قضايا

نحو صياغة جديدة لإشكالية الحكم

فوزي حامد الهيتيان غياب مفهوم المواطنة في ثقافتنا وسيادة العصبويات في حياتنا السياسية هو الذي يدفعنا إلى طرح سؤال خاطئ في فلسفة الحكم لن تفرز الإجابة عليه سوى كوارث دموية ناتجة عن إقصاء الآخر المختلف. وهو في الحقيقة سؤال أفلاطوني سيطر على نظرية الحكم منذ أفلاطون وبقي حاضرا في الفلسفة السياسية لقرون طويلة يتلخص بآلاتي (من يجب أن يحكم؟) أو (ألحاكمية لمن؟.). هل ألحاكمية للأحكم ألاعدل.. الفيلسوف.. أم للأقوى ألأقهر؟.. هل ألحاكمية لله.. الإمام المعصوم.. الفقيه.. أهل الحل والعقد.. أم للأمة.. الشعب؟. هل ألحاكمية للرأسمالي المحتكر صاحب الرساميل ومالك الرقاب ام للعامل البروليتاري؟، هل ألحاكمية للعرب.. أم للكرد.. المسلمين أم للمسيحيين.. للشيعة أم للسنة..؟.. وغيرها من الأسئلة التي تبحث عن المصدر والأصل في التشريع. وهذه الأسئلة كما يصفها كارل بوبر هي أسئلة برجوازية تحكمية تسأل عن الأصل والفصل أسئلة تبحث عن المثال.. الكامل.. الإلهي.. المقدس.وتعيين هذا المصدر واتخاذه مرجعا هو الذي يمنح الأحكام مشروعيتها وصدقها فالحكم والحاكم  لا يمتلك صلاحيته وقيمته بذاته وإنما بالمرجع.. الأصل الذي يرتكز عليه ومنه يستمد مشروعيته وقدسيته كما يعتقد من يطرح ويتبنى هذه الرؤى.

إن محاولة الإجابة عن مثل هذه الأسئلة الاقصائية ألالغائية لن تساهم في إشراك الجميع في المسؤولية وتحقيق الإصلاح المتمثل في تطوير وتقدم مؤسسات المجتمع السياسية والمدنية بما يحقق للمواطنين أعلى درجة من الحرية والرفاه الاقتصادي والأمن الاجتماعي والسياسي، لان النمو والتطور يعني حركية المجتمع المتحققة بمواجهة مشكلاتنا واقتراح حلول لها وإزالة أخطاء كانت تعيق عملية التنمية والإصلاح، وهذا لا يتحقق إلا من خلال اقتراح صياغة جديدة لإشكالية الحكم يُشترط فيها توافر مبدأين أساسين هما :

أ – أن نرفع الطابع القدسي عن السلطة السياسية ونحد من عملية الوصاية التي تمارسها السلطة السياسية إزاء المواطن فالعلاقة بين المواطن الفرد والدولة هي علاقة تعاقدية يتنازل بموجبها المواطن عن بعض حقوقه وحريته لصالح الدولة في مقابل حماية وجوده ومصالحه من قبل الدولة وعليه ان يراعى في صياغة العقد (الدستور) الجوانب الضرورية فقط من وجود الدولة ولا يجوز تضخيم قواها ومنحها صلاحيات أكثر مما هو ضروري لأداء وضيفتها في حماية حياة وحرية ومصالح مواطنيها.

ب – ان لا تتضمن الصياغة الجديدة لنظرية الحكم أي شكل من أشكال الإلغاء والإقصاء والتهميش لأية فئة اجتماعية أو سياسية فالمشاركة في الحكم هو حق طبيعي لكل المواطنين الذين يحملون هوية الوطن ويتحملون مسؤولية بناءه والدفاع عنه بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الطائفية أو المذهبية أو السياسية طالما كان ولاءهم للوطن وليس لما ينتمون إليه من هذه المسميات. ونعتقد إن الصياغة المقترحة آلاتية يمكن ان تكون مطابقة لما حددناه آنفا من شروط هي:

كيف يمكن ان ننظم مؤسساتنا السياسية بحيث يمكن ان نقلل من أخطاءها ونحد من شرورها وتضخم قواها الى ابعد مما هو ضروري لوجودها.. ما هي الآلية ـ الميكانزم ـ التي تحكم هذه المؤسسات وتضمن الشفافية في أداءها بحيث يمكن أن نقلل من أخطاء الحكام غير الأكفاء الذين استطاعوا الوصول بطريقة أو بأخرى إلى السلطة، ونزيله بأقل ضرر ممكن؟.. كيف يمكن ان نظمن التداول السلمي للسلطة؟..

ان الصياغة الجديدة المقترحة لا تتحدث عن الحاكم وخصاله واصله المقدس حتى تضفي على حكمه قدسية وعصمة وإنما تتحدث عن عمل الحاكم وحدود صلاحياته ووضع آلية يمكن أن تحد من أخطائه وتجاوزاته كما إنها لا تحاول اختزال الوطن والخير والحق في جهة أو فئة دون أخرى وإنما تتعامل مع المواطنين على أنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو الفئوية الأخرى.

والدعوى إلى تجاوز الانتماء والجهوية في الولاء لصالح الوطن لا يعني نفي وإلغاء الاختلاف وتحريم الانتماء والتحزب بل على العكس تماما فالصياغة الجديدة تفترض سلفا وجود تعدد في الانتماء فالاجتماع الإنساني ليس خلايا نحل يخلو من التنوع والصراع فالأصل في الوجود كما أشرنا سابقا هو التنوع والاختلاف وهو حاصل في الاجتماع الإنساني مثلما هو حاصل في مظاهر الوجود الأخرى والاختلاف والتنوع في الوجود الإنساني مرده في الغالب إلى التنوع والاختلاف في انتماءاتهم الدينية والعرقية والأيديولوجية وتمثل هذه الانتماءات في المجتمعات البدائية الطبيعية هوية الفرد او عصبته بالاصطلاح الخلدوني ويتحدد في ضوءها ولاءه ؛ اما في المجتمعات المدنية التعاقدية فتصبح هذه الانتماءات حقوق شخصية للمواطن لا تحدد هويته ولا ولاءه.فهوية المواطن هي اسم البلد الذي يحمل جنسيته ويمنحه ولاءه، مثلا العراقي هو كل من يحمل الجنسية العراقية ويتمتع بحقوقها ويلتزم بواجبات المواطنة التي تنص عليها القوانين المرعية في البلد.وللمواطن الفرد حق الاختلاف والتعبير عن آراءه ومصالحه والدفاع عنها.إذا المشكلة ليست في الانتماء الجهوي أو الفكري أو الأيديولوجي وإنما في اختزال الوطن وحصر الولاء في هذه الانتماءات عندها يفقد الوطن دلالته ويتشضى إلى هويات ويضيع اسمه. أما الاختلاف بين المواطنين داخل حدوده ولصالح هويته فهذا من النافع المفيد ويعد من ابرز مميزات المجتمعات الديمقراطية الحديثة لان هذا التنوع هو الذي يمنحه قوة وحيوية وانفتاح على المستقبل.

إن مفهوم "الاختلاف" الذي يعني ببساطة إن الآخر المختلف عني ضروري لوجودي بحيث إن منظومتي الفكرية وجهازي المفاهيمي لا يعمل بغيابه فهو يشكل جزء مهما منها. يعد من المفاهيم المهمة في الفكر السياسي المعاصر ونعتقد ان تبنيه ضرورة ملحة في أية عملية إصلاح سياسي عندنا لان الهدف الأسمى للنظرية السياسية وفلسفة الحكم تتلخص في إحداث تنمية دائمة وشاملة للاجتماع الإنساني على مستوى الصحة والتعليم والرفاه الاقتصادي والأمن والاستقرار السياسي. وإنجاز هذا الهدف يعني نحن في مواجه مستمرة لمشكلات متجددة، وأي تقدم نحققه يعني إننا اكتشفنا مجهولا وأزلنا خطأ كان يعيق تقدمنا ونعتقد إن أفضل طريقة يمكن اعتمادها لإنجاز هذا الهدف هو في إشراك الآخر المختلف في عملية التنمية لان هذا الآخر المختلف هو الأكثر قدرة على اكتشاف أخطائي ونقد كل أطروحاتي وتشخيص ضعفها. وكلما كان الآخر اكثر اختلافا عني صار اكثر قدرة على أداء وظيفته في اكتشاف الأخطاء وبالتالي صار وجوده انفع للمجتمع ولهذا يمكن القول ان الآخر المختلف هو شرط في وجودي بعدي صانع للتنمية.

ان هذا النوع من الثقافة هو الذي نحتاجه في المرحلة القادمة فقبول الآخر المختلف عني ليس شريكا فقط يمكن تحمله والتعايش معه مرحليا وهو مفروض عليّ ومقحم على وجودي ولا املك خيار إبعاده لهذا أجد نفسي مرغما على قبوله والتفاوض أو التحالف معه وهو بالتأكيد قبول مؤقت وآني سأتخلى عنه بمجرد توفر خيار الإقصاء وإنما يجب أن يكون قبول الآخر المختلف بعده الشرط الضروري لوجودي النافع والفاعل في المجتمع وبكلمة أخرى إن اعتماد وترسيخ ثقافة المختلف في حياتنا السياسية سيسهل في عملية الإصلاح الذي نأمله وهو بناء نظام اجتماعي سياسي مستقر مفتوح على المستقبل ليسهم فيه جميع مكونات المجتمع العراقي.

***

الدكتور فوزي حامد الهيتي

في المثقف اليوم