قضايا

محمد عبد الجبار النفري ومراحل الفناء

4076 النفريالتصوف هو ذروة ما توصلت إليه الثقافة الإسلامية ضمن حدود الإسلام الثقافي، أي ليس الإسلام الدموي، فهو ال"إبداع الإسلامي المحكوم بفكرة الثقافة العامة والخاصة وليس الديني، أي بالتاريخ الواقعي وليس اللاهوتي، بالحياة وليس بالآخرة(1).

فالتصوف فلسفة من حيث تناوله إشكاليات الوجود وما وراء الطبيعة، والأخلاق وقضايا المعرفة وغيرها. والإسلام الثقافي بوصفه التعبير المناسب عن مختلف مظاهر أنا الحق، بل التصوف وتمثله في حكمته النظرية والعملية، وليس طرائقه، بل تحرره من ثقل تقاليد العقائد المقدسة والمذهبية الضيقة والتقليد، والتصوف هو حركة حرة للقلب، والعقل والحدس، جوهرها البحث عن طريق للحقيقة. وإيجاد الظاهر الإسلامي والباطن الإنساني.

إذ أن كل ما يتناوله التصوف هو فلسفة دون شك. وخصوصية التصوف تقوم على فلسفة المطلق. أي الفلسفة النظرية والعملية في البحث عن المطلق، وهي تجربة تتسم بقدر كبير بالإصالة، والتصوف الكبير هو فلسفة المطلق في حدوده المحتملة، والتصوف هو علم وعمل صرف، لاستظهار الوجود لحقائق المنطق واستبطان أخلاقي لحقائق المعرفة الكبرى. ولذلك فأن كل فيلسوف كبير هو صوفي بالضرورة، كما أن كل صوفي كبير هو فيلسوف بالضرورة، وكلاهما ينتميان إلى الروح الإنساني المتسامي،  عموماً كلاهما جوهريان للتاريخ الانساني بشكل عام وتاريخ الحقيقة بشكل خاص، هما خزين الذاكرة التاريخية واسلوب شحذ وعيه الذاتي.

ومهما يكن الأمر فقد عرفوا التصوف بأنهُ (التخلّق بالأخلاق ال"إلهية)(2). أو هو (مذهب الغرض منهُ تصفية القلب من غير الله، والصعود بالروح إلى عالم التقديس، بإخلاص العبودية للخالق، والتجرد عما سواه)(3).

والتصوف بمفهومه العام هو ممارسة الانقطاع والتقشف والرياضات الروحية، فإنه لم يكن وليد البيئة العربية الإسلامية وحدها، بل أن تاريخ الشعوب يثبت اهتمام الأمم به منذ أقدم العصور، كالبراهمة والصابئة والبوذية والمانوية والمسيحية، كلٌ على طريقته. لكن التصوف عندما وجد تحت ظل الإسلام وأحيط بأدب القرآن، دخل في دور جديد، فتبلور في مدرسة الحلاج (309هـ) في الحلول، وفي مدرسة النفري (354هـ) الشهود أو رؤية الحق بالحق، وفي مدرسة الغزالي (505هـ) ومدرسة شهاب الدين السهروردي (587هـ) بالإشراق، وفي مدرسة ابن عربي (638هـ) بوحدة الوجود والحقيقة المحمدية، وغير ذلك من المدارس الفكرية والمقولات الفلسفية التي وجدت بذورها الأولى في الديانات القديمة.

ومؤلف كتاب المواقف هو محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفّري الصوفي. والنفرّي منسوب إلى بلدة نفَّر، وهي من اعمال الكوفة، وقد نسب إليها قوم من الكتّاب الأجلاء كما ذكر ذلك ياقوت الحموي في معجم البلدان ج5/ 295. ولعل نفرّ تعريب لكلمة (نيبور) المدينة التاريخية التي شيدت في ضفاف الفرات قبل أكثر من ستة آلاف سنة، حين كان يمر فيها الفرات، وهي اليوم ناحية تابعة إدارياً لمحافظة الديوانية، وتقع على بعد ثمانية عشر كيلو متراً شرقي مركز مدينة الديوانية، ولمدينة نفرّ الأثرية أكثر من عشرين موقعاً أثرياً، منها منارة نيبور التي ما تزال تشمخ بين تلال المدينة.

نسبهُ بعض الباحثين إلى التشيع بسبب ذكره المهدوية في آخر كتابيه (المواقف والمخاطبات) ص215، وذلك في قوله (تظهر كلمة الله، فيظهر الله وليه في الأرض، يتخذ أولياء الله أولياء، يبايع له المؤمنون بمكة، أولئك أحباء الله، ينصرهم الله وينصرونه، وأولئك هم المستحفظون، عدة من شهدوا بدراً، يعملون ويصدقون، ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولئك هم الظاهرون). وقوله بالغيبة في كتابيه اعلاه ص216: (فلست أغيب بعد هذه إلا مرة، ثم أظهر ولا أغيب، وترين أوليائي القدماء يقيمون ويفرحون). لكن النفري لم يقل اسم المهدي وكنيته في سائر تراثه، كما يعتقد به الشيعة اليوم. وأمر آخر يؤمن به النفرّي وهو يعارض عقائد الشيعة، أي إيمانه بالرؤية التي يرفضها الشيعة جملةً وتفصيلاً.

فالنفرّي يحدس المستقبل بقلبه ويقينه، فيرى الآتي، ويكشف لنا عنه بصور هي أقرب إلى السحر أو الكرامة، ويرتقي بها إلى مستوى المعجزة.

كان النّفرّي غير معروف في عالم التأليف في عصره، وفضّل أن يعيش في عالم خاص بعيداً عن الأضواء، سائحاً لا تستقر به أرض، وأن يكون مجهولاً مغموراً من أبناء جلدته وكتاب عصره من المتصوفة. ويعزو يوسف سامي اليوسف ذلك إلى أسباب اجتماعية تتمثل في الأزمة التي اعترت التصوف بعد محنة الحلاج المقتول سنة (309هـ)، حيث التزم أهل التصوف بعدها مبدأ الحذر والتستر بالكتمان والتقية الشديدة على ما يكتبون ويعتقدون، هذا فضلاً عن التخوف من الفقهاء الذين كان دأبهم تكفير أهل السلوك وتفسيقهم وتحريض السلطات على قتلهم. من هنا كانت اللغة الحرة هي ملاذ النفرّي، فجمع (المواقف والمخاطبات) بعد موته يُبرئ النصوص من التوجه إلى قارئ، ومن ثم يبرئه من مراعاة أية قوانين خارجية.

يقول النفري في موقف (مالا ينقال): (وقال لي: المواجيد بالمقولات كفر على حكم التعرف. وقال لي: لا تسمع فيّ من الحرف، ولا تأخذ خبري عن الحرف. وقال لي: الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه، فكيف يخبر عني؟! وقال لي: أنا جاعل الحرف والمخبر عنه. وقال لي: أنا المخبر عني لمن أشاء أن أخبره)(4).

وموضوع مقالنا حول كتاب المواقف للنفّري هو تعبير عن أعلى مراحل الفناء، لذلك قيل فيه (هو إخلاص وجداني، يبتدئ بالسماع للحق، وينتهي بخلق الأنا الكونية)(5). ويعتقد أن نظرية الفناء الروحي قد وفدت إلى رحاب التصوف الإسلامي من خلال الفلسفة الهندية، وأن أول من قال بها أبو يزيد البسطامي (261هـ) ومن بعد الجنيد البغدادي (297هـ)، ثم انتقل الجنيد من القول بالفناء إلى فكرة الاتحاد، وهي أن يصل المتصوف إلى درجة تتحد فيها الروح اتحاداً تاماً بعلّة الوجود عن طريق الشهود، وتصير الذاتان واحدة، وذلك بالتجرد عن حول العبد وقدرته إلى حول الله وقدرته، فيقوى بذلك وتتلاشى شخصيته البشرية(6). وغالباً ما تتألف عبارة الشطح من كلمات ما قاله النفّري في موقف بين يديه (أوقفني بين يديه وقال لي:... سبحانك! أنا أسبّحك فلا تسبّحني)(7).

والمراد بالوقفة في اصطلاح الصوفية (الحبس بين مقامين لعدم استيفاء حقوق الذين خرج مه، وعدم استحقاق دخوله في المقام الأعلى، فكأنه في التجاذب بينهما، بمعنى آخر التوقف بين المقامين لقضاء ما بقي من حقوق الأول، والتهيؤ لما يرتقي إليه بآداب الثاني. ولقد بدأ النفرّي بالمواقف اعتقاداً بأن الوقفة مع الله تعالى تتيح للسالك أن يرى ربه بقلبه في الحياة الدنيا، وطبيعي أنه بعد الوقفة تأتي المخاطبة، والمخاطبات على ذلك كانت التالية على المواقف. والمخاطبات فهي إحدى أدوات التلقي، وهو أخذك ما يرد من الحق عليك، بطريق الخطاب أو غيره.

والسياحة عند النفرّي ليست عبوراً للمكان، بل هي اكتشاف ضيق الوجود وضيق المفاهيم التي تعبر عن هذا الوجود، وهي رحلة تطلّع ولهفة إلى مكان لم يوجد بعد على الأرض، ومفهوم لم يوجد بعد في اللغة، ومن هنا تأتي غزارة لغة النفري التي تميزه عن سواه من المتصوفة.

وقد أثار النفرّي بعض الفقهاء ضد الصوفية في قوله (أوقفني وقال لي)، ويعتقد ابن تيمية في رده على النفرّي أن الشيطان يتمثل له، ويقول: أنا ربك، فيخاطبه ويظنه ربه، وإنما هو الشيطان. انظر نعمة الذريعة في نصرة الشريعة: لإبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبي، ص47/48. ويبدو أن النفرّي يغلو في مقام الوقفة، فيجعله فوق مقام النبوة من حيث المعرفة بالله، لقوله (وقال لي: رسول رحمة لا يحيط بمعرفتي، ورسول عقوبة لا يحيط بمعرفتي)، والمقصود برسول الرحمة ورسول العقوبة الإشارة إلى قوله تعالى : (وما ترسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين).

وللنفري آثار أدبية منقولة عنه في غير الكتابين (المواقف والمخاطبات)، منها: كتاب موقف الموقف كتب سنة 366هـ. وكتاب أجزاء متفرقة. كتب في النيل سنة 354هـ. وكتاب قسم الحكم، كتبه في المدائن سنة 354هـ. وكتاب مواقف ومناجيات، كتبه في البصرة سنة 359هـ. وكتاب باب الخواطر، ومقالة في المحبة، كتب بعضاً منها سنة 352هـ، وبعضها في واسط سنة 252هـ.

وللنفرّي تسع وخمسون مقطوعة شعرية مبثوثة في أثناء (الأجزاء المتفرقة)، و(الحكم)، و(المواقف والمخاطبات)، تدور مضامينها حول الصفات الإلهية والحكمة الصوفية، والحب الإلهي، وتحدث فيها عن مواجيده وأشواقه.

والنفرّي في كتاباته يفجر طاقات اللغة، ويراعي النغم، والتناسق الصوتي والجمالي في تجربته النثرية التي تكاد تقترب من الشعر، بل قد تكون شعراً موزوناً، نحو قوله (أنت معنى الكون كله). ويمكن تحديد الأنواع الفنية للنثر في عصر النفرّي بالخطابة، والترسل، والاحتجاج، والحديث.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

......................

المصادر

1- د. ميثم الجنابي، العراق حوار البدائل، حاوره مازن لطيف، مؤسسة المرتضى للكتاب العراقي، مطبعة جعفر العصامي، 2009، ص36.

2- محمد على التهانوى، موسوعة كشف اصطلاحات الفنون والعلوم، سلسلة موسوعات المصطلحات العربية والإسلامية، تقديم واشراف ومراجعة: رفيق العجم، تحقيق: علي دحروج، ترجمة: جورج زيناتي، مكتبة لبنان، ناشرون، ط1، 1996، ج1، ص456.

3- محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، دار المعرفة، ط3، 1971م، ج10، ص585.

4- محمد عبد الجبار بن الحسن النفري، المواقف، تصحيح واهتمام: أرثر يوحنا اربري، مطبعة الكتب المصرية في القاهرة، 1934م، ص60 الموقف 34.

5- د. ميثم الجنابي، حكمة الروح الصوفي، دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2007، ص338.

6- د. كامل مصطفى الشيبي، الصلة التصوف والتشيع، دار المعارف بمصر، ط2، ص339.

7- كتاب المواقف للنفري، مصدر سابق، ص72.

في المثقف اليوم