قضايا

الزوجات بين التراث والمعاصرة

محمود محمد عليهل تعدد الزوجات متعة دنيوية أم رخصة دينية؟، وهل هو جشع ذكوري أم عدل فقهي؟ ولماذا يتذكر الرجال المثنى والثلاث والرباع ولا يتذكرون العدل بالاتباع؟.. ولماذا يبرر الرجال تعدد الزوجات باحتياجات الفحولة تارة، وتارة أخرى بأن نسبة الرجال أكثر في المجتمع؟..  وما السبب في أن تشجيع التعدد والتحريض عليه امتد إلى المرأة نفسها التي هي أول الضحايا فصارت بعضهن يدافعن بحماس عن فائدة الضرة التي لم تعد ضررا بل باتت ضرورة؟

وفي الإجابة علي تلك الأسئلة نقول مع الدكتور خالد منتصر: لا شك قضية تعدد الزوجات من أكثر القضايا الفقهية إشكالية في عصرنا، وشهدت انقساما حولها ليس بين الفقهاء والحقوقيين فحسب بل داخل المؤسسات الفقهية نفسها، بين من يروج لها ويعتبرها من يراها مستحبة وبين من يراها مباحة لكن تشكل استثناء وبين من وجد أنها ما عادت تواكب العصر ويجب أن تعطل وهؤلاء لا يمثلون التيار الغالب، وبعض الفقهاء لجأوا إلى أن الإسلام قيد التعدد ووضع شروط في مقدمتها العدل، وإن استطرد النص ليؤكد استحالة حدوثه وأن التعدد يبقى في نطاق حالات بعينها تستوجب زواج الرجل من آخري حفاظا على الأسرة من التفكك.

وفي المقابل ينظر التيار الحدثي باعتباره أخر جيوب ثقافة اجتماعية بائدة تجاوزتها الحضارة الإنسانية وأنه يمثل حضارة إنسانية انتهت بكل ما يمثلها لما له من أضرار اجتماعية ونفسية تنسحب على المرأة وتمثل امتهانا واحتقارا لها وتكريس لفكرة الذكر المهيمن وما بين مؤسسة دينية ترفض منع التعدد وتسعى نحو تقنينه في أفضل الأحوال وفريق حقوقي يرى ضرورة تجريمه باعتباره تهديدا للأسرة والمجتمع يظل الجدل وتبقى الحقيقة تتلمس طريقها نحو العقول.

وسؤالا آخر نود الإشارة إليه وهو: لماذا أصبحت فكرة تعدّد الزوجات مستهجنة إلا في سياقات ضيقة ملفوفة بالفقر والحروب والعنوسة والعقم والأرامل والمطلقات وما شابه من ظروف اضطرارية؟

إن بعض حالات تعدد الزوجات التي تتم ممارستها اليوم تستند إلى تقاليد مقبولة في بعض المجتمعات، أو إلى «علة» توجد دائمًا كمبرر للزواج الثاني. وهذه هي المساحة التي طرح فيها الكثير من «المدافعين» عن فكرة تعدد الزوجات في الإسلام مقولاتهم؛ إذ قاموا بتبرير التعدد بمنطق الحالات الاضطرارية ، وهو منطق تبريري أكثر من كونه تأصيلاً حقيقيًا لفكرة التعدد في الإسلام.

ومن المثير للدهشة والأسف في آن، الفكر الغربي قد وصل إلى تنظيرات تتحدث عن انتهاء دور الأسرة وأنها ليست أمرًا فطريًا، بل وعن إباحة تشكيل أسرة من رجلين!، هكذا بدون أي تلجلج أو خجل. بينما لا زلنا نحن نحاول -على استحياء- تبرير ما أباحه الإسلام كقضية «تعدد الزوجات» بحالات العوَز والحروب، وفي إطار المطلقات والأرامل و«العوانس»؛ أي نحاول «تجميل» أو «تبرير» تشريع إلهي كي لا يظهر «فجًّا» أمام الأعراف السائدة في المجتمع!.

إن الخطاب المعاصر كما يري الأستاذ شريف محمد جابر يتراوح بين حالتين: إما رفض التعدد والدعوة لتقييده بحجة تغير الأحوال وأنه كان مناسبًا لزمن مضى ولم يعدْ كذلك، وإما حصره وتأويل مشروعيته في الحالات الاضطرارية التي ذكرناها، دون ربطه بالتصور العام للإنسان في الإسلام. ومن الطريف هنا أن بعض ممارسي هذا الخطاب يهولون من عاقبة التعدد، وأن صاحبه «مجنون» ومُقدم على الهلاك، مستعيرين بعض النصوص التراثية الأدبية لتأكيد ذلك. وهو من حيث لا يدرون خطابٌ مُهين للمرأة؛ لأنه يصور لنا النساء وحوشًا ضارية ستنهش الرجل وتسوّد معيشته!، وكأنه لا يمكن أن تقوم في هذا العصر علاقة تعدد قائمة على التفاهم والأخلاق وسعة الأفق.

وفي الأيام الماضية انتشرت حالة من الجدل شهدتها وسائل التواصل الاجتماعى، بعد تصريحات من الدكتور مبروك عطية، حول أن المرأة التي تطلب الطلاق بسبب التعدد جزاؤها جهنم، والتي لاقت غضباً عارماً، حيث وجهت الدكتورة مايا مرسى، رئيسة المجلس القومي للمرأة، رسالة الدكتور مبروك عطية بشأن تصريحاته الأخيرة التي تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن تعدد الزوجات قائلة: "تصريحاتك لا تهمنا.. وسؤالي لحضرتك لو عندك بنت وتزوج الزوج عليها هيكون ده ردك لها".

وعلى إثر ذلك تداول رواد السوشيال ميديا، تصريحات لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، والدكتور شوقى علام، مفتى الجمهورية، فى تصريحات سابقة لهما، تناولا فيها قضية "تعدد الزوجات"، حيث أكد فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، أن تعدد الزوجات الذى نراه فى حياتنا المعاصرة أغلبه يتضمن أشكالا من الظلم للمرأة، وأن مسألة تعدد الزوجات تشهد ظلما للمرأة وللأولاد فى كثير من الأحيان.

ومن تصريحات فضيلته أن المسلم ليس حراً في الزواج من ثانية وثالثة ورابعة.. والتعدد "رخصة" مقيدة بشروط، ومن يقولون إن الأصل في الزواج هو التعدد مخطئون.. والأصل فى القرآن الكريم هو: "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة"، كما أن التعدد مشروط بالعدل ومحرم بغيابه.. والعدل ليس متروكاً للتجربة، وإنما بمجرد الخوف من الظلم أو الضرر يحرم التعدد، ولا أدعو إلى تشريعات تلغى حق التعدد.. لكنى أرفض التعسف فى استعمال هذا "الحق المقيد" والخروج به عن مقاصده.

كذلك تضمنت تصريحات فضيلته: أن أولى قضايا التراث التي تحتاج إلى تجديد هي قضايا المرأة لأنها نصف المجتمع، كما أن رخصة التعدد وردت في سياق آية تدفع الظلم عن اليتيمات لتبين أن التعدد مشروط بعدم الظلم، والعدل بين الزوجات يكون في كل شيء حتى في بشاشة الوجه، و الزوج الذى يتزوج بأخرى قاصدا قهر زوجته الأولى عذابه عند الله شديد.

وفى السياق ذاته، كان قد حسم الدكتور شوقي علام، مفتى جمهورية مصر العربية، قضية " تعدد الزوجات" حيث، قال مفتى الجمهورية: بغض النظر عن كون التعدد أصلًا كان أو فرعًا فلا بد على كل حال أن يكون التعدد تحت وطأة مبرر قوى معتبر، وأن يتوافر العدل مع باقى الزوجات، وأضاف في تصريحات صحفية، إن الأصل عدم التعدد، إلا أن التعدد جاء لعلاج مشكلة اجتماعية، ولذلك ينبغي أن يكون التعدد تحت وطأة مبرر قوى معتبر.

وعن ادِّعاء البعض عدم إنصاف الفقهاء للمرأة بالمخالفة لأوامر القرآن والسنة بإنصافها، قال: إن الفقهاء والعلماء المعتبرين أنصفوا المرأة امتثالًا وخضوعًا لأوامر الشرع الشريف، فها هم الفقهاء والعلماء يعتمدون على المرأة فى العلم والفقه والحديث ويستفيدون من علمها وفقهها كالعالمات من الصحابة والتابعين.

وعن حكم تعدد الزوجات بدون سبب ، عن هذا الحكم.. قال فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، إن رخصة تعدد الزوجات لم تأت في آية منفصلة أو حكم مطلق دون تقييد، وإنما وردت في سياق آية قرآنية تدافع عن اليتيمات من الظلم الذي قد يتعرضن له من قبل بعض الأولياء عليهن، وهو ما يجعلنا نستحضر الظلم الذي قد تتعرض له الزوجة الأولى بسبب التعدد، إذا لم يتم الالتزام بالشرط المتعلق به وهو العدل.

ولفت خلال برنامجه على القناة الفضائية المصرية، إلى أن هذا المنظور في التعامل مع رخصة التعدد ليس بالجديد، فهو موجود في تراثنا وقرره علماؤنا، لكن أهيل التراب على هذا التراث، وساد فهم آخر أدى إلى هذه المآسي التي نعاني منها، والتي دفعت البعض لاتهام الإسلام بأنه هو الذي فتح باب التعدد، مع أن التعدد كان موجوداً في المجتمع العربي قبل الإسلام، وجاء الإسلام ليضع حدا لفوضى التعدد التي كانت سائدة، ويضع سقفا للتعدد، بعدما كان مطلقا.

وحول لماذا لم يحرم الإسلام التعدد بشكل مطلق؟، قال إن هذا المنع كان سيوجد حرجا لدى البعض، فالتعدد في بعض الحالات هو حق طبيعي للرجل، فمثلاً إذا كانت الزوجة لا تنجب والزوج يريد أن تكون له ذرية، فمن حقه أن يتزوج بأخرى، فهذه غريزة وليس من حق أحد أن يقوله له: "عش هكذا بدون ذرية"، لكن عليه ألا يظلم زوجته الأولى، وأن يحرص على أن تنال نفس الاحترام الذي كانت تلقاه قبل أن يتزوج عليها، كما أن لهذه الزوجة أن تطلب الطلاق للضرر إذا لم تقبل العيش مع زوجة أخرى، ولا يجوز للزوج أن يحبسها.

واستشهد شيخ الأزهر بما ذكره الإمام محمد عبده حول التعدد، من أن "إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تٌباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل"، كما يضيف الإمام محمد عبده: "وإذا تأمل المتأمل، مع هذا التضييق، ما يترتب على بعض صور التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي أمة فشي فيها فوضى التعدد، ولو شئت تفصيل الرزايا والمصائب المتولدة من فوضى تعدد الزوجات العاري من العدل؛ لأتيت بما تقشعر منه جلود المؤمنين فمنها السرقة والزنا والكذب".

وأكد فضيلة الإمام الأكبر أن العدل بين الزوجات يكون في كل شيء حتى في بشاشة الوجه، وليس في الأمور المادية فقط والمعاشرة والمبيت، فهذا فهم خاطئ وقاصر ولا ينجي الزوج من العذاب يوم القيامة إذا مال ولم يعدل، مشددًا على أن الزوج الذي يقصد من الزواج بأخرى قهر الزوجة الأولى وإلحاق الضرر بها، عذابه عند الله شديد، وينطبق عليه قوله تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ".

علاوة علي أن الزواج بأكثر من امرأة تشريع قديم أباحته الشرائع السابقة؛ كالتملود والتوراة والمسيحية، ثمّ جاء الإسلامُ وقيَّد تعدد الزوجات، وحدّده بعدد معيّن للحد من الفوضى، ومراعاةً للظروف الأسرية والاجتماعية التي قد تستدعي التعدد، ومن الأدلة على مشروعية تعدد الزوجات قوله تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)، فالإسلام لم يجعل تعدد الزوجات واجباً ولم يعده أمراً مستحسناً، وإنّما أباحه إباحةً مربوطةً بتفضيل الاكتفاء بزوجةٍ واحدة خاصة عند الخوف من عدم العدل.

***

أ. د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

....................

المراجع:

1- شريف محمد جابر: عن تعدد الزوجات في السياق المعاصر، اضاءات، 06/01/2017.

2- عبد الناصر العطار: تعدد الزوجات من الن احي الديني والاجتماعي ، الشركة المصرية للطباعة والنشر- القاهرة- ط5 ، 1972م.

3- لؤى على: شيخ الأزهر والمفتى يحسمان قضية تعدد الزوجات، اليوم السابع، الأربعاء، 24 نوفمبر 2021 02:42 م.

4-إيمان طلعت: حكم تعدد الزوجات بدون سبب.. رأي شيخ الأزهر والمفتي، البوابة نيوز، الأربعاء 25/مايو/2022 - 10:10 ص

في المثقف اليوم