قضايا

لماذا يتجاهل علم النفس مسألة وجود الروح؟

حاتم حميد محسنيؤمن الكثير من الناس اليوم بوجود الروح، وبينما تختلف التصورات بشأنها لكن العديد من الناس يصفونها بانها "قوة لا تتجزأ تبث فينا الحياة". احيانا يجري الاعتقاد ان الروح ستبقى بعد الموت وهي ترتبط ارتباطا وثيقا بذكرياتنا وعواطفنا وقيمنا. البعض يجادل ايضا ان الروح ليس لها كتلة ولا مكان .

لكن علماء الأعصاب وعلماء النفس يرون ان لافائدة لهم من الروح. على العكس من ذلك، كل الوظائف التي تُنسب للروح يمكن توضيحها عبر آلية عمل الدماغ. ان علم النفس هو دراسة السلوك. وعلماء النفس، لكي يقوموا بواجباتهم في تعديل وضبط السلوك، مثل معالجة الإدمان والفوبيا والقلق والكآبة، هم لايحتاجون لإفتراض وجود أرواح لدى الناس. بالنسبة لعلماء النفس، ليس مهماً عدم وجود الروح، ذلك لأنهم لايحتاجون اليها.

قيل ان علم النفس فقد روحه منذ الثلاثينات من القرن الماضي. في هذا الوقت، اصبح حقل علم النفس علما تاما، معتمدا على التجارب والتحكم بدلا من الاستبطان.

ما هي الروح؟

ان افتراض وجود الروح لم يأت فقط من المفكرين الدينيين وانما ايضا جاء من فلاسفة بارزين مثل افلاطون (424-348ق.م) وديكارت في القرن السابع عشر. افلاطون اعتقد اننا في حياتنا لا نتعلم اشياءً جديدة وانما نتذكر ما عرفناه قبل الولادة. ولكي يتم هذا، هو استنتج باننا يجب ان تكون فينا روح. وبعد عدة قرون، كتب ديكارت كتابه (انفعالات الروح، 1649)، جادل فيه بان هناك فرقا بين الذهن الذي وصفه كـ "مادة مفكرة"، والجسم، كـ "مادة ممتدة". هو كتب:

"بما اننا لا نمتلك تصورا عن الجسد باعتباره يفكر بأي شكل من الأشكال، لذا نحن لدينا السبب للاعتقاد بان كل نوع من التفكير الموجود فينا انما يعود الى الروح".

احدى الحجج التي طوّرها ديكارت عن وجود الروح كانت ان الدماغ، الذي هو جزء من الجسم، هو فان ومنقسم – بمعنى يتكون من مختلف الأجزاء – وان الروح هي أبدية وغير منقسمة – يعني انها كُل لاينفصل. لذلك، هو استنتج انهما يجب ان يكونا شيئين مختلفين. غير ان التقدم في علوم الاعصاب أثبت زيف هذه الحجج.

تجريد الانسان من الروح

في الستينات من القرن الماضي أوضح عالم النفس والاعصاب الامريكي روجر سبيري Roger Sperry الحائز على جائزة نوبل بان الذهن والوعي يقبلان التجزئة، وبهذا أبطل ذلك المظهر من نظرية ديكارت. درس روجر المرضى الذين اُجريت لهم عملية جراحية لقطع النسيج العصبي او شبكة الاتصال بين نصفي الدماغ، بهدف السيطرة على نوبات الصرع لدى المرضى. العملية الجراحية أدّت الى وقف او تقليل حركة المعلومات المعرفية والحسية والادراكية بين نصفي الدماغ. بيّن روجر ان كل نصف من الدماغ يمكن تدريبه لآداء واجب معين، لكن هذه التجربة لم تكن متاحة لنصف الدماغ الغير متدرب. أي، ان أي من نصفي الدماغ يمكن ان يعالج المعلومات خارج وعي النصف الآخر. هذا، في الاساس، يعني ان العملية الجراحية أنتجت وعيا مزدوجا. وهكذا، لا يمكن ان يكون ديكارت صائبا في ادّعائه ان الدماغ منقسم بينما الروح التي يمكن اعتبارها ذهن او وعي، هي ليست كذلك. في الحقيقة، في جهده لإثبات وجود الروح في الانسان، وفّر ديكارت حجة مضادة له.

في عام 1949، ادّعى عالم النفس الكندي دونالد أولدينغ هيب (D.O.Hebb) ان الذهن هو تكامل لفعالية الدماغ. ايضا العديد من فلاسفة الأعصاب توصلوا الى نفس الاستنتاج مثل الفيلسوفة الكندية الامريكية في علم الاعصاب باتريشا شيرشلاند Patricia churchland التي ادّعت مؤخرا ان لا شبح في الماكنة.

الدماغ يقوم بكل شيء

اذا كانت الروح هي مستقر العواطف والحوافز، وحيث تحدث الفعالية الذهنية، ويتم تصوّر الاحاسيس، وخزن الذكريات، وفيها يحصل التفكير ومن ثم اتخاذ جميع القرارات، عندئذ لا حاجة لإفتراض وجودها. هناك عضو يقوم سلفا بكل هذه الوظائف وهو الدماغ.

هذه الفكرة تعود في جذورها للفيزيائي اليوناني القديم أبقراط (460-377 ق.م) الذي قال: "يجب ان يعرف الناس ان لا شيء يأتي من غير الدماغ، المرح، السرور، الضحك، الرياضة، والحزن والأسى واليأس. وبواسطة هذا الدماغ .. نحن نكتسب الحكمة والمعرفة ونرى ونسمع ونميّز الصائب من الكريه، السيء من الجيد، الجميل من القبيح ".

ان الدماغ هو العضو الذي يحتوي على خارطة لأجسامنا، للعالم الخارجي ولتجاربنا. الضرر الذي يحصل في الدماغ كما في الحوادث او الخرف او التشوهات الخلقية منذ الولادة، ينتج ضررا موازيا في الشخصية. لو نظرنا في واحدة من الوظائف التي تقوم بها الروح حسب زعم افلاطون وهي التذكر . لو حصلت لنا ضربة قوية على الرأس يمكن ان تجعلنا نفقد الذاكرة لعدة سنوات . اذا كانت الروح هي شيء غير فان ومنفصلة عن وجودنا المادي، ألا يجب ان لا تُجرح بالضربة. ولو كانت الذاكرة مخزونة في الروح، ألا يجب ان لا تضيع.

ان الفعالية العصبية في الدماغ هي المسؤولة عن الإختلالات الادراكية والعاطفية في الناس المصابين باضطراب التوحد، وسيكون من الاجحاف وغير الأخلاقي إلقاء اللوم على روحهم المفترضة.

التلاعب في الدماغ يكفي لتغيير العواطف والمزاج، الروح شيء زائد كليا في هذه العملية. ان قدرة عقاقير العلاج النفسي لتغيير المزاج يوفر خطا آخراً من الدليل ضد وجود الروح. اذا كنت تستطيع انتاج عدم توازن كيميائي في الدماغ، كما في حالة استنفاذ الدوبامين، او هرمون نورادرينالين او سيروتوبين، انت تستطيع خلق الكآبة في بعض الناس. وبالمقابل، العديد من الناس الذين يعانون من الكآبة يمكن مساعدتهم بالأدوية التي تزيد وظيفة هذه الناقلات العصبية في الدماغ.

يقول علماء النفس اذا كان الدماغ هو المكان الذي يحدث فيه التفكير والحب والكراهية، وتتحول فيه الأحاسيس الى تصورات، وتتكون فيه الشخصية، ومنه تبرز العقائد والذكريات، وفيه تُتخذ القرارات، فماذا بقي للروح؟.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم