قضايا

افكار المدينة وتلقين القرية

ماهر الشمريالمدينه هي تلك البقعه الجغرافيه التي تضم نسبة كبيرة من السكان قياسا بالمناطق الاخرى وقد اختلف في تحديد  التي الاعداد باختلاف الأزمان والدول،  ويكون بينهم اختلافا واسعا في التقاليد والاديان والافكار ومصادر العيش والعمل فلا تقتصر على انواع محددة من الاعمال والوظائف كما في القرى والارياف، ان لهذه المدن عقليه وافكار تخالف افكار القريه وعقليه ابنائها في الجمله.

افكار المدينه ناتجه عن تلاقح فكري كبير نابع من كثرة سكانها واختلاف افكارهم والمصادر المتنوعه لتلك الافكار وقد تمخض عن هذا التنوع الفكري خصائص اخرى اختص بها ابناء تلك المدن تلحظها بشكل اكبر مما تلمحه في القرى فمصادر المعرفه في القرية والريف وحتى البادية تكاد تنحصر عند التلقين المدرسي او النظام الابوي في ذلك المجتمع الضيق الذي لا يعطي هامشا كبيرا للشباب والشابات او النساء بشكل عام في مناقشة ونقد وتخطئة افكار الاباء والاجداد وحكماء القريه ورجل الدين الدائم هناك (المُلّهَ)

بينما على عكس ذلك تجد المتمدن له مصادر معرفة اوسع بكثير من الدراسة الاكاديمية او من القنوات الاعلامية، فَنَفْسُ طرح الافكار ومناقشتها مع الاباء والمختلفين معه من الاصدقاء والغرباء في الرأي يعطيه افقاً اوسع لتقبل الرأي الآخر وكثرة النقاشات مع المختلفين او الاحتكاك بهم يبدأ بالتالي عن الحس العاطفي والحجي العاطفية والكلام الانشائي الخالي من الدليل والمنطق والذي يعتمد العاطفة وينساق بشكل اكبر إلى حس القبيلة   والقرية الجمعي.

بات من المؤكد ان الانسان ابن بيئته من حيث الطبائع والممارسات والافكار والايديولوجيا، ولك ان تلحظ ذلك الفرق بين تلك المجتمعات المدنيه والقرويه فتقبُّل المخالفة والنقد للرأي يجد مساحة واسعة وارضية خصبة في المدينة بينما يتعسر ذلك على ابناء القرى غالبا

وهي التي تقدس اراء الاباء والكبار ورجل الدين وهؤلاء

ومعرفتهم تبع النظام الابوي للقبلية المغلقة والمجتمع الذي تناسلوا فيه وتقوقعوا فيه .

 فكانت هذه البيئه بالتالي هي الارض المناسبة للثقافة الابوية وللعصبية القبلية والاحادية في الرأي والتفكير الجماعي المقيد والعاطفة الغالبة على العقل والمنطق، ونحن هنا لا نتحدث عن الاقلية الحرة والاستثناءات التي تختلف مع هذه الظواهر العامه في ذلك المجتمع.

فبينما يتمتع ابن المدينه بحريه الراي الفردي والنقد والعقلانيه التي يستوعبها من كثره المطروح حوله من الافكار والاراء والتقاليد والعادات تجد ابناء القرى ينظر الى تلك الحرية على انها من سوء الادب والاخلاق ويتعامل مع النقد على انه انتقاص من شخصيته او من شخصية ومقام القائل والفاعل الذي لا تسمح له الاعراف والتربية بنقده، ولا سيما حين يكون ذلك القائل ابوه او اخوه الأكبر او احد اعمامه او من كبار السن او من رجال الدين حتى وان كان متواضع الفهم والمعلومات.

 ومن الجدير بالذكر هنا ان نعود الى ما ذكرناه في مقال سابق في كون الدين واحكام القبيله هي العامل الرئيسي في تشكيل شخصية المجتمعات العربيه الاسلاميه باغلبيتها الساحقة.

وهنا نريد ان نؤكد على ان ذلك يتركز ويظهر بشكل واضح جدا في قرى واطراف تلك المجتمعات وان كان بعمومه يظهر حتى في مدنهم الكبيرة ولكن بشكل اهدأ وعلى سبيل الوسطية والاعتدال، ولهذا تجد التطرف في الايديولوجيات والاراء والافكار غالبا ما يكون نابعا من تلك القرى والاطراف الجغرافية او تكون تلك المناطق مجتمعاتها حاضنة له وتتبناه بشدة لكونها تتواءم مع روح الثقافه السائدة هناك في

تقديس الرموز السياسيه والدينية التاريخية والمعاصرة وهذا  التقديس لا يبعد في جوهره عن تقديس الاباء وكلماتهم او شيوخ عشائرهم وحكماءهم والتطرف في الخصومة الفكرية الى حد الاتهامات الشخصيه والشجار اليدوي او القتل، كل ذلك نابع من طبيعه ذلك الفرد الذي يتقاتل مع الاخر لأتفه الاسباب.

 ان احتضان تلك المجتمعات للتطرف الفكري بشتى الوانه والدفاع عنه والتضحية من اجله بالغالي والنفيس كما يقال تعدو سمة بارزة لها خصوصا حينما تكون قادرة على حماية تلك الافكار والحركات المتطرفه بقوة القبيلة وسلاحها او سطوتها الاجتماعيه التاريخية . والحق ان الافكار التنويرية والاصلاحية بشكل عام لم تكن في يوم من الايام مدعاة للأقصاء والخصومة والعنف والاهانة اذا ما بقيت تدور في اروقة الحوار والمناقشات والبحوث ما لم يكن هنالك قوة تسلطية تريد ان تفرض تلك الاراء والافكار بحكم الواقعي.

 فالشخص المتمدن هو ذلك الشخص الذي يعتمد على طرح الافكار والاراء من خلال الحوار والدليل بينما يعمد غيره التزمت والتعنت في طرح رأيه وافكاره او يحاول فرض منطق القوة لتبريد تلك الافكار والاراء او فرضها.

***

ماهر الشمّري

 

في المثقف اليوم