قضايا

هل هناك علاقة سببية بين الديمقراطية والتنمية؟

حاتم حميد محسنمنذ ان افتتح الرئيس (دينج زياو بينج) الاقتصاد الصيني امام عصر جديد من النمو قبل اكثر من 25 سنة، اعتقد العديد من المراقبين في الغرب ان الاصلاح السياسي سيأتي لاحقا. كان التنبؤ السائد هو ان التحرر الاقتصادي سيقود الى تحرر سياسي، ومن ثم الى الديمقراطية.

ذلك التنبؤ لم يكن خاصا في الصين. حتى وقت متأخر كان الاعتقاد العام هو ان التنمية الاقتصادية، متى ما حدثت، ستقود حتما وبالسرعة المناسبة الى الديمقراطية. الحجة، بشكلها المبسط، تقوم كالتالي: النمو الاقتصادي ينتج طبقة متوسطة متعلمة ومبدعة سوف تبدأ ان آجلا او عاجلا بالمطالبة في التحكم بمصيرها. وفي نهاية المطاف، ستُجبر حتى الحكومات القمعية على الإذعان لتلك المطالب.

الثراء الكبير لا يعني تحرراً

كون معظم الدول الغنية في العالم هي دول ديمقراطية اعتبرُه البعض دليلاً قوياً على هذا الترابط بين النمو والديمقراطية . غير ان التاريخ القريب، زاد من تعقيد الامور. وكما يبدو من الأحداث الآن، ان الارتباط بين التنمية الاقتصادية وما يسمى عموما بالديمقراطية الليبرالية هو في الحقيقة ضعيف جدا وربما يزداد ضعفا. وبالرغم مما تشهده الديمقراطيات الحالية من ارتفاع نسبة الدخل لكل فرد ومساهمته في الاستقرار، لكن الأعداد المتزايدة من الدول الاستبدادية يشير الى ان الثروة المتعاظمة لوحدها لا تقود اوتوماتيكيا الى المزيد من الحرية السياسية. الانظمة الاستبدادية حول العالم تبيّن انها بامكانها اقتطاف منافع التنمية الاقتصادية وبنفس الوقت تتجنب اي ضغوط للتخفيف من قبضتها السياسية. هذه الظاهرة تتجلى بشكل اكثر وضوحا في الصين وروسيا. رغم ان الاقتصاد الصيني نما بشكل انفجاري في السنوات الخمس والعشرين الاخيرة، لكن سياسة الصين بقيت جامدة من حيث الجوهر. في روسيا، نجد الاقتصاد تحسّن مؤخراً حتى مع تشديد الكرملن لقوته السياسية.

ان التعارض بين هاتين النزعتين – النمو الاقتصادي وتراجع الحرية السياسية – هو اكثر من غرابة تاريخية. هو يشير الى حقيقة مشؤومة لم يُعترف بها جيدا وهي ان : النمو الاقتصادي، بدلاً من ان يكون قوة نحو التغيير الديمقراطي في الدول الاستبدادية، يمكنه احيانا ان يُستخدم لتقوية الانظمة القمعية. زياو زينك، امبراطور الصين في الثمانينات من القرن الماضي، ربما كان على صواب حين جادل بان، "الديمقراطية ليست شيئا ما يمكن ان تتجنبه الاشتراكية". لكن الآن تتوفر المزيد من الادلة التي تثبت ان الحكومات الاوتوقراطية من مختلف الالوان يمكنها على الاقل تأجيل الديمقراطية لوقت طويل جدا. في نصف القرن الماضي، أنجز عدد كبير من هذه الانظمة نموا اقتصاديا واسعا دون اي تحرر سياسي مماثل. وفي حالات اخرى، اُجبر الاوتوقراط على ادخال تغييرات سياسية متواضعة لكنهم مع ذلك نجحوا في تضييق نطاق تلك التغييرات ومن ثم الاستمرار في الحكم.

ماالذي يفسر الفجوة الزمنية الطويلة بين بداية النمو الاقتصادي وظهور الديمقراطية الليبرالية؟ الجواب يكمن في تزايد التعقيد في الحكومات السلطوية. رغم ان منظّري التنمية هم على صواب في افتراض ان زيادة دخل الفرد تقود الى زيادة في المطالب الشعبية للسلطة السياسية، لكنهم تجاهلوا مقدرة الحكومات القمعية على إعاقة تلك المطالب. الانظمة الاستبدادية تصبح افضل حالا في تجنب المشاكل السياسية للنمو الاقتصادي، وان هذا النمو يميل الآن الى زيادة فرص بقاء تلك الانظمة بدلاً من تقليلها.

هذه الحقيقة جرى تجاهلها بشكل كبير من جانب وكالات التنمية وادارة الرئيس السابق بوش. واشنطن تفائلت كثيراً بان العولمة وانتشار رأسمالية السوق ستقود حتما الى انتصار الديمقراطية باسلوبها الغربي. لكن من غير الواضح كيف تفسر امريكا كل الامثلة المضادة لذلك. ما هو واضح هو ان واشنطن تحتاج لإعادة التفكير في خططها لنشر الديمقراطية حول العالم. علاوة على ذلك، هيئات التنمية مثل البنك الدولي يجب ان يعيد دراسة انواع الشروط التي يفرضها لمنح القروض. مجرد الضغط لإشاعة المزيد من الحرية الاقتصادية لا يُحتمل ان تكون له الكثير من الثمار السياسية – على الاقل في المدى القريب.

الهروب من فخ النمو

الاوتوقراط لديهم الاسباب الكافية للنظر للنمو الاقتصادي بشكل مزدوج، كوسيلة وكمصيدة. فمن جهة، هو يزيد من فرص بقاء المستبدين، عبر توسيع موارد الحكومة (من خلال عوائد ضريبية عالية) وتحسين مقدرتها في التعامل مع مختلف المشاكل (مثل الركود الاقتصادي او الكوارث الطبيعية). كما يميل النمو الاقتصادي في المدى القصير ايضا لزيادة قناعة المواطن بحكومته، بما يجعله لا يدعم خطط تغيير النظام.

وفي المدى البعيد، يمكن للنمو الاقتصادي ان يهدد البقاء السياسي للحكومات المستبدة عبر زيادة احتمال بروز منافسين سياسيين نشطين. هذا يحدث لسببين: النمو الاقتصادي يزيد مخاطر اللعبة السياسية بزيادة الغنائم المتوفرة للرابحين، وانه يقود لزيادة في عدد الافراد الذين لديهم الوقت الكافي والتعليم والنقود للانخراط في السياسة. كل هذه التغييرات تدفع لتحريك عملية الدمقرطة التي ستكتسب تدريجيا زخما اكبر، والتي بالنهاية ستكتسح الوضع القائم للاوتوقراط وتخلق ديمقراطية ليبرالية منافسة محله.

حتى الآن، افترض العديد من صناع السياسة الغريين وخبراء التنمية ان التحرر السياسي يلحق بالنمو الاقتصادي بفاصل زمني بسيط، وان الحكومات الاوتوقراطية لديها القليل ما تقوم به لوقفه (طالما تبقى ملتزمة بالحفاظ على التقدم الاقتصادي). مثل هذا التفكير يمتد في جذوره الى (سيمون مارتن لبست)، السوسيولوجي والعالم السياسي البارز الذي صاغ فكرة ان النمو الاقتصادي يعجّل الدمقرطة عبر زيادة حجم الطبقة الوسطى المتعلمة. لكن (لبست)، مع ذلك، حذر قرائه من ان العملية ليست مضمونة، فهي رغم انها اثبتت نجاحها في اوربا الغربية، لكن النجاح كان معتمدا على ظروف خاصة جدا. ومنذ ان نشر (لبست) استنتاجاته، لسوء الحظ ذهبت تحفظاته ادراج الرياح.

اتباع (لبست) ايضا تجاهلوا حقيقة ان الدول الاوتوقراطية ليست مراقب سلبي للتغيير السياسي، انها، في الحقيقة، تضع قواعد اللعبة وتسيّرها بما يتناسب مع حاجاتها. الاوتوقراط يتمتعون بمزايا واضحة تجاه مواطنيهم في مقدرتهم على تحديد شكل المؤسسات والأحداث السياسية. هم اثبتوا ادراكهم لهذا اكثر مما متوقع، وكانوا اذكياءاً في تأجيل الدمقرطة مع استمرارية الحفاظ على النمو الاقتصادي.

ضمان نجاح اللعبة

لكي نفهم الكيفية التي تدير بها الانظمة الاستبدادية هذه الخدعة، من المفيد اولاً فهم مفهوم التنسيق الاستراتيجي. ان مصطلح "التنسيق الاستراتيجي" strategic coordination الذي جاء من ادب العلوم السياسية، يشير الى مجموعة من النشاطات التي يجب ان ينخرط بها الناس ليربحوا السلطة السياسية في موقف معين. هذه النشاطات تتضمن نشر المعلومات، تعيين وتنظيم اعضاء المعارضة، اختيار القادة، بناء استراتيجية حيوية لزيادة سلطة الجماعة وللتأثير على السياسة.

التنسيق الاستراتيجي مفهوم نافع لأنه يساعد في توضيح سبب الاعتقاد التقليدي بان النمو الاقتصادي يعزز الدمقرطة. العملية تعمل كالتالي: النمو الاقتصادي يقود الى التمدين وتحسين في التكنلوجيا والبنية التحتية. هذه التحسينات تسهّل بشكل دراماتيكي الاتصالات والتوظيف من جانب جماعات سياسية جديدة. النمو الاقتصادي ايضا يقود لزيادة الاستثمار في التعليم، الذي يفيد المعارضة عبر انتاج المزيد من الافراد المتعلمين الذين يمكن تعيين مساعدين من بينهم. يساعد التنسيق الاستراتيجي ايضا في توضيح الكيفية التي نجح بها بعض الاوتوقراطيين في إضعاف و كسر الحلقة بين التنمية الاقتصادية والدمقرطة. اذا استطاعت السلطة الاستبدادية القائمة تقييد التنسيق الاستراتيجي من جانب المعارضة، فانها تستطيع تقليل احتمال الاطاحة بها من جانب الخصوم. لكن هناك مأزق في هذه العملية: لكي يبقى الاوتوقراطيون آمنين ، فيجب عليهم رفع كلفة التنسيق السياسي بين صفوف المعارضة دون ان يضطروا لرفع كلفة التنسيق الاقتصادي طالما ان هذا قد يكبح النمو الاقتصادي ويهدد استقرار النظام ذاته.

حياكة خيوط هذه اللعبة ليست بالمهمة السهلة لكنها ليست مستحيلة. تدريجيا، وعبر التجربة والخطأ، اكتشفت الانظمة القمعية انها تستطيع قمع المعارضة بقوة دون الإضرار الكلي بالنمو الاقتصادي وذلك عبر التقنين المدروس لبعض الاصناف الفرعية للخدمات العامة - الخدمات المصيرية للتنسيق السياسي لكنها اقل اهمية للتنسيق الاقتصادي. من خلال تقييد هذه الخدمات، يكون الاوتوقراط حصّنوا انفسهم من التحرر السياسي الذي يعززه النمو الاقتصادي.

كيف يتم ايقاف الثورة

الامثلة على هذه الاستراتيجية كثيرة. انظر لبعض الحالات القليلة في السنوات الماضية. الصين حجبت بانتظام وسائل الوصول الى خدمة اخبار اللغة الانجليزية في غوغل ومؤخراً اجبرت مايكروسوفت لمنع استخدام كلمات مثل "حرية" و "ديمقراطية" في برنامج السوفتوير المُستخدم من جانب المدونين. هذه الحركات كانت فقط الاخيرة في سلسلة طويلة من القيود الصينية على النشاطات المتصلة بالانترنيت، قيود شملت نطاقا واسعا بدءاً من خلق وحدة شرطة خاصة للانترنيت الى تحديد عدد بوابات الانترنيت في الصين. وفي روسيا، وضع الرئيس بوتن كل شبكات التلفزيون الوطنية تحت سيطرة صارمة للحكومة. في اكتوبر 2003، قام بترتيب اعتقال ابرز معارضيه ميخائيل غورباشوف. في فنزويلا، الرئيس هوغو شافيش استعمل قانون جديد في ديسمبر 2004 يسمح له بمنع بث التقارير الاخبارية عن الاحتجاجات العنيفة او عن قمع الحكومة وقام بتعليق اجازات الترخيص الاذاعية للقنوات الاعلامية التي تنتهك قائمة طويلة من اللوائح. وفي فيتنام، فرضت الحكومة سيطرة صارمة على المنظمات الدينية ووصفت قادة الجماعات الدينية غير المرخصة (بما فيها الرومان الكاثوليك، وجماعة المينونيت البروتستانتية، البوذيين) بالمخربين.

كل من هذه الحالات تطلبت فرض قيود على ما يسمى "خدمات التنسيق" coordination goods – وهي الخدمات العامة التي تؤثر بشكل حاسم على مقدرة المعارضين السياسيين على التنسيق فيما بينهم لكنها تمتلك تأثير قليل نسبيا على النمو الاقتصادي. خدمات التنسيق تختلف عن اكثرية الخدمات العامة مثل النقل العام، الرعاية الصحية، التعليم الابتدائي، والدفاع الوطني التي حين تُقيّد سيكون لها تأثير هام جداً على كل من الرأي العام والنمو الاقتصادي.

تاريخيا، الحكومات القمعية الساعية الى سحق المطالبين بالتغيير الديمقراطي قمعت كلا النوعين من الخدمات، فأضرت باقتصادياتها اثناء العملية. كان هذا النموذج هو السائد في معظم اسيا وافريقيا حتى الثمانينات من القرن الماضي، وبقي كما هو حاليا في العديد من الدول الفقيرة مثل مينامار وزيمبابوي . ومؤخرا، اكتشفت الحكومات في روسيا والصين وفيتنام واماكن اخرى انها حين تركز قيودها فقط على خدمات التنسيق، فانها يمكنها الاستمرار بتجهيز الخدمات الاخرى الضرورية للتقدم الاقتصادي بينما في نفس الوقت تلتف على الضغوط المطالبة بالتغيير السياسي الذي يرسخه هذا التقدم.

بالطبع، توفير الخدمات العامة له تأثير على مقدرة جماعات المعارضة على التنظيم والتنسيق. لكن هناك اربعة انواع من الخدمات تلعب دورا اساسيا في هذه الفعاليات. هذه تتضمن الحقوق السياسية، مزيد من حقوق الانسان، حرية الصحافة، واتاحة التعليم العالي.

اولى الخدمات العامة، الحقوق السياسية، تتضمن حرية الكلام والحق في التنظيم والتظاهر السلمي. وعلى الرغم من ان الحقوق السياسية هي سلبية بشكل كبير، اي انها بمعنى تحد من تدخل الدولة بدلا من حاجتها لفعل الدولة، فانها فعلا تتطلب احيانا من الحكومات القيام بمختلف الخطوات لفرضها، خاصة عندما تستلزم تصويت جماعات الأقلية على الآراء الغير مرغوبة من جانب الاكثرية.

وكما في معظم حقوق الانسان، هذا يتضمن التحرر من الاعتقال العشوائي والحماية عند المثول امام القضاء، الحق بعدم التمييز العنصري القائم على الدين او العرق او القومية او الجنس، التحرر من الاعتاءات الجسدية وحق السفر في الداخل والخارج .

مختلف انواع الصحافة غير المنظمة والواسعة تعتبر حيوية لمعارضة سياسية فعالة، طالما انها تمكّن من نشر المعلومات التي تجمع مختلف الجماعات الى بعضها حول مصلحة مشتركة. وكما الحال في الحقوق السياسية، فان الحق في الصحافة الحرة هو حق سلبي الى حد كبير، طالما انه يتطلب من الحكومة عدم التدخل. انه ربما يتطلب خطوات ايجابية، مثل منح اجازات ترخيص الراديو والتلفزيون، ضمان حرية الوصول لهذه الوسيلة الاعلامية وللانواع الاخرى للميديا، ترجمة الوثائق الرسمية الى اللغات المحلية.

اخيراً، توفير واتاحة التعليم العالي الواسع والتدريب للمتخرجين يعتبر حيويا للمواطنين الراغبين بتطوير مهاراتهم في الاتصال والتنظيم وتنمية حضورهم السياسي. التعليم المتقدم ايضا يسهّل خلق تجمع كبير من قادة المعارضة المحتملين، الامر الذي يزيد عدد المنافسين للحكومة القائمة.

بعض الحكومات السلطوية تدّعي انها ترفض توفير تعليم عالي (وخدمات تنسيق اخرى) بسبب كلفته العالية. في الواقع، خدمات التنسيق هي ليست اكثر كلفة من الخدمات العامة الاخرى وربما ارخص ثمنا من البعض، مثل الدفاع القومي والنقل. عندما تختار الحكومة فرض القيود عليها، فانها تزيد الكلفة السياسية للتنسيق. في الحقيقة، بعض خدمات التنسيق تكلف اكثر في حالة القمع مما لو سُمح بها – مثال على ذلك حين تنفق الحكومة مواردها في سحق الحركات المعارضة او كبح وسائل الاعلام الحر لتنتج بروبوغندا خاصة بها.

وصفة النجاح الاوتوقراطي

لكي تتم معرفة الكيفية التي تباشر بها الحكومات الاوتوقراطية والديمقراطيات غير الليبرالية النمو الاقتصادي مع تأجيلها للديمقراطية، سنقوم بفحص الخدمات العامة المتوفرة في 150 دولة بين الأعوام 1970 و 1999. دراسة معينة في هذا المجال توصلت الى أربعة استنتاجات هامة.

اولاً، ان كبح خدمات التنسيق العامة هو استراتيجية فعالة للبقاء، الدراسة اكّدت ان توفير خدمات التنسيق يقلل بشكل كبير من إمكانات بقاء الانظمة الحاكمة. تزويد الخدمات العامة الاخرى، هو اما لا يؤثر ابداً في بقاء تلك الانظمة او يطيل أمد بقائها. السماح بحرية الصحافة وضمان الحريات المدنية، يقلل فرص بقاء الحكومة الاوتوقراطية لسنة اخرى بنسبة 15 الى 20%. الاحصائية ملفتة و توضّح القمع السياسي والاعلامي في كل العالم النامي.

ثانيا، الدراسة بيّنت ان اوتوقراطيات اليوم تميل لقمع خدمات التنسيق اكثر مما تفعل مع الخدمات العامة. في كل العالم، من بكين الى موسكو الى كركاس، الانظمة السلطوية تبدو واعية جدا بخطر تزويد شعبها بخدمات التنسيق، وهي تمتنع عن القيام بهذا باستمرار. من جهة اخرى، معظم القادة الاوتوقراطيين يعترفون بان هناك القليل من الخوف من تزويد الخدمات العامة الاخرى، مثل التعليم الابتدائي والنقل العام والعناية الصحية. فيدل كاسترو لم يخاطر ابدا حين حسّن كثيرا الخدمات الصحية في كوبا، وكذلك كيم ونك الثاني لم يضع نفسه في خطر حين تبنّت الحكومة زيادة نسبة الابجدية (القراءة والكتابة) في كوريا الشمالية الى اكثر من 95%. كلا النظامين كانا حريصين على قمع خدمات التنسيق.

الدراسة ايضا اكّدت كلما كان قمع خدمات التنسيق كبيرا في بلد معين، كلما كانت الفجوة الزمنية اكبر بين النمو الاقتصادي وظهور الديمقراطية الليبرالية. بالطبع، بعض الانظمة اللاديمقراطية اكثر براعة من غيرها في قمع خدمات التنسيق . لكن هناك ارتباط واضح بين الفشل باعتماد هذا القمع واحتمال ان تصبح الدولة ديمقراطية حديثة .

كذلك، الدراسة وجدت انه بالإمكان تحقيق نمو اقتصادي هام ومستمر حتى عندما تقمع الحكومة خدمات التنسيق (لا ننسى الصين وروسيا وفيتنام). وحينما تحدث هذه الميول مجتمعة – اي عندما تتمتع الدولة بالنمو الاقتصادي بينما تقمع خدمات التنسيق – فان فرص النظام في البقاء تتحسن بشكل كبير وستقل فرص الدمقرطة (على الاقل لمدة 5 الى 10 سنوات). وعلى الرغم من محدودية البيانات التي تجعل من الصعب التأكد من ميل النمو الاقتصادي في المدى البعيد لدفع الانظمة نحو الديمقراطية، الاّ ان هناك دليل متزايد على الاقل في المدى القصير بان النمو الاقتصادي يعمل على استقرار الانظمة بدلا من اضعافها. ولذلك، لا يُنظر الى الصين كاستثناء من القاعدة - بان النمو ينتج التحرر، وانما هي تعبير عن حقيقة انه عادة لا يكون كذلك.

منْ يخدع منْ؟

الانفصال المتزايد بين التنمية والديمقراطية ينطوي على ثلاثة دروس لصانعي السياسة في امريكا والديمقراطيات الليبرالية الاخرى الذين يشعرون بالاحباط من بطء التغيير في العالم النامي ويأملون بتسريع العملية.

الدرس الاول

وهو الاكثر وضوحا، ان صانعي السياسة الديمقراطيين بحاجة للاعتراف بان تعزيز النمو الاقتصادي في العالم النامي، ليس الطريقة الفعالة لتعزيز الديمقراطية كما يُعتقد. الحكومات القمعية تعلمت من تجاربها الجماعية ان التنمية رغم انها خطيرة لكن بالإمكان تقليل هذه الخطورة الى ادنى مستوى. الاوتوقراطيون ومن خلال تقييد خدمات التنسيق، يستطيعون تأمين عدة اشياء مثل ارضاء سماسرة السلطة والقادة العسكريين الذين يستفيدون من النمو الاقتصادي، و زيادة الموارد لمسايرة الصدمات السياسية والاقتصادية، و وجود معارضة سياسية ضعيفة ومحبطة.

الدرس الثاني

وهو مهم لصناع السياسة له علاقة بالشروط المرفقة بالقروض والمساعدات التي يمنحونها للعالم النامي. عندما يضع البنك الدولي شروطا لمنح القروض للدول النامية كشرط قيام الحكومات بالاستثمار في البنية التحتية والصحة والابجدية، فهو يقوم بهذا اعتقادا منه بان هذه الاستثمارات ستقود الى زيادة النمو الاقتصادي الذي بدوره يقود الى توسع الطبقة الوسطى، ومن ثم الديمقراطية. لكن هذه التوقعات غير واقعية. مثل هذه الاستثمارات يمكنها بنفس القدر ان تمد في عمر الحكومات غير الليبرالية بدلا من تقصيرها. المساعدات الاجنبية ، كما تُدار حاليا، تميل الى تقوية بدلاً من إضعاف القادة اللاديمقراطيين.

الجواب لهذه المشكلة يكمن ليس بتجاهل اولوية النمو الاقتصادي او توفير مستوى من الخدمات العامة . وانما بتوسيع شروط القروض لتتضمن متطلبات منها ان تقوم الدول المستلمة للقروض بتزويد مواطنيها بخدمات التنسيق، مثل الحريات المدنية الاساسية، حقوق الانسان، وحرية الصحافة. ان جعل المواطنين العاديين يستطيعون التنسيق والاتصال مع بعضهم بسهولة سوف يعزز نمو الحريات السياسية. وبناء عليه، وقبل ان يُمنح الاوتوقراط مساعدات دولية يجب اجبارهم على تنفيذ اصلاحات متواضعة مثل توفير فرص اكبر للتعليم العالي، والسماح بالصحافة الحرة، واطلاق حريات واسعة للتجمعات .

ادخال مثل هذه الشروط ، يتطلب من وكالات التنمية ان لا تنشغل بالجدال حول ما اذا كانت حقوق الانسان تُعرّف بعبارات من الاسكان الإطعام والرعاية الصحية والملابس والضرورات الاساسية الاخرى ام وفق مفاهيم الحرية الفردية وحماية مصالح كل من الاغلبية والاقليات. الدكتاتوريون يفضلون التعريف الاول فقط لأنه ينسجم جيدا مع مصالحهم. من الواضح ان هذا الجدال يبحث عن المصلحة الخاصة. المزيد من الادلة تبين ان الحرية السياسية وتوفير الخدمات الاساسية يسيران جنبا الى جنب، المجتمعات التي تحترم الحريات المدنية هي في اغلبها توفر الاساسيات لمواطنيها.

الدرس الثالث

و يتعلق بالاحداث الاخيرة في الشرق الاوسط. من المفيد النظر الى انتخابات العراق، والوعد باجراء انتخابات نزيهة في مصر كلها توحي بالتفاؤل ولكن من المهم ان تبقى تلك التطلعات واقعية. المراقبون يجب ان يتذكروا ان السياسات القمعية التي خدمت اوتوقراطيي الشرق الاوسط جيدا في الخمسين سنة الماضية لم تتآكل بعد في السعودية ومصر ولبنان. وهذا ليس بالضرورة سببا لليأس. لكن اولئك المهتمين بقياس التقدم الديمقراطي في المنطقة يجب ان يعطوا مزيداً من الانتباه الى وجود خدمات التنسيق هناك – اي درجة التضييق الذي يُمارس على الميديا، مثلا، او مدى سهولة اجراء مظاهرات ضد الحكومة. هذه العناصر هي اكثر من مجرد وجود انتخابات، وستبقى جوهرية للتحول نحو الديمقراطية الحقيقية. والى ان تظهر هذه العناصر يجب على الولايات المتحدة والاتحاد الاوربي ووكالات الدعم الاستمرار بمواصلة الضغط لأجل التغيير.

***

حاتم حميد محسن

....................

* Development and Democracy, Foreign Affairs, September/October 2005.

في المثقف اليوم