قضايا

الأخلاقُ وَمَساراتُ التَّعليم: ما بَين النَّفعيَّة والواجب

اكرم جلالالأخلاقُ الإنسانيّة كانَت ومازالت أحد أهم أهداف التَّعليم، ولأنّها المعيار الفاصل بين الصواب والخطأ، فهي إذن مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بتفكير الطلاب، ومُلازمة لمشاعرهم وتصرفاتهم، لأجل ذلك نرى وجوب عودة فصول التربية الأخلاقية، والعلوم الأخلاقية، والسلوك الأخلاقي، إلى حقل التدريس وبقوة، فقد أدركت المجتمعات المتماسكة، وعلى صعيدي النظريّة والتطبيق، أنَّ العلوم ستضمحل وستندثر مالم تكُن مُستندة إلى أسس التربية الأخلاقية.

إنّ القِيَمَ الأخلاقية لها صورٌ وأبعادٌ مختلفة وتعريفات متنوعة، تَبَعًا للثقافات المُجتمعية التي انبثقت عنها، حيث نرى تضارب بين العديد من مجتمعات دول العالم حول تعريف وتحديد معالم تلك القِيَم، فبعضُ المجتمعات الشرقية، على سبيل المثال، يحدد معايرَ للقِيَم الأخلاقية قد لا تراها ولا تعتقد بها مجتمعات في الدول الغربية، كما أنَّ الثقافات والأديان والأعراف مختلفة، وهذا أمرٌ مسلّمٌ به، ومُتّفق عليه.

وعليه، فالفلسفة التربوية لا بدّ أن تنطلق من صميم الواقع المجتمعي، والذي يُمثّل الحاضنة والمُنطلق لتلك القِيَم الأخلاقية، وعلى أساسه يتمّ الفصل بين الأفعال الصحيحة والخاطئة، فيتحدد بذلك أبعاد السلوك الأخلاقي. ورغم هذا التنوّع إلا أنّ هناك قواعد مشتركة في فرز وتحديد القِيمِ الأخلاقية والتي لا يختلف عليه أحد، كالعدالة، والمساوات، وإعانة الضعيف، واحترام الكبير، الخ.

وبعبارة أخرى، فإن لكلّ مجتمع مُحدداته للخطأ والصواب، وهذا لا يعني بالضروة قلب المعادلة بالكامل؛ وأنّ تعريف الأخلاق وإن كانَ مرتبط بمحددات المُجتمع المعني، إلا أنّ هذه المُحددات هي في الواقع عملية تراكمية توالدت، فكان حقلها الأساسي نتاج لما أفرزته الأديان الإلهيّة وما جاء به الأنبياء والرُسل ونزلت به الكتب السماويّة، ثمّ جاء الفلاسفة والمُنظّرون وَبَنَوا عليه أفكارهم واطروحاتهم ونظرياتهم.

لقد كان لنظرية راولز في العدالة أو ما يُطلق عليها بأسم "المساواة العادلة في الفرص" (1971، 72-75)[1]  أحد الأسباب الرئيسية في تثبيت أسس العدالة وفي التوزيع العادل للتعليم بين الأطفال، ليكون جميع الأطفال، بغضّ النظر عن حالاتهم الاجتماعية، وأديانهم وأصولهم وأعراقهم، وانتماءاتهم الجنسية والمذهبية، متساوون ومتكافؤون في فرص التَّعليم.

إنّ فلسفة التَّعليم أخذت على عاتقها التفسير، وبالشكل المنطقي والنقدي والعقلاني، للنظريات والمناهج والسياسات التَّعليمية وإظهار حقيقة وجوهر التَّعليم وأهدافه والقِيَم الأخلاقية الكامنة فيه، وبذلك يكون فلاسفة التَّعليم قد فسّروا التَّعليم من خلال اعتمادهم على المدارس الفلسفية الرئيسية. فحينما ننظر إلى التَّعليم على أنه الوسيلة لنقل المعرفة فإننا بذلك نعترف ضمنيًّا بحاجتنا إلى الاستعانة بنظرية المعرفة من أجل بلوغ هذا الهدف، وإذا نظرنا إلى التَّعليم على أنّه نتاج لسياسات حكومية أساسها الديمقراطية وروح المواطنة فإننا سنتحتاح إلى استلهام الأفكار من الفلسفة السياسية، وكذلك نحن بحاجة إلى الفلسفة الأخلاقية خصوصًا وأن التَّعليم يهدف بالأساس إلى تعزيز المبادئ وتعميم الخير في المجتمعات البشرية جمعاء. وبالنتيجة، فإن الفلسفة التربوية لا تستقيم بمعزل عن الأخلاق الإنسانية ومن دون التفكير في أسس التربية الأخلاقية.

إنَّ الفلسفة العقلانية تؤكد على أنّ للحياة الأخلاقية أسس ومبادئ عقلانيّة تستند إليها، وتَبَعًا للمسار النفعي الذي أسس له أرستبوس القورينائي ومن بعده هوبز وبانثام، فإن الحياة الأخلاقية لها مبدأها الأساسي وهو اللذة والمنفعة، ومن سار على هذا المبدأ فإنه سيعكس المصالح والمنافع على جميع النظريات التي تخرج من الفلسفة التربوية. وأما المسار الكانطي، أو ما يُعرف بنظرية الواجب الأخلاقية، التي وضعها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، فأن الفلسفة التربوية ستربّي الأطفال على اتباع الواجب الأخلاقي، وشتّان ما بين الفلسفتين.

وللبحث صلة، نستكمله في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.

***

د. أكرم جلال

 

 

في المثقف اليوم