قضايا

السلفية الثقافية

سامي عبد العالأخطر شيء أنْ تتنكر السلفية في (زي ثقافي) ليس زيها الأصلي. والأخطر من ذلك أنْ تتنكر ( لذاتها ) ضمن موضوعات أخرى، زاعمةً أنها تُدافع عن قضايا راهنة وأنَّها تنظر إلى المستقبل بشكلٍّ بريءٍ، ولا تبتغي من هذا غير وجه الإنسانية الحُر. لتبدو للعابرين كأنَّها لون من الأصالة المتجددة (هكذا دون عمل ودون مقدمات)، وقد عطرت سيرتها وشذبت موروثاتها ووضعت حجاباً مقبولاً فوق وجهها الغابر.

بالضبط مثل الرجل الذي يرتدي نقاباً حتى يظن الناس أنَّه إمرأة، لكيلا يقترب منه أحدٌ وينال كل رمزية ممكنة في مجتمعٍ يعتبر المرأة حراماً شكلاً ومضموناً. وبذلك بإمكان (المنتقب) السير في الشارع دون مضايقات، معتمداً على فكرة التحريم التي تحتم عدم الإقتراب من المرأة أو التفتيش فيما يخصها على قارعة الطريق. بينما المنتقب هو كائن آخر وجنس آخر ليس كما تعبر الصورة التي تقابلك من فورها.

وقد لا يحدث ذلك الخداع مع الرجل فقط، فالمرأة المنتقبة أيضاً قد تكون فائقة الجمال والدلال ولعوبة الجوهر والمظهر، لكنها تتخفى وراء ستارة سوداء كي تمُر هنا أو هناك دون مضايقات. وهي ترتكز على المعنى غير المباشر وراء النقاب فيما يتصل بالإخلاقيات العامة أمام العيون. وقد تكون منتقبة لأغراض خاص لا يعلمها إلاَّ هي.

وهذا الفعل يعني ما يلي:

أولاً: أنَّ هناك مكانة وقورة للزي (النقاب) لدي الوعي الشعبوي ويجب التخفي وراءها.

ثانياً: أنَّ الجمال رغم راهنيته وخصوصيته إلاَّ أنه يعبر عن وجوده بأزياء قديمة تساير الذوق الديني الغالب.

ثالثاً: مغازلة الحس الجماهيري بأنَّ منْ يسير في الشارع – مع الجمال والدلال- يلتزم بالضوابط التي وافقتم عليها أنتم لا غيركم. وأنكم لا تقبلون عكس ذلك، وأنَّه لو حدث وتعرت الأنثي، فإنَّ ذلك يمثل خطراً على المجتمعات.

رابعاً: لا يمنع النقاب من (إيماءات الجمال والدلال) خلف الملابس. فقط تكون التغطية الموارِبة أكثر إثارة وغرائزيةً من الإنكشاف لذباب الأرض. فربما بطرف أنثوي خفي من أنامل أو قدم أو طريقة خطوات بعينها يتجلى ما كان خفياً في غير دلالته العامة.

خامساً: تحمل هذه العملية من التخفي كلَّ الإغراء حول ما ستؤول إليه في المستقبل، فيتساءل الناس: من هذه المتخفية التي تظهر أكثر مما تغطي، رغم أنها كتلة سوداء تسير على قدمين؟! وأين ستذهب في هذا الوقت وعبر هذا المكان؟!

إجمالاً هذا بالضبط ما يحدث ضمن (السلفية الراهنة) التي تفكر لنا عبر بعض ممثليها الجدد وعبر المُناخ الثقافي العام الذي يستدعيها. إنَّ أبرز تجليات السلفية هي الدفاع عن الماضي تحت عناوين الهوية والأنا والتمسك بالقيم والأصول، وأننا أفضل من سوانا في خدمة البشرية وأنَّ تاريخ العرب كان يوماً ما هو قوام الحياة الكونية في كافة المناحي. هي عندئذ النزعة السلفية في الحفاظ على تاريخنا وتراثنا وتمجيد الأنا والتفاؤل الساذج. والإكتفاء بمخزوننا الفكري الذي تم- فيما يقال- تجاهله لسنوات عجاف بفعل فاعل وتحت وطأة المؤامرات التي لم تنقطع يوماً من تاريخ العالم ضد وجودنا القلق!!

ولكن الغريب أنَّ هذه السلفية المنتقبة تنظر إلى المستقبل كذلك، كأنه لا توجد مشكلة لها مع الحاضر، وكما لو أنها لا تدافع عن الماضي على نحو مستميت. وتأتي الرؤية المستقبلبية من خلال منْ ليسوا ممثلين للسلفية بمعناها التقليدي. فهناك مثقفون ورجال تعليم وأدباء وأصحاب مساحيق ثقافية وبقايا كتاب ومحللون وأصحاب خواطر سريعة يتعلقون بمزاعم سلفية ثقافية حتى النخاع. فيقولون: أَمَا آن الآوان إلى الوقوف داخل واقعنا العربي والاسلامي لاستنهاض الهمم وتحريك الإرادة الجمعية نحو التطور؟!!

والسلفية الثقافية موقف متزحزح عن السلفية الدينية ويسترفد وجوده من وجودها المتأخر منافحاً عن قضايا الأمة، وأنَّ حمل لواء (الفكر الذاتي) – كما يرى أصحابها - أفضل بملايين المرات من فتات موائد الغرب اللئيم. وبالطبع لن تقول السلفية الثقافية أنها دينية ولن تزعم أنها ماضوية، فهذه الأشياء واضحة وضوح الشمس، ولكنها نزعة تستبق القارئ بخطوات غير معدودات لتقرر أنها تحمي وجوده المهيض وأنها ليست إلاَّ عودةً ميمونة لما هو مُهمل ومفقود من تاريخنا وواقعنا الراهن. أي أنها تعتني بحاضرنا المليء بالثمين والأصيل هذه المرة. ولا يفوتها بالطبع أن تستنفر غرائز القراء للإحتماء بـ(جِلْد الذات)، أي المستوى الحسي العام لوجودنا الجمعي المشترك الذي هو الأساس.

وطبعاً مهما يردد السلفيون الجدد بصدد أي شيء إلاَّ أن قولهم تفوح منه (رائحة عجيبة) إزاء التطور الفكري وإزاء المعطيات الجديدة للفلسفة والمعارف والحياة. إذ يرون في هذا التطور نوعاً من الفراغ الذي قد يخيم على العالم العربي دون جدوى. معتبرين أنَّ البديل هو تحريك قاع الثقافة العربية وإثارة تربتها الراهنة التي هي الأجدى مما يمكن معرفته في الغرب وغيره حالياً. وأنه يجب أن نقول كلاماً عملياً قابلاً للتطبيق على حياتنا كأننا نقف خارج الإنسانية.

على سبيل المثال، قد يقول أحدُهم لماذا يتم التطرق إلى (فلسفة فلان أو علان) من فلاسفة الغرب بأفكارهم العجيبة وغير المفهومة؟! ولا سيما أنهم يعرضون لقضايا لا تمت إلى واقعنا العربي الاسلامي بصلةٍ. وهذا القول رغم أنه بالنسبة للبعض (المثقف والدارس) مصدر تسلية وسلوى عما نعانيه من فقر مُدقع لهذا الواقع، غير أن الهدف متخلِّف ورجعي إلى درجةٍ كبيرة. فكما أنَّ هؤلاء الفلاسفة هم التطور الطبيعي لتاريخ من التراكم على صعيد الأفكار والحياة الإنسانية، فكذلك كان طبيعياً الإطلاع على فلسفاتهم التي تمثل جديداً في ذلك الباب. وكأنَّ القول السلفي السابق هو أن يتوقف الآخرون عن التطور، بل يكف عن التفكير تماماً، حتى نقدم ما لدينا. وفي النهاية سيكون ما لدينا أقل مما لدى الآخرين أيضاً!!

ثم ماذا لدينا في مجال الفلسفات وتاريخ الأفكار وراهنية الجديد؟ لن أقول إنه لا يوجد شيء فهذا شأن متروك للتاريخ، بل هناك مما هو أقل من ذلك على أغلب المستويات، وأنَّ إلغاء محاولات فهم العصر ونتاجاته والإتيان بشيء مختلف لا يتمان دون السخرية ممنْ يقوم بهما. فلن يكون العالم العربي في مأمن من غوائل الدهر لو أنه تمسك بما لديه فقط معرضاً عما لدى الآخرين.  لم يعد العرب يملكون من عتاد الحضارة والتمدن الكثير.. وهذا ليس بثاً للوهن في عروقنا النابضة والحية، بل هو بداية معرفة الواقع بجدية وتحديد أين يقف وكيف يمكن فهمه. كما أنها لو كانت عروقاً حية بالفعل، لكانت قوية ولا تؤثر فيها أفكار وكلمات مهما تكن.

هذه السلفية (انحراف ثقافي) بالمقام الأول وحنين متأخر في أشكال هزلية بصورة ضاحكة. لأنَّ الثقافة الآن كونية الطابع وباتت واضحة المعالم بفضل الجديد الذي تضع فيه الإنسان من حين لآخر. ويجب معرفة: ماذا نقدم من بدائل بالتحديد لا مجرد مزاعم وأقوال عامة بصدد أننا أصحاب تاريخ وتراث نوعي؟! والأهم ماذا قدمنا الآن للإنسانية التي تعاني على حد قول السلفيين، وكيف نعاصرها حالياً دون العودة إلى الماضي في لافتات براقة؟!

وهذا الأمر له جوانب أخرى هو انكفاء على الذات لا انفتاح فيه، وهو تعبير عما يكمن فينا من عنف مبطن ويحتاج إلى منافذ جديدة للخروج. إن الوعي الجمعي في المجتمعات الأقل اسهاماً في مسيرة الحضارة الراهنة وعي سلبي ونرجسي إلى أبعد مدى. والإحتماء به يمثل عودة إلى الماضي المجاني الذي قد لا يملك شيئاً في الحاضر.

والأبرز أنَّ ما يردده السلفيون الجدد مجرد إدعاءات. إنه نوع مخادع من الخطابه الزاعقة في غير أوانها، ولاسيما أننا شطار في الخطابة إلى درجة يرثى لها. قل: هاتوا من الأخر؟ فمجال الثقافات الكونية حالياً مثل الأسواق، يغلب فيها أصحاب الانتاج الغزير والمبتكر والمدهش والأكثر جودة. والسؤال لنا جميعاً: ماذا نقدم الآن، وكيف نعاصر الإنسانية الراهنة من جهة الإبتكار والأصالة؟

ليست القضية: لماذا يتم عرض وفهم الجديد والمختلف، بل لماذا نقدم ما لدينا (وهو القليل) على أنه الأهم والأجدى ونحن لا ندرك: ما إذا كان جديراً بمواصفات الفكر المختلف أم لا؟ وبخاصة أن ما لدينا في مجال الأفكار قد تجاوزته الثقافات الكونية الراهنة منذ فترة ليست بالقليلة. إن المشي بالظهر إلى الحاضر هو نزعة محافظة مُدمرة، وقد يؤدي بنا إلى مناطحة الواقع لدرجة تحطُم الرؤوس لا محالة.

***

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم