قضايا

الموت إضطرارا!!

صادق السامرائيالإنتحار موت إضطراري لا إختياري كما يُشاع، وإضطره: أحوجه، ألجأه. وإختار: فضّل.

فعندما نقول الموت إختيارا، نقصد أن الشخص فضّل الموت على الحياة، وعندما نقول الموت إضطرارا نقصد أن الشخص وجد نفسه في محنة لا يرى فيها غير خيار الموت، وهذا يعني أن قدراته الإدراكية تحجّمت وضاقت السبل عنده، ويكون بحاجة لمن يزيل الحواجز والمصدات من حوله، ليرى بوضوح وتكون الصورة كاملة أمامه.

ووفقا لهذا الإقتراب فأن التداخلات الإعتراضية للإستمرار في منحدر الإنقضاض على النفس ستساعد على إيقاظ الوعي الإيجابي، ومناهضة التواصل مع المعطيات السلبية اللازمة لتمرير قتل النفس.

فالإقتراب الوقائي والتداخلي لإحباط عزيمة الإنتحار يمكنها أن تثمر عن نتائج طيبة، وتمنح الشخص فرصة للإنطلاق بحياته نحو مدارات ذات قيمة تفاعلية وإنسانية فاضلة.

أما القول بأن الإنتحار سلوك إختياري، فذلك يقلل فرص التفاعل الإيجابي معه، ويدفعه للمضي قدما في مسيرة إهلاك ذاته وموضوعه، وهو كالمنوم المشلول بالأفكار السلبية المعشعشة في رأسه، والمهيمنة على وجوده الحسي، والمبلدة لمشاعره، والقاضية بإطفاء شعلة الحياة فيه.

فالإنتحار ليس إختيارا بل إضطرارا، ومنفذا قاتما عندما يجد الشخص نفسه في نفقٍ داجٍ يخشى النور النفاذ إليه، وفقا لما تراكم من أفكار سوداوية في وعيه، المنكوب بتداعيات يأساوية قاسية تدحرجه إلى أودية الهلاك، فكأنه قد تحول إلى كتلة صامتة، خالية من الطاقة والهمة والقدرة على الحركة، فترمي به أمواج القنوط الخيباوية في حفر الغياب الأليم، فيجهز على نفسه، وفي تلك اللحظة يستيقظ ويريد العود إلى قبل ما فعل، دون جدوى فيلفظ أنفاسه متحسرا مدثرا بالندم.

إن الواجب الإنساني والعلاجي يستدعي التنبه لأحوال المشحونين بدوافع الإنتحار، والمخنوقين بغيومه وسحبه وعواصفه الغبارية الكثيفة، التي تحجب الرؤية وتعكر فضاء النظر، وتمنع البصيرة من التفاعل مع محيطها، وتعطل المدارك والأحاسيس وتستلب المشاعر وتميت العواطف.

فالشخص المُقدم على الإنتحار يبدو ككتلة متحركة خالية من دفق التواصل مع المحيط، ومقطوعة عن نبض الوجود وطاقة التفاعل مع أفياض الشمس ونبضات الدوران، وأنوار التراب الدافقة الدافعة لمواجهة التحديات.

فالعازم على الإنتحار يبدو كالعصف المأكول، أو كجذع نخلٍ خاوٍ، فالإنتحار تسرُّب لطاقة الحياة من ثقوب الوجدان ونوافذ الوعي التي أضاعت أبوابها، وإنسكب ما في حجراتها فوق رمال الوعيد.

ويبدو أن المنتحرين يمتلكون نوازع ودوافع متنامية في دنياهم، تتراكم فتأكل براعم حياتهم، وتنخرهم كالأرضة، حتى تأتي اللحظة المواتية، فيتساقطون هامدين أمام أبسط المواجهات، فيكون الإنتحار جواب المبتلين بتسرب طاقة الوجود.

ويمكن تشبيههم بالبطارية التي نفذت طاقتها، وإستوجبت الشحن، وهذا دور التداخل الوقائي والإحترازي، أن يكون المعالج قادرا على إعادة شحن بطارية الحياة في أعماق الشخص وتأهيله لمواصلتها.

فهل من وعي مجتمعي للتصدي للسلوكيات الإنتحارية، وهل من مراكز للرعاية والإرشاد النفسي في مجتمعاتنا التي تئن من فقدان قيمة الإنسان؟!!

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم