قضايا

الإسلام دين العقل

ليلى الدسوقيقال – الله تعالى-: " قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ" ﴿٢٣﴾ سورة الملك

فالأفئدة محل العقول التي هي أساس التّكليف بالقيام بالفرائض وامتثالها واجتناب النّواهي، ولا يوجد عقيدة جعلت العقل محطّ اهتمامها ورفعته كالعقيدة الإسلاميّة، وقد ظهر هذا الأمر جليّاً في الآيات القرآنيّة الدّاعية إلى التّفكر والتّأمل والتّدبر، الناهية عن كلّ ما يؤذيه أو يعطّله أو يضرّ به، منها قول الله تعالى: " كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " ﴿٧٣﴾ سورة البقرة

فالاسلام يخاطب دائما العقل فى الانسان يقول الله تعالى " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا " ﴿٧٠﴾ سورة الاسراء وحين خاطب الوحى الانسان خاطب العقل فيه فكانت أول آياته: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿١﴾‏ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿٢﴾‏ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿٣﴾‏ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿٤﴾‏ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿٥﴾) سورة العلق فماذا نظن بالقراءة هنا هل هى القراءة بالعين والنظر فقط؟  لا انها قراءة واعية متأملة تدعو الى الفهم والتدبر والادراك لكل ما خلقه الله واوجده فى هذا الكون هى قراءة واعية لذاته وفهم المعانى الحقيقية لوجوده

يقول الفيلسوف (محمد إقبال) ان محمداً – ﷺ – كان لابد وان يكون خاتم الانبياء وان تكون رسالته اخر الرسالات لانه جاء ليدعو الى تحكيم العقل فيما يعرض للناس من مشكلات ولان معجزة الرسول ﷺ كانت القرآن وهو الكتاب الذى خاطب البشرية فى طور نضجها واتزانها فلم يكن من قبيل المصادفة ان تحتوى آياته على توجيهات للاشادة بالعقل وتوجيه النظر الى استخدامه للوصول الى ما يفيد البشرية

فهو يشير فى اكثر من ثلاثمائة وخمسين اية الى العقل ومشتقاته ومترادفاته ومعانيه من التفكر والتدبر والتذكر والحكمة واللب والنظر والرشد والرأى والعلم والفقه والقلب والنهى والفؤاد ....الخ وجاء ذلك مصداقا لقوله تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿٢﴾ سورة يوسف

اذن انسان الاسلام بعقله ، والعقل هو القوة التى توجه سلوكه وتفسر وجوده وتعلل الظواهر المحيطة به وتستنبط الاحكام التى يسترشد بها انه مناط الثواب والعقاب ولولا العقل ما تحددت مسئولية الانسان من افعاله امام خالقه انه الاداة التى تميز الحق عن الباطل الخير عن الشر الجميل من القبيح بدون العقل لا مجال للتكاليف ولا اعتبار للجزاء

يقول العقاد: كذلك يخاطب الاسلام العقل ولا يقصر خطابه على الضمير او الوجدان وفى حكمه ان النظر والعقل هو طريق الضمير الى الحقيقة وان التفكير باب من ابواب الهداية التى يتحقق بها الايمان ومن هنا كانت تفرقته الدقيقة بين صاحاب الادراك الواعى وبين فاقد الوعى والادراك (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ٥٠﴾‏ سورة الانعام) انه ينبهنا الى ان العاقل هو الذى يميز بين العلم والجهل بين الضلال والهدى بين الحق والباطل وعلى ذلك فانسانية الانسان لن تتحقق الا بالفهم الصحيح وتحصيل العلوم والتجارب

فلقد تنوع الخطاب القرآنى والحديث النبوى فى ذكر مصطلح العقل ودلالاته ليشمل كل فعل بالنظر والتامل والاستباط والتعلم والتفقه والتبصر والتدبر.

و دعا الانسان الى استخدام منهج التامل والاستقراء والاستباط وفى ذلك يقول (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴿١٧﴾‏ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿١٨﴾‏ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴿١٩﴾‏ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴿٢٠﴾‏ سورة الغاشية انها دعوة لاستخدام مفهوم السببية والملاحظة وهو منهج العلم للوصول الى الحقيقة ان الاسلام يدعونا الى الاهتمام بعلوم الظواهر الكونية لكى نكشف اسبابها ونستفيد منها كذلك يدعونا الى ان نستبصر انفسنا لنعلم حقيقتها وماهيتها فنعلم ما لها وما عليها وفى ذلك يقول (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) 53 سورة فصلت.

و فى ظل الاسلام استطاع المسلمون نظم الكثير من المعارف وضبط حركة الفكر التى يعتبر العقل قاسما مشتركا فى كل ابداعات العلماء والمفكرين العرب والمسلمين فقد عرفوا العقل والتزموا منهجه منذ القرن الثانى الهجرى فبداوا بوضع منهج الضبط اللغوى " علم النحو والصرف " ووضعوا المنهج فى علوم الشريعة كعلم " اصول الفقه " لاستنباط الاحكام كذلك كان اهتمامهم بالمنطق لضبط التفكير الفلسفى والتامل العقلى ومناهج البحث والاستدلال والاستقراء فى مجال العلوم الكونية وتم استحداث علوم لم تكن معروفة كعلم اصول الدين وعلم التوحيد والذى قام فى جانب كبير منه على العقل وخاصة لدى فرقة المعتزلة لان الاصل فيه اقامة الادلة وتقديم الحجج لمواجهة الخصوم وظهر علم اصول الفقه.

اما فى العلوم العقلية والفلسفية فقد كان العقل هو نقطة البداية لكل تفكير يسعى الى فهم الكون وخالقه والانسان.

و كان لفلاسفة الاسلام اصحاب الفكر والنظر دورهم فى اثراء الحياة العقلية سواء فى المشرق العربى كالكندى والفارابى وابن سينا والغزالى او فى المغرب العربى كابن باجه وابن طفيل وابن رشد وكان لهم فضل حفظ تراث الحضارات الشرقية القديمة والتراث اليونانى واضافة البعد الاسلامى له وحين حاولت اوروبا التقدم لم تجد سوى هذا التراث ليكون البداية الحقيقية لنهضة شاملة شهدتها اوروبا والعالم اجمع

لقد نعم انسان الاسلام بالحرية فى كافة صورها واشكالها حرية العقيدة (ا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) 256 سورة البقرة، حرية الفكر (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿34) سورة فصلت فتولدت الحركات الفكرية وتميزت الدولة العربية فى العصور الوسطى بالتسامح والايمان بالحرية فى الفكر والعقيدة لم تفرق بين مسلمين وغير مسلمين فقد تبوأ العلماء الذميين منهم مكانا مرموقا عند قادتهم وفى رعاية خلفائهم ونعموا برعايتهم بل كانت مكانة بعضهم اعلى من مكانة الخلفاء انفسهم تذكر كتب التاريخ ان (الرشيد) كان يكثر الدعاء وهو بمكة لطبيبه النصرانى " جبريل بن بختيشوع " وينكر عليه بنو هاشم ذلك فيقول لهم: (ان صلاح بدنى وقوامى به وصلاح المسلمين بى فصلاحهم بصلاحه وبقائه) فيذعنون لما يسمعون

فالاسلام قد اطلق العنان للعقل ولم يقيده بكتاب ويؤيد كلامه بمن جاء يسأل رسول الله ﷺ: اين كان ربنا قبل السموات والارض ؟ فاجابه عليه الصلاة والسلام " كان فى عماء تحته هواء " والعماء عندهم السحاب وهذا دليل على ان رسولنا ﷺ اقام حكمه العقلى بناء على النص الدينى (ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) 11 سورة فصلت وكذلك قوله تعالى (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) 7 سورة هود فالنظر العقلى هو وسيلة الايمان الصحيح

 وقد ظهر تكريم الإسلام للعقل من خلال العديد من الصور، منها ما يأتي: فى مدح القرآن الكريم المستخدمين عقولهم في التدّبر والتفكّر، وذمّ الموقفين عقولهم عن العمل، قال - تعالى-: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)269 سورة البقرة .وقد وضع الإسلام للعقل حدوداً يمكنه تحمّلها والعمل ضمن نطاقها، ولا يمكن تعدّيها إلى غير اختصاصه وعمله، لأنّ ذلك يعدّ تعباً بلا فائدة، وطمع من غير مطمع. جعل الإسلام العقل أحد الضروريّات الخمسة التي اعتنى بها، والتي تقوم عليها مصالح الدنيا والآخرة، وهو الأساس في تقسيم الأحكام في فروض عينيّة يجب على جميع المسلمين تعلّمها ولا يُعذر أحدٌ بجهلها، ومنها فروض كفاية.

فالإسلام شرع مجموعة من الأمور من أجل الحفاظ على العقل والعناية به، فنهى عن كل ما يصيبه بالضّرر كالخمر والمسكرات، ورتّب على فعل مثل هذه الأمور الحدود، لأنّ العقل مصلحة ضروريّة من مصالح الإنسان، وأوجب العلم لما فيه من إعمال العقل والتدبّر، ووضع الإسلام أمام العقل المنهج الصّحيح للتفكير بعيداً عن العوائق والموانع.

يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أظل أهاب الرجل حتى يتكلم، فإن تكلم سقط من عيني، أو رفع نفسه عندي».. وقديماً قال الفيلسوف اليوناني الشهير سقراط: (تكلم حتى أراك) لذا لابد من إعمال العقل قبل التكلم لكى يرانا الاخرون كما نحب

اخيرا نحن الان فى عصر نحتاج فيه الى فهم الدين فهما صحيحا يتلاءم مع تطوراته وتغيراته فهما يجعلنا نمسك عصرنا بايدينا لا عصرا ينسحب امامنا ولا نشارك فى تقنياته ومناهجه وعلومه ان لدينا القوة الروحية والزاد الدينى الذى يدفعنا الى العمل والكفاح ولدينا الشباب الذى يملك القوة والطموح والعقل كما وان لدينا من الموارد الطبيعية والوسائل المادية ما يدفعنا الى الثقة بالنفس والعمل بجد واجتهاد فلنلحق بالعصر قبل ان بنقلب من بين ايدينا فنقعد ملومين محسورين.

***

بقلم : ليلى الدسوقى

في المثقف اليوم