قضايا

اشاعة ثقافة الأحباط.. من المسؤول عنها؟(1)

قاسم حسين صالحفي مؤتمره الصحفي الذي بثته فضائية الحدث مساء 7/6/2022، انتفد رئيس مجلس الوزراء السيد مصطفى الكاظمي اشاعة ثقافة الأحباط وقال بالنص: (اليوم يجب ان نعترف ان العراق يمر بظروف معقدة وصعبة لكن هناك من يحاول ان يستغلها في صنع ثقافة اليأس والاحباط وجلد الذات).

وما تفضل به السيد الكاظمي يشير الى ادراكه للدور الذي تلعبه الثقافة في حياة الفرد ومسار المجتمع.فلقد تأكد لدى علماء النفس والأجتماع أن الثقافة، هي التي تتحكم بسلوك الفرد، فسبب اختلاف سلوك رجل الدين عن سلوك الأرهابي عن سلوك أي واحد منا هو الثقافة، لأنها تعني – علميا- نوعية الأفكار والمعتقدات والأخلاق التي نحملها بخصوص انفسنا والآخرين والعالم.ولهذا جرى الأعتراف بها دوليا في الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر بقرار الجمعية العامة عام 1984الذي أكد على أن (لكل شخص الحق في ان يسهم بحرية في الحياة الثقافية للجماعة، وفي ان يتمتع بالفنون، ويشارك في مختلف انواع التقدم العلمي وفي الفوائد الناجمة عنها).

ونستطرد للوصول الى فكرة لطيفة تخصنا نحن العراقيين، فوفقا للنظرية التطورية القائلة بأن "الجينات" السلوكية لقانون الانتخاب الطبيعي تعمل، عبر التاريخ التطوري للانسان، على تقوية مورّثات سلوكية معينة واضعاف او دثر مورّثات اخرى، فاننا لسنا فقط نتاج تكويننا البيولوجي الخالص، انما ايضا نتاج ما صنعته الثقافات من تأثير في مورّثات أسلافنا العراقيين، وانها تظهر في تصرفاتنا دون ان ندري.وما ننفرد به ان اسلافنا العراقيين كانوا دنيويين.. يحبون الدنيا.. وليسوا أخرويين كالاسلاف المصريّين الذين لديهم قناعة بانهم سيبعثون ويعيشون الى الابد حياة سعيدة.والمفارقة هنا ان ثقافـة الآخروي تميل للزهد بالدنيا والتسامح مع الآخر، فيما ثقافـة الدنيوي تميل الى الخلاف مع الآخر لاسيما اذا تعلق الامر بالسلطة والثروة.. وهذا ما اثبته العراقيون بعد 2003!.

ومفارقة اخرى، ان العراقيين ابتلوا بنعمتين: النفط والثقافة!.. لدرجة ان العراقي صار يتمنى لو استيقظ صباحا وسمع هذا الخبر:

(اكد الخبراء ان كلّ ما في العراق من نفط تسرب الى خارجه). يومها سيتبادلون التهاني.. ويرددون: ايه الله خلصنه من امريكا والفاسدين.. كل واحد راح ياخذ خزنته ويروح لوطنه الثاني.. كندا، بريطانيا، استراليا.

اما التنوع الثقافي في العراق فكان أحد الأسباب الرئيسة في إشاعة العنف بين العراقيين على مدى أكثر من ألف عام بعد ان دخلت السلطة طرفا فيه، وان أسلوب العنف وليس الحوار هو الذي ترسّب في اللاشعور الجمعي لديهم في المسائل الفكرية الخلافية، التي هي في محصلتها الأخيرة تتعلق بالسلطة . وأنه لم يصاحب هذه الثقافة الواسعة والمتنوعة والثرية في الاختصاصات الإنسانية ثقافة توازيها في الاختصاصات العلمية تعقلن الغلو في الرأي وتوجه الاهتمام نحو الواقع ومعالجة مشكلاته بمنهجية العلم، فنجم عن عدم التوازن بين الثقافتين انشغال الناس بثقافة الاختلاف، التي انشغل بها حتى باعة الخبز كما يذكر الجاحظ، وإشغال السلطة لهم بها لتلهيهم عن التفكير بتغيير واقعهم.. وأنه بفعل ذلك كان العراقي يميل الى التمرد على السلطة حتى لو كانت عادلة.

ثقافة ما بعد التغيير

كنت حريصا على ان اتابع ما حصل للثقافة من 2003لغاية الان. فبعد سقوط النظام الدكتاتوري الذي اعتمد ثقافة الحاكم الواحد والحزب الواحد، حصل اول تحول سيكولوجي بظهور ثقافة الضحية التي صنفت العراقيين الى ضحيتين هما الشيعة والكورد، وان على الضحية المظلومة ان تقتص من الجلاد الظالم الذي هم السنّة.

وحصل ما كنا حذرنا منه في حينها يوم قلنا لمن هو في السلطة بان انتصار الضحية على من تعدّه جلادها سيدفعها سيكولوجيا الى التعبير بانفعالية في تضخيم ما اصابها من ظلم، وستشرعن الاقتصاص ممن كان محسوبا على الجلاد.وكالعادة فان سيكولوجيا السلطة في العراق لا تأخذ بما يقوله المفكرون وعلماء النفس والاجتماع.. فكان الذي تعرفونه من الكوارث والفواجع.

بعدها بسنة ظهرت ثقافة اخرى هي ثقافة الأحتماء.. فبعد ان تعطل القانون وصارت الحياة فوضى والسلطة لمن هو اقوى في الشارع.. اضطر البغداديون بشكل خاص الى ان يغادروا بغداد ليحتموا اما بالعشيرة او المدينة التي ينتمي لها.. كأن يذهب الراوي الى راوه مثلا.

ومن يومها تراجعت ثقافة الانتماء للوطن التي توحّد،، وشاعت وتعمقت ثقافة الولاءات المتعددة التي تفرّق لتصل الى ابشع حال في احتراب الهويات القاتلة لسنتين كارثية(2006-2008). ومن يومها ايضا تراجعت ثقافة المواطنة التي سدد لها بريمر ضربة ثقافة التثليث (شيعة، سنة، كورد)، وثقافة التسامح وثقافة الحوار، لتظهر ثقافات متعددة الأسماء : ثقافة التحرير، ثقافة الغزو، ثقافة العمالة، ثقافة الارهاب، ثقافة المقاومة، وثقافة كاتم الصوت.وكان اقبحها هي ثقافة الطائفية التي وزعت العراقيين على ولاءات تغلب مصالحها على مصلحة الوطن.. نجم عنها ان عاش المثقف العراقي ثلاث محن.. نوجزها للأخ الكاظمي ولكم في القسم الثاني.. اذا ما صار شي!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم