التيارات لا تؤكد ذلك أو تشير إليه من قريب أو بعيد.

فالمستقرئ لحركات الإسلام السياسي منذ اشتعال الفكر الوهابي في شبه الجزيرة العربية مرورا بالحركات المزجية بين الدين والسياسي في مصر وسوريا والعراق وتونس، يدرك أن هذه الفرق بعيدة تمام البعد عن تطوير الاستخدام السياسي مما جعلها أكثر سطحية ومباشرة لا غموضاً وسرية ويكفي تحركات ما بعد ثورة يونيو في مصر 2013 لتكون خير شاهدة على افتقار هذه الفصائل والحركات إلى سرية التكوين والتنفيذ. لكن ظل الغموض فقط مصاحباً لسير المؤسسين لهذه التيارات، فمن بالغ الصعوبة أن تجد سيرة لهؤلاء الذين صاغوا حركاتهم سيرا بأقلام غير المريدين لهم، بل إن قصص حيواتهم تظل رهن الاستقطاب التمييزي ولا تقترب إلى حد المكاشفة التاريخية رغم وجودهم التاريخي.

وكون هذه الحركات لا تفكر في تطوير المصطلح السياسي لديها فهي الأقرب إلى الجمود منه إلى الفعالية والنشاط حتى وإن كانت قادرة على التحشيد، لكن الشهود الحضاري يفي بأنها على علاقة مستدامة بفكرة الامتلاء السياسي ومن ثم الاكتفاء الفقهي ووجود مرجعية ثابتة لا تعرف للاختلاف سبيلاً ولا تفطن للتعددية طريقا.

وهذا الامتلاء السياسي هو الدافع الحقيقي وراء معظم أفكار تيارات وحركات الإسلام السياسي، وهذه الأفكار شكلت منظومة أيديولوجية يمكن توصيفها في ملامح محددة، منها ضرورة التغيير الشامل وليس التطوير الجزئي، ورغم ما يشاع عن تيارات الإسلام السياسي ومنها جماعة الإخوان بأنها تسير بخطى وئيدة حتى تحقيق أهدافها فإنها بالفعل حركات تفتقد حيلة ومزية الصبر، كما تفتقد فضيلة التواضع لأن أبرز عوامل سقوط الجماعة سياسيا هو الاستعلاء السياسي الذي مورس على قطاعات عريضة من الشعب. وظل الاستعلاء كسمة مصاحبة لتيارات الإسلام السياسي في نمائه حتى أصيب بحالة من التضخم الذاتي للقيمة مما دفعها جميعاً إلى عدم الاكتراث بأية تنظيمات أخرى.

وليس من المنطق أن تحدث تغييرا شاملاً إلا إذا كنت نبياً يوحى إليك ولست بشراً عادياً ربما لا تمتك قدرات استثنائية، لكن هاجس التغيير الشامل ظل وسيظل محركاً لكافة الممارسات السياسية لتلك الجماعات دون أدنى اعتبار لوقع الشارع وأدائه.

ومن ملامح الأيديولوجية أيضاً استخدام خطاب المظلوم سياسيا والذي يعاني دوما الإقصاء عن المشاركة الدينية أو السياسية وربما انتفاء الذوبان المجتمعي اللهم سوى الذوبان داخل التنظيمات الخاصة فقط، مما أدى إلى استسلام المنتمين إلى تلك الحركات إلى نهايات التهميش والاضطهاد من قبل طبقات المجتمع، لذلك لم يكن عجباً أن تسعى جماعة الإخوان في مصر إلى تهميش الجميع حينما وصلوا إلى سدة الحكم وهو ما أطلق عليه آنذاك أخونة مفاصل الدولة.

وتلك الحالة الاضطهادية التي لا تزال محل شعور الجماعة أو التيارات التي اقتحمت العمل السياسي من بوابة الدين واستهداف فقر المواطن دينيا ومعرفيا جعلت المنتمي إليها يرى المجتمع منحرفاً عن الوجهة الصحيحة التي تلقى تعاليمها أو مواصفاتها في نفس الوقت الذي تتنامى لديه عقدة الشعور بالظلم مما يجعله حاكماً على مجتمعه بالكفر، وفي كثير من الأحايين يرى وجوب محاربة العدو القريب بدلاً من أعداء الخارج وهو ما نراه واضحاً في حالتي الجماعة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

وهذا ما وجدناه رأي العين في كتاب "الفريضة الغائبة" حينما نطالع قولاً يرى أن قتال العدو القريب داخل الوطن أولى من قتال العدو البعيد، وإذا استرجعنا وعي هؤلاء بذواتهم المضطهدة من وجهة نظرهم والمهمشة بفضل ممارسات الأنظمة السياسية التي لم تر نفعاً في دمج هذه التيارات داخل سياق المجتمع، نكتشف مشاهد الثأر المستدامة صوب بعض الفئات كالقضاء والشرطة وأخيرا الجيش، وهذه المشاهد نراها متأصلة في تاريخ الجماعات التي وصفت مؤخرا بالإرهابية.

والثأر كسمة تعد ملمحاً مهماً ونحن بصدد تحليل الحالة النفسية لتيارات الإسلام السياسي، لأن موقف الثأر الدائم يفرض على تلك الجماعات وجود حالة من التعبئة الدائمة للصراع مع السلطة والذي انتقل مؤخراً بفضل البلادة السياسية لهذه الفصائل إلى الصراع مع كل فئات المجتمع الرافضة لوجودها نظراً لأعمال العنف والإرهاب وترويع الآمنين.

وربما أساتذتنا من علماء النفس الذين غرقوا حتى آذانهم في أوراقهم التي لا تخص سواهم غفلوا عن حقيقة تصل إلى تمام الشهود الحضاري وهي سيطرة اللاوقعي على فكر وسلوك تلك التيارات والفصائل السيسيودينية. وسيطرة اللاوقعي تعني أنهم فقدوا السيطرة في التمييز بين السلطة كنظام سياسي حاكم وبين المواطنين كأفراد مستقلين يشكلون المجتمع الكبير. فرأينا حوادث القتل في الشوارع وتدمير بعض البنايات وحوادث الترويع وإشاعة الخوف من تفجيرات قادمة مرتقبة الأمر الذي يدعو إلى مزيد من الدراسات السيكولوجية لطبيعة شخصيات المنتمين لتلك الفصائل.

وبسبب سيطرة اللاوقعي على فكر تنظيمات الإسلام السياسي كانت الدعوة إلى إحياء فكرة الخلافة، والانفصال عن الوطن وقضاياه ومشكلاته الاجتماعية والاقتصادية وغلق فكر الاجتهاد إلى منتهى غير معلوم، وبات الأمر في البداية شركاً أوقع الكثير من البسطاء في فخاخه وأوكاره، لاسيما أولئك الذين استمرأوا ثقافة الاستماع دون اكتراث بفعل القراءة والتأويل وتحليل المعطيات. ورغم طموحات المغامرين بفكر الخلافة إلا أنهم سقطوا وطنياً حينما سقطت دولتهم بإرادة وثورة شعبية في يونيو الأحمر فتخلوا عن مزاعم تحرير القدس من الغاشم الصهيوني وتحولت فكرة الثوار والأحرار المجاهدين صوب القدس لتحريره إلى حرب غير واعية من الدولة والمواطنين في الداخل.

وربما لم تدرك تلك الفصائل الحراك السياسي التركي نحوها ومدى الاهتمام المدهش في رصد أنشطتها الليلية في منتديات الرأي أو مظاهرات الجامعة وطرقات القرى المصرية، لكن ثمة أسئلة ربما تفضح هذا الحراك، منها لماذا لم تتحرك تركيا بنفسها وتعلن مزاعم عودة الخلافة المنشودة وتذهب مباشرة تجاه إسرائيل لتخليص القدس من براثنها ومخالبها ومخططاتها الخبيثة ؟.

ولماذا تأخرت تركيا كل هذا الوقت في مساندة حليف يحمل نفس الحلم القديم وهو الخلافة وانتظرت حتى بزوغ تيارات الإسلام السياسي في مصر؟.

ويظل تساؤل آخر يبدو مهماً وهو أن تركيا التي تلهث وراء ترويج منتجات الشرعية وتحالف القوى الوطنية هي نفسها التي تؤكد ليل نهار أنها استحالت حضنا هادئاً وناعماً للعلمانية، وأنها لن ترجع خطوة واحدة مرة أخرى للوراء؟ لكن مشكلة تيارات السيسيو دينية أنها لم تعي إلى مشاهد المباحثات الأمريكية التركية أو التركية الصهيونية، وربما هذا المشهد يدرج أيضاً تحت السمات المميزة لتيارات الإسلام السياسي ألا وهو الغفلة !.

ومن الأكثر دهشة وإثارة غبطة المنتمين لتيارات الإسلام السياسي لاسيما الجماعات المتطرفة منها إلى الأخبار التي تفيد وقوع كارثة أو مصيبة بشأن المخالف لها في العقيدة أولا، أو في الأيديولوجية الفكرية ثانيا ؛ ولهم أقول مجددا هل مثل هذه الأخبار أعزت إسلامكم ؟ بالقطع لا، وهل مثل هذا الانحلال والانفلات الأخلاقي والقيمي أودى بمتطرفي تنظيم داعش في العراق لكي يقدموا للعالم صورة إنسانية للإسلام ؟ الجواب يأتي بالنفي أيضاً، وفى صباح الأول من سبتمبر 2009 وجد العاملون بكنيسة المسيح المقدس بأوكلاهوما، جثة الراهبة "كارول دانيالز" العارية، وممدودة على شكل صليب، وظنت الشرطة وقتها أن ملابس الجثة أزيلت لإخفاء دليل الإدانة، وقد ماتت إثر رش مادة كيميائية على جسدها لتدمير أدلة الحمض النووى فى مسرح الجريمة، ويعتقد أنها تعاركت مع قاتلها ولم تستلم بسهولة، وقيدت القضية ضد مجهول.

كل هذه الحوادث المثيرة وكفيلة بتحقيق انتصار مؤقت لدى المتطرفين دينياً المرابطين على الشاطئ الآخر، ولو أفردت حديثاً عن مثالب الحكام المسلمين الذين سموا أنفسهم بالخلفاء أولئك الذين حكموا مصر وغيرها من الأمصار في الدولة الفاطمية والأيوبية والإخشيدية لما انتهينا ولا انتهت صفحات الكتابة، لكن القضية التي أركز عليها هنا في حدود مساحة المقال أن أنا دوما في مواجهة حربية مع الآخر، دون أن يكترث هو بالبناء والتعمير وإنشاء حضارته وتحقيق إنسانيته، وكم من مرة سمعت من بعض أولئك المتطرفين عبارة مفادها أن المخالف في العقيدة (يستاهل اللي بيجرى ليه) ولم أرى في تراثنا الإسلامي الصائب والقويم والبعيد عن التحريف والتصحيف وخزعبلات المتهوكين ما يفيد تلك الشماتة وهذا الإغراق في الوحشية.

مشكلتنا الإنسانية هي بحق ليست في الدين، وليست في المخالفين لعقائدنا نحن، إنما تكمن في فهمنا للدين وقواعده وإدراك حجم السماحة المطلقة لقبول الآخر هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان موضوع مقالي السابق عن التنوع الثقافي الذي بالضرورة يرتبط بالإنسانية المحضة وهي الجانب الذي نحتفظ به اسما فقط دون الصفة، لأننا بالفعل غابت عنا الإنسانية بقيمها وأفعالها الحميدة وطفقنا نتفاخر بالكوارث التي تقع للآخرين وكأننا بذلك حققنا انتصاراً يفوق عبورنا لقناة السويس وقت حرب أكتوبر المجيدة، وليتنا أفلحنا في تحقيق إرادتنا وعبرنا صوب الإنسانية.

وهذه الإنسانية المفقودة لن تتحقق إلا بمزيد من رؤيتنا لأنفسنا من الداخل، مناقبنا ومثالبنا، أخطائنا ومحاسننا ونواقصنا المستعرة، لماذا هذا الغضب الإنساني المحتدم داخل أنفسنا وأصبحنا اليوم مؤهلين تماما للنيل من الآخر على حساب تنمية الذات والاهتمام بنواقصنا الشخصية ؟.

المشكلة الراهنة أننا استمرأنا النظر في مرايا الآخرين وقمنا طوعاً بتحطيم مرايانا التي يجب أن نرى فيها أنفسنا أولا ثم نهتم بالآخر، ورغم أننا بالضرورة مطالبون بالاهتمام بتنمية الآخرين لكننا مصرين على الاستمرار في عمليات الهدم والتحطيم غير مبالين بأننا نسير في طريق واحد. وربما نعرج قليلاً عن موضوع المقال لنشير أن هناك أناساً يأملون في فشل نهضة هذا الوطن، فنراهم ليل نهار على شبكات التواصل الاجتماعي يهللون فور سماعهم لأي إخفاق يواجه الحكومة المصرية، وهذا ذكرني بما كان يصنعه هؤلاء المتطرفون نفسيا قبل دينيا حينما كانوا يستهزئون طويلاً أمام أية أنباء تتعلق بعمليات الحفر في مشروع قناة السويس الجديدة، وتراهم سعداء وأكثر شماتة حينما نقرأ أخباراً تتصل بتعرقل العلاج لمرضى الكبد، وآخرين يقيمون الأفراح والليالي الملاح وهم يتابعون انقطاع الكهرباء في أنحاء مصر.

ولهؤلاء جميعاً الذين غشيتهم السياسة بممكنها ومستحيلها نقول إن القناة على أرضكم إن قررتم العيش معنا وإما السفر إلى قطر أو تركيا أو ماليزيا أو أية جهة من الجهات الراعية والداعمة لمقاومة إعمار مصر المحروسة، وتكفيهم من الحسرة والخسارة النفسية حجم المبالغ التي أعلنت وهي حصيلة شهادات استثمار قناة السويس الجديدة، وهؤلاء الذين تطرفوا دينياً بغير فهم حقيقي للدين ومعالمه لم ينتبهوا أننا جميعاً نأمل في إيجاد حلول سريعة لعلاج مرضى الكبد، لكن حالة العمى والغفلة التي اكتسبوها نتيجة الإقصاء والاستبعاد الاجتماعي جعلتهم غير مبالين للإنسانية التي ينتمون إليها. وإذا كانوا يهللون لانقطاع الكهرباء دليلاً على فشل الوطن فإن ذلك متوافقاً تماماً مع حالاتهم النفسية التي تأبى الحياة في الضوء وداخله.

الحكاية كلها تتعلق بالإنسانية المفقودة التي نطمح إليها، وكم من آية قرآنية تحث على ذلك، وكم من حديث شريف لرسولنا الكريم يؤكد هذا المعنى، ونهاية الحكاية أن تهتم بنفسك أولاً حقق إرادتك الإنسانية حينما تنجح مع ربك، وتنجح في عملك وتنجح وسط أسرتك الصغيرة، أن تكون إنساناً وقتما تدرك أنك تعيش على هذه الأرض الطيبة.

***

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م)

ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر

في المثقف اليوم