قضايا

تاريخية العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام (الورقة الثانية)

سليم جواد الفهدمفهوم المعرفة الدينية:

مقدمة في المفهوم والماصدق:

قبل الدخول في مفهوم المعرفة الدينية أرى من اللازم شرح وتوضيح طبيعة كل من المفهوم والماصدق و العلاقة بينهما وصلة كل منهما بمبحث الحدود والتعريف.

أتفقت كل كتب المنطق على جعل مبحث المفهوم والماصدق ضمن مبحث الحدود وجعل الحدود تحت مفهوم التعريف.

وهو جعل صحيح ودقيق لأنه لا يمكن أن يعد مبحث الحدود مكتملا دون التوقف عند مبحث المفهوم والماصدق اللذين يقومان مقام وظيفتي الحد المتكاملتين.

لأن كل حد يؤدي وظيفتين في آن معا فهو من ناحية يفهم منه مجموعة صفات  ومن ناحية أخرى يصدق على مجموعة موضوعات  ومن هنا كان القول: "إن لكل حد مفهومه وماصدقه".

ولذلك وضع مفهوم الحد تحت عنوان التعريف.

وينقسم التعريف إلى الآتي:

1- الحد التام: وهو التعريف بالجنس والفصل القريبين. مثل: الإنسان حيوان ناطق. حيث يمثل الحيوان جنس الإنسان الأعلى. ويمثل الناطق فصله عن بقية الحيوان.

2- الحد الناقص: وهو التعريف بالجنس البعيد والفصل القريب. مثل: الإنسان جسم حي ناطق. أو بالفصل وحده مثل: الإنسان ناطق.

3- الرسم التام: وهو التعريف بالجنس والخاصة. مثل: الإنسان حيوان ضاحك.

4- الرسم الناقص: وهو التعريف بالخاصة وحدها. مثل: الإنسان ضاحك.

ولايجوز التعريف بما تتوقف عليه معرفة نفس الشيء المعرَّف.

مثل: الشمس نجم يرى في النهار.

في حين أن معرفتنا للنهار تتوقف على معرفتنا للشمس لأن النهار هو زمان رؤية الشمس. وهذا ما يسمى بالدور وهو مفهوم فاسد لا ينتج معرفة.

ونصل إلى تعريف المفهوم وهو: ما يوجد في الذهن كصورة منتزعة من حقائق الأشياء وكل مفهوم هو كلي بالضرورة.

ونعرف الماصدق بالقول: هو مجموع أفراد المفهوم في الواقع الخارجي.

ونجد بعض المناطقة يعنونون هذا الدرس باسم آخر هو: المعنى والأفراد.

حيث المعنى هو المفهوم وهو الاسم.

والماصدق هو ما ينطبق عليه الاسم.

فمصاديق (الكتاب) هي كل كتاب على حدة وجد أو لم يوجد. وفي أي مجال ومن أي حجم ولون ونوع ورق ولغة ومحتوى..الخ.

وأما مفهوم (الكتاب) فهو معناه وصفاته: ذو غلاف وله أوراق وله مؤلف كتاب بصري أو صوتي أو لمسي..الخ.

والصورة الذهنية لـ (موجود) هي مفهوم كلي وأفراده هي أجزاء في عالم الحقائق أي هي مصاديقه من الموجودات التي لا يحصيها العد.

وقد لا يكون الماصدق من الأمور الموجودة واقعا مثل: (الوهم) و(العدم) و(المستحيل). ولكن لها مفهوم يتصوره الذهن في صورة معنى كلي.

العلاقة بين المفهوم والماصدق:

بما أن المفهوم والماصدق هما وجهان للحد من حيث التضمن والدلالة فلا بد أن علاقة ما تقوم بينهما والعلاقة هي: علاقة (تناسب عكسي).

بحيث إنه عندما تكون الصفات التي يتضمنها المفهوم قليلة ومحدودة يزيد عدد الماصدقات.

حيث إنه كلما زاد عدد الصفات التي يتضمنها المفهوم ضاقت دلالته وقل عدد الوحدات التي يتكون منها ما صدقه.

مثال ذلك مايلي:

شكل هندسي ناجم عن تقاطع ثلاث خطوط مستقيمة.

فإن ما صدق هذا الحد هو جميع المثلثات المتساوية الأضلاع والمختلفة الأضلاع والمتساوية الساقين والقائمة الزاوية. وإذا زدنا صفة لهذا المفهوم مثل: (أضلاعه مختلفة الطول).

فإن عدد الماصدقات التي ينطبق عليها هذا المفهوم سيقل بحيث يخرج منها كل المثلثات التي ليست مختلفة الأضلاع أي المثلثات متساوية الأضلاع ومتساوية الساقين فإذا قمنا بزيادة الصفات وأضفنا صفة (إحدى زواياه قائمة) الى الصفات السابقة التي تضمنها المفهوم فإن النتيجة الحتمية ستكون نقصا في عدد الماصدقات ناجم عن خروج كل المثلثات التي ليست أضلاعها مختلفة.

وهكذا كل مرحلة تشمل التي تليها من حيث زيادة عدد الماصدقات أو نقصها والعكس غير صحيح فإذا ما عكسنا العملية وكان لدينا الحد (مثلث) يتألف مفهومه من الصفات السابقة جميعها (شكل هندسي ناجم عن تقاطع ثلاثة خطوط مستقيمة مثنى أضلاعه مختلفة وفيه زاوية قائمة).

فإن ما صدق هذا المفهوم هو فقط المثلثات ذات الصفات  فإذا ما حذفنا إحدى الصفات ولتكن أضلاعه مختلفة فإن الماصدق سيزيد ليشمل كل المثلثات قائمة الزاوية مهما كان طول أضلاعها.

مفهوم المعرفة الدينية:

المقصود بمفهوم المعرفة الدينية هو الأديان التوحيدية ضمن التقليد الإبراهيمي بخاصة الذي ينتمي إليه الإسلام. إن الموضوع الأخير للمعرفة الدينية ضمن إطار هذا التقليد هو الله حيث يتصور الله على نحو خاص بهذا التقليد. والاعتقاد المحوري هنا هو الاعتقاد بوجود خالق واحد أحد لكل شيء خالق أزلي وكلي الحضور وكلي القدرة وكلي المعرفة وكلي الخير وكلي الحرية ومصدر للإلزام الخلقي وهذا الخالق الأزلي هو الله الواجب الوجود.

وامتلاك معرفة دينية هنا يعني في المقام الأول معرفة صدق هذا الاعتقاد وصدق أية قضية يمكن اشتقاقها منطقياً منه.

لا تقتصر المعرفة الدينية على معرفة صدق الاعتقاد الأخير ومعرفة ما يترتب عليه منطقياً من نتائج بل إنها تتجاوز ذلك إلى احتضان أي معرفة يمكن الحصول عليها عن المقاصد والأفعال الإلهية. فإذا قام الله مثلاً بفعل معين كخلق الدماغ الإنساني الذي من وظائفه الجوهرية التفكير هو أن نعرف أنه خلق هذا الشيء ليقوم بالوظيفة المذكورة وبالتالي أن تعرف عما قصده الله من وراء خلقه هذا الشيء. ومعرفة كهذه هي جزء من المعرفة الدينية مثلها مثل أي معرفة قد تكون لدينا عن صفات الله أو أفعاله.

بإمكاننا الآن في ضوء ما سبق أن نعرف المعرفة الدينية على أنها أي معرفة قد تكون لدينا عن وجود الله أو صفاته أو أفعاله أو مقاصده وأي معرفة نشتقها منطقياً من السابقة. ولكن من الأمور التي لها أهمية قصوى لأغراض بحثنا الأمر الذي يتعلق بالطبيعة المنطقية للقضايا التي تشكل موضوعات المعرفة الدينية. بمعنى آخر ما هي الطبيعة المنطقية لقضايا من نوع: "الله أزلي".

و"الله كلي القدرة".

و"الله يأمرنا أن نكف عن فعل الشر".

و"الله خلق العالم".

أو "إن القصد الإلهي من وراء خلق الماء هو توفير شرط من شروط الحياة الضرورية". وغير ذلك من القضايا التي تثبت شيئاً ما عن صفات الله أو أفعاله أو مقاصده؟

يبدو للوهلة الأولى إن قضايا من النوع المعني لا يمكن إلا أن تكون ضرورية. فإن كل الصفات والأفعال والمقاصد الإلهية كما يبدو تنبع بالضرورة من ماهيته فإن الله بحكم كونه الخالق لكل شيء بالضرورة هو إذن بحكم ماهيته ذو استقلالية أنطولوجية مطلقة عن كل شيء سواه. ولكن هذا يعني بدوره أنه بالضرورة لا يخضع لأي قانون من قوانين العلة. وهكذا يتضح أنه مهما كانت الصفات التي يمتلكها لا يمكن أن يوجد أي شيء خارج ماهيته يقرر امتلاكه لها وكيفية امتلاكه لها"1".

والشيء نفسه يبدو أنه ينطبق على الأفعال التي يقوم بها والمقاصد التي يفترض تحقيقها بواسطة هذه الأفعال. فإنه لا يبدو أنه يمكن أن يوجد شيء خارج ماهيته يقرر ضرورة قيامه بهذا الفعل أو ذاك أو يقرر ما الذي ينبغي أن يستهدفه من وراء قيامه بالأفعال التي يقوم بها.

إذا أخذنا في الاعتبار الآن أن الماهية الإلهية حسب التصور التقليدي للألوهية هي ماهية ثابتة بصورة مطلقة وأنها خارج الزمان إذن فإن الشيء ذاته يجب أن ينسحب على المقاصد والأفعال والصفات الإلهية. بمعنى آخر  إذا كانت الأخيرة كلها نابعة بالضرورة من الماهية الإلهية فإنها كلها أزلية بالضرورة المنطقية.

فليس ممكناً منطقياً بناء على هذا الموقف إلا أن تكون لله الصفات التي يمتلكها بالفعل. كذلك ليس ممكناً منطقياً للسبب نفسه أن تكون الأفعال الإلهية بما انطوت عليه من مقاصد إلهية إلا هي فلا يمكننا منطقياً أن نتصور بناء على هذا التحليل أن الأفعال التي قام بها الله بالفعل كان ممكناً ألا يختار الله القيام بها لتنفيذ المقاصد التي جاءت هذه الأفعال تنفيذاً لها. وإذا أخذنا بهذا التأويل لعلاقة الأفعال والمقاصد والصفات الإلهية بالماهية الإلهية فإن ما ينبغي أن نقوله عن القضايا التي تشكل موضوعات المعرفة الدينية هو أنها كلها قضايا ضرورية. بمعنى آخر ما ينبغي قوله في هذه الحالة هو أن كل قضية من نوع "الله هو ص" أو من نوع الله قام بـ "ف" لتحقيق "م" (حيث "ص" يرمز إلى صفة و "ف" يرمز إلى فعل و "م" إلى قصد) هي قضية لا يمكن أن تكون صادقة إلا إذا كانت صادقة بالضرورة. وما يترتب منطقياً على القول الأخير هو أنه إذا كانت القضية: الله هو "ص"  أو القضية: الله قام بـ "ف" لتحقيق "م" صادقة بالفعل إذن ليس بالأمر المتماسك منطقياً أن نفترض أن الله لا يمتلك "ص" أو أن الله لم يختر القيام بـ "ف" لتحقيق "م".

إذا أولنا القضايا التي تشكل موضوعات المعرفة الدينية على أنها ضرورية بالمعنى الذي شرحناه فإن ما يتبع من هذا هو أنه لا يمكن للمعرفة العملية أن تجد أساسها الأخير في المعرفة الدينية. إن النتيجة الأخيرة كما سنبين بتفصيل أكثر بعد حين يحتمها أمران: الأمر الأول: يتعلق بالطبيعة المنطقية للقضايا التي تشكل موضوعات المعرفة العملية. إن القضايا التي من النوع الأخير كما سيتضح بعد حين ليست ضرورية بل احتمالية أو جائزة منطقياً.

والأمر الثاني: يتعلق بكون الضرورة صفة أساسية منطقياً إن الضرورة بمعنى آخر مثل الصدق تنتقل من مقدمات الاستدلال الاستنباطي الصحيح إلى نتيجته. فكما يعلم أي دارس مبتدئ للمنطق فإنه يستحيل منطقياً في أي برهان استنباطي صحيح أن تصدق مقدمات البرهان وألا تصدق نتيجته. ولكن إذا كانت المقدمات صادقة بالضرورة فإنه يستحيل أن يوجد تأويل للمقدمات يجعلها كاذبة.

وهكذا يتضح أن كون المقدمات صادقة بالضرورة يستوجب منطقياً أن تكون النتيجة صادقة بالضرورة وإلا يكون بإمكاننا أن نجد تأويلاً للبرهان تكون على أساسه المقدمات صادقة والنتيجة كاذبة. ولكن تأويلاً كهذا مستحيل إذا كان البرهان بالفعل يشكل حالة من حالات الاستنباط الصحيح. إذن يستحيل منطقياً أن تكون نتيجة البرهان الاستنباطي الصحيح احتمالية أو جائزة إذا كانت مقدماته ضرورية.

السؤال المطروح علينا الآن هو السؤال المتعلق بالطبيعة المنطقية للقضايا التي تشكل موضوعات المعرفة العملية. لنأخذ أولاً القضايا العلمية. إن الطبيعة الاحتمالية لهذه القضايا لا تبدو موضع شك من قبل أحد . في الواقع يبدو أن المعيار الأساسي لكل قضية ما ذات مدلول علمي هو ما إذا كانت هذه القضية من النوع الذي يمكن دحضه من حيث المبد"2".

هذا لا يعني فقط أن القضية العلمية هي من النوع الذي يمكن تصور شروط مولدة لأدلة داحضة له مهما كانت الأدلة التي تدعمه بالفعل قوية ولكنه أيضاً أن القضية العلمية هي من النوع الذي يمكن تصور شروط يكون في ظلها كاذبا حتى لو افترضنا صدقه يعني معرفتنا لصدقه. والقول الأخير يتضمن أمرين، وهما أن القضية العلمية على افتراض أنها صادقة كان ممكناً لها ألا تكون صادقة وأنها لو كانت كاذبة لكان ممكناً لنا أن نعرف أنها كاذبة.

إن هذا التأويل للقضايا العلمية أمر لا مفر منه حتى من وجهة نظر دينية فإذا أخذنا القضايا العلمية على أنها في أساسها قضايا تعبر عن قوانين سببية إذن فإن إسناد طبيعة ضرورية لهذه القضايا لا بد من أن يتعارض مع النظر إلى الله على أنه كلي القدرة. فإن الله بحكم كونه كلي القدرة بالضرورة لا يخضع ولا يمكن أن يخضع منذ الأزل وإلى الأبد لأية قوانين سببية وبالتالي فإنه يملك أن يعلق هذه القوانين ساعة يشاء. ولكن لو كانت القوانين سببية ضرورية لما كانت خاضعة للإرادة الإلهية.

لا ينفع هنا أن نقول إن الله حتى وإن كان للعلاقات السببية طابع ضروري يظل هو الخالق للأسباب وبالتالي فلولا خلقه لهذه الأسباب لما وجدت نتائجها فأن نفترض أن العلاقات السببية ذات طابع ضروري هو أن نقول إن النتيجة تنبع بالضرورة من طبيعة السبب. من الواضح إذن أنه لا يمكن الاكتفاء بجعل علل الأشياء خاضعة للإرادة الإلهية بل ينبغي أن نتخطى هذا لنجعل حتى العلاقة بين هذه العلل ومعلولاتها خاضعة لهذه الإرادة والا نجعل المستقبل برمته بعد خلق الله لعلل الأشياء خارج إطار القدرة الإلهية.

لا "مهرب إذن من الإستنتاج بأن القدرة الكلية لأنها تعني فيما تعني القدرة على "تعليق" أو تعطيل القوانين السببية يستوجب الاعتقاد بوجودها منطقياً النظر إلى القوانين الطبيعية على أنها احتمالية وبالتالي النظر إلى القضايا التي تعبر عن هذه القوانين على أنها احتمالية أو غير ضرورية. وإذا أضفنا الآن أن وجود الأشياء والوقائع كائنة ما كانت غير ضروري فإن كل قضية ذات مدلول علمي هي قضية غير ضرورية لأن كل قضية من هذا النوع إما تثبت وجود شيء ما أو واقعة ما أو تثبت علاقة سببية ما"."3"

يتبع.

***

سليم جواد الفهد

.......................

المصادر:

1-عادل ضاهر، الضرورة الأنطولوجية، مجلة الباحث، بيروت، 1981.

2-هذا هو المعيار الذي يأكده كارل بوبر ولكن كائنا ما كان المعيار الذي نختاره هنا فإن المسألة الأساسية هي: أن القضية العلمية هي قضية جائزة بمعنى أنها وإن كانت صادقة يكون منطقيا ألا تكون صادقة.

3-عادل ضاهر، نقد الصحوة الإسلامية، دار بدايات، 2008 ،ص21.

 

في المثقف اليوم