قضايا

العودة الى زمن السريالية

علي حسينبعد ما يقارب المئة عام على نشر البيان السريالي الاول حيث تم الاعلان عن "المغامرة السريالية".. نتساءل اين اصبحت هذه " المغامرة " التي شغلت العالم لعقود وهل هناك اليوم من يدعي انه سريالي.. يكتب اندريه بوتون عام 1951 ان السيريالية " لا بداية لها ولا نهاية. إنما دائما سيظل هناك سرياليين ". كانت الحركة السريالية قد رفعت شعارا مثيرا " ابدلو نحاس عقولكم بالذهب السيريالي ".. ما الذي ذكرني بالسريالية في هذا الوقت بالذات ؟ كنت اتصفح الفيسبوك ولمحت صورة نوري المالكي يحمل بندقية ويرتدي قميص عسكري بطريقة غريبة ومع الصورة تعليق يقول: هذا عصر السريالية.. حقا اننا نعيش عصرا سيرياليا غريبا وعجيبا.

في العشرين من عمره يعين في مصحّة للطب النفسي تابعة للجيش، هناك سيتفرغ لمشاهدة المرضى العقليين، وسينهمك بقراءة كتاب فرويد الشهير "تفسير الأحلام"، في الإجازة يُحدّث أصدقاءه عن عالم النفس النمساوي وكيف يمكن لأبحاثه أن تطبّق على الأدب والشعر والسلوك، سيكتب في دفتر يومياته: " كنت في العشرين من عمري حين تحدثت مع أبولونير وأندريه جيد وبول فاليري عن قدرة فرويد على أن يقلب العالم الذهني رأساً على عقب، كنت آنذاك في حالة عالية من الحماس، مهتمٌ، ربما، بأن أشرك بآرائي أولئك الذين كانوا يثيرون اهتمامي "، وسيذهب بعيداً حين يعتبر التحليل النفسي أثمن الكشوف التي شاء حسن الطالع أن يتعرف عليها: " فمثل هذا الكشف المثير لايأتي العمر مرتين ".

في تلك السنوات والحرب العالمية الأولى مشتعلة، تغير المفهوم العام عن الإنسان، حيث أعلن فرويد إن الإنسان الواعي لا يعدو ظلاً باهتاً لقوى تتخفى في اللاوعي، وتعلن عن نفسها في مظاهر ملتوية من الأحلام والعقد وأمراض العصاب، ولكي نغوص إلى هذه الظلمات حيث يكمن الجوهري وتختبئ حقيقتنا، ينبغي أن نلجأ الى التحليل النفسي.

عاش اندريه بروتون سبعين عاماً، اتّسعت، لأفكار ومدارس غيّرت من طبيعة الآداب والفنون ومارست تأثيرها عليها حتى اليوم. ولد في الثامن عشر من شباط عام 1896 في شمالي فرنسا، قبله بستة وستون يوماً بالضبط ولد طفل في الضاحية الشمالية من باريس اسمه يوجين إميل بول سيسمى فيما بعد " بول إيلوار "، وبعده بعشرين شهراً سيولد في باريس طفل اسمه لويس أراغون، وسيشكل هؤلاء الثلاثة فيما بعد الأساس الذي انبثقت منه الحركة السيريالية، وسيصبح بروتون فيما بعد مكتشف السوريالية ومنظرها الأبرز الذي نشر البيان الأول لحركته عام 1924.

يرسم لنا أراغون في روايته " أوريليان" صوره لأندريه بروتون الذي كان يصفه بأنه العبقري الذي يدير الأحداث: " لقد كنا أفضل صديقين في الدنيا، ويجب لأدراك حقيقة هامة بشكل جيد، وهي إن الأساس بيننا لم يكن قط أدبياً وكانت أمور حياتنا تختلط حسب أذواقنا وأفكارنا، كانت لنا حماستنا، كما قمنا ببعض الاكتشافات، لقد كانت حياتنا حياة اكتشافات ".أما بروتون فإنه يتحدث عن أراغون في رسائله: " إنه ودود الى أقصى الحدود، يهب ذاته في الصداقة دون تحفظ، والخطر الوحيد الذي يتعرض إليه هو رومانسيته الزائدة "، عاش طفولته مع جده لأمّه،، الجد ولد في مقاطعة " بريتاني " شمال فرنسا، كان راويا للحكايات من طراز نادر كما وصفه بروتون فيما بعد، وهذه الحكايات نفسها هي التي ستجعل جعلت طفولته سعيدة يتذكر تفاصيلها باستمرار: " لا يمكن للمرء إلا أن يرتد إلى طفولته التي مهما نكّل بها المرّوضون تبدو له مفعمة بالمفاتن "، ولهذا نجده يركز على أن الطفولة وحدها التي: " تقترب أكثر من غيرها من الحياة الحقيقية "، تلقّى رعاية مبالغة فيها من أمّه التي كانت تتمنى أن تصبح محامية فحاولت أن تورّث أحلامها الى ابنها، فيما أورثه جده حب القراءة ورواية القصص الغريبة، نشأ وسط عائلة متوسطة الحال، وتفوّق في الدراسة، مع اهتمامه بالأدب، اهتم بدراسة الطب العقلي. في السابعة عشرة من عمره، يجرب كتابة الشعر، كان قد تعرّف على أشعار بودلير ومالارميه، لكنه وجد نفسه غير ميال لدراسة الأدب، وغير مبالٍ لدراسة الطب ايضا، لكنه أذعن لرغبة والدته التي فشلت في أن تجعل منه محامياً، فقررت أن يدرس الطب، في العام 1914 سينشر أولى قصائده التي أهداها الى الشاعر بول فاليري لشدة إعجابه به، بعد أشهر ستندلع الحرب العالمية الأولى وسيجد بروتون نفسه داخل: " بالوعة الدم والجنون والوحل "، هكذا سيلتحق بالجيش في الأشهر الأولى من عام 1915، وقد كان شعوره بالغربة كبيراً وهو يجد نفسه وقد اضطر أن يترك وراء ظهره أحلامه وأصدقاءه والحياة التي أراد أن يعيشها على طريقته، إلا أن الحرب أيضاً لعبت دوراً حاسماً في تغيير مسار حياته الى درجة اعتبر انها خلقته من جديد: " كانت الحرب حاسمة نحو إرساء طروحات السيريالية "، فضّل أن يكون نفراً في المشاة بدل أن يجلس خلف مكتب، أثناء الحرب يتعرف على شعر أبولونير الذي سيلعب دوراً كبيراً في تغيير مساراته الأدبية، وقد قرر أن يزوره أثناء الإجازة، في المستشفى الذي نقل إليه أثناء خدمته العسكرية سيلتقي بجاك فاشيه الذي كان قد أصيب في ساقه ونجا من الموت بإعجوبة، وقد أدهشته شخصية " فاشيه " اللامبالية، قال له أنا أحب الموت، لكني أرفض أن أموت بسبب الحرب، والغريب إن فاشيه سينتحر بعد توقف الحرب، لأنه أراد أن يكون موته بإرادته وسيكتب عنه بروتون قائلاً: " رحل عنا بصورة غامضة شاب في الثالثة والعشرين من عمره كان يمتلك أجمل نظرة صائبة عن الكون، لقد تعلقت في الأدب بأبولونير ولوتريامون، إلا اني أدين لجاك فاشيه أكثر مما لأي منهم، فقد كنت أشبه بالمسحور وأنا أتحدث معه، ولن أتعلق بأحد من الناس بمثل هذا الاستسلام ".، كان فاشيه يرسل الى اصدقائه رسائل ستنشر عام 1919 بعنوان " رسائل الحرب " وسيكتب في واحدة منها الى بروتون: " ساخر هو من لا يستسلم لحياة خفية كئيبة. ايتها الساعة التي توقضني – عينان – ومرائي – كم تكرهني ! ساخر من يحس بكذب سراب الرموز الشاملة، هي رمزية من طبيعتها ".

في العام 1917 يتم تعيين اندريه بروتون في مركز للطب العقلي تابع للجيش، هناك سيجد الفرصة مناسبة لقراءة كتب فرويد التي سيتعلق بها، في العام 1921 سيزور فرويد في بيته بفينا ليتحدث معه حول الأحلام وضرورة التعامل معها من حيث هي تعبير عن جانب أساس في حياة الإنسان.

إضافة الى فرويد، تعرف بروتون آنذاك على اعمال الشاعر الفرنسي " لوتريامون " الذي تَعرض في حياته القصيرة إلى التجاهل، والبعض كان يصفه بالمجنون، في المكتبة الوطنية التي كان يتردّد عليها سيعثر بروتون على النسخة الوحيدة من كتاب لوتريامون" أناشيد مالدورور "، فكان يقضي الوقت في استساخها، وفي المساء يقرأها بصوت عال مع آراغون وسيكتب بروتون في البيان السريالي الثاني إن: " الاسم الوحيد الملقى عبر العصور، الذي شكل تحدياً لكل ما هو آبله وحقير ومقزز إنما هو لوتريامون "..

وسيلعب أرثر رامبو الدور نفسه الذي لعبه لوتريامون في حياة بروتون، ولعل من الغريب إن هذين الشاعرين ختما تجربتهما الشعرية وهما في العشرين من العمر، توفي رامبو وهو السابعة والثلاثين من عمره وكان خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة من حياته قد توقف عن كتابة الشعر واتجه ليجرب حظه في التجارة، فيما توفى لوتريامون في الرابعة والعشرين من عمره، والإثنان برغم قصر تجربتهما الشعرية إلا إنهما تركا أعمق الأثر في جيل الشباب من الشعراء الذين اتوا بعدهما، وسنجد تأثيرهم المباشر في ألبير كامو وهو يسطر صفحات كتابه " الإنسان المتمرد " .

في العام 1922 يكتب أندريه بروتون إن " الدادائية " لم تكن سوى حالة فكرية بالنسبة لهم، ولهذا قطع بروتون وأرغون وإيلوار علاقتهم بالدادائية، واصبح هذا الانقطاع محتماً نتيجة تباين اهتمامات بروتون وتزارا.

كان تريستان تزارا يصغر بروتون بسبعة وخمسين يوماً، ولد في السادس عشر من آذار عام 1896 في رومانيا، أسس الحركة الدادائية التي ولدت في الساعة السادسة مساء من يوم الثامن من شباط عام 1916 بمقهى في زيورخ وسيكتب النحات والشاعر هانس آرب عن هذه الحركة التي كان هو أحد صناعها: " لما شعرنا بالاشمئزاز من وحشية الحرب العالمية التي اندلعت عام 1914 كّرسنا أنفسنا في زيورخ للفنون، وبينما كانت أصوات المدافع تدوي بعيدة، طفقنا ننشد ونرسم ونصنع لوحات من الكولاج ونكتب الشعر بكل ما أوتينا من قوة، كنا نبحث عن فن يستند الى الأسس لنداوي به جنون هذا العصر، كنا نبحث عن نظام جديد للأشياء من شأنه أن يعيد لنا التوازن ما بين الجنة والنار "، ويقال إن كلمة " دادا " اختيرت بعد ان تم تمرير مقطع من ورقة بالصدفة في صفحات قاموس. وقد تمسك تريستان بهذه الكلمة لأنها حسب قوله: " منعدمة المعنى بشكل كامل، وكانت بياناً في حد ذاتها "، أما لماذا ولدت هذه الحركة يكتب تريستان تزارا: " لقد ولدت دادا من تطلّب أخلاقي، من إرادة صارمة لبلوغ مطلق أخلاقي، من شعور عميق بأن الإنسان يؤكد تفوقه، وسط كل إبداعات الروح، على المفاهيم المفتقرة بالماهية البشرية "، لعب الفن الحديث في أوائل القرن العشرين دوراً كبيراً في ظهور الدادائية ومن بعدها السيريالية، فتكعيبية بيكاسو وبراك كانتا بمثابة خروج على التقاليد الفنية التقليدية، وكانت لوحة بيكاسو " آنسات أفينون " عام 1907 تمثل منعطفاً في تاريخ الفن مثلها مثل أعمال المسرحي السويدي أوغست سترندبرغ التي أسست لما سمي فيما بعد بالمدرسة التعبيرية، وسنجد تريستان تزارا مغرماً بسترندبرغ الذي توفي قبل تأسيس الدادائية بأربعة أعوام -ولد سترندبرغ عام 1849 وتوفي عام 1912. وقد وصِف بأنه أكثر من أي كاتب مسرحي يكتب " نفسه " والنفس التي يكتب عنها باستمرار باستمرار هي نفس إنسان عصري غريب عن بيئته: " يزحف بين السماء والأرض، يحاول يائساً أن يقتلع بعض المطلقات من كون منبوذ "، شبه الدادئيون سترندبرغ بـ" بروميثوس " الذي يرفع لواء المعارضة لكل مطلق، وقد وصف سترنبرغ نفسه بانه: " رجل منبوذ، طريد الفردوس، على جبينه علامة الابن المتمرد "، وسيعبر سترندبرغ عن تمرده في قصيدة كتبها وهو في الثالثة والثلاثين من عمره: نحن نهدم ليدخل النور والهواء.

كان سترندبرغ مغرما بنيتشه، وكان يشاطره الكثير من آراءه حول الحياة والحب والحرب، وسيبعث بمسرحيته " الاب " الى نيتشه الذي ارسل له رسالة كتب فيها: " سررا برؤية صورتي الخاصة للحب.. الحرب وسيلته، والكراهية المميتة بين الجنسين قانونه الاساسي، والتعبير عنها بهذه الطريقة الفريدة ".

بعد سبع سنوات على تأسيس الدادائية سيجد أندريه بروتون إن الحياة بحاجة الى هزة عنيفة، فقد شهدت السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الأولى فترة تغير عنيف، اذ اندلعت الثورة الروسية بقيادة لينين وتروتسكي، وأثرت اكتشافات اينشتاين على الوعي البشري بشكل عميق، وسجلت روايات جيمس جويس ومارسيل بروست وفرجينيا وولف وأشعار إليوت ـ وبالتحديد رواية عوليس التي صدرت عام 1922، وملحمة مارسيل بروست البحث عن الزمن الضائع التي تم نشر أجزائها المتبقية بعد وفاة بروست عام 1922، وقصيدة إليوت الأرض الخراب التي نشرت عام 1922، والقصص الأولى لفرجينيا ولف التي صدرت أيضاً عام 1922 -، أنماطاً حداثية جديدة بشكل مميز للشعور والإدراك، الذي يعكس الظروف المضطربة للحياة في تلك السنوات، لقد وضعت هذه الأعمال مهمة جديدة للكاتب والفنان، وهي أن يجعل المتلقي ينظر الى المنجز الأدبي والفني بشكل مختلف.

يكتب البير كامو إن السيريالية في بدايتها كانت محاكمة لكل شيء.. لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد "، فيما يكتب أندريه بروتون: " أتمنى أن لا تكون السيريالية قد قامت بأي محاولة أفضل من محاولتها ان توجد خيطاً يربط بين ما تفرّق من عوالم اليقظة والنوم، والواقع الخارجي والداخلي، والعقل والجنون، وهدوء المعرفة والحب، والحياة للحياة والثورة ". كانت القطيعة بين بروتون والدادائية حازمة، ولهذا يكتب في إحدى قصائده:

" دعوا كل شيء

دعوا دادا

تخلوا عن آمالكم ومخاوفكم

إزرعوا أولادكم في زاوية غابة

دعوا الفريسة للظل

تخلوا عن الحاجة عن حياة رخية

أمضوا في كل سبيل ".

وسيعترف تريستان تزارا ان السيريالية ولدت " من الرماد الذي خلفته الدادا. وكل الدادائيين الاوائل، شاركو فيها ".

كان تريستان قد وصل باريس عام 1919 تسبقه شهرته، ولهذا سيلتف حوله مجموعة من الادباء الشباب كان بينهم بروتون واراغون وايلور والعديد من الفنانيين، وسيصفه بروتون بانه " يسير والتحدي في نظراته "، وستبدأ الدادائية مرحلتها الباريسية وسيعلن تريستان بيانه الشهير: " من الان فصاعدا، لا رسامون، ولا ادباء، ولا موسيقيون، ولا نحاتون، ولا جمهوريون، ولا فلكيون، ولا امبراطوريون، ولا فوضويون، ولا اشتراكيون، ولا بولشفيك، ولا سياسيون، ولا بروليتاريون، ولا ديمقراطيون، ولا جيوش، ولا اوطان.. واخيرا كفانا من هذه الحماقات كلها لاشيء، لاشيء، لاشيء ". تصدر مجلة ادب بحجم صغير يشرف عليها انريه بروتون ولويس اراغون والتي ستطرح استفتاءا شهيراً بعنوان: " لماذا تكتبون ؟ "، فقد كانت المجلة تطرح موضوعة اعادة النظر في بعض القيم الادبية والفنية، والبحث عن دوافع الابداع، وقيمة المصير الانياني للشاعر.

ستشكل أول مجموعة سيريالية عام 1923 وكانت تضم آراغون، وماكس أرنست، وفليب سوبو، وروجر فيتراك، اضافة الى اندريه بروتون وبول ايلور، ثم انضم إليهم سلفادور دالي، وهانس آرب، وأنطوين أرتو، وخوان ميرو وعشرات غيرهم، ويقال إن كلمة سيريالية ابتدعها الشاعر غيوم أبولينير الذي توفي قبل صدور البيان الأول بخمسة أعوام، حيث قد ذكر مفردة السيريالية خلال رسالة أرسلها الى الفنان الفرنسي بول ديرميه يخبره فيها: " اعتقد حقاً بعد البحث والتدقيق، إنه من الأفضل أن اتبنى لفظة سيريالية بدلاً من فو طبيعية التي سبق ان استعملتها، فـ ( سيريالية ) لا توجد بعد في المعاجم: وقد تسهل معالجتها اكثر من فو طبيعية التي استعملها السادة الفلاسفة "، وفي البيان الأول للحركة يشير أندريه بروتون الى التسمية بوصفها تكريماً لذكرى أبولونير: " أطلقنا اسم السيريالية على هذا النمط من التعبير الصرف الذي توصلنا إليه والذي أردنا أن نُفيد منه أصدقاءنا، وأحسب إنه لم يعد هناك اليوم مجال للرجوع عن هذه التسمية بعد أن طغي مفهومنا على المفهوم الأبولونيري ". ويعرف بروتون السيريالية بأنها: " عبارة نفسية صرفة تدل عبرها، إما لفظاً أو كتابة، أو بأي طريقة أخرى على النشاط الحقيقي للفكرة في غياب أي رقابة يمارسها العقل، خارج أي اهتمام جمالي أو أخلاقي ".

بعد فترة قصيرة سيظهر البيان الأول للسيريالية الذي أكد على ثلاثة ثوابت " الخيال، الحرية، الحلم "، وقد جاء في البيان: " تستند السيريالية الى الاعتقاد بالحقيقة العليا لبعض أشكال التداعي المهملة لحين ظهورها، بالقدرة الكلية للحلم، باللعبة المتجردة للفكر، تميل الى أن تدمّر نهائياً الآليات النفسية الأخرى، وان تحل محلها في حل المشكلات الرئيسة للحياة " ويضيف البيان: " إن كلمة السيريالية، تعبر في رأينا عن الرغبة في تعميق أسس الواقع، والرغبة في الوصول الى وعي بالحياة أكثر وضوحاً من قبل، الى وعي بها أعنف عاطفة وأشد شعوراً. لقد حاولنا أن نصف الحقيقة الداخلية والحقيقة الخارجية كعنصرين هما في طريقهما الى الاندماج كيما يصبحا في النهاية حقيقة واحدة "، هكذا أصرّت السيريالية أن تمزج بين الحقيقة الداخلية والحقيقة الخارجية، وقد كان السيرياليون الفرنسيون مغرمين بنظريات فرويد عن اللاوعي، فيما كان السيرياليون الألمان والذين كان اكثرهم من جماعة الدادائية، يميلون الى كتابات ماركس الشاب، بحيث كانت النتيجة أن اصبحت السيريالية مزيجاً من فرويد وماركس. بعد نشر البيان الأول قرر بروتون أن تكون للحركة مجلة خاصة بها اسماها " الثورة السيريالية "، صدر العدد الأول في كانون الأول من عام 1924، وكانت التسمية التي اطلقت على المجلة تعكس رؤية بروتون لأهمية أن تندلع ثورة كبيرة في الفنون والاداب،أشبه بالثورة العلمية التي يقودها أينشتاين. في أحد أعداد المجلة يكتب بروتون: " في الوضع الحالي للمجتمع الأوروبي، نحن مع مبدأ كل عمل ثوري، لو كانت نقطة انطلاقه من نضال طبقي، شريطة أن يذهب بعيداً "، وسنجد السيرياليين يغرمون بأفكار ماركس واراءه في الثورة الاجتماعية ؟، ونجد بروتون يؤمن بأن الثورة في الفن يجب أن ترافقها ثورة اجتماعية من أجل الناس وسيكتب: " لقد رفع ماركس شعار " تحويل العالم "، ورامبو شعار " تغيير الحياة، هذان الشعاران كلٌّ واحد بالنسبة إلينا "، في العام 1925 سيقرأ بروتون سيرة لينين التي كتبها تروتسكي، ويجد نفسه منجذباً الى شخصية الثوري فيه والإنسان وسيكتب: " على الصعيد الأخلاقي الذي قررنا أن نقف عنده، يبدو أن لينين منيع لاينال "، ورغم أن كتاب تروتسكي أعطاه صورة حقيقة عن ثورة اكتوبر وقائدها، إلا إنه ساعد في تطور العلاقة بين تروتسكي وبروتون الذي كان يؤيد قناعات تروتسكي تجاه ما كان يجري في روسيا، من تدمير في عهد ستالين. كان تروتسكي قد أعلن ضرورة تدمير قيم الماضي الثقافية وخلق قيم جديدة أجمل بكثير تحل محلها، وهو بالضبط ما كان يعلن عن بروتون في البيان السيريالي " الثورة ضد قيم الماضي في الفن والثقافة والمجتمع ".. وسيكتب بروتون مقالاً بعنوان " ليون تروتسكي، لينين " يشير فيه الى أن الكثير من الأفكار التي يطرحها تروتسكي يشعر السرياليون نحوها بالمودة والانجذاب.

سيغادر اندريه بروتون عالمنا في صباح الثامن والعشرين من ايلول عام 1966، وسيكتب صديق الشباب اراغون الذي اختلف معه بسبب تروتسكي رثاء جميلا: " من المستحيل هنا أن اقول كل ما كنت اريد قوله عن صديق شبابي.عن هذا الشاعر الكبير الذي لم اكف ابدا عن حبه. من المستحيل ان اقول سوى عبارة هي كالصدى، تجعل كل الكلمات لا مجدية، ان جيلا باكمله ينتهي بوفاة بروتون، جيل عانى ويلات الحرب ".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم