قضايا

ما بين القسوة والرحمة...

سناء ابوشرارذكرياتنا الحقيقية تدور

ما بين القسوة والرحمة

وما بينهما مجرد أحداث

هناك أحداث كثيرة تمر بحياة أي منا، منها اليومي ومنها على مدار السنوات، ولكن حين نراجع ذكرياتنا الحقيقية والتي شكلت جزء من حياتنا أو التي تم تشكيل حياتنا على أساسها نكتشف أنها تدور بين الرحمة والقسوة.

فلا ننسى الرحماء ولا ننسى العطف حتى ولو غادر أولئك الذين تعاملوا معنا بذلك الحنان أو المودة، يتركون بصمات شفافة خفيفة ولكنها شكلت نظرتنا إلى الحياة، وتسللت عميقاً في أرواحنا، فلا شيء أشد التصاقا بالروح وبعمقها أكثر من هذه الرحمة وتلك اللمسات الحانية، لذلك تكون الأم هي صاحبة الامتياز في بصمة الحنان، وقد تكون أيضاً أحد أسباب تدمير النفس حين تمارس قسوة لا تمت بصلة لغريزة الأمومة.

والقسوة أيضاً لها ذكرى أبدية، ولكن ليست كبصمة بل كجرح عميق قد يندمل لفترات وقد يعود لينزف بفترات أخرى ولكنه أبداً لا يجف، أبداً لا تختفي ندباته المشوهة، لذلك لا ننسى أبداً ذلك الوجه القاسي، ولا ننسى أبداً تلك اليد التي بادرت بالعنف، وتبقى مرارة تلك القسوة مُتجذرة في الروح، وأحياناً كثيرة تكون سبب في مشاكل نفسية أو فكرية من الصعب معالجتها أو تجاوزها، بل قد لا يدرك الشخص سبب ما يعاني منه وهو لا يعلم أن تلك القسوة زرعت بذرة سامة في قلبه وعقله.

مشاكل عديدة تنتج عن القسوة، وحلول كثيرة تنتج عن الرحمة، فالرحمة ليست شيئاً مثالياً لا يمارسه إلا أشباه الملائكة على الأرض، الرحمة يمارسها وبشكل مُتقن أصحاب الحكمة على الأرض، لأنهم أدركوا ويدركون أن القسوة تشوه النفس وأنها تزرع الحقد وأنها تمنح الإنسان طبيعة مخالفة لفطرته البشرية الجميلة، فتكاد القسوة الشديدة أن تنتج بشر أشبه بالحيوانات الكاسرة المليئة غضباً وحنقاً على الحياة، ولا يمارس القسوة إلا كل انسان فقد كل معاني الحكمة وتردت لديه قيم الإنسانية، وهو الأشد استخفافا بقيمته كإنسان قبل أن يستخف بقيمة من حوله.

والقسوة لا تكون فقط جسدية، بل هناك قسوة نفسية وروحية إن لم تقتل الجسد فهي تقتل الروح وحتى تكاد تؤدي بضحاياها إلى الانتحار.  والقسوة لا يكون ضحيتها الفرد أو الأسرة فقط بل مجتمع كامل قد يكون ضحية للقسوة حين يتم التعامل معه دون مراعاة فقراءه أو ضعفاءه وحين يتم تدمير الضعيف وحماية القوي، وحين يتم احتقار الفقير وإكرام الغني، وحين يفقد المجتمع التعاطف والمشاركة، وحين تصبح الجريمة ظاهرة عادية يومية.

فأصل كل خبث في المجتمع هو قسوة فكرية أو جسدية أو حتى دينية، فهناك من يمارس جميع الشعائر الدينية بدقة وبانتظام ولكن قلبه خالٍ من الرحمة وكلماته ونظراته قاسية، ولا رحمة في ردود أفعاله.

الحنان لا ينتمي على عالم مثالي تعيش فيه الملائكة فقط، بل هو شيء واقعي بل شديد الواقعية، فالرحمة تداوي المريض، وتخفف من معاناة الأسير، وتهدئ روع الغريب، وتُنتج أطفالاً مُحبين لأهاليهم ولمجتمعهم، وتفرز شخصيات متعاطفة متعاونة عطوفة وودودة.

فلننظر إلى القطط التي تقترب منا طلباً للحنان، وللنظر إلى الحيوانات الشرسة التي تتحول إلى كائنات لطيفة حين نمنحها بعضاً من الحنان، ولننظر إلى الأشجار كيف تنمو بشكل أسرع وأشد جمالاً حين نلمسها أو حتى نتحدث إليها، ولنراقب الطيور كيف تحنو على بعضها البعض.

كل ما بهذا الكون يدور حول الرحمة، وما يخرج عن دائرة الرحمة يدور عكس الاتجاه الفطري لما خلق الله تعالى، والله يرحم من يوجد بقلوبهم الرحمة؛ وأهم أنواع الرحمة هو رحمة الإنسان لنفسه بألا يقسو عليها وألا يجلد نفسه بالسياط حين يخطئ أو حين يخسر، فالله تعالى أخبرنا أنه سيبتلينا في أموالنا وأنفسنا وأمرنا بألا نحزن على ما فاتنا وما أصابنا وهي أعلى درجات الرحمة والرفق بالذات. وإن كانت الحياة قاسية ومرة فكل واحد منا سيعود بكل يوم إلى بيته، وهناك في عالمه الصغير فليمنح كل ما يستطيع من الحنان لأنه لابد وأن يغادر في يومٍ ما ولا يتبق منه سوى تلك الرحمة التي منحها دون حدود أو تلك القسوة التي وزعها بلا ضمير.

***

الدكتورة سناء أبو شرار

 

في المثقف اليوم